ما يُقال والأبواب مفتوحةٌ، ليس هو ما يُقال والأبوابُ مغلقة. هذه الرؤية تصدق على أوروبا التي يُصرّ سياسيُّوها على قوّة “القارة العجوز” في صناعة القرار العالمي والتأثير في مجريات الأحداث على خارطة الكوكب، وأيضا، قُدرتها على استقرارها الدائم، وتأمين أرقى المستويات المعيشية لمواطنيها. بينما يذهب الخبراء والمُحلّلون أن أوروبا على موعد مع أزمات كبرى في الطاقة والكهرباء والغذاء، والقادم أسوأ، مع ارتدادات تلك الأزمات على تفاصيل الحياة اليومية، وما يُمكن أن تنتجه من اضطرابات شعبية.
ويذهب خبراءٌ آخرون إلى أن الحروب غير المُعلنة هي الأكثر شراسة وتأثيرا على “القارّة العجوز” خاصة، والعالم عموما، وأهمّها هي “حروب الطاقة”، لا سيما وأن الحياة المُعاصرة بتكنولوجياتها وتقنياتها، تقوم على الكهرباء، وبدونها قد يُصاب العالم كلّه بالجنون. فالكهرباء صارت مثل الهواء والماء، لا حياة للإنسان “المُعاصر” بدونها.
عقوبات بأثر عكسي
يرى بعض الخبراء بأن العقوبات الغربية ضدّ روسيا قد جاءت بنتائج عكسية، فهي لم تضرّ بروسيا، بل أضرّت بأوروبا حيث تولّدت عنها أزمة في الطاقة، وهو ما أثرّ على قطاعات عديدة تقوم على الغاز والكهرباء. وقد كشفت وكالات إخبارية غربية عن أزمة طعام وغذاء بدأت تتشكّل ملامحها بسبب أزمة الطاقة الناتجة، بشكل كبير، عن انعكاسات العقوبات الغربية ضد روسيا.
لا خبز بلا غاز
أوردت مصادرٌ غربية أن “بنك إنجلترا” يتوّقع بأن يصل التضخّم في بريطانيا إلى ذروته بأكثر من ثلاثة عشرة بالمائة فيما تبقّى من شهور هذا العام، وتواصل تكاليف المعيشة في الارتفاع خاصة فيما يتعلّق بالغذاء، ومن المُتوقّع أن يزيد إنفاق ثلث الشعب البريطاني أكثر من عشرة في المائة من الدخل على الطاقة.
ومن أمثلة “أزمة الغذاء” التي نتجت عن أزمة الطاقة، تُشير المصادر الغربية، إلى أن واحدا من أكبر مصانع الخبر والحلويات التي تعمل بالغاز في أوروبا، وهو مصنع “بريوش باسكوييه”، قد ارتفعت فيه لفّة الخبز الواحدة بنسبة خمسين بالمائة على الأقلّ. وقد صرّح أحد مسؤولي ذلك المصنع قائلا: “إنه تأثير الدومينو الذي حدث مع اضطرارنا لدفع زيادة هائلة في أسعار الطاقة. علينا أن نحاول رفع أسعارنا لتُجّار التجزئة قليلاً، وللأسف فإن الزيادة في السّعر يدفعُها المستهلك”. ومن الآراء التي تختزل الرؤية “التشاؤمية” حول أزمتي الغذاء والطاقة في “القارّة العجوز”، ما قاله أحد الخبراء: “الشركات لا تتحدّث حتى الآن إلاّ عن الزيادة في أسعار المواد الخام، وأعتقد أن الأسوأ لم يأت بعد، مع ارتفاع أسعار الطاقة، وهذا الشتاء سيُغيّر قواعد اللّعبة، ومن المُرجّح أن ترتفع التكاليف أكثر”.
تأثيرات “أزمة الطاقة” امتدّت إلى قطاع الفلاحة، فقد وافق الاتحاد الأوروبي خلال الأسبوع الماضي، على تخصيص حزمة مساعدات لدعم الشركات الفلاحية التي تأثّرت بزيادة أسعار الطاقة والأسمدة والمواد الخّام.
وقالت “مارغريت فيستاجر” مُفوّضة مكافحة الاحتكار بالاتحاد الأوروبي: “لقد تضرّر القطاع الزراعي بشكل خاص، من ارتفاع أسعار الطاقة وتكاليف المدخلات الأخرى بسبب العقوبات المُوقّعة ضد روسيا”، وأضافت: “نحن نواصل العمل عن كثب مع الدول الأعضاء، لضمان إمكانية وضع تدابير الدعم الوطني، في الوقت المناسب وبطريقة منسقة وفعالة”.
خُططٌ طارئةٌ
لا يبدو أن أوروبا تمتلك حُلولا حقيقية لما نتج عن أزمة الطاقة، من انعكاسات اقتصادية تجلّت بشكل أساسي في الغذاء والفلاحة، فكأنما هي تسعى إلى تجاوز هذه المرحلة بحلول “إجرائية” فحسب. فقد أشارت بعض التقارير أن مصانع الأغذية الأوروبية التي تستهلك الطاقة بكثافة، قد تضطرّ إلى التوقّف عن العمل، إذا دفع نقص الغاز بالحكومات الأوروبية إلى تقنين استهلاك الطاقة والزيادة في أسعارها. فإن تكن ألمانيا قد وضعت “خطة الطوارئ” ذات المراحل الثلاثة، وهي قد دخلت فعليا في المرحلة الثانية، فإن بريطانيا تعتمد خطة تقوم على تقليل إمداد المصانع بالطاقة، ما سيؤدّي بالضرورة إلى ارتفاع تكاليف المواد الغذائية، وقد يدفع بعض المصانع إلى الإغلاق.
وعدٌ لم يتحقّق
راهنت “القارة العجوز” على الوعود الأمريكية لتعوّضها عن الغاز الروسي، وبينما كان طلبُها على الغاز يرتفع، توجّهت الإمدادات الأمريكية إلى الانخفاض. والسّبب الأهمّ لهذا الانخفاض، هو الحريق الكبير، الذي حدث منذ حوالي شهرين، في محطة فريبورت للغاز الطبيعي المُسال بتكساس، وهي ثاني أكبر مُصدّر للغاز في الولايات المتحدة الأمريكية.
لقد توجّهت أوروبا فعليا إلى التخلّي الجزئي عن الغاز الروسي، وتُحاول التخلّي عنه تماما، خاصة وأن روسيا تُطالب تلقّي ثمن الغاز بعملتها “الروبل”، ولكن الوعود الأمريكية لم تستطع حتى الآن أن “تنقذ” أوروبا من أزمة الطاقة التي تعيشها، ولا يُمكن التكهّن بما سيكون عليه الحال عندما يحلّ الشتاء على “القارّة العجوز”، وتشتدّ الحاجة إلى الغاز، فالطبيعة لها “مواقفها” أيضا في تقرير شؤون البشر.