قبل نهاية النصف الثاني من القرن العشرين، انقرضتْ الأسود في الجزائر من السُّلالة التي عُرفت بتسمية “أسد الأطلس الجزائري”، ويُقال إن ألمانيا حافظت على بعض منها في حدائقها. كما انقرضتْ، أيضًا، أنواعٌ أخرى من الحيوانات البريّة المُفترسة بسبب الصّيد العشوائي الجائر الذي سهّلتْهُ وشجّعتْ عليه الإدارة الاستعمارية في مختلف ربوع الجزائر.
شهادةُ مُؤرَخ إغريقي
قال المؤرّخ والجغرافي الإغريقي “سترابون” (63 أو 64 قبل الميلاد – 24 ميلادية): “يمتلك النوميديُّون أراضي جدُّ خصبة لكنها مليئة بالحيوانات المُتوحّشة التي أعاقتهم عن ممارسة الزراعة والاستقرار”. وقد خلّدتْ بعضُ الآثار الرومانية، مثل البَلاط واللوحات الفسيفسائية، مظاهرا لصيْد الأسود والغزلان وحيوانات بريّة أخرى. وتتواجدُ نماذج من تلك اللوحات في متحف موقع “جميلة” بولاية “سطيف”، وفي متحف “هيبون” بولاية عنّابة، وفي المتحف العمومي الوطني بمدينة “شرشال”، ومواقع جزائرية أخرى.
الدَمار ابتدأ مع الاستعمار
تعودُ الشّواهد الرومانية حول صيْد الحيوانات البريّة، مثل الأسود والفهود على الخصوص، إلى القرون الميلادية الأولى، لا سيما القرن الرابع. ورغم ما أعقبَ ذلك الزَمن من أحقاب تاريخية أخرى، يُفترضُ أن عمليات الصيّد لم تتوقّف فيها، فإن الحيوانات البريّة المفترسة بشكل خاص، لم تتعرّض إلى خطر الانقراض، وظلّت الحياة البريّة في الجزائر مُحافظةً على توازنها الطبيعي، إلى أن حلَّ الاستعمار الفرنسي الذي أعلن الموتَ على كل شيء جميل في الجزائر، وامتدّت مشاريعه التدميرية من أعماله في تزييف التاريخ والعبث بالقيم وعناصر الهوية وهدم الإنسان فكريا وروحيا، إلى تدمير الطبيعة وإفْناء الكثير من مخلوقاتها لا سيما الحيوانات المُفترسة وعلى رأسها “أسد الأطلس الجزائري”.
الرَّسمُ بالألوان والكلمات
رغم انعدام التصوير الفوتوغرافي، في العقود الأولى من الاستعمار الفرنسي، فقد “وَثَّقَ” بعض الفنانين التشكيلين رحلات صيد الحيوانات البرية، مثل لوحة “عرب هاجمهم أسدٌ في مضيق” للفنان الفرنسي “يوجين فرومنتان” (1820 – 1876) الذي قَدِم إلى الجزائر سنة 1848 وأُعجب بمنطقتي: بسكرة والأغواط، فألّف كتابه “صيف في الصحراء”. كما “وَثّق”، تلك الرّحلات، بعضُ القادة والجنود الفرنسيين، حيث ألّفوا كُتبًا مشفوعةً برسومات عن الحيوانات التي اصطادوها، مثل العسكري “جاك شاسين” في كتابه “رحلاتي لاصطياد الأسد” الذي صدَر سنة 1865، وجاء في المُقدّمة “لا شيء للخيال، كلّ هذا حقيقة” في إشارة إلى حجم الإثارة والمُتعة التي كان يحصل عليها العسكري الفرنسي في مغامراته لقتل الأسود الجزائرية.
لَبؤةُ المُرابِط.. وأسدُ بسكرة
الأدباء والرَّحّالة، الأوروبيون عموما والفرنسيون على الخصوص، دَوّنوا كُتبًا حول رحلات صيد الحيوانات البرية في الجزائر، لا سيما تلك التي كانت ترعاها وتُمنوّنها الإدارة الاستعمارية في إطار ما كانت تزعمُ أنّه سياحة في “إفريقيا العجوز”. ولعلّ الفترة الأكثر “توثيقًا” لعمليات قتل وإفناء الأسود والفهود في الجزائر، هي الفترة التي ظهر فيها التصوير الفوتوغرافي، حيث صارت الكاميرا “جنديًا” آخر يقتنص لحظات “البطولة” في إبادة الحياة البريّة. ومن أمثلة ذلك، مجموعة المُصوّر الفوتوغرافي “جون جيزي” (1848 – 1923) التي نشرها سنة 1892 وتضمّنت صورة “فهد قَتَلهُ مُعمّر في ضواحي إيزارفيل (بومرداس)”، وصورة “لبؤة المُرابِط في الجنوب الوهراني”. ومجموعات المُصوّر الفوتوغرافي “ماريوس مور” (وُلدَ في بسكرة عام 1871 – مات في الرويبة عام 1941)، ومن أشهر صُوَرِه، صورة “أسد بسكرة”، وصورة “الطريق السياحي. تارتارين” التي يظهر فيها أسدٌ جريحٌ على الأرض ويقف خلفه مُعمّر يُلوّح بقبّعته في زهو وكبرياء.
دراسة.. انقراض الأسود والفهود في الجزائر
لعلّ الكتابات الجزائرية لم تُركّز على جرائم الاستعمار الفرنسي في إبادة الحياة البرية التي أدَّت إلى انقراض بعض الحيوانات البريّة والمفترسة على الخصوص، أو أن “الأيام نيوز” لم تتوصّل إلى ما يفيد بذلك. ونعتقد بأن دراسة ” الاحتلال الفرنسي ودوره في انقراض الحيوانات البرية المفترسة في الجزائر: الأسود والفهود” للأستاذة “سليمة بودخانة”، هي من أهمّ الدراسات في هذا الموضوع رغم قِصَرها، وتثمينًا لقيمتها التاريخية والعلمية، نعيد نشر مقتطفات منها بتصرّف.
قالت الباحثة “سليمة بودخانة”: “تُمثّل هذه الحيوانات البريّة خصوصية بيئية في البلاد، خاصة الأسود المحلية المعروفة بسلالة (أسد الأطلس الجزائري)، وآخر أسد من هذه السُّلالة قُتل في سدّ (فم الغرزة) بمنطقة بسكرة في القرن التاسع عشر. في حين، آخر أسد أطلسي شُوهدَ بجبال سوق أهراس كان عام 1911، أمَّا في المناطق الجنوبية بباتنة (جبال لارباع)، أي حتى النصف الثاني من القرن العشرين حوالي سنة 1920، فإن هذه السُّلالة تمكّنت من البقاء بأعداد قليلة جدا إلى غاية القضاء عليها من قِبَل سلطات الاحتلال الفرنسي، وانقرضت هذه السُّلالة في القرن العشرين من الطبيعة البريّة في حدود عام 1943 بسبب الصّيد المُنظّم من قبل الإدارة الاستعمارية”.
الأسد.. الجان ابن الجان
أكّدت الباحثة بأن الأسودَ مثّلت جزءا من الموروث الثقافي الجزائري وارتبطت بالفلكلور الشعبي، وقالت: “فإحدى الروايات الشعبية تُصوّر قُدرةَ الوليّ الصالح (سيدي بومدين) الذَي روّض أسدًا كان قد أكل حمار أحد سكّان جبال الأطلس، فأمسك به من رقبته وسلّمه لصاحب الحمار مُروَّضا، وقال له: خُذهُ، سوف يقوم لك بأعمال الحمار، ومنذ ذلك اليوم صار الأسدُ يتبع صاحبه كالكلب الوفيّ..”. وأوردت الباحثة قصة أخرى عن الأسد الذي يفهم كلام الناس ويتحدّث معهم ويُصادقهم. كما أوردتْ ما صوَّره الأديب الفرنسي “ألكسندر دوما” في رحلته إلى الجزائر عام 1849، فقالت: “فالعرب (الجزائريون) في نظره (دوما) صيّادون مَهَرةٌ يحترمون الأسود ويُطلقون عليها تسمية (الجان ابن الجان).. كما كان الاعتقاد سائدًا أن الأسود تُغيّرُ أكلّها أربعَ مرّات في العام، ففي الثلاثي الأول من السنة يأكلون الشياطين، وفي الثاني يأكلون لحوم البشر، وفي الثالث يأكلون الصلصال، وفي الثلاثي الرابع والأخير يأكلون الحيوانات”.
الأُسُود تخاف من النّساء
قالت الباحثة: “يُقدّم لنا (ألكسندر دوما) اعتقادا مُمَيّزًا حول العلاقة بين المرأة والأسد، فالعرب يؤمنون بأن الأسُود تخاف من النّساء، فنادرًا ما تُهاجمُ امرأةً إلاّ في حالة الجوع الشديد، وكثيرًا ما تُرى النسوةُ وهي تطارد الأسود وتضربها بالعصيّ”. وتضيف بأن هذا الوصف جاء في كتاب “رحلة في إيالة الجزائر في القرن الثامن عشر” لـ “الدكتور شو” الذي قال: “قرأتُ في بعض الكتابات عن البلاد (يقصد الجزائر) أن النسوة يتمكّن من مخالطة الأسود، ولا يَحْتمِين إلاّ بعِصِيّ يحملنها، ويتمكّن من ترويضها دون خطر، ويَحمين المواشي، ولذلك يتكفّلن برعايتها (المواشي) دون الرجال..”.
زاوية للإضاءة
من المُجدي دراسة مكانة الأسد في التراث الشعبي الجزائري، وتجميع المَرويات الشفهية وما سجّلته الكتابات وأشعارُ الملحون من أساطير وحكايات عن علاقة الأسد بكرامات الأولياء، وبالنساء، وعن “قدرته” على فهم الناس والحديث معهم وإقامة علاقات الصداقة مع الصيّادين. كما أنه من المُجدي تجميع الكُتب الأجنبية والصُّور الفتوغرافية التي تناولت رحلات صيد الأسود والفهود والحيوانات البرية، لإعادة رسم البيئية الطبيعية للجزائر خلال القرنين الماضيين على الأقل. والهدفُ هو إعادة استكشاف وإضاءة لزاوية من تاريخنا وموروثنا الشعبي، فقد لا يُصدّق كثيرٌ من أبناء أجيال الاستقلال أن الجزائر كان فيها أسودٌ ونمورٌ وغزلان وحيوانات بريّة متنوّعة وبأعداد وفيرة تؤكّدُ على مستوى الأمان الذي كانت تتمتّع به، ووفْرَة الخيرات التي كانت تنعم بها في أحضان الطبيعة. إضافة إلى كشف واحدة من جرائم الاستعمار الفرنسي بحقّ الحياة البريّة في الجزائر.