على مدار عقود، كانت الرياضة الفلسطينية انعكاسًا للهوية الوطنية وأداة مقاومة سلمية للتعبير عن معاناة شعب تحت الاحتلال. لكنها في السنوات الأخيرة أصبحت هدفًا مباشرًا للعدوان الإسرائيلي، حيث تعرضت المنشآت الرياضية للتدمير الممنهج، واستُشهد العديد من الرياضيين الفلسطينيين في سياق حرب إبادة تتجاهلها المؤسسات الدولية الكبرى، وعلى رأسها الاتحاد الدولي لكرة القدم (الفيفا).
يبرز هذا التجاهل بشكل أكثر وضوحًا عند مقارنة تعامل “الفيفا” مع الانتهاكات الإسرائيلية بمواقفها الحازمة تجاه أزمات أخرى، ما يعكس ازدواجية صارخة في المعايير.
الرياضة الفلسطينية.. هدف “العدوان الإسرائيلي”
لا يخفى على أحد أن قطاع غزة يعاني تحت وطأة عدوان إسرائيلي متواصل أدى إلى خسائر فادحة في الأرواح والبنية التحتية. لكن ما لا يسلط الضوء عليه بما يكفي هو استهداف الرياضة والرياضيين. وفقًا لتقارير رسمية، استشهد أكثر من 450 رياضي فلسطيني، بينهم لاعبون ومدربون وإداريون، منذ بدء العدوان الأخير على قطاع غزة. كما دُمرت أكثر من 80 بالمائة من المنشآت الرياضية، بما في ذلك ملاعب كرة القدم، الأندية، والمؤسسات الرياضية.
هذا التدمير لم يكن عشوائيًا؛ بل هو جزء من سياسة منهجية تهدف إلى القضاء على أحد أبرز أدوات التعبير الفلسطيني. الرياضة الفلسطينية، التي كانت دائمًا وسيلة لإظهار الصمود ومشاركة العالم معاناة الشعب الفلسطيني، أصبحت مستهدفة باعتبارها رمزًا للتحدي والوحدة.
“الفيفا” والمواقف المتخاذلة من الانتهاكات الإسرائيلية
تقدّم الاتحاد الفلسطيني لكرة القدم بطلب رسمي لحظر الاتحاد “الإسرائيلي” من المشاركة في المنافسات الدولية، مستندًا إلى انتهاكات الاحتلال المستمرة، سواء باستهداف الرياضيين أو عبر عرقلة الفرق الفلسطينية من التنقل داخل وخارج الأراضي المحتلة. إلا أن “الفيفا”، بدلاً من اتخاذ موقف حازم، اختارت المماطلة بحجة أن لجنتها التأديبية ستراجع الادعاءات.
لم يكن هذا التأجيل مجرد مسألة إجرائية، بل حدث ثلاث مرات متتالية، ما يعكس عدم جدية الاتحاد الدولي في التعاطي مع القضية.
ازدواجية المعايير: روسيا نموذجًا
عندما غزت روسيا أوكرانيا في فيفري 2022، تحركت “الفيفا” والاتحاد الأوروبي لكرة القدم (يويفا) بسرعة قياسية، حيث فرضا عقوبات شاملة على الأندية والمنتخبات الروسية بعد أربعة أيام فقط من بدء الغزو. تم استبعاد روسيا من المنافسات الدولية، ومنعت أنديتها من المشاركة في البطولات الأوروبية، وذلك بحجة الدفاع عن القيم الإنسانية والرياضية.
هذا التحرك السريع يعكس ازدواجية واضحة مقارنة بالموقف تجاه الجرائم الإسرائيلية. إذ يبرر جياني إنفانتينو، رئيس “الفيفا”، عدم اتخاذ إجراءات بحق إسرائيل بالقول إن “الرياضة يجب ألا تختلط بالسياسة”، لكن هذا التبرير ينهار عند استحضار العقوبات على روسيا، وكذلك مبادرات إنفانتينو نفسه للترويج للتطبيع بين الدول العربية ودولة الاحتلال، من خلال دعمه تنظيم بطولة مشتركة لكأس العالم بين الإمارات والكيان الصهيوني.
الرياضة وسيلة مقاومة وطنية
لطالما كانت الرياضة الفلسطينية أكثر من مجرد نشاط ترفيهي، فهي تعكس كفاح الشعب الفلسطيني وصموده في وجه الاحتلال. الأندية الرياضية في غزة والضفة الغربية ليست مجرد أماكن للتدريب والمباريات، بل هي مراكز مجتمعية تجمع الناس حول قيم الوحدة والتضامن.
استهداف هذه المنشآت ومحاولة القضاء على هذا القطاع لا ينفصل عن المخطط “الإسرائيلي” الأوسع لإسكات كل أشكال التعبير الفلسطيني. عندما يُمنع اللاعبون الفلسطينيون من السفر للمشاركة في البطولات، أو تُقصف الملاعب، فإن الرسالة واضحة: الاحتلال يريد محو الحلم الفلسطيني في كل المجالات، بما في ذلك الرياضة.
“الفيفا” ومسؤولياتها الأخلاقية
الاتحاد الدولي لكرة القدم يُفترض أن يكون أكثر من مجرد منظمة لإدارة البطولات، فهو يحمل على عاتقه قيمًا مثل النزاهة، المساواة، ومحاربة التمييز. لكن استمرار صمته إزاء الجرائم الإسرائيلية يضعه في موقف متناقض مع هذه المبادئ.
حتى اللحظة، لم يتخذ “الفيفا” أي خطوة حقيقية للضغط على الاحتلال الإسرائيلي، رغم الأدلة الواضحة على الانتهاكات الممنهجة بحق الرياضة الفلسطينية، وهذا الصمت يجعل الاتحاد الدولي شريكًا ضمنيًا في هذه الجرائم.
دور الرياضة في مواجهة الظلم
تجربة جنوب إفريقيا خلال فترة نظام الفصل العنصري تُعد مثالاً بارزًا على دور الرياضة في مقاومة الظلم، حينها تم حظر المنتخبات والأندية الجنوب إفريقية من المشاركة في المنافسات الدولية، ليكون هذا الحظر جزءا من الجهود العالمية لمناهضة نظام الأبارتييد.
هذا القرار لعب دورًا محوريًا في عزل نظام الفصل العنصري دوليًا وساهم في تسريع سقوطه. لذا، فإن دعوات حظر الرياضة “الإسرائيلية” ليست جديدة، بل تأتي في سياق تاريخي يدعو إلى استخدام الرياضة لتكون وسيلة لتحقيق العدالة.
ما الذي يمكن فعله؟
أمام هذا التخاذل من “الفيفا”، يقع على عاتق المجتمع الدولي التحرك بفعالية لدعم الرياضة الفلسطينية ومحاسبة الاحتلال الإسرائيلي، وهناك خطوات عدة يمكن اتخاذها:
- إطلاق حملات شعبية ودولية:
يجب على الجماهير الرياضية ومنظمات المجتمع المدني حول العالم تصعيد الضغط على “الفيفا”، من خلال حملات إعلامية وحشد الدعم الشعبي لمقاطعة الرياضة الإسرائيلية.
- دعم القضية الفلسطينية في المحافل الرياضية:
يمكن للاعبين الدوليين والأندية الكبرى استخدام منصاتهم للتعبير عن تضامنهم مع الرياضيين الفلسطينيين، كما فعل بعض اللاعبين سابقًا في قضايا إنسانية.
- تحرك قانوني:
يجب تقديم شكاوى قانونية مدعومة بأدلة موثقة ضد الاتحاد الإسرائيلي لكرة القدم في المحاكم الدولية والرياضية، لإثبات مسؤولياته عن تلك الانتهاكات.
- توحيد الموقف العربي والإسلامي رياضيًا:
الدول العربية والإسلامية تمتلك وزنًا كبيرًا في الفيفا، ويمكنها استخدام هذا النفوذ للضغط باتجاه اتخاذ موقف حازم ضد إسرائيل.
إن استمرار “الفيفا” في تجاهل الجرائم الإسرائيلية ضد الرياضة الفلسطينية يعكس تواطؤًا يضرب قيم الرياضة في الصميم. الرياضة ليست مجرد لعبة، بل هي وسيلة لتحقيق العدالة والسلام. إذا كانت “الفيفا” عاجزة عن حماية هذه القيم، فإن الجماهير الرياضية حول العالم مطالبة بملء هذا الفراغ.
على العالم أن يدرك أن استهداف الرياضة الفلسطينية ليس مجرد قصف للملاعب، بل هو محاولة لإخماد صوت شعب بأكمله. إن الصمت على هذه الجرائم ليس حيادًا، بل انحيازا للظلم، وهذا ما يجب أن يتغير.