نظام “المخزن” في خصوصياته، ومنذ نشأته الأولى، عدواني في طباعه، توسّعي في سياساته، غادر في علاقاته، مزاجي الهوى لا يستقر على موقف ولا يثبت على رأي.. وكذلك هو شأن النظم الوظيفية محدودة السيادة، والتي لا تتحرك إلا بما يوافق المصالح القومية للقوى الأجنبية التي تسندها، حتى وإن كان في ذلك مضرة لها ومفسدة لشعبها.
يعزي المناوئون حقدهم على الجزائر إلى موقف هذه الأخيرة من ملف الصحراء الغربية، ودفاعها الثابت عن حق الصحراويين في تقرير مصيرهم، على ضوء ما أقرّته المجموعة الدولية في هذا الشأن، ألا وهو تنظيم استفتاء شعبي حر وديمقراطي لتقرير المصير.. والموقف كان وظل على ما هو عليه منذ الشرارة الأولى لكفاح الشعب الصحراوي، سواء ضد الإسبان تاريخيا، أو ضد نظام “المخزن” بعدها.. موقف لخّصه الرئيس تبون وأكد ثباته مرة أخرى، وهو يبرق إلى الرئيس الصحراوي “إبراهيم غالي” تهانيه بإعادة انتخابه رئيسا للجمهورية العربية الصحراوية، وأمينا عاما لجبهة البوليساريو.
كان هذا موقف الجزائر منذ البدء ولم يتغيّر، ليس حيال القضية الصحراوية فقط، وإنما تجاه كل القضايا العادلة في العالم.. فحتى دولة الـ”سورينام” المجهرية بأمريكا الجنوبية، كان لها حظّها الأوفر من دعم الجزائر الدبلوماسي في المحافل الدولية، إلى أن تمكنت من انتزاع استقلالها من براثن الاستعمار الهولندي العام 1975م.. فكيف والأمر يتعلق ببلد جار وشعب شقيق..؟.
من المرينيين إلى الوطاسيين، ومن السعديين إلى العلويين.. سلالات حكمت المغرب والمغرب الأقصى، باسم الله مرة وباسم السيف مرات، وما بينهما كان الحكم للسوط والصولجان.. همها الأكبر كان التوسّع وجمع الخراج، على عادة الامبراطوريات والممالك القروسطية البائدة.. ولذلك وجب على النظام الملكي المغربي الحالي أن يستفيق من سباته، وأن يدرك بأن العالم الآن يعيش مقتبل الألفية الثالثة بفكر متطور، وفلسفة أكثر تطورا، وتصورات مستقبلية خارقة.. ولذلك، فإن السياسة التوسعية، والثقافة العدوانية، لم يعد لهما وجود ولا معنى في قواميس النظم الديمقراطية المعاصرة.
جلس السلطان عبد العزيز “لانتزاع” البيعة من وكلاء الشعب وعمداء القبائل، فراح كل مبايع يثني على السلطان بما ليس فيه طمعا ورهبة.. حتى تقدم أحد أكثر المبايعين مراءً وتزلفا وذلة، قائلا: مولانا السلطان هذا، وأشار إلى السلطان.. فإن هلك فهذا، وأشار إلى ابن السلطان.. ومن أبى منكم فهذا، وأشار إلى سلاحه… وعلى هذا العهد ظل سلاطين السلالة العلوية يتداولون حكم الشعب المغربي؛ بين هذا وهذا ومن أبى فهذا.
لتتوالى السياسات “المخزنية” على هذا المنوال في علاقات المملكة بدول الجوار – شرقا وجنوبا، لأن الشمال عصي لا يحابي -، فلا شيء يحكمها سوى التربص والترصد والمكر والخداع؛ من حرب السلطان “عبد الرحمان بن هشام” على الأمير “عبد القادر”، في تحالف مهين مع الفرنسيين، ومحاصرة جيوشه على طول الحدود الغربية، حتى دفعوا به إلى إنهاء مقاومته بعدما أوشك على الهلاك الحتمي رفقة جنده وأنصاره.. إلى إسراع الملك “محمد الخامس” من أجل مفاوضة الاستعمار الفرنسي على منح المملكة استقلالها على حساب الجزائر، رغم الاتفاق الضمني والأخلاقي الذي كان قائما بين الأحزاب التحررية المغاربية بضرورة فرض استقلال الأقطار الثلاثة معا، وإلا فلا. وهنا وجب استنطاق التاريخ حول قضية جد مهمة، عادة ما يغفل عنها المؤرخون ولا يولونها الأهمية المستحقة؛ ذلك أن هجومات الشمال القسنطيني، والتي أشعلها القائد الشهيد “زيغود يوسف”، كانت فعلا من أجل فك الحصار عن منطقة الأوراس مهد الثورة وحصنها المنيع، في هدفها المباشر والمتداول، والذي قال فيه المؤرخ الفرنسي “بن يامين سطورا”؛ “هناك ما قبل عشرين أوت خمسة وخمسين، وهناك ما بعده، فهو تاريخ مفصلي في كرونولوجيا أحداث الثورة الجزائرية..”.
https://www.facebook.com/elayemnews/videos/1043847756318181/
وأما القضية المغفلة، والهدف الاستراتيجي التضامني الأعمق، فقد كان من أجل دعم الشعب المغربي الشقيق، في انتفاضته يوم 20 أوت 1955م، بمناسبة الذكرى الثانية لنفي الملك “محمد الخامس”.. ليأتي الرد المغربي “المستعجل” على هذه الهبة التضامنية التاريخية التي كلّفت الشعب الجزائري مئات الآلاف من القتلى الشهداء، بأن دخل الملك نفسه، مباشرة بعد عودته من المنفى، في مفاوضات مع الإدارة الاستعمارية لمنحه الاستقلال، ولو على حساب الثورة الجزائرية التي دافعت عنه ودفعت الثمن، والتي طعنها مرة أخرى نظام المخزن بأن سلَّم قادة الثورة إلى السلطات الاستعمارية، أو فيما يعرف بقضية الطائرة المغربية المقرصنة..
استقلت الجزائر بقوة الحديد والنار، وبفاتورة باهظة الثمن، “ليهنئها” الملك المغربي الجديد “الحسن الثاني”، عن طريق اجتياح الشريط الحدودي الغربي للجزائر، بدعوى استرداد الأراضي المغربية، أو ما يعرف فيما بعد بحرب الرمال.. إلى شحنة الأسلحة وقضية ـ”كاب سيغلي” عشية رحيل الرئيس هواري بومدين.. إلى قرار فرض التأشيرة على دخول الجزائريين المملكة زمن الإرهاب الأعمى، ثم استقبال أمراء القتل والدمار بفنادق خمس نجوم.. إلى الهرولة إلى باب الكيان الصهيوني انبطاحا، ثم دعوة المسؤولين الصهاينة لزيارة المغرب، وتوقيع الاتفاقات الأمنية والعسكرية، والسماح لهم حتى بتهديد الجزائر من أرض المملكة، في سابقة خطيرة لم تحدث أبدا منذ اختلاق الكيان الصهيوني، بكل خزي وعار؛ على رأي الرئيس “تبون”، والذي أمر بقطع العلاقات الدبلوماسية حينا مع المملكة، مباشرة بعد هذا التهديد.
وفي زاوية منسية من ظلال التاريخ، يذكر أن الرئيس “بومدين” وعندما تعرض الملك “الحسن الثاني” لعمليات انقلابية من قبل قادة جيشه، كان قد رفض التدخل في شأن المملكة، ولم يبد أي تعاطف مع الانقلابيين، بل على العكس من ذلك، فقد كان في كل مرة يهاتف الملك ويعرب له عن تعاطفه ودعمه.. وعندما سُئل الرئيس ذات مرة، قال: نحن لا نغدر، ولا نحترف الضرب في الظهر وتحت الحزام.
إذا، فعدوانية نظام “المخزن” لها باع في عمق الأحداث التاريخية الكبرى؛ فعندما استقلت موريتانيا العام 1960م، لم يعترف لها المغرب بالاستقلال حتى القمة العربية العام 1973 بالجزائر، تحت ضغط عربي كبير، بداعي أن أجزاء من موريتانيا تدخل في ملكية المغرب.. استقلت الجزائر بعدها بعد ثورة عارمة كلفتها الغالي والنفيس، لتجد النظام المغربي في انتظارها بحشد جيوشه وزحف قواته على الحدود الغربية مدعيا تبعيتها للمملكة، رغم أن دم الشهداء الذين حرروها بالأمس لم يجف بعد.. تحركت قبائل الشعب الصحراوي ضد الإسبان من أجل التحرير، فوجدوا الجزائر خلفهم من دون شرط ولا قيد، وحتى المغرب في أول الأمر كان قد وقف إلى صف الــ”بوليساريو” وأثنى على كفاحهم الشجاع، لكن مباشرة بعد انسحاب الإسبان، زحف الملك “الحسن الثاني” على الصحراء الغربية في مسيرة بأكثر من ثلاثمائة ألف “بائس” مغربي، أسماها المسيرة الخضراء، لتغيير الحقائق على الأرض.
ومن صبيحة السادس نوفمبر عام خمس وسبعين تسعمائة وألف، تاريخ انطلاق تلك المسيرة المشؤومة، والمنطقة المغاربية تحت وطء التجاذبات الإقليمية والدولية، تحاذر انفجار لغم زرعه النظام “المخزني” بكل تهور واستغباء، خدمة للأطماع والمؤامرات الخارجية.
لكن السؤال الملح الذي يطرح نفسه مع كل خوض في قضية الصحراء الغربية؛ أين كان نظام “المخزن” المغربي طوال التاريخ الذي كانت الصحراء الغربية مستعمرة إسبانية.. ولماذا لم يتحرك لتحريرها وضمها للمملكة.. لماذا ترك الثوار الصحراويين لوحدهم ينازلون الإسبان منذ العام 1957م حتى طرد الإسبان العام 1975م.. لماذا ولماذا وألف سؤال متفرع حول المسألة..؟ إلا أن جوابا واحدا يمكن درجه كرد على كل التساؤلات؛ النظام المغربي مكلف بمهمة لدى الغير في المنطقة، وهو نظام وظيفي لا يملك من السيادة إلا ما يمكّنه من ردع شعبه، وإسكات صوته المعارض بكل الوسائل والطرق، وكذا، استفزاز جيرانه وابتزاز ضعاف الأنفس في المنطقة كلها.
وبالعودة إلى كرونولوجيا ملف الصحراء الغربية، لا بأس من الإشارة إلى بعض المحطات المهمة في تاريخ القضية، رفعا للبس وتوضيحا للرؤية. ففي العام 1972 وبتاريخ 19 سبتمبر، وقع الرئيس “بومدين” بنواق الشط رفقة الرئيس الموريتاني بيانا مشتركا للعمل من أجل تحرير الصحراء الغربية، وتطبيق القرارات الأممية حول حق تقرير المصير.
بعد ذلك، وفي شهر نوفمبر من العام نفسه، أعلنت إسبانيا في الأمم المتحدة عن قبولها فكرة الاستفتاء، لكن بشرط الاتفاق مع الدول المجاورة على ان يجرى تحت إشراف ملاحظين دوليين، حتى يتمكن السكان من ممارسة حقهم في تقرير المصير.
العام 1972م بدأ استغلال مناجم الفوسفات بالإقليم، لتدخل المنطقة عصرا آخر من الصراع، بمعطيات جديدة ولاعبين جدد.. وأمام بروز هذه الاطماع، وتصعيد العمليات الثورية وما قابلها من ردع وبطش اسباني، قرر المناضل الكبير الوالي مصطفى السيد، تأسيس الجبهة الشعبية لتحرير الساقية الحمراء ووادي الذهب -بوليساريو-. ليندلع الكفاح المسلح ضد الاستعمار الاسباني المنظم تحت لواء الجبهة.
أكتوبر 1975م، النظام “المخزني” يستغل في هذه المرحلة انسحاب الجيش الاسباني باتجاه العيون والسمارة جنوبا من جهة، ومن جهة أخرى حسن نية الثوار الصحراويين، ليدخل عسكريا ويحتل بلدة “اجديرية” شمال شرق الصحراء الغربية، في أكثر من 25.000 جندي.
إسبانيا تنسحب شهر نوفمبر وتؤكد تشبثها بتقرير المصير، وتتعهد بالتزاماتها الدولية. لكنها انسحبت وتركت الميدان للنظام المغربي ليعطي الأوامر بانطلاق ما أسماه “المسيرة الخضراء”، في زحف بشري باتجاه الصحراء الغربية بهدف الاستلاء عليها، وتغيير الخارطة الديمغرافية على الأرض. وأما هذا الوضع المخادع، سارعت جبهة “البوليساريو” إلى الإعلان عن قيام الجمهورية العربية الصحراوية في 27 فبراير 1976م بمنطقة “بير لحلو، وشكلت أول حكومة صحراوية برئاسة السيد؛ محمد الأمين أحمد، في السادس مارس من العام 1976م.. وكانت مدغشقر أول دولة تعترف بالجمهورية العربية الصحراوية.
لتبقى الجمهورية العربية الصحراوية دولة كاملة العضوية ضمن منظمة الوحدة الإفريقية، وذاك هو الأمر الذي دفع بالمغرب إلى الانسحاب من المنظمة، قبل العودة الى قبة الإتحاد الإفريقي سنة 2017، وبعودته، أي المغرب، حاول الكيان الصهيوني الفوز بمقعد عضو مراقب لدى الهيئة القارية، لولا تدخل الجزائر بثقلها الدبلوماسي، وحشدها بقايا شرفاء القارة الافريقية في الوقت المناسب، للتصدي لهذا الكيان الاستعماري الغريب، فتتمكن بالنهاية من قطع الطريق على الوافد الجديد، غير المرغوب في انضمامه إلى الاتحاد الذي أسسه ثوار القارة وأحرارها.