مع أنه كان من نخبة القيادات الصهيونية -على أعلى مستوى- إلا أنه -وهو في عمر الثمانين- وقع في أخطر مواجهة مع ذاته، حين اعترف بوحشية الكيان الصهيوني، قائلا: “لو كنت فلسطينياً لقاتلت (إسرائيل)”.
ليس كأي شخصية صهيونية أخرى، لقد قاد «شييطت 13» -وحدة النخبة في سلاح البحرية الصهيوني- ثم تولى أدوارًا هامة في الحياة السياسية والعسكرية لدى الكيان. وبعد أن أصبح عضوًا في «الكنيست» ووزيرًا في الحكومة، انتُخب أيضًا ليكون عضوًا في «الكابينت» الأمني – السياسي، وهو الهيئة العليا المسؤولة عن القرارات الاستراتيجية والأمنية الصهيونية.
رغم كل هذه الأدوار القيادية التي شغلها، فقد أدلى بتصريحات مثيرة للاستغراب، وذلك في عدة مقابلات إعلامية، سواء مع وسائل الإعلام الأجنبية أو حتى العربية. وفي هذه التصريحات، أقر بكل صراحة وجرأة قائلاً: “لو كنت فلسطينياً لقاتلت (إسرائيل)”.
قائل هذا الكلام هو عامي أيالون، الذي كان أيضًا رئيس «الشاباك» -جهاز الأمن الداخلي الصهيوني- وهو المنصب الذي شغله على مدى عقود، وتولى خلاله مسؤولية التحقيق مع كبار المقاومين الفلسطينيين، حيث كان يشرف على استجوابهم ومحاولات افتكاك الاعتراف منهم، في مراكز الاستنطاق، كما أنه أشرف على تخطيط العمليات الأمنية ضد الفلسطينيين، وكان دوره أساسيًا في مجال الأمن الداخلي الصهيوني ومحاولة التقليل من العمليات المقاومة التي تهدد الكيان.
إلى أيّ حدٍّ تعرف الفلسطينيين؟
واليوم، وقد بلغ عامي أيالون سن الثمانين، تتناقض تصريحاته الحالية مع مسيرته العسكرية والأمنية والسياسية التي امتدت لعقود. ففي مقابلة طويلة نشرتها صحيفة «معاريف» معه، يردّ أيالون على سؤال محاوره، مئير عوزيئيل، بسؤال آخر: “إلى أيّ حدٍّ تعرف الفلسطينيين؟” ليجيب الأخير “إنني أعرف، لديّ أصدقاء منهم، وأعرف أشخاصاً”، ليقاطعه أيالون: “حسناً، إذاً هم قبل أيّ شيء أُناس. صحيح، ولكن هل تعلّمت تاريخهم؟ ثقافتهم؟ الفروقات بينهم؟ أنت تعرفهم أم تقول لديّ صديق فأعرفهم؟”.
يبدأ أيالون حديثه بالرجوع إلى حرب فيتنام، مستشهداً بالوزير روبرت ماكنامارا الذي تولى منصب وزير الدفاع خلال تلك الفترة. ويشير أيالون إلى أن ماكنامارا لم يكن مجرد وزير دفاع بل كان أيضًا العقل المدبر لتلك الحرب، حيث قدم تعهدات بنصر حتمي عبر زيادة عدد القوات المرسلة، ومع ذلك، انتهت حرب فيتنام في السبعينيات، وبعد مرور عشرين عامًا، نشر ماكنامارا كتابه الشهير “نظرة إلى الخلف”. وقد تحول هذا الكتاب لاحقاً إلى فيلم وثائقي بعنوان «ضباب الحرب»، الذي حصل على جائزة الأوسكار لأفضل فيلم وثائقي في عام 2003.
الفيلم المشار إليه هو مقابلة مع ماكنامارا، حين يتحدث مباشرة إلى الأمريكيين عبر الكاميرا، موضحاً الدروس الأحد عشر التي استخلصها من تجربة الحرب. ووفقاً لما ذكره أيالون، يشير الدرس الأول إلى أن الأمريكيين لم يكونوا على دراية كافية بعدوهم، سواء من حيث تاريخه أو أفكاره. بل إنهم لم يفهموا أن (العدو) كان يسعى إلى تحقيق هدف يتناقض تماماً مع ما كانوا يظنونه.
ووفقاً لتفسير أيالون، اعتقد الغرب أن الفيتناميين كانوا جزءاً من الكتلة السوفياتية الشيوعية، وأن سقوط فيتنام سيؤدي إلى تفكك كل شرق آسيا. لكن، كما اتضح لاحقاً منذ تسعينيات القرن الماضي، لم يكن الفيتناميون الشماليون يؤمنون بالاشتراكية أو الشيوعية، بل كانوا يكرهون الصينيين والروس على حد سواء. كل ما كانوا يسعون إليه هو تحقيق حريتهم واستقلالهم، بعد أن عانوا من الاستعمار الفرنسي والأمريكي.
لكن وفقاً لما يزعمه محاوره، فإن هذا ليس صحيحاً، حيث يوضح أن الفيتناميين في الشمال كانوا مستقلين بالفعل وكانوا يسعون فقط للسيطرة على الجزء الجنوبي من البلاد. أما الفيتناميون في الجنوب، فقد كانوا أيضاً يطمحون إلى الاستقلال. وفي هذا السياق، يرد أيالون قائلاً: “لقد درست هذه الحرب مرتين، المرة الأولى خلال دراستي، والمرة الثانية عند إنجاز رسالة الماجستير في جامعة هارفارد، حيث كان عليّ تقديم دلائل وحقائق ملموسة. لذا، يمكنني القول بأن الفيتناميين في الجنوب كانوا يشبهون الجنرال أنطوان لحد في لبنان، حيث قيل إنهم يمثلون لبنان. ومع ذلك، أنا لا أرغب في الخوض في تفاصيل ذلك. في النهاية، قاتل الفيتناميون من أجل حريتهم، واليوم نجد فيتنام موحدة، بدون تقسيم إلى شمال وجنوب، وبدون احتلال”.
ويستنتج أيالون قائلاً: “لقد أظهرنا، نحن والأمريكيون، عدم معرفتنا العميقة لعدونا. وعندما تسألني عن وجهة نظري تجاه الفلسطينيين، وتقول إن لديهم 22 دولة عربية، فأود أن أخبرك بشيء: هذا ما نقوله نحن، ولكن الحقيقة أنهم يفكرون بطريقة مختلفة. ويتابع أيالون موضحاً: “من بين تراجيدياتنا أننا نرى الفلسطينيين كأفراد ونعتقد أن توفير العمل والطعام لأسرهم سيحل المشكلة”.
ليس لدى الفلسطينيين ما يخسرونه
لكن الحقيقة مختلفة تماماً –يضيف أيالون- الفلسطينيون اليوم، سواء كانوا من حماس أو من غيرها، مستعدون للقتال والتضحية بحياتهم ليس من أجل الغذاء، بل من أجل قضايا أكبر مثل نهاية الاحتلال أو الاستقلال. فبمجرد أن يروا أنفسهم كشعب، تتغير طبيعة الصراع بشكل جذري. هناك 167 دولة في العالم تعترف بهم كشعب، ونتفرد نحن فقط برفض هذا الاعتراف. فبالإضافة إلى الكيان الصهيوني، لا توجد دولة أخرى تقريباً تنكر حق الفلسطينيين في تقرير مصيرهم وإقامة دولتهم المستقلة”.
وفقًا لما يوضحه أيالون من خلال خبرته العملية، فإن الفلسطينيين ليس لديهم ما يخسرونه. وعندما يكون الإنسان في مثل هذه الحالة، يصبح “العدو الأخطر”، لأنه يقاتل من أجل الحرية، وهي من أقدس القيم الإنسانية. يؤكد أيالون أن هذا الأمر لا يرتبط بالدين أو الأيديولوجيا بقدر ما يرتبط بالإنسان ذاته، الذي يرى نفسه جزءًا من شعب يطمح إلى تحقيق استقلاله وحريته.
ويشير أيالون إلى أن المفكر الصهيوني زئيف جابوتنسكي، في مقاله الشهير “الجدار الحديدي” الذي نشره عام 1923، عبر عن نفس الفكرة التي يعبر عنها اليوم. فقد قال جابوتنسكي في ذلك الوقت: “لا يمكننا أن نأتي إليهم بادعاءات، لأننا أخذنا أرضهم، وسيقاتلوننا”، ويضيف أيالون: “عندما يُسألني إذا كنت فلسطينيًا، أقول: إذا جاء شخص ما وأخذ أرضي، فسأقاتله. سنقاتل بلا حدود”.
يرى أيالون أن الحل ممكن، ولكنه يتطلب فهماً عميقاً لطبيعة الفلسطينيين. ويشدد على أن استمرار الصراع يعزز من قوة حركة حماس، لذا فإن الطريقة الوحيدة لهزيمتها هي توفير أفق سياسي للشعب الفلسطيني. ويذكّر بأنه عندما تم توقيع اتفاق أوسلو، كانت حماس مدعومة فقط من قبل أقلية فلسطينية، بينما في غياب أي أفق سياسي، يتصاعد التوتر ويؤدي إلى انتفاضات مثل الانتفاضة الثانية.
في رده على ادعاء محاوره بأن الإسرائيليين يظهرون تعاطفًا مع الفلسطينيين، يُشير أيالون إلى أن الوضع لدى الكيان ليس كما يبدو. ويقول: “لقد انتخبنا حكومة يقودها فعلياً وزيرا التيار الصهيوني الديني، بن غفير وسموتريتش. هل اطلعت على أيديولوجيتهما؟ هل قرأت خطة سموتريتش الاستراتيجية؟ ينبغي أن تستمع إلى ما يقولونه، فسموتريتش يصرح بأنه يجب حرق حوّارة (بلدة)”.
جنون القتل
في جوان الماضي، ناقشت كريستيان أمانبور، مذيعة CNN، مع عامي أيالون موضوعًا شائكًا يتعلق بصور “سيلفي” للجنود الصهاينة في غزة، وظهور مشاهد لفلسطيني مصاب مقيد إلى غطاء محرك إحدى المركبات العسكرية الصهيونية. خلال اللقاء، طرحت أمانبور سؤالاً صريحاً: “هل تشعر أن هؤلاء الجنود –الصهاينة- يفقدون أخلاقهم وإنسانيتهم؟”
أجاب أيالون قائلاً: “نحن نفقد هويتنا كأشخاص، كيهود وكبشر”، لكن أمانبور تعمقت في الفكرة، موجهة تساؤلاً حول ما إذا كان أيالون قد توقع يومًا أن يقول ذلك، خاصة وأنه كان رئيسًا لجهاز الأمن العام الصهيوني. فأجاب أيالون بالإيجاب، موضحًا: “لقد نشأنا على مبدأ ‘يجب ألا تقتل’. ولكن الآن، عندما يُطلب منا الذهاب إلى الحرب وقتل الأعداء، تصبح فكرة القتل طبيعية بمرور الوقت، دون أن نسأل ‘لماذا؟'”.
وأضاف أيالون: “الأسئلة التي نطرحها عند دخولنا إلى الحرب تكون حول كيفية القتل، هل نستخدم سكينًا أم مسدسًا أم صاروخًا؟ لقد أصبح هذا الأمر طبيعيًا، وهو خطر في كل حرب. لقد رأينا ذلك عبر التاريخ”، واختتم قائلاً: “ما فعله الأمريكيون في العراق وأفغانستان، وما فعلناه في الماضي، يشير إلى أن الحروب لا تنتهي إذا لم نفهم أنها يجب أن تنتهي. سنفقد هويتنا كبشر ديمقراطيين، وسنخلق واقعًا من الحروب التي لا تنتهي أبداً”.