“أش كلبك مات”.. هل نشيّع ألعابَنا الشعبية العربية إلى الزّوال؟

للشطرنج ملوكه وقلاعه وفرسانه، وللدّامة بيادقها، أمّا “الخربقة” فلها كلابها التي تأكل بعضها بعضًا، وقبل أن يأكل الكلبُ “أخاه”، يقول اللّاعب: “أش كلبك مات”، وهي عبارة تُعادل في الشطرنج عبارةَ: “كش مات” أو “كش ملك”، طبعًا مع الفارق أن “الملك” في الخربقة هو مجرّد “كلب” أو بيدق! ولعلّ “الخربقة” من أشهر الألعاب الشعبية العربية التي ما زال الكبار يلعبونها إلى غاية الآن، وتختلف تسمِيَّتها من بلدٍ عربيٍّ إلى آخر، فمثلًا هي تُسمّى: الخربقة في الجزائر، الخريبقة في تونس، السيجة في مصر، ويُسمّيها بعض الدّارسين: “شطرنج العرب”. وبالتأكيد أنّ عبارة “أش كلبك مات” تختلف هي أيضًا بحسب البلد، غير أنّ المُهدّد بالموت ليس ملكًا تنتهي بموته لعبة الشطرنج، بل هو بيدقٌ.. وتنتهي اللعبة بموت آخر واحدٍ من بيادقها!

ويبدو أنّ “الخربقة” من بين الألعاب الشعبية المحظوظة التي لم يمتدّ إليها غول الانقراض، غير أنّ حظّها لم يرتق بها لتكون لعبة النّخبة مثل: الشطرنج والدّامة، رغم أنها تشترك معهما في كونها لعبة تفكير وحسابٍ وحركة بيادق على رقعةٍ مُربّعةٍ مقسّمة إلى مُربّعات تماما مثل: الشطرنج والدامة، وإن كانت رقعتها تُرسمُ على التراب أو تكون مرّبعاتُها حُفرًا صغيرة على الأرض.

كما أن “الخربقة” لم تكن محظوظة مثل لعبة “الشطرنج” التي تناولتها تآليف لا تُحصى، أو لعبة “الدّاما” التي خصّها الأديب والشاعر العراقي الكبير “جميل صدقي الزهاوي” (1863 – 1936) برسالة عنوانُها “أشراك الداما”. وقد كان “الزهاوي” مولعًا بالألعاب الشعبية، ففي رسالة وجّهها إلى صديقه الكاتب “أحمد محمد عيش”، جاء فيها: “ثم ولعتُ بلعبة الداما فألّفتُ فيها رسالةً سمّيتها (أشراك الداما)، جمعتُ فيها 500 لعبة لأساتذة الداما، وأضفتُ إليها من مُستنبطاتي 1000 لعبة”.

بعيدًا عن بيادق “الخربقة”، قريبًا من طقوسها ودلالاتها المُجتمعية وجوهرها التراثي، توجّهت جريدة “الأيام نيوز” إلى نخبة من كُتّابنا العرب تستجلي آراءهم حول الألعاب الشعبية باعتبارها من أهم مظاهر المجتمعات العربية، ارتبطت بيوميات الإنسان على اختلاف الفئات العمرية، فكانت هناك ألعاب خاصة بالكبار وأخرى بالصغار، وألعاب للبنين وأخرى للبنات.. كما كان هناك ألعاب تُلعب طوال أيام السَّنة، وأخرى تُلعب في فصول أو مواسم مُعيّنة من العام. وغالبا ما كانت اللعبة الشعبية ترتبط ببيئتها وما توفّره الطبيعة من وسائل، فمثلا: الألعاب في مناطق ريفية فيها النخيل، تكون وسيلة اللعبة فيها “مَصنوعة” من الخُوص أو الجريد أو نوى التّمر..

وقد تميّزت الألعاب الشعبية بقِيَمها الأخلاقية والمجتمعية، فهي ذات خصوصية تشاركيّة بين أبناء الفئة العُمرية الواحدة أو الحيّ الواحد أو المنطقة الواحدة.. وهي بهذه الخصوصية وسيلة للوحدة والتّعاضد والتواصل وصناعة الفرح المشترك، وأيضا هي وسيلة تربوية لأنّ بعض الألعاب كانت ترافقها الأغاني أو الأهازيج، إضافة إلى “الروح الرياضية” بين المتنافسين بعد الانتصار أو الهزيمة.. ولكن رغم القيمة الكبرى لهذا الموروث الشعبي، فكثير من الألعاب الشعبية تكاد أن تنقرض، ولعل بعضًا أو كثيرا منها قد انقرض فعلاً، ولم يعد في الإمكان إحياؤه..

وربّما أنّ حاجةٌ ملحّة إلى إعداد مُعجمٍ للألعاب الشعبية العربيّة، وتقديم معنى اسم كل لعبة ووصفها وطريقة لعبها، وذلك حتى تضيع ألعابنا الشعبية في تراكمات الأيام، ويحدث لها ما حدث للألعاب الشعبية العربيّة التي حفظت معاجم اللغة بعض أسمائها فحسب. وقد أحصى الكاتب “شوقي المعري” في مقال نشره بمجلة المعرفة، في شهر جانفي 2016، وكان عنوانه: “ألفاظ ألعاب الصبية في المعجم العربي القديم”.. أحصى بعض ألعاب الصِّبية من معاجم اللغة القديمة، حيث قال “المعري”: “لم تصل ألفاظ النص إلى مئة لفظ، لا يُعرف منها إلّا لفظان فقط: الأرجوحة، المسة! أما بقية الألفاظ فلم تُعرف، بل إن كثيرًا منها لفظه غريب مثل: الأنبوثة، البُقّيري، حَدَبدلى، دَحَنْدح، الدّعَلسة، الضّريفطيّة، الطبطابة، عظم وضاح، الفِئال، القَجقجة، قَلوبع، مدادقيس اليرمع… وما من شك أن هذه الألفاظ كانت مُستعملة يعرفها من يستعملها، علمًا بأنّ لفظ الأرجوحة الذي نعرفه غير ما ورد في المعجم”.

وبينما اهتمت الدراسات الاجتماعية والتاريخية – إلى حد ما – بالألعاب الشعبية، فإنها تكاد أن تكون غائبة عن الأدب (الفصيح والشعبي إن جاز التعبير).. وكانت التساؤلات المُوجّهة إلى كتّابنا هي: ما هو رأيكم حول الألعاب الشعبية، وهل ترون ضرورة استثمارها في مجال الأدب والفنون وما يرتبط بهما من مجالات؟ وهل تذكرون بعض الألعاب الشعبية التي مارستموها في طفولتكم (طقوسها، مواسمها، ما تزرعه من فرح، ما فيها من قيم محبة وتقارب بين اللاعبين…)؟ وهل كتبتم عن الألعاب الشعبية في أعمالكم الإبداعية؟

عزيزي القارئ، هل تثير فيك الألعاب الشعبية حنينًا إلى طفولتك، طبعًا إن كنت ممّن مارس بعضها في حيّه أو حارته أو بيته؟ ندعوك أن تغوص في عوالم الألعاب الشعبية من خلال هذا الملفّ الثريّ الشيّق.

ألعابٌ شعبية من ذاكرة النسيان العربية

بقلم: د. بسيم عبد العظيم عبد القادر – شاعر وناقد أكاديمي، كلية الآداب جامعة المنوفية، رئيس لجنة العلاقات العربية باتحاد كُتّاب مصر

الألعاب الشعبية من أهم مظاهر المجتمعات العربية، التي ارتبطت بيوميات الإنسان على اختلاف الفئات العمرية، فكانت هناك ألعاب خاصة بالكبار وأخرى بالصغار، وألعاب للبنين وأخرى للبنات.. كما كان هناك ألعاب تُلعب طوال أيام السنة، وأخرى تُلعب في فصول أو مواسم معيّنة من العام وبخاصة مواسم الحصاد في القري المصرية.

بسيم عبد العظيم عبد القادر

وغالبا ما كانت اللعبة الشعبية ترتبط ببيئتها وما توفّره الطبيعة من وسائل، فمثلا: الألعاب في مناطق ريفية فيها النخيل، تكون وسيلة اللعبة فيها “مصنوعة” من الخوص أو الجريد أو نوى التّمر..

يولد الطفل وله خصائص وراثية، ويكون عند ولادته مجرد كائن بيولوجي، ولكن سرعان ما يبدأ بامتصاص عناصر من ثقافة مجتمعه من خلال اتصالاته المختلفة، وسرعان ما يكتسب العادات والمعايير واللغة، وهذا يعنى أنَّ الطفل يولد مرتين، أولاهما: ولادة عضوية بيولوجية والأخرى ولادة ثقافية، حيث يتحول في الولادة الأخرى إلى كائن ثقافي.

وتمثل ثقافة الأطفال فرعًا من ثقافة المجتمع، وهي تشارك الثقافة العامة في صفات كثيرة، ولكنها ليست نسخة مكرّرة منها، بل هي كيان مستقل ومتميز.

فلغة الأطفال، وأداؤهم فى اللعب، وطُرقهم فى التعبير عن أنفسهم ومهاراتهم المختلفة، وطرقهم في التخيّل والتفكير، ونتاجهم الفني، والقصص التي يتناقلونها، والأغاني التي يتغنّون بها، والموسيقى التي تروق لهم.. تختلف في مجملها عن تلك التي يختصّ بها الكبار.

إنَّ ميل الأطفال إلى المحاكاة، يدفعهم إلى تمثيل القصص التي يسمعونها وإلى تقليد الناس، والحيوانات، والأصوات، وهناك حقيقة تقول: إنَّ أطفال هذه المرحلة يمارسون عملياتهم العقلية الخيالية بأيديهم أو بأرجلهم أو بأصواتهم، لذا فإنَّ توجيه الأطفال نحو التّمثيل والرياضة والألعاب الحركية يُعدّ أمرًا ضروريًّا، حيث يكون الطفل كثير الحركة، لهذا عنيت التربية الحديثة بمسألة الأطفال، كما أطلق البعض على هذه المرحلة من مراحل الطفولة “مرحلة اللعب”.

لا تزال مصر القديمة حيّة فى مجتمعنا المعاصر، خاصة في الأوساط الشعبية والريفيّة، وذلك بروحها وعاداتها وصبرها وإيمانها، وأخلاقها وطباعها، وبساطتها ومرحها، وهذا فضلاً عن أسماء قُراها ونجوعها.

لقد عرف المصريون القدماء لكل سنٍّ ما يناسبه من ألعاب، وهناك الكثير من اللعب والعرائس والدُّمى التي صنعها المصريون القدماء من الخشب أو العاج أو الطين أو الحجر أو الجلد.

وما تزال الكثير من الألعاب القديمة تُمارس في الريف، خاصة في الموالد، والألعاب التالية هي نماذج منها:

لعبة من الخشب تمثِّل شكل رجل يداه ورجلاه مثبتان بمحور يتدلّى منه خيط أو شكل حصان ذيله ورأسه مثبتان بمحور به خيوط.. وعند شدّ هذه الخيوط تتحرك هذه الأجزاء إلى أعلى، وهذه الألعاب شبيهة بلعبتين صغيرتين في المتحف المصري القديم، وتمثّل كل منهما رجلًا يطحن الحبوب ويتدلّى من وسطهما خيطان يشدّهما طفل أو يُرخيهما.

وسرعان ما يشب الطفل عن طوقه، وينصرف تدريجيًّا عن العرائس والدُّمى والألعاب الفردية، لينتقل إلى الألعاب الجماعية ومزاملة أقرانه وزملائه من سنِّه.

لعبة ” تريك تراك” وكنا نسمِّيها في بيئتنا الريفية “اللقمة والمضراب”، وكان الصبية يتبارون فيها بأدوات خشبية مُدبّبة يحاولون قذف قطعة من الخشب بعيدًا بضربة عصا سريعة ثم يحاول الطفل الآخر إعادتها إلى مكانها الأول الطريقة نفسها وبأقل عدد من الضربات، وهذه اللعبة معروفة إلى الآن فى كثير من مناطق من ريف مصر.

لعبة “شد الحبل” ينقسم فيها اللاعبون إلى فريقين، يحاول كل منهما جذب الفريق الآخر ناحيته، بما يشبه لعبة “شدّ الحبل” الحالية وتعتمد على القوة العضلية من جهة وعلى الصبر من جهة أخرى.

لعبة “جوز وفرد”، يلعبونها بحصى ويؤدّونها بثلاث طُرق، طريقة منها ما تزال تؤدَّى حتى اليوم ومعروفة في الريف المصري باسم “خمسة وخميسة”.

لعبة “شبر شبير”: تمّ جمعها من “أبو الريش” قبلي (إسنا عام 1968) وهي من الألعاب التي تُؤدّى بدون أدوات، وهي لعبة للفتيان وحدهم، وفي هذه اللعبة يجلس صبيان متقابلان، ويضع كل منهما قدمًا فوق الآخر بالتناوب ثم يتابع الأطفال الباقون فى القفز فوقهما بطريقة الحجل، فإذا نجح الجميع يزيد كل من الطفلين الجالسين قبضة يده فوق قدميه فيزداد الارتفاع، وهي من الألعاب التي صوَّرتها الجدران والمناظر المصرية القديمة وما زال أطفال الريف يلعبونها حتى اليوم، وتُسمّى فى وسط الصعيد باسم “خزالا وزة”، وتُعرف في مناطق متفرِّقة بأسوان باسم “شبر شبير”.

لعبة “الحوكشة”: تمّ جمعها من بلدة “نزة” محافظة “سوهاج” عام 1966، ومن “النخيلة” محافظة “أسيوط” العام نفسه، وهي اللعبة المصرية التي تحوَّلت فيما بعد إلى اللعبة العالمية المعروفة بـ “الهوكي”. وواضح من التسمية أنها مأخوذة من لفظ “حوكشة” نفسه، وهي من ألعاب الفتيان.. وأدواتها “الجعف” أو “القحف” أي جريد النخيل وكرة مصنوعة من لوف النخيل الأحمر.

لعبة “اللجم”: وهي من اللّعبات المنتشرة في صعيد مصر خاصة: سوهاج وأسيوط، وهي أصل لعبة ” البيس بول” الأوروبية. وهي من ألعاب الفتيان وأدواتها جريد النخل وكرة مصنوعة من لوف النخيل الأحمر، تم جمعها عام 1966.

كما مارس أطفال المصريين القدماء – غير هذه اللّعبات – ألعابًا أخرى يتطلّب أداؤها قدرًا من الجهد والتّمرين والمهارة، مثل المصارعة وحمل الأثقال والقفز والتّحطيب والعدو والسباحة والتجديف، وكان يؤدّيها الشبيبة عادة، ثم يحاول الصغار أن يقلدوهم في بعض منها كلما استطاعوا ذلك.

إنَّ الألعاب الشعبية المنتشرة فى أوساطنا الشعبية كثيرة ومتنوّعة والألعاب السابقة هي نماذج منها.

وقد كان للألعاب الشعبية قِيَمها الأخلاقية والمجتمعية، فهي ذات خصوصية تشاركيّة بين أبناء الفئة العُمرية الواحدة أو الحي الواحد أو المنطقة الواحدة، فهي بهذه الخصوصية وسيلة للوحدة والتعاضد والتواصل وصناعة الفرح المشترك، وأيضا وسيلة تربوية لأن بعض الألعاب كانت ترافقها أغاني أو أهازيج خاصة.

ولكن رغم القيمة الكبرى لهذا الموروث الشعبي فهي تكاد أنْ تنقرض، ولعل بعضا أو كثيرا من الألعاب قد انقرضت فعلاً، ولم يعد في الإمكان إحياؤها، فقد اشتهرت الكثير من الألعاب بالشوارع والأحياء الشعبية والتي كانت تعتمد على تجمّع عدد من الأطفال، الذين يجدون فيها نوعا من أنواع التسلية والتي كانت تساعدهم على الحركة والنشاط، والتي اختفت خلال هذه الفترة مع انتشار الألعاب الإلكترونية الحديثة داخل المنازل والتي جذبت الأطفال إلى الجلوس لساعات طويلة أمام شاشات الكمبيوتر.

ومن أمثلة الألعاب الشعبية المصرية التي انقرضَت تحت تأثير الألعاب الإلكترونية:

لعبة النّحلة: اشتهرت لعبة النحلة فى الأحياء الشعبية والشوارع المصرية قديمًا، وهي كانت عبارة عن نحلة مصنوعة من الخشب أو البلاستيك بها سنّ حديد وتُلَفّ بخيط ويلقيها أحد الأطفال لتدور بسرعة على الأرض.

لعبة ملك ولا كتابة: تعتمد هذه اللعبة على أن يحمل أحد الأطفال قطعة نقود معدنية، ويقذفها ويُلقيها مرة أخرى على الأرض ويخفيها عن أعين المشاركين في اللعبة ليسألهم: “ملك ولّا كتابة”؟، ليحزروا أيّ وجه وقعت عليه العملة، ملك (أي الصورة المطبوعة على العملة) أم كتابة (أي كتابة رقم العملة)، وقد تستخدم للقرعة بين الفريقين أيهما يبدأ اللعب خصوصا في كرة القدم، وما تزال حتى يومنا هذا.

لعبة الأولى “الحجلة”: تعتمد لعبة الأولى على رسم مُربّعات بطوبةٍ أو طباشير، ويرمي الطفل الحجرَ على المربع الأول، ثم يقفز على قدم واحدة بينما تبقى الأخرى مرفوعة عن الأرض وتقوم بدفع الحجر بقدمها إلى الأمام في المربعات الأخرى بالترتيب، وتستمر في دفع الحجر فى كل المربعات حتى تعود إلى النقطة التي كانت تقف عليها في البداية خارج المربعات، وبهذا تفوز باللعبة.

لعبة كيكا على العالي: تعتمد اللعبة على مجموعة من الأطفال الذين يختارون من بينهم من يمسك بهم، ثم يتفرّقون ويجرون محاولين الإفلات وعندما يشعر الطفل باقتراب الطفل المتولّي مهمّة الإمساك بهم، يقف بأقرب مكان عالي، ويردّد “كيكا على العالي”، وهكذا حتى يفلت منه.

لعبة البلي: وتعد أيضًا لعبة “البلي” من الألعاب المشهورة وهي عبارة عن كرات زجاجية صغيرة شفافة بداخلها مياه ملونة وريش ملون، وتعتمد على تجمّع عدد من الأطفال لتنشين البلية داخل الحفرة التي تبعد عنهم بمسافة بسيطة، والذي يستطيع إدخالها الحفرة هو الفائز.

لعبة الكرة الشراب: تُعدّ لعبة كرة القدم من الألعاب الشعبية في مصر، ولذلك ابتكر الأطفال قديمًا صنع كرة من الشراب القديم، بدلاً من شراء كرة بلاستيك، والتي كانت تعتمد فى صناعتها على غراء وخيط بروتكس، ومجموعة من الشرابات القديمة، والتي يتبرع بها أحد الأطفال، وكم من لاعب شهير كان يلعب الكرة الشراب وتمّ اختياره من الشارع ليلعب في فريق الناشئين بنوادي الدرجة الثانية، وقد يلمع نجمه ويبرز بين أقرانه فينتقل إلى نوادي الدرجة الأولى وربما يحترف ويصير من كبار لاعبي العالم، وخصوصا أبناء القرى، وتتلقّف أندية الشباب هؤلاء الأطفال وتقوم بتدريبهم، وقد كان عندنا نادٍ للشباب في قريتنا منذ ستينيات القرن العشرين، وكنا نقيم مسابقات تضمّ القرى المجاورة في دوري يفوز به من يستحق الفوز، وقد تطوّرت الكرة الشراب فكانت تصنع من الإسفنج الذي يوضع في شراب ويُلفّ بإحكام بواسطة خيط متين، وقد يُستعان بلاصق يُسمّى الكلة.

لعبة فتحي يا وردة: تُعدّ هذه اللعبة من أشهر ألعاب البنات والتي تعتمد على عمل دائرة وترديد أغنية “فتحي يا وردة.. قفّلي يا وردة”، مع التصفيق باليد.

لعبة صَلَّح: ويتجمّع فيها بعض الصبيان، ويقف أحدهم مُعطيًّا ظهره لهم وواضعًا يده بحيث تداري نظره، واليد الأخرى على جنبه، ويتجمّع الصبيان خلفه ويضربه أحدهم على يده، وعليه أن يكتشف الضارب، ليقف مكانه وإلا ظل في مكانه.

لعبة عسكر وحرامية: ويتجمّع فيها الأطفال ليقوم بعضهم بدور الحرامي والبعض الآخر بدور العسكري الذي يقبض عليه من بين الأطفال حيث يختبئ في مكان ما وعلى العسكري أن يبحث عنه ويقبض عليه.

وتُعدّ الألعاب الشعبية جزءًا من التراث الشعبي الذي تتناقله الأجيال أبًا عن جدّ، وقد كانت من الوسائل الأساسية التي لا يمكن الاستغناء عنها في العصر القديم، أما الآن فهي معروفة لدى الكثيرين لكنها غير منتشرة بالقدر الذي كانت عليه سابقًا، والسبب في ذلك يعود إلى التطوّر الذي وصلنا إليه، حيث حلّت مكانها ألعاب أخرى! ولأنّ الماضي هو تراثنا وجزء من حاضرنا، سنشير إلى بعض الألعاب الشعبية العربية القديمة للبنات والأولاد وإلى ألعاب شعبية قديمة للكبار وألعاب شعبية رياضية وغيرها الكثير.

وقد تتشابه الألعاب الشعبية العربية وإن اختلفت أسماؤها من بلد إلى آخر، ومن أشهر الألعاب الشعبية العربية:

لعبة الحالوسة: تُعدّ الحالوسة أو كما يسميها البعض “شطرنج العرب” من أشهر الألعاب الشعبية في “الإمارات” التي تشكل جزءًا من عادات وتقاليد الدولة! تعتمد هذه اللعبة على الدقة والذكاء والمهارة معًا، وتقوم على تشكيل 28 حفرة في الأرض يتم تقسيمها بين اللاعبين، أي لكل لاعب عدد مُخصّص من الحفر، بحيث يبدأ كل منهم بتمرير الحصى، فإذا اجتمعت حصاتان في حفرة واحدة يقوم اللاعب بأخذها ليبدأ بتجميعها، ومن يجمع عددًا أكبر من الحصى يُعتبر الفائز في هذه اللعبة! هذه اللعبة هي من أفضل الألعاب العربية الشعبية دون أيّ أدنى شك! وتُسمّى في مصر “السيجة”، وهي أشبه ما يكون بالشطرنج ولكنها لا تحتاج لرقعة أو لقطع خشبية، بل تُلعب بالطوب، وتُحفر في الأرض أو في التراب.

لعبة الحجلة: تُلعب الحجلة في معظم البلدان العربية والغربية أيضًا!، وهي واحدة من أبرز الألعاب الشعبية الفلسطينية المتداولة بشكل كبير وتُلعب تحديدًا من قِبَل الفتيات، وتعتمد على القفز من مربع إلى آخر بعد رسمها على الأرض أثناء رفع إحدى القدمين، بحيث ترمي اللاعبة حجرًا على المربع الأول وتقفز إليه ومن ثم تدفع الحجر إلى مربع آخر بقدمها بالترتيب إلى أن تعود إلى نقطة البداية، بشرط عدم رمي الحجر خارج صندوق المربّعات، وتُسمّى في مصر (الأولى).

لعبة الكُبوش: للباحثين عن ألعاب شعبية “سعودية” للأطفال والصبيان، فإنَّ لعبة “الكبوش” هي خيار جيد وممتع! تُلعب هذه اللعبة داخل البيت أو خارجه، وتعتمد على عظمة صغيرة تُسمّى “الكبوش” تكون في عرقوب الأغنام، يتمّ حك سطحيها على حجر حتى يصبحا ناعمين. يتمّ صفّ “الكبوش” التي يتراوح عددها بين 20 و30 بشكل مستقيم بجانب بعضها ويتم إحاطتها بدائرة من التراب، ويبتعد اللاعبون عن الدائرة مسافة تبلغ 3 أو 4 أمتار ممسكين بكبش واحد ثقيل، بحيث يرمونه على الصفّ، فإذا أخرجت ضربتهم كبشًا منها يقومون بأخذه إلى أن يجمعوا أكبر عدد وهكذا، ولا أعلم لها مثيلا بمصر.

لعبة البنانير: البنانير هي من أشهر الألعاب الشعبية الأردنية وتعتمد على ما يُسمّى بـ “القلول”، وهي كرات زجاجية صغيرة، يقوم اللاعبون بالاصطفاف جنبًا إلى جنب ويبدأ اللاعب الأول بدفع القل الخاص به، ليبدأ اللاعب الثاني بمحاولة دفع القل السابق بالقل الذي معه، فإن أصابه أخذه، وإن لم يصبه يبدأ الشخص الثالث برمي القل على أي من القلين السابقين، ويصبح ملكه إذا أصابه وهكذا، ولا أعرف لها مثيلا بمصر.

وبينما اهتمت الدراسات الاجتماعية والتاريخية – إلى حد ما – بالألعاب الشعبية، فإنها تكاد أن تكون غائبة عن الأدب (الفصيح والشعبي إن جاز التعبير).. وقد بدأ الاهتمام بهذه الألعاب في أدب الأطفال، حيث استلهم الأديب الأستاذ “عبده الزراع” لعبة البلي في مسرحيته للأطفال بعنوان: “إمبراطور البلي”.

ونرى أنَّ الألعاب الشعبية كانت مهمّة في تنمية الروابط الاجتماعية بين أبناء الحي الواحد أو القرية مثل لعبة كرة القدم التي تحتاج إلى لاعبين ومُشجّعين وتقام لها المسابقات بين فريق الحي أو القرية وفرق الأحياء أو القرى المجاورة، وقد ازدهرت لعبة كرة القدم وتطوّرت من الكرة الشراب إلى الكرة الجلد وانتقلت من الشارع أو الحارة إلى نوادي الشباب، ثم إلى الأندية على مستوى المحافظات، والأندية القومية.

كما كانت تجمع الأطفال والصبيان ليلعبوا كل حسب سنّه وحسب ميوله واستعداداته، فتنمّي فيهم الروح الجماعية والتعاون من جهة وتذكي شعور التنافس المحمود من جهة أخرى.

ويمكن استثمار الألعاب الشعبية في مجالات الأدب والفنون واستلهامها في أعمال فنية كما حدث في فيلم “الحرّيف” الذي قام ببطولته “عادل إمام”.

وقد مارستُ معظم هذه الألعاب كأبناء جيلي، في سنّ الطفولة والصبا، كالكرة الشراب التي كنا نلعبها في الطريق، ثم انتقلنا من الطريق إلى نادي شباب القرية.

ومارست لعبة البلي التي كنا نتقنها ونتنافس فيها، وهي تعتمد على الذكاء والثبات الانفعالي وحسن التّصويب، وكلها مهارات مهمّة للأطفال والصبيان.

ومارست كذلك لعبة النّحلة التي كنا نتنافس فيها أيّنا يحكم لفّ الخيط حول النحلة ويلقيها على الأرض مع جذب الخيط بطريقة مُعيّنة بحيث تدور النحلة أطول وقت ممكن وأحيانا كنا نديرها على أكفّنا.

كما مارست لعبة “السيجة” الصغيرة والكبيرة، وهي تتناسب مع عمر الصبا والشباب، وتشبه لعبة الشطرنج، وتعتمد على الذكاء والتوقّع لتفكير اللاعب المنافس.

كما مارست لعبة “الأولى” التي تعتمد على التوازن الحركي والتوافق العضلي، وتحتاج إلى مهارات خاصة وتحتاج إلى كثير من التدريب حتى يتقنها الصبي.

ومارست كذلك لعبة: صلح، عسكر وحرامية، الكراسي الموسيقية، اللقمة والمضراب، وغير ذلك من الألعاب التي كانت تُدخل البهجة والسرور في نفوسنا نحن الأطفال والصبيان، وتنشّط أذهاننا وتنمّي ذكاءنا وتقوّي أبداننا.

كما مارست لعبة “السباحة” وكان التنافس بين الصبية في سرعة العوم وعبور التّرعة من الشطّ إلى الشاطئ الآخر، وكذلك التنافس في الغطس وأيّنا يستطيع البقاء تحت الماء مدة أطول أو يعبر التّرعة غاطسا تحت الماء، والسباحة من الألعاب المندوب لتعلُّمها كما ورد في الأثر “علّموا أولادكم السباحة والرماية وركوب الخيل”.

ولكنني للأسف لم أكتب شيئا من الشعر أو النثر يعالج هذه الألعاب الشعبية ويسجّلها ويؤرخ لها أو يحكي ممارستي لها مع أترابي من الأطفال والصبيان، وربما أفعل ذلك بتأثير من هذا المقال في هذا الملف الشيّق.

ومما لا شك فيه كما قلنا إنّ معظم هذه الألعاب تحدث تقاربًا بين الأطفال والصبيان، وتصهرهم في بوتقة واحدة بحيث يكون التّعارف بينهم كبيرا بالرغم من المنافسة المحمودة بينهم، كما أن هناك لُعبًا خاصة بالبنات والصبايا لا يسمح للصبيان أن يشاركوهن فيها، كلما بلغوا سنّ الصبا والرّشد، أما في سن الطفولة فقد كان يُسمح بالمشاركة في الألعاب وخصوصا بين أبناء الأسرة الواحدة، أو الحارة الواحدة أو الشارع الواحد.

الخريبقة والبطّة والحجلة وألعاب أخرى.. في الأدب والحياة

بقلم: ختام زاوي – كاتبة من تونس

نشر الفيلسوف الهولندي “يوهان هويزينغا” منذ سنوات في كتابه (Homo Ludens) أو “الإنسان اللاعب” تعريفًا للعب، مُعتبرًا إيّاه ليس مجرد نشاط ترفيهي، بل مكوِّنًا جوهريًا في الثقافة والحضارة. حيث يرى “هويزينغا” أنّ اللعب يلعب دورًا أساسيًّا في تطوير المجتمعات، ويعكس القيم الثقافية الأساسية. ووفقًا لهذه الفلسفة، يُعدّ اللعب عنصرًا مهمًّا في عملية بناء الحضارة، حيث يُعزّز الإبداع والتفاعل الاجتماعي، ويعكس القيم والتقاليد الثقافية التي تشكّل الهوية المجتمعية.

ختام زاوي كاتبة من تونس

وقد تُرجمت هذه الفكرة إلى عدة لغات أجنبية، وأصبحت صوتًا مجلجلًا في المحاضرات حول أهمية اللعب في تنمية المهارات وتعزيز ثقافة الحوار في المجتمع. وربّما كانت لهذه الدراسات النظرية نهضة في عالم المحسوسات، أو ربما كانت بذرة من العالم القديم زُرعت في أجيال هذا العصر الحديث.

أمّا الوجه الآخر من الأمر، فإنّ فنون اللعب الفردية أو الجماعية هي صناعة فكرية بدأت نواتها في التكوين منذ خلقنا الأول على هذه الأرض الطيبة. ابتدَع الإنسان حينها الرُّقى، والتمائم، والتعاويذ في صورة كلام مُنغّمٍ موسيقي موزون يمسّ النفس ويسرّ الأذن، وكذا وُلِد الشعر. ثم جاءت في صورة تماثيل وأهوال تُحدث الروعة في القلب والبُهرة للعين، وبهذا يولد الفن! وباعتبار أن اللعب يُعد فنًا، بطبيعته الإبداعية والمعقدة، فقد نشأ في حياة الفطرة وفي الجزر النائية التي لا تنبت فيها مدينّة أبدًا.

ذلك رأيي في فنون اللعب التي هي، فيما أعتقد، ابتكار وتوارث قائم على الحوار والتنقيب عن أسرار السعادة الكونيّة والمتعة اللامتناهية. فاللعبة الجيّدة التي تمارسها المجموعة هي تلك التي تولِّد ملكة الحوار، هذا الحوار الذي بدوره يعلِّمنا حُسن الممارسة اليدوية والمرونة، وله بالطبع أثر كبير في الوصول إلى الجودة والإتقان.

وعلى هذا الضوء، نفهم كثيرًا عن مميّزات الألعاب الشعبية أو الجماعية، التي بدورها تمثِّل أنشطة تقليدية تمارسها المجتمعات بشكل جماعي، وتعكس التراث الثقافي والاجتماعي، وغالبًا ما تتوارثها الأجيال كجزء من الهوية المحليّة.

الألعاب الشعبية في الأدب التونسي

كتب “البشير خريف” في روايته “الدقلة في عراجينها”: “كانت الحومة تزهو بأصوات الأطفال وهم يلعبون (الوزير)، وكأنّ الحومة كلها تشاركهم فرحة الانتصار والهزيمة، حيث تلتقي الأجيال على بساط الطفولة المُتجدّدة، تحمل في طيّاتها عبق الزمن الجميل”.

كما كتب “مصطفى الفارسي” في إحدى مقالاته: “لعبة (الخربقة) ليست مجرّد تنافس بين الأطفال، بل هي درس في الصبر والاستراتيجية، تعلّم الصغار كيف يفكّرون قبل أن يخطوا، وكيف يقدّرون خصومهم قبل أن يهزموا”.

كما جاء لـ “محمود المسعدي” في كتابه “حدّث أبو هريرة قال”: “مثلما يتناقل الأطفال قواعد لعبة (البراج)، يتناقل الكبار حكمتهم. فالحياة نفسها لعبة، ولكل لعبة قواعدها التي تفرض علينا احترامها، وإلّا وجدنا أنفسنا خارجها”.

ولا ننسى مقولة “الحبيب السالمي” في روايته “نساء البساتين”: “كانت البنات يتجمّعن في الزّقاق الضيق، يلعبن (الغمّاضة). يضحكن ويصرخن وكأن العالم كله متوقّف على تلك اللحظة، حيث تغمض عيون الحاضرات على ذكريات ستظل محفورة في الذاكرة للأبد.

إنّ مهمة الكاتب ليست مجرد إمتاع الحسّ، وراحة الخاطر، وتخدير الشعور! وما أرخص الأدب لو كان وسيلة للهو..  بل إنّ الأدب طريقٌ إلى إيقاظ الرأي وتأكيد الذاتية، خادمٌ للجماعة وحافظ للقيمٌ..

وكل كاتب لا يسمو بهويته وجذوره ولا يلتمس واقعه في كتابه هو كاتب يقضي على نموّ الشعب وتطوّر المجتمع.

ولا يستطيع أن يؤدي هذه الرسالة إلا في مجتمع حر. ذلك المجتمع الذي ينسج من خيوط ماضيه جُبّةً تظلِّله من رياح الزمن، فلا يُلقي بكنوز أسلافه في هوة النسيان، بل يُقيم حولها سورًا من الاحترام والعرفان. إنه مجتمع يدرك أنّ جذوره الراسخة في التراب هي التي تمنحه القوة لمواجهة العواصف، وأن الاعتزاز بتاريخه هو السبيل الوحيد للمضي قدمًا في بناء مستقبل مشرق”.

وفيما لي نقدّم للقارئ نماذج عن الألعاب الشعبية من التراث الشعبي التونسي..

لعبة الخَربَقَة

من الصعب تحديد الفترة الزمنية الدقيقة لظهور لعبة “الخربقة”. وفقًا للذاكرة الشعبية التونسية، يُعتقد أن هذه اللعبة تعود إلى زمن البايات، الذين ورثوها بدورهم من الهلاليين عندما قدموا إلى تونس من مصر. وتُشير بعض الروايات التاريخية إلى أن “الجازية” الهلالية قد لعبت “الخربقة” مع “ذياب” أمام خيمتها، ووعدَت بخلع ثيابها إذا خسرت في اللعبة. وعندما خسرت، خلعت ثيابها، ولكن لم يتمكّن أحد من رؤية جسدها العاري بفضل شَعرها الطويل والكثيف الذي غطّى كامل جسدها.

وتشير “الخربقة” إلى واحدةٍ من الألعاب الفكرية التقليدية التي تعتمد على التفكير والمهارة العقلية، وتُعتبر جزءًا من التراث الثقافي اللامادي، خاصة في مناطق الجنوب التونسي وأريافه. هذه اللعبة، التي تتطلّب حسابات دقيقة وتوقّعات ذكية، تشتهر بأسماء مختلفة في بلدان المغرب العربي، مثل: “السيزة” في ليبيا، “الخريبقة” في الجزائر، وتُعرف في الخليج العربي بـ “الشيزة” أو “السيجة”.

يُعتبر الحفاظ على هذه اللعبة، باعتبارها جزءًا من الذاكرة الشعبية التونسية، أمرًا مهمًّا، وذلك من خلال توثيقها ورسمها في قالب يشبه رقعة الشطرنج، مع الحفاظ على قوانينها الأصلية. وعندما يحلّ الغروب ويتعذر مواصلة اللعب بسبب الظلام، يغادر الشيوخ المكان على أمل العودة في اليوم التالي لاستكمال المباراة، ويبقى صدى أصواتهم يتردّد بين جدران الدكاكين “كش كلبك مات”.

لعبة الحجلة

لعبة “الحجلة”، تلك اللعبة البسيطة التي كانت تطغى على الأزقّة في المدن القديمة، لم تكن مُجرّد تسلية بريئة للأطفال، بل كانت تعبيرًا عن روح الحياة. في كل خطوة يقفز فيها الطفل على قدم واحدة، كان هناك قفزة رمزية نحو المستقبل، نحو الحلم الذي يتأرجح بين السقوط والنهوض.

“الحجلة” كانت لعبة الزمن، فمن خلالها يتعلّم الطفل حساب الأيام، يُرتِّبها مُربّعات مُربّعات، يقفز بينها بخفّة، مُتجنِّبًا السُّقوط في فجوة الماضي، مُستعدًّا للقفز نحو المُربّع التالي، نحو الأمل.

هل فكرنا يومًا أنّ تلك الحصاة التي تُلقى في المُربّع الأول، ما هي إلا رمز للبداية؟ وهل أدركنا أن الوصول إلى نهاية اللعبة هو في الحقيقة عودة إلى البداية، إلى المربع الأول؟ وكأننا في دورة أبدية، نحاول الوصول ثم نعود، لنكتشف أن الهدف ليس الوصول، بل القفز، وليس الوصول إلى النهاية، بل الاستمرار في اللعبة.

فاللعبة إذًا، هي فلسفة متجسِّدة في أقدام الأطفال، هي درس في الحياة تَعلّمه الأجيال دون أن يدركوا، لعلهم يعرفون يومًا، أن كل قفزة هي تجربة، وكل مُربّع هو مرحلة، وكل لعبة هي حياة.

لعبة البطّة

“البطّة” ليست مجرد لعبة، بل هي مَجرى للروح الإنسانية، تعكس سعي الأفراد لتجاوز حدودهم واختبار مهاراتهم في بيئة مليئة بالتحدّيات. الطفل الذي يركض خلف “الصيّاد”، في محاولة لإمساكه، يُمثِّل الجهد البشري المُستمرّ للبحث عن النجاح والتميّز في ظل القوانين التي تفرضها اللعبة.

“الصيّاد” في هذه اللعبة يُشبه شخصيةً تبحث عن موقعها في عالم مُتقلِّب، حيث تعني كل خطوة وكل حركة وسيلةً للتغلّب على الصّعاب والبحث عن الانتصار، مثلما يسعى الإنسان في مجالات حياته المختلفة.

الألعاب الشعبية في ظل التكنولوجيا

تسلَّلت التكنولوجيا إلى كل زاوية من زوايا حياتنا، من بيوتنا موانئنا إلى معالمنا ومدارسنا وجامعاتنا، حتى أصبحت جزءًا لا يمكن الاستغناء عنه، تمامًا كالحاجة إلى الطعام والنوم. لقد أعادت التكنولوجيا تشكيل أنموذج حياتنا الاجتماعية، مُقدِّمةً لنا مصدرًا غنيًّا يمكّن كل فردٍ من تحقيق ما يطمح إليه.

في الماضي، كنّا نعيش لحظات من الخمول وفقدان الرغبة إذا بقينا في المنزل دون الخروج للعب مع الأصدقاء، ولكن اليوم اختلفَت الحال؛ حيث يشعر الطفل بالعزلة والغرابة إذا فُصل عن جهازه الإلكتروني وتوجّه مع والديه إلى الزيارات أو النّزهات. هذه العزلة تُفضي إلى تجنّب الاختلاط بالآخرين، ممّا يؤثر سلبًا على نمو الطفل وتطوّر تفكيره.

في عالمنا المعاصر، يتّفق الخبراء في علم الاجتماع على أن أولى سلبيات الألعاب الإلكترونية تكمن في تأجيج مشاعر الفردانية والعزلة لدى الأطفال، وهي مسألة تستدعي وقفة تأمُّل جديّة. على النقيض، تساهم الألعاب الشعبية في غرس مفاهيم التفاعل الاجتماعي وتثبيت دعائم القيم الإنسانية في نفوس الصغار، حيث تعلّمهم أن هناك دائمًا آخرين حولهم، وأن لكل منهم حقوقًا وواجبات، ممّا يدفعهم إلى النظر في الأمور من زوايا متعدّدة.

فقد يرى الطفل في موقف مُعيّن تعدِّيًا على ذاته، بينما قد يراه الآخرون مجرد مزاح عابر. ومن خلال هذه التفاعلات، يدرك الطفل أهمية تعدّد الأبعاد وتنوّع الرؤى، مِمّا يعزز قدرته على التفاعل مع الحياة بمرونة وعمق. لذا، فإن دروس الحياة التي تمنحها الألعاب الشعبية تتفوّق على تلك التي توفّرها الألعاب الإلكترونية، لأنها تبني في النفس البشرية إدراكًا عميقًا لكونها جزءًا من مجتمع يتطلّب التفاهم والتعاون.

وفي هذا السياق، يبرز التساؤل: أيهما نختار لأطفالنا؟ عالمًا يعزّز مِن تفرُّدهم وعزلتهم، أم عالمًا ينمّي فيهم قدرات التواصل والتفهّم العميق؟

ألعابنا من الجماعيّة إلى الفردانيّة

بقلم: سامر المعاني – كاتب من الأردن

كانت الألعاب الشعبية تمثِّل ذاكرة وأرشيف المكان والزمان في جميع الحقب المجتمعية وخاصة الريفية أو القروية في جميع البلدان. وقد تطوَّرت مع تطوّر الإنسان والمكان، فلقد كانت تمثل طبيعة ومعيشة الحياة لجميع أنماط المعيشة في الحَضَر والبادية والمدينة. كما أنها كانت مختلفة حسب جغرافيا المكان، فالألعاب لسكان المناطق السهليّة مختلفة عن الساحلية والجبلية والصحراوية، غير أنها كانت متشابهة ببساطتها وموادّها زهيدة السِّعر وفي متناول جميع الناس.. وهي ألعابٌ تعتمد على المقابلة المباشرة مِمّا كان يُحقّق لها الأثر النفسي في اللاعبين أكثر من غيرها.

سامر المعاني e1714003808863

بقي القول أنّ الألعاب الشعبية في السابق كانت تبدأ مبكرة وتنتهي متأخِّرة، تعتمد على الأرض بالدرجة الأولى كما الحجارة والتراب والرمال في الحفر والتّخطيط والحركة.. من الجانب الأخر كانت تعتمد على قوة الجسد وسرعة الحركة رغم أنّ كرة القدم كانت وما زالت هي اللعبة المُفضّلة عند الذكور باختلاف الأدوات والتجهيزات والمساحة المُتّسعة.. وكانت الألعاب تمثل الفترة النهارية وقليل منها ما كان يمثِّل الليل لعدم توفّر الإنارة وعوامل لها علاقة بالنوم وتباعد البيوت والحرص على سلامة وأمن الطفل.

تختلف مُسمّيات الألعاب في بعض التفاصيل من مكان إلى آخر، وتتشابه في موادّها.. وهي تعتمد على “مقاييس” المكان والعمر والجنس والعدد، فهناك كثير من الألعاب ما زالت تحمل المُسمّيات نفسها رغم اختلاف الظروف والتجهيزات، وأصبحت الألعاب تنتقل بجوهرها من ألعاب جماعية تتّسع إلى أكبر عدد من اللاعبين، إلى ألعاب زوجية وثلاثية.. وبعد انتشار التكنولوجيا انتقلت لتكون ألعابًا فردية بشكل مُفرطٍ معتمدةً على الآلة والجهاز بعيدًا جدًّا عن حركة الجسم.

لقد تركَت الألعاب موروثا اجتماعيا يعتمد على مفاهيم كانت أكثر تقارب وحميميّة مثل: التجمّعات والتّساوي والشراكة والتعاون والتعايش وقبول الآخر دون معطيات جانبية.. لذلك تجد الحنين إلى الماضي في الألعاب الشعبية مرتبط بالجذور والحنين للأرض والجيران والأصدقاء والأقارب أكثر بكثير من الآن.

تطوَّرت الألعاب وأصبحت الألعاب التقليدية والشعبية جزءًا من الماضي الذي أصبح مجرّد ذكريات وحنين.. لا تراها حتى على من بعدك وذلك لتحوّلها إلى صبغتها الفردية والذاتية، فتجد أنّ الألعاب في الماضي كانت في الحكايا والقصص والروايات للحديث عن الحقب السالفة وخاصة في البيئات غير الصناعية والتجارية، وبينما غابت غيابًا تامًّا في العصر الراهن لغياب تأثيرها على المكان والإنسان، نظرًا لوجودها في مكان مُخصّص وبنية تحتية لها قوانينها وأساليبها.

نوستالجيا ألعاب الطفولة! 

بقلم: د. شعبان عبد الجيِّد (شاعر وناقد وأكاديمي من مصر)

في لسان العرب: اللَّعِب واللَّعْب ضدُّ الجِدّ، ويقال لكل من عمل عملًا لا يُجدي عليه نفعًا: إنما أنت لاعب. ورجلٌ لَعِبٌ وتِلعابٌ وتِلعابَة، أي كثير المَزح والمُداعبة، واللُّعبة نَوبة اللعِب، وهي أيضًا جِرم ما يُلعَبُ به كالشِّطرنج ونحوِه، وكل ملعوب به فهو لُعبة. وملاعب الصبيان والجواري في الدار من ديارات العرب؛ حيث يلعبون، وواحدُها ملعب.

شعبان عبد الجيد

أمَّا في الاصطلاح، فاللعب تركُ ما ينفع بما لا ينفع، وهو ما يشغل الإنسان وليس فيه منفعةٌ في الحال ولا في المآل، أو هو عملٌ أو قولٌ في خفّةٍ وسرعةٍ وطيشٍ، ليست له غايةٌ مفيدةٌ، بل غايته إراحة البال، وتقصير الوقت، واستجلاب العقول في حالة ضعفها. وقد وردَت مادة لعب في القرآن عشرين مرة، جاءت في أكثرها بمعنى: الهزل والعبث، وفي بعضها بمعنى اللهو والتسلية، أو لتشير إلى كل فعل لا يدلُّ على مقصدٍ صحيحٍ.

ولا يعني هذا أبدًا أنّ اللعب، حتى في القرآن الكريم، مذمومٌ على إطلاقه؛ فإن منه ما هو مباحٌ، كما في قوله تعالى، في قصة نبي الله يوسف عليه السلام، ذاكرًا قول إخوة يوسف لأبيهم يعقوب عليه السلام وطلبهم منه أن يرسل معهم أخاهم يوسف: “أَرْسِلْهُ مَعَنَا غَدًا يَرْتَعْ وَيَلْعَبْ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ” (يوسف: الآية 12). فقد ذكر المفسِّرون أن المراد باللعب المذكور في هذه الآية هو اللعب المباح، وهو مجرد الانبساط لانشراح الصدر، والاستجمام ورفع السآمة.

وقد وقع بين يديَّ، منذ فترة بعيدة، كتابٌ صغيرٌ وطريف اسمه “لعب العرب” للعلّامة “أحمد تيمور باشا”، عرض فيه لكل ما عرفه من ألعاب العرب وبعض لعب المولَّدين، ونسّقه حسب الترتيب المعجمي في كتب اللغة، من الألف إلى الياء، وعجبت كيف أن بعضها لا يزال موجودًا في بلاد جزيرة العرب إلى يوم الناس هذا، وبعضها الآخر منتشرٌ في بعض البلدان العربية. وقرأتُ في كتاب “الحياة اليومية في مصر القديمة” عن ألعاب لا يزال الأطفال يمارسونها في بعض قرى: الدلتا والصعيد، وإن كنت لم أقرأ لأحد الأدباء الكبار كلامًا مطوَّلًا عن ألعاب طفولته، اللهم إلّا ما ذكره “خيري شلبي” من وصفٍ تفصيليٍّ للعبة “كلوا بامية”، في أول كتابه: ” أسباب للكيِّ بالنار”.

تبدو كلمة اللعب، في أكثر سياقاتها، وكأنها سيِّئةُ السّمعة، وتكاد ترتبط في أكثر الأذهان بالعبث الفارغ واللّهو الباطل، وهو ما لم يكن يخطر ببالنا ونحن أطفال، نعيش في قرية لا تعرف من ألوان التّرف والترفيه إلا القليل، وتعيش حياةً خشنةً وقاسيةً، تفرض على أهلها أن يكونوا جادّين في أكثر أوقاتهم، ولم يكن يعرف اللعب الساذج واللهو البريء إلا الأطفال الصغار والغلمان الأيفاع، وهو ما سوف أفصِّلُه هنا بعضَ التفصيل.

في أواخر الستينيات من القرن الماضي كانت القرية التي نشأتُ فيها صغيرةً وبسيطةً وهادئة، يحتضنها النِّيل من الناحية الغربية، ويقع بيتنا القديمُ في شارعٍ ضيِّقٍ ومتعرّجٍ يُطلُّ عليه، ولم يكن بيني وبينه إلا خطواتٌ معدودة، أخرجُ إليه يوميًّا لأتأمّله في هيبةٍ وخوف، حين يطغَى ماؤه في أشهر الفيضان، فيُخفي أكثر الجزيرة المقابلة لنا، ويُغرق الحقول الملاصقة للجسر، ويوشك في بعض الأعوام أن يبتلع الجسر نفسَه أو يهدّده بالانهيار، ويتّسع بصورة مخيفةٍ وهائلة، تثيرُ في النفوس هيبةً وخشية، تضاعفها ذكريات غرق بعض الفتيان والفتيات والأطفال، الذين كان أهل القرية البسطاء يصدّقون أن جنية في البحر، اسمها “أم الشعور” هي التي أغوتهم وشدَّتهم وأغرقتهم.

وحين ينحسر الفيضان، أو “ينشف البحر” كما كنا نقول، يصير النيل المتوحّش المزعج هادئًا ووديعًا، يتجرّأ الأطفالُ على السّباحة فيه صبحًا وظهرًا ومساءً، ويتمتّعون بلعب الكرة كلَّ يومٍ في الأرض التي انحسر عنها، فصارت ملاعبَ خضراء معشبة، ومنهم من كان يصنع صنّارةً من الغاب لصيد الأسماك، وبخاصة في إجازة الصيف، وكان خير النيل وفيرًا، وكثيرًا ما كنتُ أعود إلى البيت بكيلو أو اثنين من سمك البلطي والقراميط، أفرح به كثيرًا، وأطلب من أمي، رحمة الله عليها، أن تقليه أو تشويه، وقد كان يكفينا أحيانًا في وجبتَي الغَداء والعَشاء، حيث كنت وحيد أبويَّ، ولم يكن في البيت غيري وغيرها أغلب الوقت.

وعلى جسر النيل هذا كنا نلعب الكرة الشراب، حيث كان أطفال الناحية يجمعون المال من مصروفهم لشراء غراء شفاف، «كُلّة»، وخيط بروتكس، أو شمُّوط، وهو خيط مطَّاطي، ومجموعة من الشرابات القديمة لدى كل منهم، أو بعضهم، تعقد جميعها لتكوين الكرة بالحجم الذي يرغبون به. وأذكر أنها كانت ثقيلة على أقدامنا الصغيرة، ولم يكن يجيد اللعب بها إلا الأكبر سنًّا، أو الأمهرُ لعبًا، وكثيرًا ما كانت تهترئ أو تتمزّق فيصلحها بعض من اشتهروا منَّا بلفِّها وصناعتها.

ولن أنسى حين اشترى أحدُنا كرة من البلاستيك، (من أمّ خمسة وسبعين قرشًا)، فاجتمعنا حوله، وتملّقناه كثيرًا ليسمح لنا باللعب بها معه، وعرف هو لهفتنا، فكان يتحكّم فينا كيف يشاء، يرضَى عن هذا فيلعب، ويسخط على ذاك فيُطرَد، وأحيانًا كان يغيظنا جميعًا فينسحب من اللعب ويأخذ كرته وينصرف إلى بيته، ولم تنته هذه المأساة إلا بعد أن قرّرنا أن نجمع ثمن كرة أكبر ونشتريها، وكنا نواعد فِرق النّواحي الأخرى، فنقابلهم في منافسات كروية ساذجة، في أيّ مكان واسع، عند المرشح، أو الجمعية الزراعية، أو بنات (بين) الجسرين.

ولم تكن منافساتنا تقتصر على الكرة وحدها، فلقد كانت (لعبة الحرب) من ألعابنا المفضّلة، وبخاصة في اليوم الذي يعرض فيه التليفزيون فيلم “عنترة بن شداد” لفريد شوقي، الذي كان يشحننا بطاقة عجيبة من الشرّ الساذج والرغبة في الاقتتال، فكنا نجتمع على غير موعد، ومع كلٍّ منا عودٌ من الحطب أو القطن أو عَبَّاد الشمس، ونخرج وكأننا فرسان القبيلة، ونغير على أطفال الناحية الأخرى، حيث يكونون، وعلى غير موعدٍ أيضًا، في انتظارنا، كأنهم يعلمون بمجيئنا، وتبدأ معركة قاسية من الضرب المتبادل، تنتهي في الغالب بفرار أحد الفريقين، وكثيرًا ما كان يُجرح فيها اثنان أو ثلاثة جروحًا خفيفة، ونعود إذا انتصرنا فخورين بما صنعنا، نتحدث عنه في مجالسنا، ونتحاكَى به في لقاءاتنا، وإن كنا نخشى أن نجيء بسيرته أمام آبائنا وأمهاتنا.

ولعل هذه اللعبة العنيفة أيضًا كانت من تأثير ما كنا نراه في الموالد والأفراح من لعبة (التحطيب)، وهو شكلٌ من أشكال القتال التقليدية بالعصيِّ الخشبية، غالبًا ما يكون وهميًّا، ومصحوبًا بالموسيقى، وكأنه رقصٌ أكثر منه قتالًا، ينتهي في أغلب الأحيان عندما يتعب المتنافسان من الحركة وحمل العِصِيِّ، وهي لعبة للكبار فقط كما يقال، لكننا كنا ننقلها إلى عالمنا الصغير محاكاةً للفرسان واستعجالًا للرجولة.

في تلك الفترة أيضًا، وحتى منتصف السبعينيات، لم تكن الكهرباء قد دخلت القرية، وكان الليل، وبخاصة في الشتاء، مظلِمًا وموحشًا، إلا في الليالي القمرية، حيث كان يطيب السهر والسمر، ويحلو لنا أن نلعب (الاستغماية، أو خلاويص)، لعبة اختباء تمارسها مجموعة مُكوّنة من ثلاثة أطفال أو أكثر، وكلما زاد العدد تصبح اللعبة أكثر طرافة ومتعة، وتختار المجموعة واحدًا منها ليصبح مسّاك، فيوجّه وجهه لأيّ حائط ويغمض عينيه وأحيانًا يغطي وجهه بكفيه لضمان عدم الرؤية أو مراقبة أحد اللاعبين أثناء تفرّقهم واختفائهم ومعرفة  مكان للاختباء ، ويبدأ الشخص بالعدّ حتى رقم عشرة، ثم يهتف مستفهِمًا: «خلاويص؟»، فترد المجموعة «لسه»، (أي ليس بعد)، فيصمت لثواني ثم ينادي: «أجيب البوليس؟»، (أي أجيءُ بالبوليس؟) فيكون وقتها استطاع عدد من المجموعة الاختباء وعدد آخر ما زال يبحث عن مكان جيد ليختبئ به، فيرد غير المختبئ: «لسه»، فيصمت مجددًا لثواني ويكرر: «خلاويص؟»، وعندما لا يتلقّى ردًّا يترك الحائط ويبدأ في البحث محاولًا إيجاد أحد اللاعبين وإمساكه.

أيامَها كان من عاداتي أن أذرع القرية كلَّها شرقًا وغربًا، وشمالًا وجنوبًا، وأتجوّل في كلِّ شوارعها وأزقّتها: الدرب الجديد، الدرب العالي، درب منَّاع… أمَّا (درب الفقهاء)، وهو أطولُها وأكثرها تعقيدًا، وسُمِّي بهذا لكثرة من كانوا يحفظون  القرآن فيه، فقد كان مكاني المفضَّل للاختباء في لعبة الاستغماية، وقد حدث ذات مرةٍ أنني اختبأت فيه، فسمعت صوت جماعةٍ من الفلاحين البسطاء يقرؤون القرآن في أحد البيوت؛ فاقتربت من النافذة، وأخذت أتسمّع إليهم، وتجرّأت فنظرت منها لأراهم وقد تحلّقوا حول مائدة خشبية قصيرة وصغيرة، نسميها (طَبْلِيَّة)، عليها مصباح غاز صغير، (لمبة نمرة خمسة)، ويتبادلون التلاوة فيما بينهم، فيقرأ كل واحدٍ منهم ربعًا أو ما تيسّر له، وأكثرهم يقرأ غيبًا، دون نظر في المصحف، ولا يقطع التلاوة إلا سؤالٌ عن معنى كلمة، أو حكمٍ من أحكام التجويد، وقد شدَّني هذا المنظر، فنسيت اللعبة ونسيَني الرفاق، وكاد قلبي ينخلع من صدري حين أدركت أن الوقت قد سرقني، وأن الليل كاد ينتصف، ولم ينقذني إلا رجلٌ من أهل شارعنا، رأيته دون أن يراني، وأخذت أتبعه حتى وصلت إلى البيت… وكانت ليلة!

كانت ألعاب الليل المظلم في القرية قليلة بطبيعتها، وكنا في أمثالنا نقول: “النهار له عيون”، وفيه يكثر اللعب، وتتنوّع الألعاب، ومنها ما لا يزال الأطفال يمارسونه حتى الآن، وأشهرها (لعبة الطيارات الورقية)، التي تكاد تملأ السماء في فصل الصيف، عقب انتهاء الدراسة مباشرةً، حيث ينشغل الأطفال بشراء أوراقها المُلوّنة، أو صنعها من (شكاير البلاستيك)، والبوص والخيط الثقيل، لتجميعها وتصنيع ذيولها من رقائق الورق المُلوّن الشفّاف وربطها بخيط طويل، وتركها لتطير فى السماء ويلعبونها فى الأماكن المفتوحة، وبخاصة في ملاعب البحر الواسعة، أو على أسطح المنازل. وكنت لا أجيد صنع هذه الطائرات، فأكتفي بشرائها جاهزة، وهو ما لم يكن مُتيسّرًا لأكثر رفاقي.

ولم تكن ألعابنا في القرية مُعقّدةً أو مكلفة، بل بسيطةً ورخيصة، وكان أكثرها جماعيًّا، وأقلها فرديًّا، منها ما يعتمد على قوة الجسم ورشاقته، ومنها ما يعتمد على ذكاء العقل وسرعة البديهة، ومعظمها آمِنٌ لا خوف منه ولا خطر فيه، وبعضها قد ينتهي بكارثة. ومن طريف ما أذكره أن واحدًا من رفاقنا كان له خالٌ يعمل سائقًا في إحدى الشركات، وذات يومٍ رأيناه قد خرج من بيت خاله وهو يدفع إطارَ سيارةٍ قديمًا، وهو يجري وراءه ويلحق به ليدفعه مرة أخرى قبل أن يقع، وظل يروح ويجيء أمامنا، ونحن نكاد نتميّز من الغيظ، ونستجديه بعيوننا أن يعطي كل واحدٍ منا “لَفَّة”، فما عطف علينا إلا بعد أن أرهقه الجري وأتعبه دفع العجلة. ولم يكن مُمكنًا أن نصبر على تحكّمه فينا وقتًا طويلًا، وما هي إلا أيام حتى استطاع بعضنا أن يحصلوا على إطارات سيارات، أو إطارات درّاجات بخارية (موتوسيكلات)، لنلعب كما نشاء وقتما نشاء، وكان هذا الموقف من الأشياء التي حبّبت إليَّ الاشتراكية والتعاون وكرَّهت إليَّ الرأسمالية والاحتكار.

أيامها أيضًا كنا نلعب (لعبة النحلة)، أو الدبّور، وهي عبارة عن نحلة خشبية، أو بلاستيكية، مخروطية الشكل ويركب فيها سنّ من الحديد، وتلف بخيط دوبارة وتُرمى على الأرض وقبل وصولها للأرض يسحب اللاعب خيط الدوبارة بسرعة لتنزل النحلة على الأرض وهي تدور بسرعة، ويفوز المتسابق صاحب أطول زمن لدوان الدبّور على الأرض. وأذكر أنني كنت لا أحسنها كثيرًا، فضقت بها وتركتها إلى غيرها، وطبقت عليها قول الشاعر:

إذا لم تستطِع شيئًا فدَعه      وجاوِزه إلى ما تستطيعُ

وكان ما أستطيعه كثيرًا في الحقيقة، وإن كان لا يكلِّف شيئًا، من ذلك لعبة (المسَّاكة)، وهي لعبة جماعية، تعتمد على السرعة في الجري وليس الاختباء، فبعد إجراء القرعة على من يبدأ الدور ليكون «المسَّاك»، يبدأ هذا الطفل في الجري خلف من يشترك في الدور، محاولًا الإمساك بأي شخص، وعندما ينجح في الإمساك بصديقة يكون قد انضم إلى مهمته شخصٌ جديد، ليسعيا في الإمساك بالباقي، وهكذا، كلما نجحا في الإمسكاك بشخص زادت قوتهم؛ لأن عددهم يصبح أكثر. وتنتهي اللعبة عندما ينجح طفلٌ واحد فقط في الإفلات من الإمساك، وحينها يتمُّ إعلانُه ملكًا على الجميع، ليختار بنفسه مَن يكون «مسَّاكَ» الدور الجديد.

ثمة ألعاب أخرى تعتمد على الحظ وحده في أغلب الأحيان، منها السلم والثعبان، وملك وكتابة، والأخيرة تعتمد على عملة معدنية لها وجهان، ملكٌ أو كتابة، ويقوم من معه العملة بسؤال صاحبه عن أي الوجهين يختار، ثم يقوم بتدوير العملة والتقاطها بكفّه، أو تركها تقع على الأرض، وتظهر النتيجة، ملكًا أو كتابة، وحين يكون الاختيار خطأً يحق للاعب أن يعاقب صاحبه بما اتّفقا عليه من ألوان العقاب البسيط، وإن كان صحيحًا حُقَّ للذي اختار أن يكون هو المعاقِب. وكان حظي في هذه اللعبة سيئًا جدًّا، وكان صدري يضيق حين تتكرّر اختياراتي الخطأ، ووصل بي الأمر إلى حدِّ التشاؤم منها، وكان يسيطر عليَّ إحساسٌ غريبٌ بأن حظي في الحياة لن يكون أسعد منه في هذه اللعبة، وأظنه والله ما قد كان.

ولم تكن كذلك لعبة (السيجة)، أو الشطرنج الشعبي كما يطلقون عليها، وفيها يكون لكلّ لاعب ثلاث قطع، ويُرسم مربّع بداخله تسع خانات، أو يحفر في الأرض. تبدأ اللعبة وأمام كل لاعب القطع الثلاث الخاصة به، بينما تكون الخانات الثلاث المتبقّية فارغة. يبدأ أحد اللاعبين بتحريك قطعة في الخانات الفارغة، فإذا استطاع أن يكوِّن صفًّا واحدًا من قطعه الخاصة بوضع رأسي أو أفقي أو قُطري، يكون فائزًا بنقطة واحدة. ثم يعيدون الكرّة لتسجيل عدد من النقاط المتّفق عليها للفوز بالمباراة. وقد كنا نسمع ونحن صغار عن بعض شباب القرية الكبار، أو رجالها، كانوا يلعبون السيجة الكبيرة، ويتراهنون على الفوز بما يشبه القمار، وكانوا يلعبونها في أماكن قلّ من يعرفها، وربما كانت تنشب بينهم مشاجرات بسببها، وهو ما جعلني لا أميل إليها طفلًا، ولا أحاول تعلّم الشطرنج فيما بعد. وإن كان الشك لا يزال يراودني في أنني كنت سأتقنه أو أتميّز فيه.

أمَّا اللعبة الخطرة التي يزعجني تذكُّرُها حتى الآن، فهي لعبة العصفورة، أو (تريك تراك) كما كنا نسمّيها، حيث كان الصبية يتبارون فيها بأدوات خشبية مُدبّبة يحاولون قذف قطعة من الخشب بعيدًا بضربة عصا سريعة ثم يحاول الطفل الآخر إعادتها إلى مكانها الأول الطريقة نفسها وبأقل عدد من الضربات، وهي عبارة عن قطعة مستطيلة الشكل من الخشب عريضة من طرفٍ ورفيعة من الطرف الآخر لا يزيد طولها عن نصف متر،  تلعب مباراة العصفورة بين فريقين متساويين، يتكوّن كل فريق منهما من خمسة لاعبين، أو أربعة أو ثلاثة، حسب الظروف. وقد كان يحدث أن بعضهم يقذف العصفورة بشدةٍ فتصيب صاحبه الذي يلعب معه إصابة قد تكون خطيرة، وقد حكى لي أحد الزملاء أن أحدهم قذف هذه الخشبة الصغيرة بقوة، وكانت لسوء الحظ جافةً ومدببة، فدخلت في عين من كان يلعب معه وفقأتها، مما جعلهم يتشاءمون منها ويحرّمون لعبها.

ثمة لعبة أخرى لم نعرفها، ولم نمارسها، إلا في المدرسة الابتدائية، وهي (لعبة الكراسي)، حيث يتمّ وضع كراسٍ في دائرة بحيث يكون ظهرها مواجهًا لبعضه. ويكون عدد اللاعبين أكبر من تلك الكراسي بشخص واحد. عندما تبدأ الموسيقى يبدأ الجميع في اللفّ حول الكراسي، وعندما تقف الموسيقى يجلس كل لاعب على أقرب كرسي له وبسرعة. سيكون هناك دائما لاعبا لم يجلس، فيخرج من اللعبة. ونحذف أيضا كرسيا وتستمر اللعبة حتى آخر لاعب يجلس على آخر كرسي. كانت هذه اللعبة تعتمد على الرشاقة وخفة الحركة وسرعة البديهة، وقد كنت أوفَّق فيها كثيرًا، ولم يفسدها عليَّ غير نظرات الغيرة من بعض رفاقي، وهو ما جعلني لا أشارك فيها أبدًا، حتى لا أوذيَهم أو أجرح مشاعرَهم.

لم أتحدث هنا عن لعبة البِلي، وشد الحبل، وثبِّت، وكيكا على العالي، وفر يا بادنجان، وألعاب أخرى كثيرة كانت مصدرَ فرحنا وسرَّ سعادتنا، قبل أن نعرف هموم الحياة الثقيلة ونتحمّل مسئولياتها المرهقة، وقبل أن تغزوَنا الألعابُ الإلكترونية التي جعلت أطفالنا جُزُرًا منعزلة، وفصَلتهم عن الأُسرة التي ينتمون إليها، والعالَم الذي يعيشون فيه. وفيما قلت ما يُغني، وإن كان حديث الذكريات البريئة لا يُمَلُّ مهما طال، وهو ما أتمنَّى أن لو كان!

الألعاب الشعبية بين فسحة الحضارة الإسلامية وشذوذ الغرب

بقلم: أ.د. صبري فوزي أبو حسين – أستاذ ورئيس قسم الأدب والنقد بكلية الدراسات الإسلامية والعربية بمدينة السادات بجامعة الأزهر، مصر

من أبرز سمات العرب الحضارية قصدُهم إلى مَلءِ وقت فراغهم بصنوف من اللعب واللهو، وجعلها من أسباب العيش والحياة، إذ تزخر الثقافة العربية العتيقة بالكثير من المنتجات الفنية والإبداعية الضاربة بجذورها في التاريخ العربي كالفنون والألعاب الشعبية بأنواعها، والتي تهدف إلى الترفيه والتسلية  والتثقيف والتربية؛ فقد عرف العرب منذ جاهليتهم أنواعًا كثيرة من الألعاب الجماعية، كانوا يمارسونها منذ مرحلة الطفولة الأولى وحتى ما بعد البلوغ، وتذكر المعاجم العربية أسماء العشرات من هذه الألعاب؛ فهذا الإمام اللغوي أبو الحسن علي بن إسماعيل بنُ سِيدَهْ الأندلسي (ت 458هـ/1067م) يجعل بابًا في كتابه “المخصَّص” بعنوان: “أسماء عامة اللهو والملاهي”، وأدرج فيه مبحثًا عن “اللعِب”، فذكر فيه من أسماء الألعاب اثنتين وأربعين لُعبةً. ثم جاء بعده ابن منظور (ت 711هـ/1311م) فزاد عليه في “لسان العرب” ألعابًا عديدة شرح كيفية لعب بعضها، وكذا السيد مرتضى الزبيدي(ت1205هـ) في معجمه “تاج العروس في شرح القاموس!”.

صبري فوزي

وقد حلل الموقف العقلي من هذه الألعاب والملاهي عددٌ من سادتنا الأسلاف من أبرزهم الإمام الشافعي (ت204هـ) في كتابه “الأم” باب بعنوان (شهادة أهل اللعب)، والإمام “البخاري” (ت256هـ) الذي خصّص بابًا في صحيحه بعنوان: (الانبساط إلى الناس)، و”ابن حجر الهيتمي” (ت974هـ) في كتابه (الزواجر عن اقتراف الكبائر)، وخصَّص المؤرخ “الفاكهي” (ت 272هـ/885م) في كتابه “أخبار مكة” فصلاً كان عنوانه: “ذِكرُ ما كان عليه أهل مكة يلعبون به في الجاهلية والإسلام ثم تركوه بعد ذلك”؛ فذكر فيه أن عمر بن الخطاب (ت 23هـ/645م) قدِم مكة فرأى لعبة “الكُرَّكْ” يُلعب بها، فقال: لولا أن رسول الله صلى الله عليه وسلم أقرَّك ما أقررتُك! وقال المكِّيون: هو لعب قديم كان أهل مكة يلعبون به، ولم يزل حتى كانت سنة عشر ومئتين (210هـ/825م)، ويضيف “الفاكهي” مبيّنًا طبيعة هذه اللعبة وما كانت تلقاه من جماهيرية: “كان أهل مكة يلعبون به في كل عيد، وكان لكل حارة من حارات مكة “كُرَّكْ” يُعرف بهم، يجمعون له ويلعبون في حارة، ويذهب الناس فينظرون إليه في تلك المواضع..، فأقاموا على ذلك ثم تركوه زمانًا طويلاً لا يلعبون به حتى كان في سنة اثنتين وخمسين مئتين (252هـ/866م).. ثم تركوه إلى اليوم”!! والناظرُ في المعاجم يغلب على ظنّه أن هذه اللعبة هي نفسها المُسمَّاة بـ “الكُرَّجْ” وهي فارسية معرّبة، وهو تمثالُ خشبٍ “يُتَّخَذ مثلَ المُهر يُلعَب عليه”؛ وفقًا لابن منظور (ت711هـ) في معجمه “لسان العرب”.

وممّن اهتمّ بتتبّع الألعاب عند العرب في مطلع العصر الحديث العلامة “أحمد تيمور باشا” (1871-1930م)، في كتابه “لعب العرب” الصادر سنة 1948م، والدكتور الطبيب “أحمد عيسى” (1876-1946م) في كتابه “ألعاب الصبيان عند العرب” الصادر سنة 1939م، وغيرهما! وقد جمع هؤلاء المؤلفون في هذه الكتب وصفًا لتلك الألعاب التي كان يتسلّى بها أطفال العرب قديمًا؛ مما يجعلنا نستشفّ القيم التربوية والتقاليد التي كانت تُغرَسُ في نفوس الأطفال من خلال اللعب؛ كالصبر والتعاون والمنافسة الشريفة… وغير ذلك. إنها ألعاب شعبية، يمارسها العامة منذ الطفولة، ويتوارثونها جيلاً بعد جيل، ويضيفون إليها تفاصيل جديدة، ويتساوى في ممارستها الذكور والإناث، وغالبًا ما ترتبط بالأغاني والأشعار، ولها خُطُوات وحرَكات وقوانين، وأدوار يوزّعها الأطفال فيما بينهم قبل بداية اللعبة، ويتعلّمها الطفل دون توجيه وإرشاد، ولكن من خلال مشاهدة الآخرين. ومن دلائل حضور هذه الألعاب في الشعر الجاهلي قول امرئ القيس واصفًا فرسه:

دريرٍ كخُذروفِ الوليدِ أمَرَّهُ — تتابعُ كفَّيهِ بخيطٍ مُوصَّلِ

ففرسه كثير الجري سريعة، كسرعة لُعبة الخذروف التي أُحكم فتل خيطها الموصل التي يلعب بها الصبيان!

الألعاب في معاجم اللغة العربية

اهتمت معاجم اللغة العربية بالألعاب اهتمامًا تداولِيًّا ودلاليًّا، فمن يقرأ الجذر اللغوي (ل/ ع/ ب)، يجد المعجميّين العرب عرضوا لدلالته الكلية، ولأبرز استعمالاته؛ فقد دار هذا الجذر في معناه الرئيس حول الحركة التي فيها لهو وتسلية، وباطل وعبث، حينًا، وقد يكون اللعب سخريّة وهوًى، وقال ابن فارس: “وقيل: إن أصل الباب هو الذهاب على غير استقامة”. ومن أبرز مفردات هذا الجذر اللغوي: اللَّعِب واللَّعْب واللِّعْب: ضد الجدّ، يقال: لَعِبَ يَلْعَب لَعْبًا ولَعِبًا، ولعَّب وتلاعب وتلَعَّب مرة بعد أخرى؛ قال امرؤ القيس:

تَلَعَّبَ باعثٌ بذمةِ خالدٍ — وأودى عصامٌ في الخطوبِ الأوائلِ

ويقال لكل من عمل عملاً لا يُجدي عليه نفعًا: إنما أنت لاعب. والمَلْعب: مكان اللعب، واللُّعبة: اللون من اللعب، واللَّعبة: المَرَّة منها، إلا أنهم يقولون: لمن اللَّعبة؟ وملاعب ظله: طائر.

والتَّلْعابة: الكثير اللعب، والتاء للمبالغة، كما في قول النّابغة الجَعْدِيّ:

تَجَنَّبْتُها إِنِّي امْرُؤٌ فِي شَبِيبَتِي — وتِلْعَابَتِي عَن رِيبَةِ الْجَار أَجْنَبُ

فإِنّه وَضَعَ الاسمَ الّذِي جَرَى صِفَةً مَوضعَ المصدرِ. وقال الأزهري: “رجل تلعابة إذا كان يتلعب، وكان كثير اللعب”. وفي حديث علي رضي الله عنه: “زعم ابن النابغة أني تلعابة”؛ وفي حديث آخر: أن عليًّا كان تَلعابة أي كثير المزح والمداعبة، والتاء زائدة. ورجل لعبة: كثير اللعب. ولاعبه ملاعبة ولعابا: لعب معه. لعَّب يلعِّب، تلعيبًا، فهو مُلعِّب، والمفعول مُلعَّب، لعَّبتِ الأمُّ ولدَها: جعلته يلعب، أي: يتسلَّى ويلهو. وألعب المرأة: جعلها تلعب. وألعبها: جاءها بما تلعب به؛ وقول عبيد بن الأبرص:

قد بتُّ ألعبُها وهْنًا وتَلْعَبُنِي — ثم انصرفْتُ وهِيْ منِّي على بالِ

وجارية لَعُوب: حَسَنة الدَّلِّ، والجمع لَعائِبُ. قال الأزهري: ولعوب اسم امرأة، سميت لعوب لكثرة لَعِبها، ويجوز أن تُسمَّى لعوبًا؛ لأنه يلعب بها! والمَلْعبة: ثوب لا كُمَّ له، يلعب فيه الصبي. واللَّعَّاب: الذي حِرْفتُه اللعب. والأُلعوبة: اللعب. وبينهم أُلعوبة من اللعب. واللُّعَبة: الأحمق الذي يُسخَر به، ويُلعَب. واللَّعبة: نَوْبة اللعِب. اللِّعبة، بالكسر: نوع من اللعب. تقول: رجل حسن اللِّعْبة، بالكسر، كما تقول: حسن الجِلْسة. واللُّعبة: جِرم ما يلعب به كالشطرنج ونحوه. والنَّرْد لُعبة، وكل ملعوب به، فهو لُعبة؛ لأنه اسم. واللعاب: فرس من خيل العرب، معروف؛ قال الهذلي:

وطاب عن اللُّعَّاب نفسًا وربةً — وغادرَ قيسًا في المكرِّ وعَفْزَرا

وملاعب الصبيان والجواري في الدار من ديارات العرب: حيث يلعبون، والواحد مَلْعَب.

استعمالات مُحدَثة للجذر اللغوي (ل/ ع/ ب)

ورد في كتاب معجم اللغة العربية المعاصرة للدكتور |أحمد مختار عمر| وفريق من الباحثين، مجموعة من ألفاظ وتراكيب تَشِيع في لغتنا الصحفية والإعلامية الحديثة، منها: (ألعاب)، أي: نشاط جسديّ قائم على الممارسات فرديّة أو جماعيّة بحسب قواعد معيَّنة. و(مدرِّس ألعاب) وهو الخاص بممارسة التربية الرياضية في المدارس. و(ألعاب أولمبيَّة)، أي ذلك المهرجان العالمي الذي يُقام مرّة كلّ أربع سنوات وتُجرى فيه مباريات دوليّة في الألعاب الرِّياضيّة. و(ألعاب القُوى)، أي مجموع الرِّياضيّات الجسديّة التي يمارسها الرِّياضيّون كالعَدْو والقفز ورمي الرُّمح. و(ألعاب سحريّة)، أي ألعاب تعتمد على خِفَّة اليد. و(الألعاب النَّاريّة)، أي موادّ تُحضَّر كيماويًّا وتُحدِث عند اشتعالها دويًّا وضياءً، وهي تُستخدم في الأعياد والمناسبات، و(صانع ألعاب)، أي لاعب في فريق رياضيّ، يدعو زملاءه بإشارات معيّنة للهجوم. ويقال: “لَعَّب المروِّضُ الأسودَ/ القِرَدةَ!”.

مُلاعِب الأَسِنَّة

هو أبو براء: عامر بن مالك بن جعفر بن كلاب، سُمِّي بذلك يوم السُّوبَانِ، وجعله لَبِيدٌ مُلاعبَ الرِّماحِ؛ لحاجته إلى القافية؛ فقال:

لو أن حيًّا مُدركَ الفلاحِ — أدركَه مُلاعبُ الرِّماحِ

وفي حَاشِيَة الصَّحاح للجوهري: ذكرَ الآمِدِيُّ، فِي كتاب المُؤتَلِف والمُختَلِفِ فِي أَسماءِ الشُّعَرَاءِ: أَنّ مُلاعِبَ الأَسِنّةِ لَقَبُ ثلاثةٍ من الشُّعَرَاءِ: أَحدُهم هذا المذكُور، والثّانِي (عبدُ اللَّهِ بنُ الحُصَينِ بن يَزِيدَ الحَارِثِيُّ)، والثّالثُ (أَوْسُ بنُ مالِكٍ الجَرْمِيُّ)، وَهُوَ القائلُ:

إذا نَطَقَتْ فِي بَطْنِ وادٍ حَمَامَةٌ — دعَتْ ساقَ حُرَ فابْكِيَا فارِس الوَرْد

وقُولَا فَتَى الفِتْيَانِ أَوْس بن مالِكٍ —   مُلاعب أَطرافِ الأَسِنَّةِ والورْدِ

اللعب في عُرف الفقهاء والمفسرين

اللعب هو السّلوان والتّرويح عن النفس بما لا تقتضيه الحكمة، وهو أيضًا: ما يشغل الإنسان عمّا يعنيه أو يهمّه من هوًى وطرب ونحوهما، واللعب أعمُّ من اللهو؛ لأن اللعب قد يعقب نفعًا فيكون للتدريب والتأديب كملاعبة الفرس، والشطرنج، وقد لا يعقب نفعًا فيكون لهوًا، واللهو وليد الرغبة والشهوة. وقيل: اللعب ما يشتغل به الإنسان، ولا يكون فيه ضرورة في الحال، ولا منفعة في المآل، وإن شغله عن مهمّاته فهو اللهو. و(اللعب) هو لعب الصبيان فيكون في زمن الصبا بينما اللهو يكون في زمن الشباب وما بعده…! وفي كتب الفقهاء باب في ذكر ما يتدرّب به على الجهاد، وهو (المسابقة والمغالبة)، وكان النبي – عليه الصلاة والسلام – يشجّع المسلمين على الرمي ويأمرهم بتعلّمه وينهاهم عن تركه بعد إتقانه؛ فقد روى الإمام البخاري أنه – صلى الله عليه وسلم – مرَّ يومًا على جماعة من الأنصار يرمون فقال: “ارموا بني إسماعيل فإن أباكم كان راميًا”، وروى مسلم عن عقبة بن عامر قال: “سمعت رسول الله -صلى الله عليه وسلم – وهو على المنبر يقول: “وَأَعِدُّوا لَهُم ما استَطعْتُم من قُوَّةٍ. ألا إن القوة الرمي، ألا إن القوة الرمي، ألا إن القوة الرمي”. وروى أصحاب السنن أنّه – عليه الصلاة والسلام -قال: “مَنْ تَعلَّم الرميَ ثمَّ تركَه فليس منَّا”.

واللعب جائز حلال عند الفقهاء بشرط أن يكون بشكل مُحتشم: بثياب لا تصف ولا تشف، وأن يكون لعبًا صالحًا مشروعًا، وليس فاسدًا أو مُضِرًّا يُوقع الأذى بالناس أو الحيوانات، وألا يشغل عن الفرائض، وألا يشتمل على محرم، أو يرتبط بمحرم، أو يتسبب في تعصب ممقوت منتن! وألا يكون فيه إسراف وتبذير وباطل، أو اختلاط بين الجنسين!

اللعب في ظلال السيرة النبوية العطرة

عاش رسول الله طفولته بفطرة نقيّة وبسلوكيات طيّبة مرنة فيها حركة وحيوية؛ ففي سيرة النبي- صلى الله عليه وسلم – في حديث المبعث، أن النبي – صلى الله عليه وسلم – كان يلعب وهو صغير مع الغلمان بـ “عَظْم وَضَّاح”، وهي لعبة لصبيان الأعراب يعمدون إلى عظم أبيض فيرمونه في ظلمة الليل ثم يتفرّقون في طلبه، فمن وجده منهم فله القَمْر، وفي حديث: “بينا هو يلعب مع الصبيان وهو صغير بعَظْم وَضَّاح مرَّ عليه يهوديٌّ فقال له: لَتَقْتُلَنَّ صَنَاديد هذه القرية”. وكانوا إذا غلب واحد من الفريقين ركب أصحابُه الفريقَ الآخر من الموضع الذي يجدونه فيه إلى الموضع الذي رَمَوا به منه.

ومن ألعاب العرب ما يُسمّى (الدِّرَكْلَة)، وهي لُعْبَة يلعب بها الصبيان، وقيل: هي لعبة للعجم، معرّبة، قال ابن دريد: أحسبها حبشيَّة معرّبة، وقال أبو عمرو: هو ضرب من الرَّقص. قال الأزهري: قرأتُ بخط شَمِر، قال: قُرئ على أبي عبيد وأنا شاهد في حديث النبي – صلى الله عليه وسلم – أنه مرَّ على أصحاب الدركلة، فقال: “جدُّوا يا بني أرْفَدَة حتى يعلم اليهود والنصارى أن في ديننا فسحة”. ففي هذا الخطاب النبوي الشريف ما يدلّ على حثّ النبي على اللعب، وحرصه على الإعلان عن سماحة الإسلام ومرونته!

وأخرج الإمام البخاري عن أم المؤمنين عائشة – رضي الله عنها – قالت: “لقد رأيتُ رسول الله – صلى الله عليه وسلم – يومًا على باب حجرتي، والحبشة يلعبون في المسجد – ورسول الله صلى الله عليه وسلم يسترني بردائه – أنظر إلى لعبهم”، وجاء في رواية أنهم كانوا “يلعبون بحرابهم”. وفي رواية: وضعَ رسولُ اللَّهِ – صلَّى اللَّهُ عليهِ وسلَّمَ – ذقني علَى منكبِهِ، لأنظرَ إلى زفنِ الحبشةِ، حتَّى كنتُ الَّتي مَلِلتُ فانصرفتُ عنهُ. قالَ لي عروةُ: إنَّ عائشةَ قالت: قالَ رسولُ اللَّه – صلَّى اللَّهُ عليهِ وسلَّمَ – يومئذٍ: لتعلمَ يَهودُ أنَّ في دينِنا فُسحةً، إنِّي أُرِسلتُ بحَنيفيَّةٍ سَمحةٍ… ويبدو أن ذلك كان عادةً متأصلة في مجتمع الأنصار بالمدينة؛ فقد أخرج أبو داود (ت 273هـ/886م) عن أنس بن مالك (ت 93هـ/ 712م) من خبر احتفالاتهم بمقدم النبي – صلى الله عليه وسلم – عليهم مهاجرًا من مكة أنه “لما قدم رسول الله – صلى الله عليه وسلم – المدينة لَعِبَت الحبَشةُ بحرابهم بين يديه؛ فرحًا لقدومه”… وما فرح الأنصار بشيء كفرحهم بقدومه، صلى الله عليه وسلم!

وفي السيرة النبويّة ما يدلّ على أنه كان للصبايا ألعاب في هيئة دُمًى وعرائس يسميها العرب “البنات”، وهي “تماثيل من عاج” كما فسّرها ابن سِيدَهْ؛ وقال ابن منظور: “البناتُ: التَّماثيلُ التي تلعب بها الجَواري”. وقد ورد في “صحيح البخاري” أن “عائشة – رضي الله عنها – قالت: كنتُ ألعب بـ “البنات” عند النبي – صلى الله عليه وسلم – وكان لي صواحبُ يَلعَبنَ معي”… وهكذا تكثر الأحاديث والآثار النبوية الدالة على حضور الألعاب الشريفة في المجتمع الإسلامي زمن العهد النبوي الشريف!

عَبَثِيةُ افتتاحِ الألعاب الأولمبية بباريس

تعرّض حفل افتتاح الألعاب الأولمبية في باريس هذا العام لانتقادات شديدة من سياسيين محافظين وآخرين يمينيين متطرّفين في فرنسا وأوروبا وأنحاء متفرّقة من كوننا. والسبب ما تضمّنه هذا الاحتفال (بافتتاح الأولمبياد) للأسف من مشاهد استهزاء وسخرية من المسيحية، وهو ما نأسف له بشدة! وما فيه من قبول للشذوذ والعُري! ومن أخبار توحي بالعنصرية القبيحة والتعصّب الغربي القذر، الدالّة على ضعف الحضارة الغربية وتفكّكها، وضياع القيم الإنسانية السمحة فيها!

وقد أدان الأزهر الشريف في مصر “مشاهد الإساءة للمسيح” في افتتاح دورة الألعاب الأولمبية بباريس، مُحذِّرًا من “خطورة استغلال المناسبات لتطبيع الإساءة للدين وترويج الشذوذ والتحول الجنسي”. وينادي بضرورة الاتحاد للتّصدي في وجه هذا التيار المنحرف المتدنّي، الذي يستهدف إقصاء الدين، وتأليه الشهوات الجنسية الهابطة التي تنشر الأمراض الصحية والأخلاقية، وتفرض نمط حياة حيوانية تنافي الفطرة الإنسانية السليمة، وتستميت في تطبيعه وفرضه على المجتمعات بكل السُّبل والوسائل الممكنة وغير الممكنة..

ومن شعر الإخاء والتسامح الخاص بهذه المشكلة نُتْفة للقَسِّ السوريِّ الشاعر “جوزيف إيليا”. وهي بعنوان (باطلهم سيذهب)، والتي أبدعها في: 29 – 7 – 2024، والتي بدأها بعبارة نثرية عميقة، نصها: “لن نلعن من أساء إلى المقدّس لدينا في أولمبياد باريس 2024م، وإنّما بكلّ الحبّ نسامحه ونطلب له البركة”. ثم قال:

لا نشتكي لا نغضبُ — إلهُنا مَنْ يغلِبُ

قدوتُنا مسيحُنا — قد قالَ وهْو يُصلَبُ:

اغفرْ لهم جهلًا بهِ — تلوّثوا واضطربوا

الحقُّ باقٍ بينما — باطلُهم سيذهبُ

فما أحوج كوننا في آننا هذا إلى خلُق السماحة، وخُلُق الإنصاف، وخلُق نصرة الإنسان الضعيف في كل مكان، لاسيما ذلك الإنسان الغَزَّاوي الصامد المناضل المقاوم، الذي يواجه أعتى وأقذر نظام عنصري همَجِي شيطاني في العصر الحديث!

البيئة الفلسطينية أنموذجًا..

الألعاب الشعبية بين التراث والمعاصرة

بقلم: مروى فتحي منصور – روائية وكاتبة من جنين – فلسطين

يمارس الإنسان حياته ونشاطاته ويحيي فعالياتها بين الجدّ والهزل والعمل واللهو، وكما خطّ الإنسان تاريخه في درب العلوم والآداب والفنون فإنه كان مُبدعًا في وسائل التفريغ الأخرى من ألعاب ومهرجانات وتجمّعات. وعلى اختلاف الفئات العمرية، ينجذب الإنسان بفطرته إلى التسليّة واللعب؛ فالطفل ينمّي مهاراته ويوسّع مداركه في اللعب، ويستكشف موجودات العالم الحسيّة من حوله، ومَن يحيطون بالطفل ويتفاعلون معه يحصلون على جرعات عليا من اللهو والمرح لمجرد المشاركة، وأيضا الطالب في المراحل الدراسية الدنيا والمتوسطة يتعلّم بشكل أسرع وأنجع إن قُدِّم له ما يتعلمه عبر اللعب، حسب ما أشارَت إليه آخر التقارير الميدانية والنظرية في العشر سنوات الأخيرة فيما يخصَ التعلّم والتعليم النّشط.

مروى فتحي منصور 1

الألعاب في البيئة الفلسطينية القديمة

وغالبا ما تُعبِّر هذه الألـعاب عن روح الـشعب ووجدانه وعاداته وتقاليده، فالبيئة توحي باللعبة وتتطوّر فيها بإبداع مُمارسيها وتعطيها نكهتها الخـاصة والمميزة.

الألعاب الشعبية من أهمّ مظاهر المجتمعات وإرثها الثقافي والوجداني، فقد عرف العرب الشطرنج وحجر النّرد.. وفي البيئة الفلسطينية في المنتصف الأول من القرن العشرين، وثّق لنا “جبرا إبراهيم جبرا” جانبا من اللعب في طفولته، وخصوصا “مسرح الدُّمى”، ومن أشهر الألعاب التي كان يمارسها الأطفال في فلسطين: “نط الحبل، الطمّاية أو الغمّاية، السّبع حجار، طاق طاق طاقية، رن رن يا جرس… حول واركب على الفرس، وعرفوا لعبة البنانير الكرستالية (الجلول)، وكانت البنات يلعبن لعبة نط الحبل و”الحجلة”..

وكما عرف الطفل الفلسطيني الألعاب التي تُمارس في الساحات الواسعة حول المنزل المعروفة بـ (الحوش) والحقول الزراعية، عرف أيضًا الألعاب التي تمارس على الورق مثل: أوراق الشدة، الخريطة، لص حاكم جلاد، جماد حيوان نبات، وغيرها من الألعاب الورقية.. وقد شغلت هذه الألعاب أذهان الأطفال ووقتهم، وارتبطت بيوميّاتهم وذكرياتهم، ذكورًا وإناثًا، فانعكست سلوكًا نفسيًّا في المجتمعات التي أحيوها فيما بعد، فأضحَت واقعا سيكولوجيا واقعيا..

فاللعب مرتبطٌ بالإنسان على اختلاف الفئات العمرية، فهناك ألعاب خاصة بالكبار وأخرى بالصغار، وألعاب للبنين وأخرى للبنات.. كما كان هناك ألعاب تُلعب طوال أيام السنة، وأخرى تُلعب في فصول أو مواسم معيّنة من العالم. وغالبا ما كانت اللعبة الشعبية ترتبط ببيئتها وما توفّره الطبيعة من وسائل..

لم يكن الطفل قديمًا يهاجَم من قِبل الآباء على ممارساته لتلك الألعاب لأنّه لا يؤذي نفسه ولا غيره فيها، بل على العكس كانت تُذكي فيه روح المنافسة مع أقرانه، وتعلِّمه قيمًا عُليا منها تقبّل نتيجة الخسارة وضرورة بذل مزيد من الجهود في سبيل إحراز الفوز، وكانت تقوّي علاقة الفرد بين أقرانه، وتخلق المُتعة والتّرفيه لهم، وتساعد الأطفالَ على اكتشاف أنفسهم من خلال معرفة ما يميّزهم عن غيرهم من مهارات وقدرات فردية، وتساهم في صنع الطفل الاجتماعي المتفاعل الذي يستطيع في المستقبل الاندماج مع مجتمعه بتنمية مهارات الاتصال والتواصل.

الألعاب الإلكترونية بديلا للألعاب الشعبية

أمّا الأطفال في هذه الألفية، واليافعين أيضًا، فللأسف يقضون معظم أوقاتهم أمام شاشات صاخبة الإضاءة والصوت، يتابعون بصورة إدمانيّة محتويات غير هادفة تُعطِّل دورهم الجسدي والنّمائي والذّهني، وترهق حواسّهم وتحدّ من إدراكهم وتفصلهم عن واقعهم، وهو يمارسون ألعابا إلكترونية بلا هدف سوى اجتياز المراحل مع منافسين وهميين، وترى الطفل فيهم وقد أخذته الحماسة حتى انفصل عن واقعه وتأثّر بصرُه ونطقُه بالسالب، وانطوى عن مجتمعه الحقيقي، مستغرقًا في اجتياز تلك المراحل، وشراء “شدات” بمقابلٍ نقدي للحصول على امتيازات وهمية فارغة داخل لعبة تمتلئ بالضجيج والتشنّج العصبي.

يمكن القول إنّ الألعاب الشعبية قد انقرضَت عمليًّا سوى من حصص الرياضة المدرسية وبعض توجّهات المراكز الترفيهية في العطلة الصيفية، لكن ذلك يكاد لا يُذكر في مقابل الآلاف من الأطفال الذين ينفقون أعمارهم أمام الشّاشات بلا طائل.

الألعاب الشعبية والترفيه في عالم اليافعين في فلسطين

هذا ويغيب عن عالم النّاضجين الاهتمام باللعب والتّرفيه في فلسطين، فتجد الفرد يعيش ضغوطات نفسية وعصبية لا يتحمّلها بشري، ولا يخصِّص لنفسه ساعة ترفيه، ويقضي ساعات فراغه أمام الشاشات الإخبارية ليعرف ما حلّ بشعبه وقومه، ولا تقوم أيّ هيئة ثقافية أو اجتماعية بالاهتمام بتلك الفئة من الناضجين وكبار السن الذين انفطرَت قلوبهم على بني شعبهم ويعيشون حصارا ماديا واقتصاديا وسياسيا غير مسبوق وكأنهم زُجّوا في علبة ثم أُلقوا في غيابات جبٍّ محفور في سجن من سبع طبقات، وخصوصًا بعد العدوان المتواصل (2023 – 2024) على قطاع غزّة والكثير من مناطق الضفة الغربية.

الألعاب الشعبية جزءٌ من الموروث الشعبي والتراث الثقافي، يحمل في طيّاته أرواح الشعوب وتلقائيتها ونزعتها إلى ممارسة الرياضة وصناعة الفرح والأوقات اللطيفة، وقد قرأنا في تراثنا الإسلامي بأنّ الرجال كانوا يمارسون الفروسية والسِّباق فيما بينهم في ساحات المسجد، وأنّ الرسول الكريم كان يسمح لزوجاتهم بمتابعتهم ومتابعة أهازيجهم المصاحبة لهذه الألعاب، مِمّا يشير إلى فطريّة اللعب عند كل الأمم والشعوب..

صورة الألعاب الشعبية في الأدب الفلسطيني

صورة الألعاب الشعبية في الأدب النثري العربي باهتة بشكل عام، وفي الأدب الفلسطيني كذلك، على خلاف حضور الإرث الثقافي المَحكي من أمثال وأساطير وأهازيج.. ويعود السبب في رأيي إلى خروج الأدب الروائي وأدب السيرة من الذاتية إلى التوجّه التوثيقي لمعاناة الشعوب وتبني قضايا الإنسان الفلسطيني المعاصر الذي يواجه سياسة الإبادة البشرية والتّطهير العرقي والإقصاء بكافة المجالات.. ولا بدّ من التنويه إلى أنّ الألعاب الشعبية لها قيمتها التراثية والتاريخية مثلها مثل كافة الفنون الشعبية التي يجب الاحتفاظ بملامحها وأطُرها العامة وتصديرها إلى الأجيال الجديدة عبر فعاليات ومهرجانات عامة، أسوة ببقية الشعوب التي تُحيي مواسمها الزراعية والاقتصادية والثقافية ومناسباتها الوطنية بهذا الأسلوب..

ولا شك أنه من الواجب إثبات حضور الألعاب الشعبية خاصة في الأدب والمناهج الدراسية واستثمارها فيهما لحمايتها من الانقراض والاندثار.

اللعب بين الماضي والحاضر

بقلم: هدى الأحمد – كاتبة وقاصة من الأردن

اللعب حاجة ضرورية في حياة الإنسان منذ نشأته الأولى، وهو حق من حقوق الأطفال التي لا جدال فيها، وكثيرا ما تخلق حالة من التنافس تجعل الفائز يشعر بنشوة الفوز سواء كانت هذه الألعاب فردية أو جماعية. وقد بيّن أصحاب الاختصاص بأن اللعب هو “نشاط حر يستغل فيه الإنسان قدراته الجسدية والعقلية”، وله فوائد كبيرة للأطفال حيث من المفترض أن ينمِّي قدراتهم العقلية ويُشغل الخيال لديهم.

هدى الأحمد

وتختلف أشكال اللعب من عصر إلى آخر، فمثلا في مطلع قيام الدولة الإسلامية تركّز اللعب على السباحة وركوب الخيل والرِّماية، بل إنّه رُوي عن “عمر بن الخطاب” (رضي الله عنه) قوله: “علِّموا أولادكم السباحة والرماية وركوب الخيل”، وكلّها ألعاب تكاد تكون نادرة في أيامنا هذه.

ليست الألعاب الشعبية وحدها التي انقرضَت أو تكاد، فكل ما يتعلق بالتراث الشعبي هو مُهدّد تهديدا وجودي بالاختفاء، كالزي التقليدي الذي بتنا نستخدمه كمظهر من مظاهر الزينة، وحتى الأدب والغناء الشعبي يداهمه الخطر بفعل عوامل كثيرة يعلمها الجميع، لعلّ أهمّها الغزو التكنولوجي الهائل والذي دفع بالأطفال إلى الانعزال أو ممارسة ألعابهم من خلال هواتفهم عن بُعد، أو التعامل مع أجهزة حديثة متطورة كألعاب “البلاي ستيشن”.

بشكل عام، عالمنا العربي يقع تحت تأثيرات كونيّة كبرى عجز عن متابعتها، فنحن مجتمعات قفزت قفزًا باتجاه التكنولوجيا والتقنيات الحديثة فما بالك بالتطور المتلاحق في عوالم الأنترنت، فالأنظمة التعليمية كانت وما زالت في الأغلب الأعم تلقينِيَّة تأتينا مُعلّبة جاهزة للاستعمال، وكل ذلك أثّر على قدرة الإنسان العربي للمحافظة على مخزونه الثقافي والتراثي.

بالعودة إلى موضوع الألعاب الشعبية، وهنا أتحدّث عن الأردن وفلسطين خصوصا وبلاد الشام عموما، فقد انتشرَت فيه ألعاب بسيطة، مثل لعبة القلول (الدواحل) والتي كان يمارسها الأطفال ذكورا وإناثا وهي لعبة صيفية بامتياز، في حين اختصّت لعبة (الزقطة) و(الحجلة) بالبنات، في الوقت الذي مارس الشباب وكبار السن لعبة (السيجة) وطاولة الزّهر، وكل لعبة من هذه الالعاب لها قواعدها.

أنت لا تستطيع اللعب إلّا مع من تحبّ، ويشترط موافقة الأهل على من تلعب معهم، ولا يُسمح لك بالابتعاد عن المنزل كثيرا في الحارة التي تعيش فيها، وميزة ألعاب الاطفال أنها العاب نهارية باستثناء لعبة (الغُمَّيضة) المعروفة باسم (كمستير) التي يمكن لعبها في كل الأوقات وخاصة مع مغيب الشمس، ثم ظهرت لاحقا لعبة (العسكر والحرامية) وأعتقد أنها جاءت مع الدولة العثمانية التي حكمت المنطقة ما يزيد على أربعة قرون.

يعيش الطفل العربي عموما أحداثا تجعله يميل بشكل كبير إلى ألعاب الكمبيوترية التي تتطلّب مهارات عقلية، كما أنّ الاتّساع العمراني حدَّ إلى حدٍّ كبير من تلك الالعاب الشعبية التي تتطلب تجمّع أطفال الحي الواحد في ساحات اللعب، حتى في القرى والأرياف يندر أن ترى تجمُّعًا للبنات يمارسن لعبة “الحجلة” التي استُبدلت بألعاب جديدة لها مُسمّيات مختلفة.

نعم، نتيجة لتغيُّر وانقلاب القيم الاجتماعية المتوارثة والغزو التكنولوجي الهائل، تغيَّر شكل اللعب، وكثيرٌ من الالعاب اندثرَت وحلَّ محلّها أجهزةٌ وأدوات مختلفة، ويبقى السؤال عالقًا: هل هذا خطأ، وعلينا أن نجعل اطفالنا يعودون إلى تلك الألعاب؟

لا شك أنّ للعب أثر ايجابي كبير على نموّ قدرات الأطفال العقلية والجسدية، ولا شك أنّ هناك شعورا بالأسى على غياب تلك الألعاب الشعبية التي تزيد من أواصر المحبّة بين أطفالنا الذين سرقتهم أجهزتهم الخلويّة من محيطهم.. ومهما بذلنا من جهود لن نستطيع أن نعيد الزمن الذي كان يجمع الرجال على بوّابة الدكّان للعب “طاولة الزهر” أو “المنقلة” (السيجة)، ولن نقنع أطفالنا أنّ تراثنا يُسرق وعلينا المحافظة عليه، فهو من وجهة نظرهم حالة متخلِّفة، فالعالم يتسابق في اللعب للوصول إلى الفضاء وحرب النجوم عبر الألعاب الكمبيوترية.

والخلاصة، إنه إذا كان لكل عصر دولة ورجال، فإنّ اللعب أيضًا غزاه تغيُّر كبير همّش الالعاب الشعبية، وعزّز أشكالًا وأنماطا جديدة جعلت للعب غايات مختلفة ترتبط بتغيّر أنماط الحياة بعد غياب مفهوم الأسرة المُمتدّة التي كانت تجمع أجيالا مختلفة من الجدّ إلى الحفيد.. فاللعب يرتبط بشكل الحياة، والحديث يطول!

 

محمد ياسين رحمة - الجزائر

محمد ياسين رحمة - الجزائر

اقرأ أيضا