أمة أسيرة لساعة الرمل.. هل تبقّى في الوقتِ وقتٌ “نقتله”؟

كل السلالم تصعد من أسفلٍ إلى أعلى إلا سلّم الوقت فإنه ينزل من أعلى إلى أسفل، سواءٌ تعلّق الأمر بالعمر الافتراضي للأشياء، أو بالعمر الحضاري للأمم، أو بعمر الإنسان مهما كان مكانه ومكانته وقوّته أو ضعفه أو كما قال الشاعر: “… وَكُلُّ الذي فَوقَ التُرابِ تُرابِ”. فلا بدّ لكل بدايةٍ من نهايةٍ حتى وإن كانت النهايات هي بدايات تتكرّر، ولكنها ستنتهي حتمًا إلى نهاية أكيدة، هي نهاية وجود الحياة على كوكب الأرض.

منذ اللحظة التي يولد فيها الإنسان، ينطلق العدّ التنازلي للعمر المقدّر له أن يعيشه، واحتفاله بعيد ميلاده – مثلا – هو احتفالٌ بنقصان سُلّمةٍ من سلّم عمره. وكذلك هو شأن البشرية، فهي تتقدّم في سلّم التطوّر التكنولوجي والرقيّ الحضاري ولكنها تنزل في سلّم عُمر وجودها على الأرض، بل إن الاحتفال برأس السنة – سواء كان التقويم ميلاديا أو هجريا أو أيّ تقويم آخر – هو احتفال بالاقتراب من النهاية التي لا ريب فيها.

حياة الإنسان هي حربٌ ضدّ الوقت! فبين لحظة الميلاد ولحظة الوفاة مسيرةٌ يجب أن يحقق فيها الإنسان رسالته في الحياة أو بعضًا منها، ويترك أثرًا وإضافةً تُبقيه حيًّا بعد موته! ووجود البشرية على كوكب الأرض هو حربٌ ضدّ الوقت أيضًا، غير أن بعض البشر يحملون رسالة إعمار الأرض وتطهيرها من الظلم واستغلال الشعوب واستعمار الأوطان، بينما يعمل بعض البشر على زراعة الشرور والمآسي في جهات العالم الأربع، بل يجتهد بشرٌ آخرون – يرون في أنفسهم أنهم من فصيلة “الإنسان الأعلى” – في استعجال نهاية الوجود البشري على كوكب الأرض وقيامة القيامة قبل أن يأذن لها الله أن تقوم!

لن ندخل في متاهة البحث عن تعريفٍ للوقت، والفرق بينه وبين الزّمن والزمان، ونكتفي بالقول إنه البُعد الرابع من ضمن الأبعاد الأخرى: (الطول، العرض، الارتفاع)، وهو يُقاس بالساعة التي تتشكّل من ستين دقيقة، والدقيقة من ستين ثانية. وقد وعى الغرب “المتطوّر” قيمة الوقت، وبنى حضارته وتطوّره العلمي والتقني على استثمار الوقت بكل أجزائه إلى حدٍّ أنه أدخل “الفيمتو ثانية” في “حساباته” العلمية. و”الفيمتو ثانية” هو جزءٌ من الزمن يعادل “مليون مليار جزء من الثانية”، نجح به العالم المصري “أحمد زويل” في تصوير التفاعل الكيميائي بين الذرّات والجزيئات، ونال على ذلك جائزة نوبل في الكيمياء عام 1999.

أمّا العرب فما زالوا “يقتلون الوقت” في المقاهي، والجلوس أمام شاشات الأجهزة الذكيّة بالساعات دون أن يجنوا من ذلك فوائد تُذكر، رغم أن الدين الإسلامي أَولى قيمة عُظمى للوقت، وكُتب التراث العربي تشهد بأن العرب سبقوا كل الأمم وتجاوزوها في صناعة الآلات التي تحسب الوقت والزمن من أجل غايات مرتبطة بالمواسم الفلاحية والمطر والشهور المُقدّسة وغيرها من شؤون الحياة العلمية واليومية. وسنكتفي بسرد هذه الحكاية لمعرفة قيمة الوقت في حياتنا اليومية العربية على تعدّد بلداننا واختلاف لهجاتنا..

يُحكى أن مفتيًّا وصله سؤالٌ في شهر رمضان، يقول صاحبه بأنه بسببِ شجارٍ مع أخيه، أفطر قبل أذان المغرب بدقيقتين، فماذا يتوجبّ عليه شرعًا؟ فكان ردّ المُفتي: إذا كانت الدّقيقتان تعنيان مائة وعشرين ثانية بالحساب الصحيح فالرّاجح أن وقت الإفطار قد دخل والصيام صحيح، أما إذا كانت الدقيقتان بالمفهوم العربي الشائع، فالمسألة فيها ما فيها..

ولعله من الطريف أن الكثيرين يشتكون من ضيق الوقت، غير أنهم يجدون كل الوقت لينفقوه في المقاهي وشبكات التواصل وغيرها من الفضاءات التي “تقتل الوقت”! فهل ما زال في الوقت العربي وقتٌ لم تلدغه عقارب الساعة؟ وليس هناك مصلٌ للعلاج من تلك الأمصال التي تُسمّى: وعي الوقت، فن إدارة الوقت…؟ ومسألة إهدار الوقت لا تتعلّق بالعامة من الناس، فمعظم العرب يشتركون في هذه “الخاصيّة” سواءٌ كانوا ينتمون إلى العامة أو إلى الخاصّة أو إلى خاصّة الخاصّة! لن نذهب بعيدًا في مراقصة “رقّاصات الوقت”، وحسبنا ما أشرنا إليه.

توجّهت جريدة “الأيام نيوز” إلى نخبة من الكُتّاب تستجلي رأيهم حول الوقت والساعة، وكانت مداخلاتهم على ضوء هذه الرسالة وما تحمله من تساؤلات: هل تذكر أول ساعة امتلكتها وفي أيّ مناسبة؟ وهل كنت تستعملها في ضبط أوقاتك أم تستعملها لمعرفة الوقت فحسب؟ في المجتمعات الريفية العربية، غالبًا ما يحدّدون مواعيدهم بعد العصر أو بعد المغرب، ولا يهتمون بتحديد التوقيت بالساعة؟ فهل لديكم ذكريات في هذا الاتجاه؟

الوقت له قيمته في حياة المجتمعات والدول المتقدّمة، ويُحسب بالدقيقة والثانية، أما في عالمنا العربي فيبدو أن مجتمعاتنا تفتقد لـ “وعي الوقت”، ولا تعتبره ثروة كبرى يجب استثمارها لتحقيق النهضة العلمية خاصة.. فما معنى الوقت في رؤيتكم؟ وهل نملك تراثا حول الوقت في الأدب التراث العربي؟ وهل كتبتم حول الوقت أو الساعة؟

وأنت عزيزي القارئ! ما هي رؤيتك للوقت، وهل تعتبره ثروةً تستثمرها في يومياتك؟ أم تُراك مثلي، تشعر بضيق الوقت إلى حدّ الاختناق فتسعى إلى “قتل الوقت” مع صديق في مقهى أو عبر شبكات التواصل الاجتماعي؟ تذكّر أن الوقت مثل الحياة لا تنتظر أحدًا، وهي أيضًا مثل الجندي في المعركة لا يتركه العدو حتى “يقضي حاجته” ثم يواصل معه القتال!

لن أحصي لك المقولات الكثيرة حول الوقت من قبيل: الوقت من ذهبٍ إن لم تدركه ذهَب، الوقت كالسيف إن لم تقطعه قطعك.. ولكنني أدعوك أن تتأمّل في مقولة شعبية أخرى شائعة بلفظها أو بمعناها في مجتمعاتنا العربية، تقول: هيا نقتل الوقت! ألا تتّفق معي – عزيزي القارئ – بأن هذه المقولة هي أخطر اعترافٍ بأنّنا مجرمون في حقّ أنفسنا وأوطاننا، وبإننا اخترنا أن نحيا على هامش الزمن الحضاري للأمم!

حاول أن تشتري ساعة واحدة مضت من حياتك؟ حاول أن تتذكّر الساعات التي لم تعمل فيها شيئا لنفسك أو لأهلك أو لوطنك. ربّما عليك أن تُحصي الوقت الذي أضعته بالشهور والسنوات وليس بالساعات! لذلك أدعوك أن تتفق معي – رغم ما يُقال بأن العرب اتفقوا على ألّا يتّفقوا – بأنه يجب علينا أن نكون مناضلين ضدّ الوقت، لعلنا نستدرك ما تبقّى من وقتٍ في الوقت لم تلدغه عقارب الساعات!

الكاتبة سعاد 3
سعاد عبد القادر القصير (باحثة وكاتبة من لبنان)

تيك تاك.. دقّت السّاعة الحاسمة.. سقطت طروادة وتُوجّت سندريلا ملكة

 حرب “طروادة” أشهر حروب الأساطير التي تحدّثت عنها الإلياذة، شكّلت بالنّسبة للإغريق أكثر من مجرّد أسطورة، إذ إنّها مثّلت اللحظة الحاسمة في تاريخهم القتاليّ. صبر الجنود داخل الحصان الخشبيّ حتى حلّ المساء ودقّت اللحظة الحاسمة للتّسلّل بين زواريب الهزيمة التي سبق أن حاصرتهم على حدود المدينة، لتنقلب بصبرهم إلى انتصار ساحق قلب موازين الحرب، فاحتفل اليونانيّون بسحق عدوّهم باعتماد الحيلة والصّبر.

هو الوقت، كلّ شيء قائم على الوقت، لحظة واحدة قد تقلب المعايير، وتغيّر مجرى التّاريخ. فهزيمة أهل “طروادة” جاءت نتيجة ثقتهم باللّيل، وقت ساكن، وعدوّ منسحب، لم يتوقّعوا أنّ الحصان الخشبيّ سيمتلك اللّيل ويسيطر على غرورهم.

فهل يمتلك الإنسان الوقت؟ ومن في الحقيقة يتحكّم بالآخر؟

إن كان الوقت غيّر نتائج المعارك والحروب، فهوفي الواقع يحاوط حياة الإنسان من جميع الجهات، منذ الولادة وحتى ساعة انقباض الرّوح، كلّ شيء له ساعته، كلّ شيء مرتبط بلحظة، وما علينا نحن البشر إلّا الالتزام حتى نصل إلى النّتائج المرضية: النّوم، الاستيقاظ، العمل، الامتحان، اللّقاء، الزّواج… كلّ حالة نعيشها مرتبطة بوقتها الخاص.

فماذا لو لم نلتزم؟ ماذا لو لم تلتزم “سندريلا” مثلًا بأوامر عرّابتها، تلك السّاحرة الطّيبة؟ ماذا لو دقّت السّاعة منتصف اللّيل ولم تترك هذه الفتاة حفلة الأمير وفق توصيات العرّابة؟

بين حصان “طروادة”، وأحصنة “سندريلا”، سباق خيل يتّجه إلى حدود الوقت ليعيش الفارس بعده نشوة الفوز، ويُتوّج بميداليّة النّصر. هي السّاعة الثّانية عشرة مساء، تيك تاك، واللّحظة الحاسمة لـ “سندريلا” لتهرب قبل أن تظهر حقيقتها أمام الأمير. فماذا لو استمرّت وظهرت شخصيّتها الحقيقيّة أمام الأمير في الحفل؟ هل كان سيتمسّك بها ويحبّها ويتوّجها ملكة على عرش المملكة؟ أم أنّ تصرّفها هذا هو الذي أشعل في قلبه الفضول تجاه هذه الفتاة الغامضة لتسير أحداث القصّة بالاتّجاه الذي نعرفه؟

هو الوقت، الذي حكم قرارها، سمح لها أن تصبح ظاهرة جعلت من القصر كلّه جندًا يتأهّب بحثّا عنها. وباعتبار أنّ “سندريلا” قصّة أجنبيّة، فاحترام الوقت له طابع مختلف عندنا نحن العرب. وكي لا أشمل العرب بالمجمل، ومبتعدةً عن منطق التعميم والشموليّة، باعتبار أنّي غير مضطّلعة في الثّقافات العربيّة جميعها من هذه النّاحية، سأختصر ثقافة الوقت في لبنان بلدي بنوعين: “موعد عنجد أو موعد عاللبناني؟”.

فالموعد على الطّريقة اللّبنانيّة قد يسيح قليلًا، وهذا لا يطال فقط المواعيد الاجتماعيّة، وإنّما حتى مواعيد العمل، فإن كان العميل أجنبيّ نلتزم معه، وإن كان العميل عربيًّا فنكسر قاعدة الالتزام على مبدأ أنّنا “أهليّة بمحليّة”.

  • “وينك”؟
  • أنا عالطريق، خمس دقايق وبكون عندك، انطرني عالمفرق”.

وفي الواقع، يكون الشخص المُنتظر ما يزال في المنزل نائمًا، غير مستعد للانطلاق إلى موعده. هذا العهد الذي قطعه هؤلاء فيما بينهم، ضُرب عرض الحائط، فلماذا أصبحت ثقافة احترام الوقت نادرة اليوم؟

“الملكة لا تتأخّر ولكن الجميع وصل باكرًا”، هذه الجملة الشّهيرة من فيلم “The princess diaries 2: royal engagement”،

أو ما يُعَبّر عنه بالفرنسيّة: “Les gens chics sont toujours en retard”، دليل على إعطاء الإنسان الحق بإهمال المواعيد، والنّظر إلى الوقت كأنّه طوق يخنق صاحبه، وكأنّ من يحترم موعده إنسان محدود القيمة، وهذا الانقلاب في المفاهيم لهو أخطر الانقلابات التي نحياها، حتى أصبحت هذه الأقوال منهج حياة.

من أجمل ما قيل عن الوقت: “عمرك أيّام تتناقص، فكلّما ذهب يوم، ذهب بعضك”، وربّما أخذ النّاس هذا القول طريقًا لهم في الحياة، باعتبار أنّ الحياة واحدة، مرهونة بين وقتين، فلماذا نضغط أنفسنا بأوقات كثيرة بينما نستطيع أن نرخي حبال السّاعات المتناثرة بين السّاعتين؟

فهل نتّخذ من حرب “طروادة”، وتتويج “سندريلا”، وغيرها كثير من القصص التي يطول الحديث عنها، أنّ الوقت المناسب محدّد وواضح ولا يأتي بشكل عشوائيّ؟ فإن بقينا نعيش الحياة بإرخاء الحبال سيفلت منّا الحبل المناسب، ولن نكتشف ذلك إلّا بعد فوات الأوان، وسنندم حين لا ينفع النّدم.

بسيم عبد العظيم عبد القادر
د. بسيم عبد العظيم عبد القادر (شاعر وناقد أكاديمي، كلية الآداب ـ جامعة المنوفية، رئيس لجنة العلاقات العربية بالنقابة العامة لاتحاد كتاب مصر)

قراءة على هامش الزمن.. الوقت في الدين والفلسفة والأدب والحياة

الساعة وما أدراك ما الساعة؟! تلك الآلة العجيبة التي تطورت بمرور الزمن تطورا مذهلا فمن المِزْوَلة والساعة الرملية إلى الساعة ذات العقارب الثلاث التي كانت تملأ بإدارة مفتاح وهو نفسه مفتاح ضبط الوقت في الساعة عند اختلالها بالتأخير أو التقديم، إلى الساعة الرقمية التي كانت ثورة في عالم التكنولوجيا إلى الساعة الضوئية إلى ما سوف يستجد في عالم حساب الوقت بالساعة ثم بالدقيقة ثم بالثانية ثم بالفيمتو ثانية على نحو ما فعل المرحوم د. أحمد زويل العالم المصري الحائز على جائزة نوبل في الكيمياء.

ولست أنسى أول ساعة اقتنيتها وكان ذلك منذ ثلاثة وخمسين عاما وكانت مكافأة من جدي لأمي الشيخ إبراهيم رمضان، حين حزت المركز الثاني على مدرستي في الشهادة الابتدائية عام 1971م، فاصطحبني معه إلى شبين الكوم عاصمة محافظة المنوفية، وعند بائع الساعات الوحيد آنذاك في هذه المدينة فاشترى لي ساعة (جوفيال) سويسرية مذهبة بمبلغ عشرة جنيهات، وكنتُ أتباهى بها وأشمّر كُمّ قميصي أو كُمّ جلبابي لتظهر الساعة، كما كنتُ أعيرها لزملائي ليلبسوها بعض الوقت، فاللهم ارحم جدي على تشجيعه لي على التفوق بهذه الهدية القيّمة (الساعة) التي تشعر المرء بقيمة الوقت حين يمرّ سريعا، فالوقت هو الحياة، وقديما قالوا: الوقت كالسيف إن لم تقطعه قطعك.

وقال أمير الشعراء أحمد شوقي:

دقات قلب المرء قائلة له — إن الحياة دقائق وثواني

وقد ضمنت قول أمير الشعراء في قصيدة كتبتها لوالدي حين أحيل إلى التقاعد عندما بلغ الستين من عمره وذلك عام 1997م، فقلتُ:

“أبتاه ماذا قد يخطّ بناني” — أعيا القريض قريحتي وبياني

في موقف تهتز فيه مشاعري — ويمور خوف منه في وجداني

قالوا أحلت إلى المعاش وما دروا — أن الذي قالوه قد أشجاني

ما كنت أحسب أن ستينا مضت — من عمرك الميمون دون توان

ذكرتني ما قال شوقي منصفا — ببلاغة غلبت على سحبان

“دقات قلب المرء قائلة له — إن الحياة دقائق وثواني”

وقلت عن سرعة مرور الوقت مع الحبيب تحت عنوان “الوقت يسرقنا”:

الوقت يسرقنا معا — يحكي الحبيب وأسمعا

فإذا الحبيب استودعا — تنهل عيني أدمعــــا

وقد كنا نستعمل الساعة في ضبط أوقاتنا كما نستعملها لمعرفة الوقت، وكان أجدادنا في المجتمعات الريفية العربية، غالبًا ما يحدّدون مواعيدهم: بعد العصر، أو بعد المغرب، أو بعد العشاء، ولا يهتمون بتحديد التوقيت بالساعة؟ وهذا يشي بضبط الوقت عن طريق الصلوات الخمس.

ولكننا اليوم نضبط مواعينا بالساعة التي صارت في متناول الجميع وبين أيديهم كجهاز مستقل له أشكاله وألوانه المتعددة، أوفي الهواتف النقالة أو المحمولة، التي صرنا نستغني بها عن الساعة، وقد كان جدّي يستعمل ساعة الجيب التي تُربط بسلسلة معدنية جميلة في جيب الصدار أو الصديري كما كانوا يُسمّونه، وقد انقرضت هذه الساعات الآن.

والوقت له قيمته في حياة المجتمعات والدول المتقدّمة، ويُحسب بالدقيقة والثانية، أما في عالمنا العربي فيبدو أنَّ مجتمعاتنا تفتقد لـ “وعي الوقت”، ولا تعتبره ثروة كبرى يجب استثمارها لتحقيق النهضة العلمية خاصة.

16

معنى الوقت وقيمته في الحياة

الوقت هو أثمن ما يملكه الإنسان، فهو مورد لا يمكن تعويضه أو استعادته بمجرد أن يمضي، ففي كل لحظة تمرّ، يُسجَّل جزءٌ من حياتنا في صفحات الماضي، ولا يبقى لنا إلا كيفية استغلاله بحكمة، ولذلك، يُعدّ إدراك قيمة الوقت وإدارته بشكل فعّال أحد أهم العوامل التي تحدد نجاح الإنسان في حياته الشخصية والمهنية.

والوقت ليس مجرد أرقام تمرّ على الساعة، بل هو الحياة نفسها، إذ يُقاس عمر الإنسان بمقدار ما يعيشه من لحظات. وقد تعدّدت تعريفات الوقت بين الفلاسفة والمفكرين؛ فهو عند البعض البعد الرابع للوجود، وعند آخرين تيّار مستمرٌّ لا يمكن إيقافه، أما في المنظور الديني، فالوقت هو نعمة عظيمة يُسأل عنها الإنسان فيما أنفقها.

قيمة الوقت في الحياة

-1 في النجاح وتحقيق الأهداف: كل الناجحين في الحياة يدركون أنَّ الوقت هو أثمن مورد لديهم، فهو الأساس في تحقيق الأهداف والطموحات، إذ أن إدارة الوقت بكفاءة تعني القدرة على الإنجاز والتقدّم، فمثلاً العلماء والمبدعون يستغلّون أوقاتهم في البحث والتجربة، والرياضيون في التدريب المستمر، وأصحاب الأعمال في التخطيط والتطوير.

-2 في التعلّم والمعرفة: الوقت هو المفتاح لاكتساب العلم والمعرفة، فالطلاب الذين يحسنون استثمار أوقاتهم في الدراسة والتحصيل هم الأكثر تفوّقًا، بينما الذين يهدرونه يجدون أنفسهم في دوامة من التأخر والندم.

-3 في العلاقات الإنسانية: الوقت ليس مجرد أداة لتحقيق الإنجازات المادية، بل هو أيضًا وسيلة لبناء علاقات قوية مع الأهل والأصدقاء والمجتمع، فالوقت الذي يُمنح للعائلة والأحبّاء هو تعبير عن الحب والاهتمام، وهو ما يجعل العلاقات أكثر متانة.

-4 في بناء الشخصية وتطوير الذات: استغلال الوقت في تطوير المهارات وتنمية الذات ينعكس إيجابيًّا على شخصية الإنسان، فيصبح أكثر وعيًا وإدراكًا لأهمية الحياة، فممارسة الهوايات، وقراءة الكتب، والتأمل، كلها أنشطة تساعد في تحسين جودة الحياة وتعزيز الإبداع.

إهدار الوقت: الخطر الصامت

كما أنَّ استثمار الوقت يحقق النجاح، فإنَّ إهداره يؤدي إلى الفشل والندم، فالإفراط في اللهو، والانشغال بأمور غير نافعة، والتسويف، كلها عادات تؤدي إلى ضياع العمر بلا فائدة، وكما قال الحسن البصري: “يا ابن آدم، إنما أنت أيام، فإذا ذهب يومك، ذهب بعضك.”

كيفية إدارة الوقت بفعالية

تحديد الأولويات: التركيز على الأهم فالمهم.

التخطيط المسبق: وضع جداول زمنية لتنظيم المهام.

الابتعاد عن المشتّتات: مثل وسائل التواصل الاجتماعي غير الضرورية.

الاستفادة من الوقت الضائع: مثل الاستماع للكتب الصوتية أثناء التنقل.

فالوقت هو الحياة، وإدارته بحكمة تعني تحقيق النجاح والرضا، ولذلك يجب أن نكون واعين بأهمية كل لحظة تمرّ، على حدِّ ما سبق في قول أمير الشعراء.

فلنحرص على استثمار وقتنا فيما ينفع، لنصنع مستقبلًا مشرقًا لأنفسنا ولمجتمعاتنا.

وقد اهتمت الكتب السماوية بالوقت فأفردت له مساحة كبيرة في الكتاب المقدس وفي القرآن الكريم، فالوقت هو عنصر أساس في الحياة، وهو موضع اهتمام جميع الأديان السماوية، حيث يُعدّ من النعم الكبرى التي منحها الله للإنسان، وهو مسؤولية يتحمّلها كل فرد، وفي كل من الكتاب المقدس والقرآن الكريم، نجد إشارات واضحة إلى أهمية الوقت، وضرورة استثماره في الأعمال الصالحة، والتحذير من إضاعته فيما لا ينفع.

الوقت في الكتاب المقدس

-1 أهمية الوقت في العهد القديم والعهد الجديد: يؤكد الكتاب المقدس، سواء في العهد القديم أو العهد الجديد، على أنَّ الوقت هبة من الله، ويجب استخدامه بحكمة، ففي سفر الجامعة (3:1-8): يقول الحكيم سليمان: “لكل شيء زمان، ولكل أمر تحت السماوات وقت…”

تشير هذه الآيات إلى أنَّ لكل شيء في الحياة توقيتًا محددًا، وأنَّ الإنسان يجب أن يدرك أهمية كل مرحلة ويستثمرها بحكمة.

وفي رسالة أفسس (5:15-16): “فانظروا كيف تسلكون بالتدقيق، لا كجهلاء بل كحكماء، مفتدين الوقت، لأنَّ الأيام شريرة”، يوجه بولس الرسول المؤمنين إلى استغلال الوقت وعدم إضاعته، لأن الحياة قصيرة والفرص لا تعود.

وفي المزامير (90:12): “علّمنا أن نحصي أيامنا، لكي نكتسب قلبًا حكيمًا.” ويؤكد هذا النص على ضرورة إدراك قيمة الزمن والسعي نحو الحكمة.

-2 التحذير من إضاعة الوقت: الكتاب المقدس يحذر من الكسل وإضاعة الوقت، حيث يقول: في أمثال سليمان (6:6-8): “اذهب إلى النملة أيها الكسلان، تأمل طرقها وكن حكيمًا.”، وهذا يدل على ضرورة العمل والاجتهاد وعدم تضييع الوقت في الكسل والتراخي.

الوقت في القرآن الكريم

-1 أهمية الوقت في الإسلام: يولي القرآن الكريم أهمية كبيرة للوقت، ويؤكد أنه من أعظم النعم التي سيحاسب الإنسان عليها يوم القيامة، ففي سورة العصر: ” وَالْعَصْرِ إِنَّ الْإِنسَانَ لَفِي خُسْرٍ إِلَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ وَتَوَاصَوْا بِالْحَقِّ وَتَوَاصَوْا بِالصَّبْرِ”، يقسم الله في هذه السورة بالوقت (العصر)، ويوضح أنَّ الإنسان خاسر إلا إذا استغل وقته في الإيمان والعمل الصالح.

وفي سورة الفجر: “وَالْفَجْرِ وَلَيَالٍ عَشْرٍ”، يقسم الله بأوقات معينة، مما يدل على أهميتها وعظمتها في حياة الإنسان.

وفي سورة الليل: “وَاللَّيْلِ إِذَا يَغْشَىٰ وَالنَّهَارِ إِذَا تَجَلَّىٰ”، تأكيد على تعاقب الليل والنهار كآية من آيات الله، ودعوة للتأمل في الزمن.

-2 ضرورة استثمار الوقت: يحضّ الإسلام الإنسان على استغلال وقته في العمل والعبادة، وفي الحديث النبوي الشريف: “نعمتان مغبون فيهما كثير من الناس: الصحة والفراغ”، يوضح الحديث أنَّ الفراغ والوقت الضائع من الأمور التي يندم عليها الإنسان يوم القيامة.

وفي سورة الجمعة: “فَإِذَا قُضِيَتِ الصَّلَاةُ فَانتَشِرُوا فِي الْأَرْضِ وَابْتَغُوا مِن فَضْلِ اللَّهِ”، دعوة لاستثمار الوقت بعد أداء العبادات في العمل والسعي.

-3 التحذير من إضاعة الوقت: يحذّر الإسلام من إضاعة الوقت فيما لا ينفع، حيث يقول النبي صلى الله عليه وسلم: “لا تزول قدمَا عبدٍ يوم القيامة حتى يُسأل عن أربع: عن عمره فيما أفناه، وعن شبابه فيما أبلاه…”، مما يدل على أنَّ كل لحظة في حياة الإنسان محسوبة ومسؤول عنها.

ويتّفق كلٌّ من الكتاب المقدس والقرآن الكريم على أنَّ الوقت نعمة عظيمة يجب استثمارها في الخير والعمل الصالح، وأنَّ الإنسان سيُحاسب على كيفية استخدامه لهذا المورد الثمين، فمن أدرك قيمة الوقت وعمل بمقتضاه، فاز في الدنيا والآخرة، ومن أهمله خسر فرصًا لا يمكن تعويضها. لذا فعلينا جميعًا أن نعي قيمة الزمن ونعمل على استثماره فيما ينفعنا وينفع الآخرين.

الوقت عند الفلاسفة..

الوقت هو أحد المفاهيم الأكثر تعقيدًا في الفكر الفلسفي، حيث حاول الفلاسفة عبر العصور فهم طبيعته، هل هو كيان مستقل أم مجرد وسيلة لقياس التغيرات؟ هل هو خطٌّ مستقيم أم دائرة متكرّرة؟ وهل يمكن التحكم فيه أم أنه قوة غير قابلة للتغيير؟

الوقت عند الفلاسفة القدامى

-1 الفلسفة اليونانية:

أفلاطون (427-347 ق.م): رأى أنَّ الزمن ليس جوهرًا مستقلًا، بل هو انعكاس لعالم المثل، وفي كتابه طيماوس، وصف الزمن بأنه “صورة متحركة للأبدية”، وهو مرتبط بالحركة الدائمة للكون.

أما أرسطو (384-322 ق.م): فقد رفض فكرة أفلاطون واعتبر أنَّ الزمن هو مقياس للحركة والتغيّر، وبدونه لا يمكن إدراك الزمن، وهو يرى أنَّ الزمن لا وجود له إلا بوجود الحركة.

وعند هيراقليطس (535-475 ق.م): أنَّ الزمن هو التدفّق المستمر للحياة، وقال مقولته الشهيرة: “لا يمكنك أن تخطوفي النهر نفسه مرتين”، في إشارة إلى أنَّ كل لحظة تمرّ تتغير بشكل لا يمكن استعادته.

أما زينون الإيلي (490-430 ق.م): فطرح مفارقات رياضية حول استمرارية الزمن، مثل مفارقة أَخِيل والسلحفاة، حيث حاول إثبات أنَّ الزمن ليس متّصلًا بل يتكوّن من لحظات غير متناهية.

-2 الفلسفة الرومانية والمسيحية المبكرة:

ماركوس أوريليوس (121-180 م): نظر إلى الزمن من منظور رواقـي، معتبرًا أنه جزء من نظام كوني محكوم بالقوانين، ويجب على الإنسان قبوله دون مقاومة.

أما أوغسطينوس (354-430 م): فمن أوائل الفلاسفة الذين طرحوا رؤية ذات طابع ديني حول الزمن، حيث رأى أنَّ الماضي والمستقبل لا وجود لهما إلا في العقل البشري، بينما الزمن الحقيقي هو الحاضر فقط.

الوقت عند فلاسفة المسلمين

-1 الفارابي (872-950م): رأى الفارابي أنَّ الزمن مرتبط بالحركة الكونية، مستندًا إلى آراء أرسطو، لكنه أضاف بُعدًا فلسفيًا في ربطه بالمنطق والميتافيزيقا.

-2 ابن سينا (980-1037 م): اعتبر الزمن مفهومًا نسبيًّا، حيث فرّق بين الزمن المدرك عقليًا والزمن الذي نختبره في العالم المادي، وكان يرى أنَّ الزمن يعتمد على التغيّرات الطبيعية في الكون.

-3 الغزالي (1058-1111 م): كان الغزالي ناقدًا لفكرة الزمن المطلق، حيث رأى أنه مخلوق من الله، وليس له وجود مستقل، بل هو مجرد إطار لفهم تسلسل الأحداث.

-4 ابن رشد (1126-1198 م): حاول التوفيق بين الفلسفة الإسلامية والأرسطية، فرأى أنَّ الزمن لا ينفصل عن الحركة، لكنه رفض فكرة أنَّ للزمن بداية مطلقة، بل اعتبره جزءًا من الكون الأزلي.

-5 ابن خلدون (1332-1406 م): ربط الزمن بالدورة الحضارية، حيث رأى أنَّ الأمم تمرّ بمراحل زمنية محددة: النشوء، الازدهار، ثم الانحدار، مما جعل الزمن عنصرًا أساسيًّا في تفسير التاريخ.

الوقت عند فلاسفة العصر الحديث

-1 رينيه ديكارت (1596-1650 م): اعتبر أنَّ الزمن ليس جوهرًا مستقلًا، بل هو نتاج الفكر البشري، وأنَّ وعينا بالزمن مرتبط بالإدراك الحسي والعقلي.

-2 إيمانويل كانط (1724-1804 م): أحدث كانط ثورة في فهم الزمن، حيث رأى أنه ليس جزءًا من الواقع الموضوعي، بل هو “إطار عقلي” نستخدمه لتنظيم تجاربنا الحسيّة، بمعنى آخر، الزمن لا يوجد خارج وعينا، بل هو وسيلة لفهم العالم.

-3 جورج هيغل (1770-1831 م): ربط الزمن بالتطور التاريخي، واعتبره عنصرًا أساسيًا في تطور الفكر الإنساني، حيث يتقدّم عبر صراعات مستمرة بين الأفكار المتناقضة.

-4 هنري برجسون (1859-1941 م): فرّق بين الزمن العلمي (الذي يُقاس بالساعات) والزمن الداخلي أو “المدة”، حيث اعتبر أنَّ التجربة الشخصية للزمن تختلف عن الزمن الفيزيائي، فالوقت الذي نعيشه نفسيًّا لا يُقاس كما نقيسه فيزيائيا.

-5 مارتن هايدغر (1889-1976 م): تناول الزمن من منظور الوجود الإنساني، حيث رأى أنَّ الإنسان يعيش في “أفق زمني”، وأنَّ وعيه بالموت هو ما يمنحه إحساسًا حقيقيًّا بالزمن.

-6 ألبرت أينشتاين (1879-1955 م) والزمن النسبي: قدّم أينشتاين رؤية علمية جديدة للزمن من خلال نظريته النسبيّة، حيث أثبت أنَّ الزمن ليس مطلقًا كما كان يُعتقد، بل هو نسبي ويعتمد على السرعة والجاذبية، وهذا الاكتشاف غيّر الفهم التقليدي للزمن، وربط الفلسفة بالفيزياء الحديثة.

وكذا نرى أن رُؤى الفلاسفة قد اختلفت حول الزمن، فمنهم من رآه كيانًا مستقلًا، ومنهم من اعتبره مجرد تصوّر بشري، ومنهم من ربطه بالحركة والتغيرات الطبيعية. ومع تطور العلم، أصبح مفهوم الزمن أكثر تعقيدًا، مما جعل السؤال حول ماهيته لا يزال مفتوحًا أمام الفلسفة والعلوم الحديثة، ورغم اختلاف التصورات، يبقى الزمن أحد أكثر المفاهيم إشكالية في الفكر الإنساني، فهو يجمع بين التجربة الفردية، والتحليل الفلسفي، والتفسير العلمي.

معنى الوقت وقيمته في الأدب العربي والعالمي

الوقت هو جوهر الحياة ومحور الوجود، وقد كان دائمًا موضوعًا أساسيًا في الأدب العربي والعالمي. فقد تناول الأدباء والشعراء مفهوم الوقت من زوايا مختلفة، بين من يراه فرصة لا تُعوَّض يجب استثمارها، ومن يراه عدوًّا لا يرحم يمضي بلا رجعة، ومن يتأمل فلسفته وتأثيره على الإنسان والمجتمع. فكيف عالج الأدب العربي والعالمي قضية الوقت، وما انعكاساته على الفكر الإنساني.

الوقت في الأدب العربي

-1 في الشعر العربي: الوقت كان موضوعًا أساسيًّا في الشعر العربي، حيث عبّر الشعراء عن قيمته وأثره في الحياة. فقد اهتموا بالزمن كعامل أساسي في تجارب الإنسان، سواء في سياق الحكمة، أو الفناء، أو استغلال الفرص.

يقول زهير بن أبي سلمى:

وأعلم علم اليوم والأمس قبله — ولكنني عن علم ما في غد عم

ويقول الإمام الشافعي في أهمية الوقت:

إذا هبت رياحُك فاغتنمها — فإن لكلِّ خافقةٍ سكونُ

وهذا يعكس فكرة اغتنام الفرص قبل فوات الأوان، وهي فكرة متكرّرة في الأدب العربي، كما نجد عند المتنبي رؤية فلسفية عن الزمن حين يقول:

وما طَعنَتْني في النُّفوسِ رَزيَّةٌ — كَطَعنَةِ عُمرٍ لم تُطِعْني أنامِلِي

حيث يعبّر عن مأساوية الزمن الذي يمضي دون أن يستطيع الإنسان التحكم به.

-2 في النثر العربي: تناول الفلاسفة والأدباء العرب مفهوم الوقت في كتاباتهم، فنجد الجاحظ في كتاباته يؤكد على قيمة استثمار الوقت في طلب العلم، بينما يصف ابن خلدون الزمن بأنه عنصر أساسي في تطور الأمم والحضارات، إذ يؤثر في صعودها وسقوطها. كما نجد في كتابات الغزالي وابن القيم إشارات واضحة إلى أنَّ الإنسان مسؤول عن وقته وسيُحاسب عليه.

الوقت في الأدب العالمي

-1 في الفلسفة والأدب الغربي: اهتم الأدب الغربي بالوقت كموضوع جوهري في الحياة الإنسانية. فقد تناول الفلاسفة والأدباء الوقت كعنصر أساسي في تشكيل مصير الإنسان.

ففي أدب وليام شكسبير، نجد الوقت كقوة قاسية لا ترحم، كما في مسرحية “ماكبث”، حيث يقول: “الحياة ظلّ يمشي، ممثل بائس يصيح فوق المسرح ساعة ثم يُنسى”، وهذا يعكس رؤية مأساوية للوقت باعتباره زائلًا ولا يمكن التحكم فيه.

أما في أدب فيودور دوستويفسكي، فقد ظهر الزمن كعنصر أساسي في تشكيل الشخصيات النفسية، حيث تعاني شخصياته من الشعور بالندم أو الانتظار الطويل، كما في “الجريمة والعقاب”.

وفي كتابات مارسيل بروست، وخصوصًا في روايته “البحث عن الزمن المفقود”، نجد الزمن كعامل محوري، حيث يتناول كيف تعيد الذكريات تشكيل الحاضر والمستقبل.

-2 في الرواية الحديثة: في أدب فرانز كافكا، خصوصًا في “المسخ”، نجد أنَّ الوقت يظهر كعامل قاسٍ يُغيّر حياة الإنسان دون إنذار، ويُظهر هشاشة الوجود البشري.

أما جورج أورويل في رواية “1984”، فيتناول الوقت كأداة للسيطرة السياسية، حيث يتمّ التحكم في الذاكرة والتاريخ كوسيلة للهيمنة.

فالوقت في الأدب العربي والعالمي ليس مجرد عنصر زمني، بل هو فلسفة تعكس قضايا الإنسان الكبرى، مثل المصير، والفرص، والفناء، والتغيير، سواء في الشعر أو الرواية أو الفلسفة، ويبقى الزمن قوةً لا يمكن إيقافها، لكنه يمكن استغلاله بحكمة، وكما قال الشاعر الإنجليزي بنجامين فرانكلين: “الوقت هو المال”، لكنه في الأدب أكثر من ذلك، فهو الحياة ذاتها.

ثروة الوقت ووجوب استثمارها والوعي بأهميتها

الوقت هو الثروة الحقيقية التي يمتلكها كل إنسان، لكنه يختلف عن أيّ ثروة أخرى، فهو مورد غير قابل للاسترجاع أو التعويض، فكل لحظة تمرّ إما أن تُستغلّ في تحقيق إنجازات وتطوير الذات، أو تُهدر في أمور لا فائدة منها، ولذلك فإنَّ الوعي بقيمة الوقت واستثماره بالشكل الصحيح يُعدّ أحد أهم العوامل التي تحدّد نجاح الأفراد والمجتمعات.

الوقت ثروة لا تُقدَّر بثمن: يُقال إن “الوقت هو الحياة”، وهذا صحيح لأنَّ الإنسان يقيس عمره بعدد الأيام والسنوات التي يعيشها، ولكنه في الواقع لا يعيش بعدد السنين، بل بما أنجزه خلالها، فمن يستغل وقته في التعلّم والعمل والإبداع، يحقق ثروات مادية وعلمية ومعنوية تفيده وتفيد مجتمعه، بينما من يضيّع وقته دون هدف يخسر أهم مورد في حياته دون أن يدرك ذلك.

أمثلة حول قيمة الوقت

العلماء والمفكرون العظماء لم يكن لديهم أكثر من 24 ساعة في اليوم، لكنهم استثمروها في البحث والاكتشاف، فخلّدهم التاريخ. ورجال الأعمال الناجحون يستغلّون الوقت في التخطيط والتنفيذ، وليس في التّسويف والتأجيل. والشعوب المتقدمة تدرك أنَّ الوقت هو أساس التقدم، فتضع خططًا طويلة المدى لتطوير مجتمعاتها.

وجوب استثمار الوقت

-1 التخطيط الجيّد: الاستثمار الفعّال للوقت يبدأ بالتخطيط السليم، حيث يساعد وضع الأهداف وتنظيم المهام على تحقيق أقصى استفادة من اليوم.

-2 التخلّص من المشتّتات: الانشغال بوسائل التواصل الاجتماعي أو الأنشطة غير المفيدة يؤدي إلى إهدار الوقت دون تحقيق إنجازات حقيقية، لذا فمن الضروري تجنّب الملهيات والتركيز على المهام الأساسية.

-3 تطوير الذات: الوقت هو أفضل فرصة لتطوير المهارات واكتساب معارف جديدة، فالقراءة، والتدريب، والتعلّم المستمر هي أفضل استثمارات يمكن القيام بها.

-4 تحقيق التوازن: إدارة الوقت لا تعني العمل المستمر دون راحة، بل تتطلب تحقيق التوازن بين العمل، والتعلم، والراحة، والترفيه، لضمان حياة متكاملة.

الوعي بأهمية الوقت

-1 إدراك أنَّ الوقت لا يعود: يجب أن يدرك الإنسان أنَّ كل دقيقة تمرّ لا يمكن استعادتها، وهذا الوعي يدفعه لاستثمارها بحكمة.

-2 تحملّ المسؤولية: النجاح والفشل يعتمدان على كيفية استثمار الوقت، فالإنسان مسؤول عن قراراته وكيفية استخدامه لهذا المورد الثمين.

-3 التعلم من الناجحين: دراسة سِيَر الناجحين تُظهر كيف تمكّنوا من استغلال أوقاتهم في تحقيق إنجازات عظيمة، مما يحفّز الآخرين على الاقتداء بهم.

فالوقت هو الثروة التي يمتلكها الجميع بالتساوي، لكن الفرق بين النجاح والفشل يكمن في كيفية استثماره، فمن يدرك قيمة الوقت ويستغله بذكاء يحقق أهدافه ويترك أثرًا إيجابيًّا، بينما من يهدره يندم حين لا ينفع الندم. لذا، فلنجعل كل لحظة تمرّ خطوة نحو مستقبل أفضل، ولنتذكر قول الحسن البصري: “يا ابن آدم، إنما أنت أيام، فإذا ذهب يومك، ذهب بعضك.”

وقد اطّلعتُ على كتاب قيّم يعالج موضوع الوقت في حياة البشر بعنوان: “الزمن: ما يفعله بنا وما نصنعه منه” لروديغر سافرانسكي، ترجمة عصام سليمان، صدر عن مكتبة فواصل، وقد قسمه المؤلف إلى عشرة فصول على النحو الآتي:

الفصل الأول: زمن الملل. الفصل الثاني: زمن البداية. الفصل الثالث: زمن الهم. الفصل الرابع: الزمن الاجتماعي. الفصل الخامس: الزمن المدار. الفصل السادس: زمن الحياة وزمن العالم. الفصل السابع: زمكان العالم. الفصل الثامن: الزمن الخاص. الفصل التاسع: اللعب مع الزمن. الفصل العاشر والأخير: الزمن المتحقق والأبدية.

وهو كتاب جدير بالقراءة لما يلقيه من أضواء كاشفة على الزمن.

وموضوع الوقت أو الزمن في حياة الإنسان مهم للغاية وبخاصة من المنظور الإسلامي الذي يجعل المسلم يستثمر كل ثانية في حياته فالوقت هو رأسماله، وعليه استثماره ليجني من ورائه جنة عرضها السماوات والأرض، وإلا فهو الخسران المبين.

وحيد حمود 3 1
وحيد حمّود (كاتب من لبنان)

ساعة جدّتي لم تعد في جيبي!

كان لدى جدّتي ساعة جَيب، وساعة الجيب تلك لم تزل إلى الآن حاضرةً كحضور جدّتي في ذهني، أذكر أنّها كانت دائريّةً، بُنِّيّة الأطراف، رُبط عنقها بسلسال فضيّ اللون، وكانت عقاربها ذهبيّة، كنتُ الحفيد المدلّل عند جدّتي، لم يكن الأمر لأنّني أجمل الأحفاد أو أذكاهم، إذ ما زلت أذكر أنّني كنت دائريًّا أيضًا كالسّاعة، كنت طفلًا ضخمًا، منتفخ الخدّين، مشيته بطيئة، واستيعابه قليل، ومع هذا كلّه كنت الحفيد المدلّل، عرفت فيما بعد بأنّها كانت تميّزني بسبب اسمي فقط، إذ إنّني حملت اسم جدّي: حبيبها الأبديّ..

لست أدري لما أخبركم هذه التفاصيل أصلًا، ربّما لأنّها حضرت أمامي الآن كلّها أثناء الكتابة، لا بأس عليكم، تحمّلوني لكي أعود إلى الموضوع الأساسي الذي نسيته الآن. حسنًا، تذكّرت، كانت تلك الساعة مفضّلةً لديّ، إلى درجة أنّني كنت أغافل جدّتي أثناء نومها فأسرق الساعة وأعبث بها، بل وأمشي متفاخرًا بها أمام أبناء جيلي، وأذكر أنّني كنت أُخرج السلسال من جيبي، وأتقصّد إظهاره في مشيتي، لكي يراه الأطفال فيحسدونني على ما أملك من كنزٍ لا يملكه سوى الكبار..

تخيّلوا معي الأمر، كنت أسرق ساعة جدّتي، لكنّني لم أعرف حينها أنّني كنت أسرق معها الوقت، إذ إنّ هذه الساعة التي أحملها في جَيب ذاكرتي الآن، أعادتني إلى ذلك العهد، حين كنت طفلًا لم يفقه من لغة الوقت سوى تلك الساعة، والآن تسير عقارب الوقت في ساعة دماغي فتخبرني أنّ جدتي كانت هي الوقت الذي ينفد، وحين رحلت تيقّنت أنّه لا قيمة لتلك الساعة بعد رحيلها، وأقصد جدّتي. فكم من الساعات التي ضيّعناها في محاولةٍ منّا لاكتساب منصبٍ أو مكانة أو شهرة متناسين الذين هم بقربنا؟ الذين يربطنا بهم الوقت، الوقت الذي هو عمرنا المارّ على أجنحة السرعة.

عَودٌ على بدء، إنّنا نحيا الغفلة، ربّما يراني البعض متشائمًا في جملتي هذه، لكنّني أقول الحقيقة التي أشعر بها، وقد يخالفني في الرأي الكثيرون، لا ضَير في ذلك، لكنّ غفلتنا هوّةٌ تزداد يومًا إثر يوم، فالوقت الذي نضيّعه أكثر بكثير من الوقت الذي نستغلّه، يسأل أحدهم: كيف ذلك؟ سأجيب بأنّنا غافلون عمّن نشاركهم حلاوة اللحظات، متناسين أنّ الفقد لا يُنذر، والموت واقفٌ عند باب رأس كلّ منّا، لا يطرق الباب ولا يستأذن بل يقتحم المكان فجأةً، يخلع الباب، ونصبح مجرّد ذكرى منسيّة، وما الذي يترتّب على اقتحامه هذا؟ حسرة وندم نحياهما على وقتٍ فات ولم نستغلّه من أجل طبع قبلةٍ على رأس عزيز، أو بَوحٍ لصديق، أو مسامحةٍ لمخطئ.

لا يتوقّف الأمر هنا، فهذا مثالٌ عن فقدان الوقت في علاقاتنا الاجتماعيّة والأُسريّة، أمّا فيما يخصّنا فنحن أيضًا غافلون، فكم من الأوقات التي نذبحها قربانًا لتوافه الأمور؟ وكم من الأحداث التي نوقف عمرنا لأجلها؟ انظروا أمامكم، من نوافذ بيوتكم، من ثقوب أيامكم، أينما كنتم، أستحلفكم بالله أن تنظروا، هل توقّفت الأرض عن الدوران؟ هل وقف الكون دقيقة صمت على أحزاننا؟ إنّ أعظم المصائب التي نمرّ بها مصيرها كمصيرنا: الفناء، ولكنّ تفاعلنا معها هو الأمر الخطير، نحن الذين نستطيع أن نقف مكتوفي الأيدي لأيام وربما لأشهر أو لسنوات، ونحن الذين نستطيع أن نتقبّل الأمر ونتخطّاه ونكمل، قد لا يستطيع المرء أن ينسى حدثًا قلَبَ حياته رأسًا على عقب، لكنّه يستطيع أن يخزّنه في الأعماق ويكمل، لأنّ الحياة لا تبكي على كتف أحد، والوقت لا يحيي العظام وهي رميم، وليس كفيلًا بكلّ شيء، الوقت لا ينتظر أحدًا، إنّه يمضي، يمضي فقط، تذكّروا هذا القول جيّدًا، فإن لم نكن نعي هذا الأمر فالمصيبة تتعاظم، والغفلة تكبر.

ختامًا، وقبل أن أنسى، لقد أهدتني جدّتي تلك الساعة حين كبرت، قبل أن تترك الدّنيا أودعتني إياها كهديّة، لكنّها الآن ليست معي، أضعتها أيضًا، لكنّها تحيا بذاكرتي، كجدّتي وككلّ الذين فقدتهم، وأنا الآن حريصٌ على ألّا أضيع الوقت كما أضعت الساعة تلك، وتذكّروا إن ضاعت منكم ساعة يومًا ما، أيّا كانت أهميّتها، ألّا تضيّعوا معها العمر تحسّرًا عليها.

شعبان عبد الجيد
د. شعبان عبد الجيِّد (كاتب من مصر)

خواطرُ الأذهان في نَفيِ الزمان!

الــدهرُ آنٌ دائـــــــــمٌ لا ينتهي — أمَّـــــــــا الزمانُ فأمرُه مُتَوهَّمُ

تجري به الأفلاكُ في دَوَرانِها — وبِــــــدون ذاك فكُنْهُهُ لا يُعلَمُ!

….

أمَّا الزمانُ فلا زمانَ وإنما — فلَكٌ يدور كساعةٍ لا تُخطِئُ!

(الأبيات للكاتب)

  منذ أن كنت طفلًا، وإلى يوم الناس هذا ـ وأنا على أبواب الستين ـ لم تشغَلني فكرةٌ بعد (وجود الله) مثلما شغلتني (فكرةُ الزمان)، وكلتاهما مُجَرَّدتان؛ تستعصيان على الفهمِ الساذج وتتأبَّيان على النظر العجلان. لم أفهمهما في البداية، ولم يكن لعقلي الصغير ناشئًا أن يستوعبهما تمام الاستيعاب، وكان عليَّ أن أنتظر وقتًا طويلًا حتى ينضج فكري وتتّسع قراءاتي، وتنتهي بيَ التأملات فيهما إلى شيءٍ من اليقين، أو ما يشبه اليقين.

أذكر أن بيتنا القديمَ لم يكن فيه ساعة حائط، وفي غياب والدي كان الراديو هو وسيلتنا الوحيدة لمعرفة الوقت بالتحديد، ولم نكن نهتم به إلا في أيام الدراسة، حتى لا أذهب إلى المدرسة قبل الموعد بكثير، أو أتأخر عنه بكثير، وكانت والدتي، رحمة الله عليها، تعرف دخول وقت صلاتَي الظهر والعصر بالظل الذي يمتدّ أمام البيت، ودائمًا ما كان صوت المؤذّن في مكبرات الصوت يؤيد حدسَها، وهو ما يذكِّرني بالمِزْولة التي كانوا يعرفون بها الوقت قديمًا، وهي عبارة عن عصا مستقيمة أو شيءٍ شاخص يُنصب على سطح أفقي، ويكون لها ظل يتغيّر بتغيّر مسار الشمس، وتُحدّد الساعة من طول ظل العصا، وتُعرف بـ “ميزان الشمس”. وقد عرَفتُ تفاصيل ذلك كله فيما بعد حين قرأت كتاب “مفهوم الوقت: من المِزولة إلى الساعة الذريَّة” لـ “جيمس جيسبرسن” و”جين فيتز راندولف”.

ومما يحسُن ذكره هنا أن العرب القدماء قد وضعوا لساعات اليوم أربعةً وعشرين اسمًا، يتضح منها صلتها المباشرة بحركة الأرض في مواجهة الشمس، فساعات النهار اثنتا عشرة هي الشروق والبكور والغدوة والضحى والهاجرة والظهيرة والرّواح والعصر والقصر والأصيل والعشي والغروب. وساعات الليل اثنتا عشرة هي الشفق والغسق والعتمة والسدفة والفحمة والزلة والزلفة والبهرة والسحَر والفجر والصبح والصباح.

وحين نجحت في السنة الرابعة الابتدائية، اشترى لي أبي ساعة (جوفيال) أنيقة، وكانت فرحتي بها عظيمة، جعلتني أُحِسُّ أنني صِرت أمتلك (الزمن)، وأنه لا حاجة بي إلى النظر في السماء لمعرفة أين تقع الشمس، ولا إلى الأرض لمعرفة أين يمتدُّ الظل. وكنت أشعر بالزَّهو حين يسألني أحد: كم الساعة يا أستاذ؟ وأحس أن من يمتلك ساعةً يعرف ما لا يعرفه الآخرون، وكأنه قد أوتي علمًا يجهله كثيرٌ من الناس. ولن أنسى حزني الشديد حين تعطلت هذه الساعة، وبقيَت عند السّاعاتي أيَّامًا حتى أصلحها، واضطررت في تلك الأيام (الطوال الثقال) أن أعود إلى الشمس والأرض، تلك الساعة الطبيعية التي خلقها الله، والتي لا تقدِّم ثانيةً ولا تؤخِّر ثانيةً ولا تتعطلُ أبدًا.

ومن الطريف أنني كنت أربط ربطًا ساذجًا بين الساعة التي يسألني الناس: كم هي الآن؟ وبين قوله تعالى: “يَسْأَلُونَكَ عَنِ السَّاعَةِ” (سورة الأعراف، الآية: 187). وقد تتبّعتُ فيما بعد المواضع التي وردت فيها كلمة (الساعة) في القرآن الكريم، وهي لغةً جزءٌ من أجزاء الليل والنهار، فوجدتها تدل في أكثرها على يوم القيامة، كما في قوله تعالى: “حَتَّىٰ إِذَا جَاءَتْهُمُ السَّاعَةُ بَغْتَةً قَالُوا يَا حَسْرَتَنَا عَلَىٰ مَا فَرَّطْنَا فِيهَا” (سورة الأنعام، الآية: 31)، وقوله: “فَهَلْ يَنظُرُونَ إِلَّا السَّاعَةَ أَن تَأْتِيَهُم بَغْتَةً فَقَدْ جَاءَ أَشْرَاطُهَا” (سورة محمد، الآية: 18). وفي بعضها الآخر تشير إلى جزءٍ من الوقت لا يُلحظ فيه التحديد، كما في قوله عزّ من قائل: “وَيَوْمَ يَحْشُرُهُمْ كَأَن لَّمْ يَلْبَثُوا إِلَّا سَاعَةً مِّنَ النَّهَارِ يَتَعَارَفُونَ بَيْنَهُمْ” (سورة يونس، الآية: 45)، وقوله: “وَلِكُلِّ أُمَّةٍ أَجَلٌ فَإِذَا جَاءَ أَجَلُهُمْ لَا يَسْتَأْخِرُونَ سَاعَةً وَلَا يَسْتَقْدِمُونَ” (سورة الأعراف، الآية: 34). وقد اجتمعتَا معًا في قوله جلَّ شأنُه: “وَيَوْمَ تَقُومُ السَّاعَةُ يُقْسِمُ الْمُجْرِمُونَ مَا لَبِثُوا غَيْرَ سَاعَةٍ” (سورة الروم، الآية: 55).

الدهر والزمن والوقت

ومن اللافت أن كلمة الزمن لم ترد في القرآن ولا مرَّةً واحدة، لا هي ولا أيٌّ من مشتقّاتها، وما جاء فيه دالًّا على الزمن هما كلمتَا (الدهر) و(الوقت)، وبينهما حجاب، وإن كانتا متداخلتَين كما سوف نوضح؛ فالدهر كما في لسان العرب هو الأمدُ الممدود، وقيل: الدهر ألف سنة، وهو مدة الحياة الدنيا كلها، وقيل: هو الزمن والوقت والحياة مع تقلب الليل والنهار. وفي الحديث القدسي: “يؤذيني ابن آدم يَسُبُّ الدهرَ وأنا الدهر بيدي الأمرُ أقلِّبُ الليلَ والنهار”، ومعناه أن ما أصابك من الدهر فالله فاعلُه ليس الدهر، فإذا شتمْتَ به الدهرَ فكأنك أردت به الله.

أمَّا الوقت، فهوكما جاء في لسان العرب: مقدارٌ من الزمان، أي أنه جزءٌ من كل. وكلُّ شيءٍ قدَّرت له حينًا فهو مؤقت، وكذلك ما قدرت غايته، وفيزيائيًّا: هو مقدار محدود من الزمن، أو هو الحد الواقع بين أمرين أحدهما معلوم سابق، والآخر معلوم به لاحق. والميقات هو الوقت المعيّن للقيام بأمر ما، كما في قوله تعالى “وَلَمَّا جَاءَ مُوسَىٰ لِمِيقَاتِنَا” (سورة الأعراف، الآية: 143)، أي لوقتنا الذي حددناه ولمكاننا الذي عيَّناه. وهو قد يعني يوم البعث أيضًا، كما جاء في (سورة الحِجر، الآية: 36، 37، 38): “قَالَ رَبِّ فَأَنظِرْنِي إِلَىٰ يَوْمِ يُبْعَثُونَ قَالَ فَإِنَّكَ مِنَ الْمُنظَرِينَ إِلَىٰ يَوْمِ الْوَقْتِ الْمَعْلُومِ”.

وأمًّا الزمن فقد كان لي معه شأنٌ آخر، لا وقت هنا إلا لعرضه موجزًا مختصرًا، يبدأ أيام كنت أحضر في صحبة والدي مجالس الكبار من شيوخ ناحيتنا ورجالها، وكنت أسمعهم يتحدثون عن ذكرياتهم البعيدة، أيام زمان، وكأنهم يتحدثون عن شيءٍ كان يومًا ما بين أيديهم، ثم تفلَّت منها إلى حيث لا يمكن أن يعود. وكنت أتساءل: أين تذهبُ الأيام؟ وأين تتبدَّدُ الشهورُ والأعوام؟ وأين تختفي القرون والدهور؟ هل ثمةَ ثقوبٌ سوداءُ مخيفة وهائلةٌ تبتلع (الزمن) وتلقي به في غياهبها المظلمة فلا يملك منها مهرباً ولا يستطيع منها فكاكاً؟ هل يمضي الزمن إلى غير رجعة؟ أم أنه يمكن أن يعود فنرجعَ معه القهقرى؟

وما هو الزمنُ أصلاً؟ وهل له وجودٌ فيزيائيٌّ محسوس، أم أنه مجرد فكرة عقلية خالصة؟ وهل يوجد زمنٌ واحدٌ؟ أم أن لكل كوكبٍ في مجموعتنا الشمسية هذه، وفي ملايينَ أخرى غيرِها، زمنَه الخاصَّ به؟ وهل الزمنُ في الأرض نفسِها مطلق (absolute) أم نسبي (relative)؟ هل له بداية؟ وهل له نهاية؟ وماذا عن الزمن النفسي (Psychological time)؟ والزمن الفسيولوجي (physiological time)؟ وما علاقة الزمان بالمكان، أو ما يسميه أينشتاين في نظرية النسبية بـ (الزَّمَكان) أو (Spacetime)؟

أسئلةٌ كثيرةٌ ومهمة، وتحتاجُ مناقشتُها إلى (زمنٍ) طويل، لكنني سوف أبدؤها هنا بتعريفِ الزمن؛ ولا أريد أن أفجَأكم الآن بالنتائج قبل المقدمات؛ فدعونا نعرض الأمرَ خُطوةً خطوة وبصورة مبسطة؛ نبدؤها من لسان العرب حيث نجده يعرِّف الزمن بأنه: اسمٌ لقليل الوقت وكثيره، وقال شمر: الدهر والزمان واحد. وهذا كلامٌ لا يضيف لنا شيئًا في سياق موضوعنا، وأذكر أنني قرأت في كتاب (الزمن واللغة) للدكتور “مالك يوسف المطلبي” عن ضرورة التفريق بين الزمن الفلسفي (Time) والزمن اللغوي (Tense).

الزمن الفلسفي والزمن الفلكي

وقد فرَّق فيه بين نوعين من الزمن، هما الفلسفي والفلكي؛ فالأول ليس في جوهره زمنًا، بل هو النظر في الزمن داخل الوجود المادي أو خارجه، أعني الوجود المُتصوَّر. وما دام نظرًا عقليًّا فهو محلّ خلاف، فتارةً يكون مثالًا ذهنيًّا تجريديًّا، وتارةً يكون حقيقةً تقترب من التشخيص. وبعبارة أخرى قد يكون وجودًا وقد يكون عدمًا. وعدميّة الزمن قال بها نُفاة الزمان: الزمان منه ماضٍ وليس بموجود، ومنه مستقبل ليس بموجودٍ أيضًا.. فأمَّا الحاضرُ فمتقضٍّ، فإذا بطل أن يوجد بعد أوفي الحاضر لاستحالة وجوده الآن، فالزمان لا وجود له. وبعبارة “برجسون”: “الزمن اختراع، أو هو لا شيء على الإطلاق”. ولعل هذا ما قصد إليه الشاعر حين قال:

ما مضى فاتَ والمُؤمَّلُ غيبٌ — ولكَ السـاعةُ التـي أنتَ فيـها!

أمَّا الزمن الفلكي فهو آلةُ قياس الإنسان الأحداثَ والخبرات، كما أن المِسطرة آلةُ قياس المسافة أو المكان، أو هو ذلك القسم من الوجود الذي يخضع للزمان ويجري فيه كأحداث الطبيعة والتاريخ. ولهذا لا بدَّ لنا من تجسيم هذا الزمن أو تأطيره ليكون محسوسًا، فنحن مضطرون إلى ربط أعمارنا بالساعة، لأننا مُغرَقون في دوام المادة، والساعة تقيس أبعاد هذه المادة.

6666

الزمن أمرٌ مُتوهَّم

لم يكن في هذا الكلام أيّة مفاجأة، فلقد كنت أميلُ إليه وأقول به بيني وبين نفسي، ولم يكن الغربيّون أول من قالوا به؛ فقد سبقهم إليه “محيي الدين بن عربي”، حين قال في السِّفر السادس من “الفتوحات المكية”: “إن الليل، والنهار، واليوم، والشهر، والسنة، هي هذه المعبَّر عنها بـ (الأوقات)؛ وتَدِقُّ إلى مسمَّى الساعات ودونها، وذلك كله لا وجود له في عينه، وهو نسب وإضافات؛ والموجود إنما هو عينُ الفلَك والكوكب، لا عين الوقت والزمان، وهي مقدَّرات فيها، أعني الأوقات. إن الزمان عبارة عن الأمر المتوهَّم الذي فُرِضَت فيه هذه الأوقات. فالوقت فرضٌ متوهَّم في عينٍ موجودةٍ، وهو الفلَك. والكوكب يقطع حركة ذلك الكوكب والفلك، بالفرض المفروض فيه، في أمرٍ متوهَّم لا وجودَ له، يسمَّى الزمان.

وقد أبَنتُ لك عن حقيقة الزمان، الذي جعله الله ظَرفًا للكائنات المتحيِّزات، الداخلة تحت هذا الفلَك، المؤقّت فيه، المفروض في عينه، تعيين الأوقات؛ ليُقال: خُلِقَ كذا، وظهر كذا في وقت كذا، (وَلِتَعْلَمُوا عَدَدَ السِّنِينَ وَالْحِسَابَ وَكُلَّ شَيْءٍ فَصَّلْنَاهُ تَفْصِيلًا)”.

ونجد توضيح ذلك في كتاب “أينشتين والنسبية” للدكتور “مصطفى محمود”، حيث ينسب إلى “أينشتين” قوله: “إنه حتى الزمان بالتعبير الدارج، عبارة عن تعبير عن انتقالات رمزية في المكان..”.

الزمن المعروف بالساعة واليوم والشهر والسنة، ما هو إلا مصطلحات ترمز إلى دوران الأرض حول نفسها وحول الشمس، أو بشكل آخر (مصطلحات لأوضاع مختلفة في المكان).

السنة هي دورة الأرض 15 درجة حول نفسها، واليوم دورة كاملة، والسنة هي التفافها الكامل حول الشمس. حتى الساعة التي نحملها في مِعصَمنا عبارة عن انتقالات في المكان (انتقالات عقرب على ميناء دائري من رقم إلى رقم). إن الزمان والمكان متصلان في حقيقة واحدة”.

ولعل “ديموقريطس” قد سبق الجميع في ذلك حين قال: لا يوجد في الكون غير الذرات والفراغ، أمَّا الزمان فيوجد بالارتباط مع الحركة. وذهب إلى أن الفضاء لا نهائي، والزمان أبدي”.

وهذا يعني أنه لولا حركةُ الأرض حول نفسها، وحركتُها حول الشمس لما كان هناك زمن، أو لما عرفنا نحنُ الزمنَ على الأقل !

إننا نعيشُ على كوكب الأرض، وبالتالي فإن اليوم ـ وهو مدةُ دورانِ الأرضِ حول نفسها ـ أربعٌ وعشرون ساعة، والسنة ـ وهي مدة دوران الأرض حول الشمس ـ ثلاثُمائةٍ وخمسةٌ وستون يوماً. وهذا زمنٌ ثابتٌ ومستقرٌّ، إلى حدٍّ كبير، بسبب الحركة المنتظمة والدقيقة للأرض، حول نفسها وحول الشمس.

الزمن نسبي

ولكن ماذا لو كنا نعيش على كوكبٍ آخر من كواكب المجموعة الشمسية نفسِها، يبتعد قليلاً أو كثيراً عن الشمس، أو يقتربُ منها أكثر من الأرض؟ هنا سوف تختلف مدةُ دوران الكوكب حول نفسه ومدةُ دورانه حول الشمس؛ متأثراً بثقل وزنه، وكثافة كُتلته، وسَعة مداره، وجاذبية الشمس له، وعواملَ أخرى ليس هنا موضعُ تفصيلِها. وبالتالي سوف تختلف مدة اليوم ومدة العام فيهِ عمَّا هي في الأرض.

فكوكب “نبتون” مثلاً وهو أبعدُ الكواكب عن الشمس بعد إخراج “بلوتو” من المجموعة الشمسية بسبب صغر حجمه، يدور حول الشمس مرةً كلَّ مائة وخمس وستين سنةً تقريباً، ويدور حول نفسه مرةً كلَّ ستَّ عشرةَ ساعةً تقريباً، أي أن أطولَ الناس عمراً في جيلنا هذا لن يعيش عليه أكثرَ من سنةٍ واحدة.. هذا إذا عاشها!

أما كوكب “عطارد”، وهو أصغر الكواكب وأقربها إلى الشمس، فإنه يدور حول الشمس مرةً كل ثمانيةٍ وثمانين يوماً، وكان الاعتقادُ السائدُ أنه يكمل دورته حول نفسه في المدة ذاتها، لكن الحساباتِ النهائيةَ تشير إلى أنه يمر بثلاث دورات حول نفسه كل دورتين حول الشمس، أي أن اليوم فيه يصل إلى ما يقرب من تسعةٍ وخمسين يوماً أرضياً. ومعنى ذلك أننا لو كنا نعيش على واحدٍ من هذين الكوكبين، أو غيرهما طبعاً؛ فسوف لا يكون هنالك أيَّةُ قيمةٍ ـ ولا حتى معنى ـ للساعات التي نحسب بها أوقاتنا.

الزمن إذًا خارجَ الأرض وخارجَ المجموعة الشمسية، نسبيٌّ تماما، وليس مطلقاً أبداً. لكن ماذا عن الأرض نفسها؟ هل الزمن فيها مطلق (Absolute time) أم أنه زمنٌ نسبي (Relative time)؟

الأمر هنا سوف يتوقف على إدراك الإنسان لحركة الأرض، حول نفسها وحول الشمس، أو إحساسِه بهذه الحركة.. فالنائمُ، ومثلُه الميت، لا يحس بالزمن ولا يدركه؛ لأنه يصبح بنومه أو موته خارجَ الزمن (Out of time) والمثلان كلاهما موجودان في القرآن؛ فأهل الكهف لم يموتوا؛ ولكن الله سبحانه وتعالى ضرب على آذانه في الكهف سنين عددا، ولبثوا في كهفهم ثلاثمائةٍ سنين وازدادوا تسعا، فلما بعثهم الله “قَالَ قَائِلٌ مِّنْهُمْ كَمْ لَبِثْتُمْ قَالُوا لَبِثْنَا يَوْمًا أَوْ بَعْضَ يَوْمٍ” (سورة الكهف، الآية: 19)، والرجل الذي “أَوْ كَالَّذِي مَرَّ عَلَىٰ قَرْيَةٍ وَهِيَ خَاوِيَةٌ عَلَىٰ عُرُوشِهَا قَالَ أَنَّىٰ يُحْيِي هَٰذِهِ اللَّهُ بَعْدَ مَوْتِهَا فَأَمَاتَهُ اللَّهُ مِائَةَ عَامٍ ثُمَّ بَعَثَهُ قَالَ كَمْ لَبِثْتَ قَالَ لَبِثْتُ يَوْمًا أَوْ بَعْضَ يَوْمٍ” (سورة البقرة، الآية: 259).

ويمكننا أن نتخيل هذا لمن يعيش في زنزانةٍ لا تدخلها الشمس، أو لمن يعيش أياماً أو شهوراً في غواصةٍ تحت الماء.. أو لمن نفترض أنه يعيش تحت الأرض! إنه يفقد إدراكه للزمن، ثم يفقد إحساسه به بعد ذلك.

إحساسُنا بالزمن

ولعلنا في حالة الحظر الاختياري، الذي آثره معظمُنا، نعيش شعوراً قريباً من هذا، حيث تشابهت الأيام، وتماثلت الأوقات، وأصبح الزمن مملاً وثقيلاً وكئيباً.. وفقدت الأعياد والمناسبات طعمها ومعناها، وعاد (اليومُ) إلى أصله الفلكي أو الفيزيائي، حيث لا يَزيد عن كونه دورةً للأرض حول محورها، وصرنا نعيش فيما أسميه بـ (اللحظة الآنية الممتدة)، وهي التي فسَّرها الأستاذ “العقاد” حين وصف الحاضرَ بأنه “شيءٌ نبحث عنه فلا نجده. أو نجده على الدوام متصلًا بالاستقبال لا ينفصل عنه لحظة من أقصر للحظات؛ لأنه ما من لحظةٍ مهما تقصُر إلا وهي كافيةٌ أن تجعله في حكم ما كان، وليس هو حاضرًا الآن”. وكما قال “روي بورتر” في كتاب “فكرة الزمان عبر التاريخ” (سلسلة عالم المعرفة، مارس 1992)، فإن فكرتي الزمان والتاريخ ليستا أصيلتين في فطرة الإنسان؛ فالأطفال الرُّضَّع حديثو الولادة يعيشون في الحاضر وحده: إذِ الماضي منسي، والمستقبل لا سبيل إلى تصوره.

وأخيرًا، وليس آخرًا، وكما يقول الدكتور “باري باركر” في كتابه (السَّفَر في الزمان الكوني)، فإن إحساس الإنسان يتغير بحسب حالته التي هو فيها، بمعنى أن المرءَ يشعر بالزمان شعورًا غير متجانس. لا توجد لحظة تساوي اللحظة الأخرى، فإذا كان الإنسان قلقًا متوترًا، فإن الزمان يمضي به ومعه بتثاقلٍ وملل. فإذا ما انشغلَ الإنسان بأمرٍ مهم أو عمل محبب إليه، فإنه يشعر بالزمان وكأنه يسرع الخُطَى، بل ويمرق كالبرق في السماء حتى أنه يقول: “الوقت قد سرقني”. فهل يعني ذلك أن معدل جريان الزمن معدَّل غير ثابت؟

والواقع أن إحساسنا بالزمان ودورانه إحساس يخالف طبيعة الزمان وحقيقته؛ فإحساسنا بالزمن هو إحساسٌ أو إدراك فسيولوجي (نفساني)، وهذا الزمن خاصٌّ بصاحبه ولا مرجع له سواه، وصاحبه يختلف في تقديره، فهناك لحظة مشرقة تساوي العمر كله، وهناك سنوت فارغة تمر برتابة وملل، وهذا الزمان يعرف عند الفلسفة الوجوديين بـ “الزمن الوجودي”، ونجد وصفًا له عند الشعراء الذين يرون العالم بمرآة قلوبهم، ويحكمون على الوجود بانفعالاتهم ووجداناتهم، كما قلت يومًا بعد (يومين) في انتظار لقاء المحبوبة:

أنا فـي انتظارك منذُ قلتِ سآتي — عـــــامان مَرَّا كم يكونُ الآتي؟

دقَّاتُ قلبي في عقارب ساعتي — ما أكـــــذبَ الدقَّاتِ والساعاتِ!

إن مشكلة الزمان ليست سهلة ولا بسيطة، وهي في الوقت نفسه، مع شيء من المَهَل والتبصُّر، ليست غامضة ولا معقدة. إنها قضية وجودية، ترتبط بحياة الإنسان ومصيره؛ وكما يقول الدكتور “زكريا إبراهيم” في كتاب (مشكلة الإنسان): ليس أقسى على الموجود الذي يملك الحرية، ويحن إلى الأبدية، وينزع نحو اللا نهائية، من أن يشعر بأن لحريته حدودًا، وأن الزمان ينشب أظفار الفناء في عنقه، وأن التناهي هو نسيجُ وجوده.

كلمة أخيرة

إن الإنسان هو ذلك الموجود الزائل الذي يعيش في الزمان، فلا نستطيع أن نقولَ عنه إنه كائن، وإنما لا بدَّ من أن نقول عنه دائمًا إنه سيكون. وهو تلك الحقيقة الفانية التي تجد نفسها دائمًا فريسة للصيرورة المستمرة، فلا تزال في دور التكوين حتى يفاجئها الموت فتصبح ماضيًا بحتًا. ويبدو أننا، مهما أطلنا القول أو فصلناه، سوف ندور مع الزمان في حلقته المفرغة التي لا يُدرَك كُنهُها، ودائرته المبهمة التي لا يُدرَى أين طرفاها؛ فالأزل غامض، والأبد مجهول، والسرمد حُلمٌ لا نملك تحقيقَه ولا حتى تفسيرَه، والقول ما أخبر به فيلسوف المعرة وحكيمُها:

نَزُول كما زال آباؤنا — ويبقى الزمانُ على ما تَرَى

نَهارٌ يَمُرُّ ولــيلٌ يَكُرُّ — ونَجـــمٌ يَغُــورُ ونَجمٌ يُــرَى!

منيرة جهاد الحجار 3
منيرة جهاد الحجّار (كاتبة وباحثة من لبنان)

بين الوقت والموت أسلوبُ حياة

عقارب الوقت سُيوفٌ حادّة ما إن تُسيء تسييرها حتّى تستنزف عمرك ليصبح هباء منثورًا! تسير رغمًا عنك ولا أحد يستطيع أن يستوقفها ولو لثانية، تمسك بناصية الحياة باتجاه الموت، وعبرها يمرّ شريط ذكريات سريع يجمع بين الماضي والحاضر والمستقبل المجهول، فهل للعمر حدود يقطعها الوقت في مسيره؟

من أسوأ العبارات التي تتردّد على مسامع النّاس “فاتك القطار” إذ يربطون بين العمر والوقت، الوقت يمرّ نعم، ولكنّ العمر لا يزال حيًّا يتنقّل في أرجاء الوقت، إن لم يُستثمر في فائدة الإنسان والمجتمع، ولو أقلّها بنشر كلمة طيّبة، يكون العمر ميتًا على الرّغم من وجوده حيًّا يعبث في أرقام الحياة، فالاستمراريّة تكمن في نورٍ يبعثه الإنسان يجعله خالدًا على مرّ الأزمان.

لا تستسلموا للوقت، ولا تجعلوا العمر يتوقّف عنده، ولا تهتمّوا لمن يقولون “فاتك القطار”، فالقطار لا يفوت إلّا أصحاب الأفكار المهترئة الذين يظنّون أن العمر رقم محدّد، إنّ العمر مقرون بالعمل الصّالح، والعلم النّافع حيث لا موت، ولا أرقام، ولا وقت يقطع الزّمان! هنا لانهائيّة الإنسان!

تيمّموا برحيق الأمل، واسعوا مع الوقت لمحاربة الفراغ، فالفراغ قاتلٌ للوقت وللحياة، وللأجر والثّواب، فكلّ ثانية سنحاسب عليها، أين قضيناها، وفي ماذا؟ وكونوا قدوة حسنة يسير على دربها الكثير، ليس من خلال الوعظ والإرشاد إنّما من خلال العمل، فالكلام سهل، أمّا العمل فيحتاج إلى جهاد للنّفس لأنّ النّفس تميل دائمًا إلى الرّاحة والفراغ، فإن لم نُحسن تسييرها ستقودنا نحو الهاوية والفناء، والفناء المعنويّ موت مؤقّت!

وفي إطار الوقت، هناك من ينسى عقارب السّاعة فيدخل في عالم خاصّ يعيشه بين الكتب، فيظنّه البعض مرهقًا، ولا يعلمون أنّه يرى عالمًا آخر يرتمي في حضنه، يقلّب عقارب الوقت كما يشاء، ويقتل الموت بلا سلاح، إنّها حياة ما بعدها حياة، تُرهقُ الفراغَ، وتقتل الملل، وتنشّط العقل، وترتقي بالإنسان، إن دخلها الإنسان شابًّا فلا يعرف المشيب، وإن دخلها شيخًا فيركل المشيب، لا عمر يحدّ العلم، ولا وقت يقطعه، هي إرادة الإنسان في استثمار الوقت، واستثمار الوقت لا يكون إلّا في ما نحبّ، وما نحبّ سيقودنا نحو الإبداع اللّامحدود، لذلك فاكتشاف الذّات أمر مهمٌّ لخوض معركة الوقت السّريعة!

إنّها الحياة، تسير بسرعة ولا تنتظر أحدًا، فلا تؤجّل عملك ما دمت قادرًا، وإن لم تكن قادرًا فكافح، لأنّك دائمًا تستحقّ الأفضل، ففي التّأجيل موتٌ للعمل، واستسلام، ورضوخ لليأس، لأنّك لن تقبض على وقتك ما دمت تماطل، ومن أهم الأمور في العمل الخطوة الأولى التي من خلالها يبصر الإنسان النّور، وكذلك التّنظيم الذي يجعلك تنوّع في أوقاتك بين الجدّ والرّاحة، تسخيرًا لشحن العقل والجسد، لأنّ العقل أيضًا يحتاج إلى الرّاحة لتفريغ شحنات التّعب، وإنّ الله لا يضيّع عمل إنسان يسعى، يقول تعالى: ﴿وَأَن لَّيْسَ لِلْإِنسَانِ إِلَّا مَا سَعَىٰ وَأَنَّ سَعْيَهُ سَوْفَ يُرَىٰ﴾ (سورة النّجم: 39- 40)، فكلّ ما في الحياة فانٍ، حتّى الوقت سيأتي اليوم الذي تقرع فيه النّهاية، إلّا العمل فهو الوحيد الذي يستمرّ ويبقى عدّاد ثوابه وأجره يلاحقك حتّى بعد الموت، فاعمل بحبٍّ حتّى تُبدع.

إنّ العمل فنٌّ من فنون العطاء، ذلك العطاء الذي يجلب لك سعادة الدّارَين، والعطاء غير مقرون بالمادّة فقط، قد يكون كلمة طيّبة، قد يكون ابتسامة زرعت الأمل في قلب إنسان كان على حافّة اليأس، إنّه استثمار للوقت، ذلك الاستثمار الرّابح دائمًا في خلق فرص حياة جديدة، في كسر روتين الحياة وفراغها، في زرع آمال جديدة قد تراها في عيون الآخرين وتنعكس عليك إيجابًا لتشعر أنّ الوقت هو مجرّد فرصة خُلقت لتساندك على المقاومة من أجل زرع الخير في كلّ مكان، ذلك هو أسلوب حياة يقطن بين الوقت والموت ليخلق لانهائيّة للأمل، للحياة، للفرح، للثّواب…

6666

هند سليمان أبو عزّ الدين (كاتبة وباحثة من لبنان)

الوقت نسيج العمر

تضيع بين الثّواني براثن الأحلام المطلّة من جبال الذّاكرة، ويقبع خلف السّاعات عمرٌ، نسابق فيه الوقت، ويسبقنا المستقبل اللّاهث خلف المجهول. وفي سعي الإنسان الدّائب نحو التّطوّر والتّقدّم يُصارع الدّقائق الّتي تتسرّب كمياه نهرٍ جارٍ، حين يُدرك أنّ الحياة تُقدّم له في كلّ لحظة تحدّيًا جديدًا ورحلة جديدة، وتطلب منه تحقيق ما يخدم ذاته، ويُفيد البشريّة، ليُساهم في كلّ ما يُغني هذا العالم، ويسعى إلى تقديم كلّ ما يُثري حياة البشر، وفي الغرب يقيس بعض النّاس الوقت بالمال، فتقول فئة منهم: “الوقت هو المال”، فهل فعلًا يُمكننا اختصار الوقت في ما يُقدّمه لنا من مكاسب مادّيّة أم يجب استغلاله للعطاء وتحقيق التّقدّم والتّطوّر لخدمة الذّات والمجتمع الإنسانيّ؟

تبدأ رحلة الحياة والتّعلّم منذ الطّفولة، فالطّفل يجهل مفهوم الوقت، لكنّه رغم ذلك يحتفي بالسّاعة الأولى التي يمتلكها، فيغمره الحبور وتعتريه البهجة وهو يُراقب ألوانها ويتأمّلها، ليُميّز لعبة الأرقام ودوران العقارب، وليستمع إلى موسيقى نغماتها، كأنّه يعلم بفطرته أنّها تُخفي عالمًا وحياة، ففي المدرسة يتعلّم أنّ السّاعة تعني كمًّا هائلًا من المعلومات، وأنّ الأيّام قد تحمل وعدًا بامتلاك لعبة جديدة، وتكبر السّاعة لتحمل معها رحلة نحو الطّموح وتحقيق التّطوّر العلميّ والمهنيّ، وفي رحلة الحياة يتعلّم أنّ كلّ لحظة قد تحمل معها الفرح والألم والنّجاح والتّغيير، لذا عليه أن يعرف أنّ الثّواني لا يجب أن تكون عابرة دون هدف أو فائدة، وأنّ استغلال الوقت يُشكّل أهمّيّة كبيرة في طريق بناء مستقبل بنّاء وواعد.

ولقد دأب الإنسان منذ القِدَم على قياس الوقت وفق حاجاته، ففي الرّيف حيث يعيش النّاس مع الأرض قصّة كفاح مكلّلة بمواسم الحصاد، لا يُحتسب الوقت بالسّاعات بل بمواعيد الشّروق والغروب، تلك المواعيد التي يتوجّه فيها الفلّاح إلى حراثة أرضه، وزرعها، والاعتناء بها، فيرويها من كدّه وعرقه ماء العطاء، ويغرس فيها بذور الحَبّ والحُبّ، ليحصد ما يسدّ رمق الحياة.

ففي تلك الأرياف كانت حسابات الوقت مختلفة، لكنّ هذا الوقت لم يكن يضيع هباء، بل كان يمتزج بالكدّ والتّعب، ويتكلّل بالتّكافل الاجتماعيّ، والتّعاون لتحدّي قسوة الحياة، والسّعي لنشر القيم السّامية التي تنبع من أصالة الأرض وطيب الوفاء، والانسجام مع طبيعة تطرح مواسم الخير والفرح والعطاء.

أمّا اليوم، وقد تطوّرت المجتمعات وأصبحت تزحف بجنون نحو السّرعة، أصبح الوقت يُقاس بالثّواني، وغدَا الإنسان يُسابق الزّمن ليكسب ما يؤمّن له مكانًا في عالم شسعت أبعادُه واتّسعت، واحتشدت بالاكتشافات والاختراعات التي يجب على الإنسان الإسراع في مواكبتها، واستخدامها في مساعدته وتسهيل أمور حياته وإغناء فكره وقدراته.

ولهذا تعتمد فئة من النّاس على استغلال الوقت لكسب المال لاعتقادها أنّ إضاعة ثانية واحدة تُساوي خسارة مبالغ مادّيّة، وهذا السّعي مطلوب باعتدال دون السّقوط في المبالغة، وإهمال النّواحي الأخرى التي تؤثّر في تطوير حياة الفرد والمجتمع، فللعمل قيمة معنويّة أيضًا، كالمساهمة في المساعدة الاجتماعيّة والإنسانيّة، وتجسيد القيم العليا لخدمة البشريّة، لذا يجب الموازنة بين كسب المال والسّعي إلى تحقيق كلّ ما يُغني الفكر الإنسانيّ.

وفي المقابل، يميل بعض النّاس إلى التّكاسل وإضاعة الوقت وهدره في التّدخّل في شؤون الآخرين، والاستمتاع بالأحاديث التي تلتهم السّاعات دون تحقيق أيّ هدف، كما يميل بعضهم إلى تمضية الوقت في مشاهدة “الفيديوهات” القصيرة التي لا تُغني العقل ولا تحقّق فائدة مادّيّة أو معنويّة، فيُشكّل تسرّب هذا الوقت وضياعه ضياع عمر لا يُمكن استرجاعه وتعويضه، لأنّ هذا الفراغ لا يُعدّ راحة، فالرّاحة مطلوبة ينشدها الإنسان لاستعادة نشاطه، أمّا الفراغ فهو عدوٌّ صامتٌ لا يكتفي بقتل الوقت بل يقتل البهجة والفرح، ويُهاجم المشاعر الإنسانيّة بسيفه المُظلِم الذي يطمس الفكر ويزرع التّبلّد.

لذا يجب أن نغرس ثقافة الوقت وقيمته في أنفسنا أوّلًا، ثمّ في مجتمعاتنا، لندرك أنّ كلّ ثانية تُشكّل نسيجَ عمرٍ لا يجب أن يضيع سدًى، فالعمر ثروة يجب استغلالها، ورصيده ينقص في كلّ لحظة، وما يبدو راحةً ليس سوى تعب وعناء، وتفريط في قيمة إنسانيّة كبرى تتجسّد في القدرة على العطاء، وتقديم الإفادة للمجتمع الإنسانيّ، والاستفادة من خبرات الآخرين، وتذكّر المقولة الشّهيرة التي تعبّر عن قيمة الوقت في قولها: “الوقت كالسّيف إن لم تقطعه قطعك”، فنحن في صراع دائم مع الدّقائق والسّاعات، فإمّا أن نربح معركة التّقدّم والعمل، وإمّا أن ندخل في دائرة الفراغ المدمّر، لذا يجب أن نتعب لنرتاح وأن نستغلّ الوقت لنقدّم الإنجازات، فنستخدم وسائل التّرفيه بحذر شديد، وبشكل واعٍ يمنعنا من السّقوط في فخ اللّهو، ليكون سعينا هادفًا إلى التّقدّم العلميّ والإنسانيّ، ولنواكب التّطوّر متمسّكين بقيمنا الأخلاقيّة، فهل سيستطيع الإنسان المعاصر تحقيق هذه المعادلة؟

صبري فوزي
الدكتور صبري فوزي أبو حسين (أستاذ ورئيس قسم الأدب والنقد بكلية الدراسات الإسلامية والعربية للبنات بمدينة السادات – مصر)

مَن ضيّع أوقاته.. ضيّع حياته!.. كيف نستثمر ثروة الوقت؟

الحياة هي الوقت الذي نعيشه، وهي ثمينة جدًّا، وهي ثروة، وهي كنز، وهي العمر: مدة بقاء الإنسان في هذا الكون! وهي نعمة من الله المُحيي – تعالى – على الإنسان، قال الله تعالى: “وَسَخَّرَ لَكُمُ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ” (سورة النحل، الآية: 12). وقد ذكر الله – تعالى – في القرآن الكريم أربع سور باسم أنواع من الوقت، هي: (الفجر، الليل، الضحى، العصر). وأقسم الله – تعالى – في القرآن الكريم بأنواع من الوقت فقال: “لَا أُقْسِمُ بِيَوْمِ الْقِيَامَةِ” (سورة القيامة، الآية: 1)، وقال: “وَالْفَجْرِ (1) وَلَيَالٍ عَشْرٍ” (سورة الفجر، الآية: 1 و2)، وقال: “وَاللَّيْلِ إِذَا يَغْشَىٰ” (سورة الليل، الآية: 1)، وقال: “وَالنَّهَارِ إِذَا جَلَّاهَا” (سورة الشمس، الآية: 3)، وقال: “وَاللَّيْلِ إِذَا سَجَىٰ” (سورة الضحى، الآية: 2)، وقال: “وَالْعَصْرِ” (سورة العصر، الآية: 1)..

ومن ثم كان حرص العقلاء الناجحين في هذه الحياة على (استثمار الحياة) باستغلال كل ثانية ولحظة فيها بحكمة ودقة وبالإنتاج والتعمير وإضافة الجديد المفيد للنفس والأهل والوطن، وتجنّب ما يكون سببًا في ضياع الحياة وخسارة الوقت! فـ (الإنسان الناجح) هو الذي يستثمر حياته ويستغلّها في كل نفع وخير، و(الإنسان الفاشل) هو المُضيع حياته والمفرط فيها بالشهوات والملذات والمعاصي واللهو الفارغ واللعب الباطل!

ومن أخطر ما نجده عند السفهاء من الناس – في كل زمان ومكان – تضييعهم الوقت في كل ضارٍّ ومفسد، وفي كل لهو لعب وإسراف وتبذير واستهلاك! فلا قيمة للوقت لديهم! يقضون أوقاتهم في الكسل والنوم، ومشاهدة الأفلام والمسلسلات، ومطالعة وسائل التواصل الاجتماعي، بل وفي الإهمال والتقصير في الواجبات والضروريات! وقد صار همُّ بعض الشباب الآن الاستمتاع والرفاهية والحرص على الراحة بكل وسيلة وطريقة مشروعة وغير مشروعة! يعيشون في تواكل وتسويف، حيث يعتمدون على غيرهم، ويؤجّلون الأعمال المكلفون بها يومًا بعد يومًا! فلا دراسة، ولا تحصيل علمي، ولا متابعة ولا عمل! قال الله تعالى: “قُلْ هَلْ نُنَبِّئُكُم بِالْأَخْسَرِينَ أَعْمَالًا (103) الَّذِينَ ضَلَّ سَعْيُهُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَهُمْ يَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ يُحْسِنُونَ صُنْعًا” (سورة الكهف، الآية: 103 و104).

ويقول الإمام ابن الجوزي (ت597هـ): “ينبغي للإنسان أن يعرف شرف زمانه، وقدر وقته، فلا يضيع منه لحظة في غير قُربة، ويقدم الأفضل فالأفضل من القول والعمل، ولتكن نيتُه في الخير قائمةً من غير فتور، بما لا يعجز عنه البدن من العمل، كما جاء في الحديث: نية المؤمن خير من عمله”، وفي موضع آخر من كتابه “صيد الخواطر”، قال: “رأيتُ عموم الخلائق يدفعونَ الزمانَ دفعًا عجيبًا، إن طالَ الليلُ، فبحديثٍ لا ينفع، أو بقراءةِ كتابٍ فيهِ غَزاةٌ وسمر، وإن طالَ النَّهارُ فبالنوم، وهم أطرافُ النَّهارِ على دجلة أوفي الأسواق! فشبّهتهم بالمتحدثين في سفينة، وهي تجري بهم، وما عندهم خبر”.. وقال الرسول صلى الله عليه وسلم: “نعمتان مغبون فيهما كثير من الناس: الصحة والفراغ”، نعم الناس مفتونة في الحياة ومخدوعة فيها بسبب ما فيها من وقت فراغ وصحة! ومن ثم كان هذا السؤال الضروري: كيف نستثمر حياتنا؟ كيف تكون حياتنا في عمل صالح، وتطور مستمر، ونفع دائم، ونجاح ورقي؟

إن استثمار الحياة بطريقة عملية مثالية يتمثل في تنفيذ الخطوات الآتية:

1-  تحديد الأهداف وجعلها في بؤرة الشعور:

لكلٍّ منا أهداف يرغب في تحقيقها في هذه الحياة، لا بد أن نقف عليها، وأن نعرفها، وأن نحددها، وأن تكون في بؤرة شعورنا أي في قلوبنا وعقولنا دائمًا. كما يجب أن نخطط لليوم منذ البداية من أجل إنجاز أكبر عدد ممكن من الأهداف!

2- تدوين الأولويات وترتيبها:

الأهداف كثيرة والطموحات كبيرة، ومن ثم يجب أن نرتب هذه الأهداف في أولويات حسب كل مرحلة من عمرنا، وحسب إمكانياتنا وقدراتنا، هدفًا بعد هدف، وأولوية بعد أولوية!

ويمكننا أن نستخدم (التقويم) على جهاز التليفون الذكي – والبعض يستخدم (Google Calendar)، وسيلة لتحديد المهام التي تجمعنا بالآخرين، أو لسهولة قيامها بالتذكير بهذه المهام – حتى نستطيع أن نحدد الأولويات ونوزعها على الأوقات، ونضيف فيه الأنشطة الثابتة أو التي تعرف مواعيدها مسبقا، عند كل تاريخ داخل التقويم، ويصبح لدينا معرفة أساسية بالمواعيد والأمور التي علينا فعلها حتى نصبح قادرين على التخطيط لحاضرنا ومستقبلنا.

3- وضع جدول زمني منظم لإنجاز المهامِّ:

وهذه خطوة عَمَلية وضرورية، حيث يوزّع الإنسان حياته حسب الأهداف والأولويات والمهام التي يطالب بإنجازها، هدفًا بعد هدف، وأولوية بعد أولوية ومهمة بعد مهمة! ويمكننا أن نوظف الهواتف والحواسيب، في تنظيم الوقت وجدولة الأعمال، مثل الاستعانة بالـ (Notes) الموجودة على الهاتف أو الحاسوب، حيث نكتب فيها المهام التي يُفترض علينا أن نقوم بها، وكلما انتهينا من مهمة نقوم بوضع إشارة أمامها تدل على الانتهاء منها. وهذا ما يسمى إدارة الوقت وتنظيمه؛ فالإنسان الناجح حقًّا هو الذي يمتلك الوقت ويتحكم فيه ويديره وينظمه، ولا يتعامل مع الوقت تعاملاً عشوائيًّا، وصدق سيدنا عمر بن الخطاب – رضي الله عنه – في قوله: “إني لأكره أن أرى أحدكم سبهللاً (أي فارغًا عاطلاً)، لا في عمل الدنيا ولا في عمل الآخرة”؛ فالوقت سيف: إن لم تقطعه بالنافع قطعك بالضارِّ، وإن لم تشغلْه بالحق شغلَك بالباطل، كما يقول أهل التصوّف!

4- محاسبة النفس وتربيتها على عُلوِّ الهمة:

وذلك عن طريق المراقبة الذاتية يوميًّا بتحديد المنجزات من الأعمال، والمُؤجّلات أو المُهملات من الأعمال، وإلزام النفس بعلوّ الهمّة حيث الحرص على الترقي والتطور، والتعمير، وإنجاز المزيد والمزيد من الأعمال الصالحة، فنحن أمة (استبقوا الخيرات) وأمة (وفي ذلك فليتنافس المتنافسون)، وخير الناس عند رسولنا صلى الله عليه وسلم (من طال عمره وحسن عمله).

5- إزالة المهام غير الرئيسية وتجنّب مضيعات الوقت:

وينبغي للإنسان أن يتجنّب الأمور الثانوية أو الهامشية أو غير المهمة، أو على الأقل يجعلها بعد المهام الرئيسة الضرورية، فليفرق بين ما هو مهم وما هو غير مهم، فيحرص على الانشغال بالمهم الضروري، ويستثمر حياته في إنجازه وتحقيقه! كما ينبغي للمسلم أن يبتعد عن أيّ شيء قد يشتّت تركيزه ويمنعه من تحقيق الأهداف وإنجاز المهمات، أو يزعجه ويعوقه فيقوم بإغلاق إشعارات فيسبوك ومحادثات ماسنجر وواتساب.. وغيرها، حتى يُنهي ما يقوم به، ومن الممكن غلق الهاتف أو جعله في وضع الطيران أو عدم الإزعاج. يُروى أن النبي (صلى الله عليه وسلم) قال: “بادروا بالأعمال سبعًا: هل تنتظرون إلا فقرًا مُنْسيًّا، أو غنًى مُطغيًا، أو مَرَضًا مفسدًا، أو هِرَمًا مفنِّدًا، أو موتًا مُجهزًا، أو الدجَّال فشرُّ غائب ينتظر، أو الساعة، والساعة أدهى وأمر”، قال الحافظ ابن رجب معلقًا على هذا الحديث: والمراد من هذا أن هذه الأشياء كلها تعوق عن الأعمال، فبعضها يشغل عنه، إما في خاصة الإنسان كفقره وغناه ومرضه وهرمه وموته، وبعضها عام كقيام الساعة وخروج الدجال، وكذلك الفتن المزعجة، وبعض هذه الأمور العامة لا ينفع بعدها عمل، كما قال تعالى: “يَوْمَ يَأْتِي بَعْضُ آيَاتِ رَبِّكَ لَا يَنفَعُ نَفْسًا إِيمَانُهَا لَمْ تَكُنْ آمَنَتْ مِن قَبْلُ أَوْ كَسَبَتْ فِي إِيمَانِهَا خَيْرًا ۗ قُلِ انتَظِرُوا إِنَّا مُنتَظِرُونَ” (الأنعام:158).

6-  الاسترواح والتخفيف عن النفس:

إذ لا يمكن للإنسان أن يظل في عمل دائم طول اليوم وطول الحياة، بل لا بد له من الترويح عن نفسه بالمباحات، وهذا نوع من المكافأة للنفس على الاستثمار الأمثل للوقت وعلى الإنجاز الطيب للأعمال والمهام، وفي مدوّنات الفقهاء والمُفتين المعاصرين أن الترويح في الإسلام أمرٌ مشروعٌ، بل ومطلوبٌ، طالما أنه في إطاره الشرعي السليم المنضبط بحدود الشرع التي لا تخرجه ـ أي الترويح ـ عن حجمه الطبيعي في قائمة حاجات النفس البشرية، فالإسلام دين الفطرة، ولا يُتصوّر أن يتصادم مع الطاقة البشرية الفطرية، أو الغرائز البشرية في حالتها السوية.

ومن هنا فقد أجاز الإسلام النشاط الترويحي الذي يعين الفرد المسلم على تحمّل مشاق الحياة وصعابها والتخفيف من الجانب الجدي فيها ومقاومة رتابتها شريطة ألا تتعارض تلك الأنشطة مع شيء من شرائع الإسلام، أو يكون فيها إشغال عن عبادة مفروضة… وهذا سيدنا أبو الدرداء (رضي الله عنه) يقول: إني لأستجم لقلبي بالشيء من اللهو، ليكون أقوى لي على الحق. ومما ينسب إلى سيدنا علي (رضي الله عنه) قوله: “روّحوا القلوب ساعة؛ فإنها إذا أكرهت عميت”…. ومن هنا فإن الترويح يمكن أن يكون له بُعد تعبّدي إذا احتسبه الإنسان قربة لله أو ليتقوى به على الطاعة، فليس بمستغرب ولا عجيب أن تطلب نفس المسلم الراحة والترويح وإمتاع النفس بالحلال والمباح والجائز! مثل التدريبات الرياضية، أو مشاهدة مقاطع فيديو مسلية، أو قراءة كتاب أو رواية، أو سياحة مع الأصدقاء!

وبهذه الخطوات الستّ – من تحديدٍ للأهداف والأولويات، وإدارة للوقت وتنظيمه، وتجنب مضيعات الوقت، وترك المهام الثانوية الهامشية، ومحاسبة النفس وتعويدها على علو الهمة، والاسترواح والتخفيف عن النفس – نستطيع استثمار حياتنا واغتنام أوقاتنا فيما ينفعنا دنيويًّا وأخرويًّا، إن شاء الله تعالى.. فما أحوجنا إلى استثمار حياتنا واغتنام عمرنا بما ينفعنا ويفيد مجتمعنا ووطننا. فاللهم ارزقنا البركة في أوقاتنا وأعمارنا وحياتنا.

الزمان في مُدوّنات النقد الأدبي

يُعدّ الزمان مقياسا رئيسًا من المقاييس التي راعاها النقّاد في التنظير والتطبيق، ودليل ذلك أنه أحد قوانين الوحدة في مرآة أرسطو، فيما يُسمّى (وحدة الزمان). أما عن نقدنا العربي فلي بحثٌ عن (المدونات النقدية الأولى عند العرب) ذكرتُ فيه أن في تراثنا النقدي رعاية للزمان، ودليل ذلك ما قرّره بِشْر بن المعتمر في صحيفته التنظيرية، والذي جعلته تحت عنوان “استثمار لحظة الإبداع”، حيث يقول: “خذ من نفسك ساعة نشاطك وفراغ بالك وإجابتها إياك، فإن قليل تلك الساعة أكرم جوهرًا، وأشرف حسبًا، وأحسن في الأسماع، وأحلى في الصدور، وأسلم من فاحش الخطاء، وأجلب لكلّ عين وغرّة، من لفظ شريف ومعنى بديع. واعلم أن ذلك أجدى عليك مما يعطيك يومك الأطول، بالكدّ والمطاولة والمجاهدة، وبالتكلف والمعاودة. ومهما أخطأك لم يخطئك أن يكون مقبولاً قصدًا، وخفيفًا على اللسان سهلاً، وكما خرج من ينبوعه ونجم من معدنه”.

فنحن هنا أمام ناقدٍ يقدّر الطبعَ حقَّ قدره، ويعطيه المكانة الأولى في الإبداع، وأمام ناقد يعرف المستهدفَ من كلِّ إبداعٍ وهو الذي سجّله بقوله: “أجلب لكلّ عين وغرّة، من لفظ شريف ومعنى بديع”، فالطبع سبب كل إبداع جديد طريف كالعين والغرة، وهو سبب إنتاج هذه الثنائية الفنية العالية (اللفظ الشريف)، و(المعنى البديع).

وهذا النص النقدي سيكون له صداه عند ابن قتيبة الذي قرّر في مقدمة كتابه “الشعر والشعراء”، حيث ربط اختلاف شعر الشاعر بعامل الزمان وتبدل الحال، فقال: “وللشعر تارات يبعد فيها قريبه، ويستصعب فيها ريّضه، وكذلك الكلام المنثور في الرسائل والمقامات والجوابات؛ فقد يتعذّر على الكاتب الأديب وعلى البليغ الخطيب. ولا يُعرف لذلك سبب، إلّا أن يكون من عارض يعترض على الغريزة من سوء غذاء أو خاطر غمّ، وكان الفرزدق يقول: أنا أشعر تميم عند تميم، وربما أتت عليّ ساعة ونزع ضرس أسهل عليّ من قول بيتٍ، وللشعر أوقات يسرع فيها أتيّه، ويسمح فيها أبيّه. منها أوّل الليل قبل تغشّى الكرى، ومنها صدر النهار قبل الغداء، ومنها يوم شرب الدواء، ومنها الخلوة في الحبس والمسير، ولهذه العلل تختلف أشعار الشاعر ورسائل الكتاب”.

فالإبداع الشعري لا يكون في كل الأوقات والظروف بل إنه يأتي الشاعر في أوقات محددة وأحوال معينة…

وهذا كتاب “طبقات فحول الشعراء” من الكتب النقدية المبكرة في تراثنا النقدي، وهو لعالم عربي قحّ هو ابن سلام الجمحي (ت231هـ)، وقد قسّم كتابه إلى طبقات، واعتمد في التقسيم على جملة مقاييس أهمها مقياس الزمن، ودليل ذلك ذكره لطائفتي الشعراء الجاهليين والشعراء الإسلاميين. وقسم كل طائفة من الطائفتين إلى عشر طبقات، كل طبقة تتألف من أربعة شعراء، وقد راعى الزمن في الترتيب الداخلي لكل طبقة.

وتطور هذا المقياس الزماني عند كُتّاب التاريخ والسِّيَر حين راعوه في تآليفهم، ثم تطوّر فيما يُسمّى (المنهج التاريخي) الذي ينطلق من قاعدة نقدية، هي أن الشاعر ابن البيئة ولا بد للابن أن يحمل ملامح أبيه أو جزءا من خصائصه على أقلّ تقدير؛ فالمنهج التاريخي لا يقف عند الأحداث التاريخية يسطّرها بل يتعدّاها إلى الرؤية الجمالية في التعبير الأدبي؛ لأن “اعتبار الشعر وثيقة تاريخية أمر ينطوي على خطر وتزييف كبيرين، فالشعراء لا يصوّرون الواقع كما هوفي حقيقته ولكن كما يرونه رؤية أدبية، ومعنى ذلك أنه يجب أن نفرّق بين الأدب عامة والشعر خاصة بين حقيقتين: الحقيقة الواقعية، والحقيقة الأدبية “.

ويقوم المنهج التاريخي على عدّة أسس نقدية وإجراءات موضوعية من أهمها: ترجمة الشاعر ومعرفة سيرته وتتبّع حياته ومراحل نشأته والظروف المحيطة به، تفسير النصوص الأدبية وفق المؤثرات التاريخية المتمثلة في المكان والزمان. ويستعين الناقد في المنهج التاريخ بتاريخ العصر ونُظمه السائدة لاستجلاء النص الأدبي، وإدراك ما خبّأ الزمن وراء حروفه، وهو يستعين بالعصر على الفهم، فالتاريخ لديه وسيلة للنقد. والفنون يجب أن تُدرس وتُفسّر على أنها نتاج الظروف الجغرافية والمناخية والاجتماعية التي عاش فيها الفنانون. وفي النقد الحديث نجد أدب الطفل، وأدب الشباب، وأدب الشيوخ، وأدب القدماء، وأدب المحدثين، وأدب المعاصرين. وفي كل مصطلح من هذه المصطلحات رعاية لبعد الزمان.

عبد الوهاب برانية 3
د. عبد الوهَّاب برَّانِيَّة (جامعة الأزهر- مصر، معهد الوسطية وثقافة السلام – جيبوتي)

في أيّة مرحلةٍ من أعمارهم يولد الشعراء؟ .. أنموذج من تجربتي الشخصية مع الشعر

هذا سؤال وجّهته إلى نفسي أولا، حين واتتني التجربة الشعرية متأخرة قبيل تمام العقد الخامس من عمري، كان ذلك في عام ألفين وخمسة عشر، وكنت وقتها مُدرّسًا بكلية اللغة العربية فرع جامعة الأزهر في “إيتاي البارود” محافظة “البحيرة” من أعمال جمهورية مصر العربية، وكانت الكلية تُعِدُّ لمهرجان شعري في ختام ذلك العام الجامعي، ولم أكن قبل ذلك الموعد أُحسَب على الشعراء والمبدعين، على أيّ نحوٍ من الأنحاء؛ إذ لم أقدّم للساحة الأدبية قصيدة واحدة يمكن أن أُدرَج بها في عالم الشعراء، وفي ليلة يأتي المهرجانُ الشعريُّ في صبحها، وجدتني خاضعًا فيها لحالة، لا أستطيع وصف معالمها، ولا تصوير هيئتي فيها، سوى أني وجدت نفسي ممسكا بالقلم لأخطّ به على الأوراق البيضاء أول قصيدة مكتملة المعالم، في أربعة وخمسين بيتا أخاطب فيها وطني الحبيب “مصر” بعد أحداث يناير/ جانفي 2011م وكان مستهل القصيدة:

هل تأذنين حبيبتي لشويعر — مثلي يجوب بأوسع الرحباتِ

يحكي حكاية أمَّةٍ قد أوجعتْ — أو فُجِّعَتْ في أشهر نحساتِ

يحكي حكاية أمَّهِ أو مصرهِ — قد أُنهِكَتْ بفيارس الثوْراتِ

عجبت أشد العجب مما حدث معي تلك الليلة؛ إذ كانت الأبيات تتزاحم في عقلي، وتتسابق في التسجيل على الأوراق، وكأنها كانت في حالة مخاض، وحانت لحظة ولادتها ومجيئها للحياة.

لم أجد عندي تفسيرا لتلك الحالة سوى أنها كانت بداية الانطلاق لموهبة كانت كامنة منذ عقود، ثم راحت تعلن عن وجودها بقوة، وتبشّر بميلاد شاعريّتي، ومن ثم أسفرت تجربتي الشعرية عن ثمانية دواوين، جاوزت الخمس المئات من القصائد، في تسعة أعوام، والسؤال الذي يطرح نفسه في ظل تلك التجربة الإبداعية: هل يولد الشعراء فجأة أم أن لمولدهم إرهاصات تنبئ به؟

وهل لا بد من بيئة حاضنة ينشأ الشاعر في ظلها وتتربّى مَلكته في معاطفها؟

فالشاعر “زهير بن أبي سُلمى” وُلد في ظل تلك الحواضن الشعرية، فأبوه “معاوية بن رباح المزني” كان شاعرا، وخاله “بشامة بن الغدير الغطفاني” كان شاعرا، ولما توفي أبوه، وتزوجت أمه بـ “أوس بن حجر” الشاعر المعروف، صار “زهير” من رواة أشعاره وتلميذا في مدرسته، وابنا “زهير”: بجير وكعب كانا شاعرين، وابنتاه: سلمى والخنساء (وهي غير تماضرة شاعرة بني سليم) كانتا شاعرتين، فزهير شاعر نشأ وتربّى في كنف الشعراء، وأثمرت حياته لَبِناتٍ شعريةً، أضحت أيقونات للشعر في عصرها.

هذا عن “زهير”، وشاعرّ جاهلي آخر مثل “زياد بن معاوية بن ضباب الذبياني الغطفاني المضري” وهو من أشهر وأهمّ شعراء الطبقة الأولى في العصر الجاهلي، كان يُلقّب بـ “النابغة الذبياني” لأنه كان نابغًا في الشعر، فقد تفوّق وأبدع فيه دفعةً واحدة، ويقال: إن الشعر جاءه على كبر، فأجاد فيه وأمتع، فلّقِّب بـ “النابغة” وصار مُحَكَّمًا بين الشعراء في سوق عكاظ، مَن أجاد منهم قدَّمه ورفعه، ومن أساء أخَّره وخفضه. فإن كانت بيئة “زهير” هي حاضنته الشعرية فما حاضنة “النابغة” إذً؟ سألت نفسي هذا السؤال حين واتتني التجربة الشعرية مرة واحدة عام 2015م وبحثت عن حاضنة لتجربتي، فلم أقف على شيء ممّا ينسب لسجلّ الشعراء في بيئاتهم الشعرية؛ فليس لأحد مِمّن أعرف من أسرتي ارتباط مَّا بعالم الشعر والشعراء، ولست أزعم بهذا أني أَشْبَهُ في حالتي الشعرية بنابغة ذبيان، فلست ممّن يمتدح نفسه أو يحب أن يمتدحه الآخرون، لكني أوصِّف حالة، وأربط الخيوط ببعضها.

وغاية ما أعرفه من أمر حواضني الشعرية أن بدايتي كانت مع الشعر قراءة وتذوّقًا، قبل أن تكون نظمًا وإبداعًا، كان ذلك منذ عهد الطلب في البدايات الأولى والمراحل التعليمية المتنوّعة منذ المدرسة الابتدائية، إلى نهاية التعليم الجامعي، ثم الدراسات العليا؛ حيث كنّا ندرس الشعر قصائد كاملة ونماذج مختارة، وشواهد شعرية داعمة لقوانين اللغة والنحو والبلاغة، وكنا نستمع إلى تلك النماذج بأداء أساتذتنا مضبوطة ضبطًا صحيحًا، ومنطوقة بلسان عربي مبين، فكُنّا مأخوذين بأداء الأساتذة وبالنماذج المختارة التي تغذّي العقل والفكر والوجدان، فنستدعيها في كل وقت وكل مناسبة، في المحافل والمجامع والمنابر وغيرها.

كانت تلك البدايات مع الشعر – على تواضعها – مثمرة وذات دور مهمٍّ في حب الفن الشعري، لكنها لم تصنع شاعرًا، حتى مع القراءات الوفيرة والغزيرة في ديوان الشعر العربي دون التقيّد بمنهج دراسي أو عصر محدد أو اتجاهٍ مَّا؛ لأن صناعة شاعر في حاجة – إلى جوار ذلك كله – لموهبة تدعم هذه الثقافات والقراءات وتدفع في طريق الشعر، فليس كل من قرأ أو درس وتذوّق الأدب بأديب، فكما أن الموهبة وحدها لا تنهض بهذا العناء، كذلك الحصيلة الثقافية والمعرفية وحدها لا تنهض بدور الإبداع، وحتى تلك المحاولات التي تنطلق معتمدة على واحدة من هذا الثنائي، فإنها وإن كُتب لها الظهور لم يكتب لها النجاح بالقدر الذي يؤمل منها أصحابها، والمقياس الذي نقيس به هذا النجاح هو القارئ، ولست أقصد حجم المبيعات للمجموعات الشعرية المطبوعة التي توالينا بها دور النشر العربية وغيرها، وإنما المقياس الذي أحتكم إليه هو العنصر الأساسي المستهدف من عملية الإبداع، لأن الموهبة انطلقت من أجل المتلقّي، وإليه تُوَجَّهُ تلك الرسالة الإبداعية، فكأن ربّة الشعر تفضّلت على صاحب التجربة، فمنحته بعض أدواتها، وهمست إلى القلم بأن يحسن استقباله، فيكون مطواعًا له، غير متأبٍّ على الشاعر الذي درج على سلّم الشعر في بداية عامه الخمسين.

لا استطيع القول – إذًا – بأن وحي الشعر جاء بغتة ودون سابق إخطار، بل الذي أستطيع قوله: إن التجربة الشعرية لدى الشاعر كانت كامنة في الضمير الإبداعي لديه – إذا جاز التعبير- كشف عنها وجلَّاها وأظهرها للوجود عوامل: لعل على رأسها ذلك الانفعال القوي الذي سيطر على وجدان الشاعر تجاه الأحداث التي شهدتها البلاد العربية – وفي القلب منها مصر الحبيبة – فيما يُسمّى بـ “ثورات الربيع العربي”، تلك الثورات التي راحت تتهدد تلك الأقطار وتنذر بتقسيمها، كان الشاعر يبحث عمّا يمكن أن يقدمه لوطنه في هذه المحنة التي ألمّت به، ولمّا كان الشعر رسالة إبداعية لم يكن من سبيل أمام تلك الملَكة الكامنة في الضمير إلا الانطلاق من عقالها، والإعلان عن تمرّدها على محاولات تغيير هوية الوطن، وزعزعة استقراره.

انطلقت ربّة الشعر داعمة في هذا الاتجاه، فإذا بها أمام تحدّيات كبيرة، كثيرة ومتنوعة، ووجد الشاعر نفسه في مواجهة مع تحديات فكرية ودينية مغلوطة، وسهام مسمومة تريد النيل من الوطن، فكان من واجبه أن يقف حائط صدٍّ في مواجهة كل تلك التحديات.

فأستطيع يا قارئي العزيز أن أقول: إن الشاعر الموهوب لا بد أن يتربّى في مهادِ بيئةٍ حاضنةٍ له، سواء أكانت تلك البيئة ممثلة في محيطه الأسري، أو بيئته الثقافية والمعرفية، ومخزونه التعليمي، الذي يسمح بمجاراة الموهبة الشعرية والاتكاء عليه في عملية الإبداع، حتى تتلاقى لحظات المكاشفة بأسرار الإبداع التي وهبها عز وجل الله للشعراء، فتولّد على إثرها القصائد الشعرية، وتنهمر التدفقات اللغوية لتحتل الكلمات موقعها المُعبِّر عن الحالة الشعورية التي تنتاب الشاعر، وتسيطر بكليتها عليه، وتقتاد أدواته الفنية لتؤدّي دورها الطبيعي في إفراغ تلك الطاقة الإبداعية على هيئة قصيدة مكتملة الأدوات والعناصر. فربما جاءت القصيدة في لحظة واحدة ودفقة شعورية جارفة، كما تجيء الموهبة مرّة واحدة وتطغى، معلنة عن نفسها، دون إرهاصات بمجيئها، إلا بما تختزنه في عمر مخاضها الممتد في عنصر الزمن والفضاء الثقافي المتراكم والمهيء لذلك المجيء.

إن عالم الشعراء في الحقيقة عالم عجيب وغريب، كأنه مختلف عن عالم البشر، فهُم وإن كانوا بشرًا لكنَّ لهم أحوالا مختلفة عن بقيّة البشر، فهم معنا وليسوا معنا، وهم يولدون مثلنا، لكن ميلادهم يكون من رحم خاصة، ومدة مخاضهم تزيد وتنقص، بحسب اكتمال نموّهم واستعدادهم لاستقبال الحياة والتعايش مع النظراء؛ وقد عبرت عن “عالم الشعراء” بتلك القصيدة القصيرة التي أجعلها في ختام مقالتي:

يا من تراني في الحياة نموذجا — هل غاب عنك بأنني مشروع شاعرْ؟

يمتاح من عذب المعاني شعرهُ — ويلوك بين فكاكه ألفاظ ساحرْ

آنًا يحلق في الفضاء كأنه — قد ضم في أعطافه أجناح طائرْ

وتراه آنا قابعا متهاويا — متكورا بين المهاوي والحفائرْ

يلقاك دوما باسما وكأنه — لك دون غيرك باسمُ الشفتين فاغرْ

هو ذاك دوما قد غدا متبسما — بين المدائن والحفائر والدساكرْ

هو عالم الشعراء غير منازَعٍ — سرٌّ عميقٌ في حشـى الأكوانِ غائرْ

22

سمر توفيق الخطيب (باحثة فلسطينية – لبنان)

الوقت في حياة الإنسان.. إنّما أنت أيامٌ معدودة…!

 العرب والوقت

الإنسان بفطرته مجبول على تتبّع الوقت لكي يرقى بإنسانيته فيتمكّن من تنظيم حياته وتحقيق أهدافه.

لقد اهتم العرب، ومنذ القدم، بمسألة الوقت نظرًا لأهميته وفائدته. فمع حسن استخدام الوقت تمكّن العرب من تصنيف أعمالهم ومهامهم اليوميّة لتحقيق أهدافهم الشّخصية التي يسعون للوصول إليها. فقد استخدموا الشّمس والقمر والنّجوم لتحديد الوقت، فالشّمس تطلع لتعلن عن بداية اليوم، في حين أّن القمر يعلن عن بداية الشّهر، أما النّجم فيعلن عن بدء الموسم. ومع مرور الوقت، تمكّن الإنسان من اختراع عدة طرق لتقسيم دورات طبيعية ليومه كالسّاعات المائية والسّاعات الرّملية والأجراس والآذان للإعلان عن دخول وقت الصّلاة. فإلى يومنا هذا ما يزال توقيت الصّلاة يُعتمد لضرب المواعيد بدلًا من استعمال توقيت السّاعة، فقد يقال، على سبيل المثّال: “نلتقي بعد صلاة الظهر”.

الإسلام والوقت

يقول تعالى: ﴿خَلَقَ السَّمَوَاتِ وَالْأَرْضَ فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ وَكَانَ عَرْشُهُ عَلَى الْمَاءِ﴾ (سورة هود: 7). ومن هذا المنطلق فقد حثّ الإسلام على حسن استثمار الوقت وعدم التّفريط به. فعلى كل منّا أن يحسن الزّرع، لتثمر حياتنا ونفوز بحصاد الآخرة. فالزّمن لن يعود. والوقت هو الحياة، يقول تعالى: ﴿فَاسْتَبِقُوا الْخَيْرَاتِ﴾ (سورة البقرة: 148). ولكي نفلح في الحياة، علينا أن ننظم الوقت ونحسن التّخطيط، بحيث نضع الأهداف ونحدّد الأولويات؛ ما يجنّبنا الدّخول في دوامة الفراغ المُفسد.

فكل منا لا بد من أن يتمتع بثقافة حسن استثمار الوقت، فلنغتنم الوقت ونبذل الجهد ونضع الخطط لتحقيق الأهداف المرجوة. وعلينا أن نسعى دائمًا للفوز بسعادة الدّارين الأولى والآخرة، وإلا سوف نندم حيث لا ينفع النّدم. وفي هذا الصّدد، يقول تعالى: ﴿قَالَ رَبِّ ارْجِعُونِ لَعَلِّي أَعْمَلُ صَالِحًا فِيمَا تَرَكْتُ﴾ (سورة المؤمنون: 99-100).

فللوقت مكانة عظيمة في التّراث العربيّ والإسلاميّ؛ إذ يقسم الله تعالى به، فيقول: ﴿وَالْعَصْرِ إِنَّ الْإِنسَانَ لَفِي خُسْرٍ﴾ (سورة العصر: 1-2). وما من تكريم يقال في قيمة الوقت أفضل من الحديث النّبوي الصّحيح: ﴿لا تَسُبُّوا الدّهرَ فإنّ الله هو الدهرُ﴾ (رواه مسلم)، وإن كان إطلاق الدّهر على الرّبّ مجازيًّا. ويقول أمير المؤمنين الإمام علي بن أبي طالب، رضي الله عنه: ﴿اعمل لدنياك كأنك تعيش أبدًا﴾.

وهناك الكثير من القصص التي تنبّه الإنسان وتحثّه على ضرورة الاهتمام والالتزام بالوقت المُحدَّد قبل فوت الأوان. ومن هذه القصص، قصة سيّدنا نوح عليه السّلام مع ابنه، والتي ذكرها الله في قوله تعالى: ﴿وَنَادَىٰ نُوحٌ ابْنَهُ وَكَانَ فِي مَعْزِلٍ يَا بُنَيَّ ارْكَب مَّعَنَا وَلَا تَكُن مَّعَ الْكَافِرِينَ﴾ (سورة هود: 42)

وقد نصح أحد الحكماء قبيلته أن يجتمعوا في الصّباح الباكر ليتمكّنوا من الانتقال من قريتهم قبل أن تشتد الأمطار وتغزر فيجرفهم السّيل، إلا إن أحدهم لم يستجب لندائه فلم يتمكن من اللّحاق بهم، فقال: “الوقت كالسّيل إن لم تقطعه قطعك”. فهناك صراع دائم بين الإنسان والوقت، كالصّراع القائم بين الخير والشّر.

العالم الفرنسي “كوستو” يُعلن إسلامه

فها هو الفرنسي “جاك إيف كوستو” (1910 ـ 1997)، أشهر عالم في العلوم التّطبيقية وعلوم الأحياء وعلوم البحار، وأكبر عالم صاحب الدّراسات والاكتشافات الرّائدة في هذا الميدان الحيوي من العلوم وفي شؤون البحار في القرن العشرين، يُعلن إسلامه وعلى الملأ عندما وقف على منصة الأكاديمية العلمية الفرنسية، قائلًا: “لقد رأيت آيات الله الباهرة في هذه البحار التي درستها لسنوات طويلة من حياتي، ثم وجدت القرآن الكريم قد تحدّث عنها وذكرها قبل أربعة عشر قرنًا”. فقد جدّ واجتهد في دراسة عالم البحار والمحيطات لمعرفة كيف يمكن لمياه الأنهار ألّا تختلط بمياه البحار والمحيطات، حيث تجري البحار على حالها مالحة بينما تجري الأنهار على حالها حلوة، وبينهما حاجزٌ أي البرزخ، بحيث لا يبغي هذا على هذا. فوجد الجواب في الإعجاز القرآني، يقول تعالى: ﴿مَرَجَ الْبَحْرَيْنِ يَلْتَقِيَانِ بَيْنَهُمَا بَرْزَخٌ لا يَبْغِيَانِ﴾ (سورة الرحمن: 19-20). فقد أخبرنا الله سبحانه وتعالى أن هناك بحرًا ثالثًا يفصل بينهما، تختلف فيه الكثافة والملوحة وحتى الأسماك ودرجة الحرارة، فلا تختلط الأمواج والأسماك بهذه البحار والأنهار أبدًا.

العرب وتقليد الغرب

لقد تأثّر العرب بحضارة الغرب الماديّة التي تُنحّي الدّين جانبًا وتعطي كل الزخم للمال. فالغرب يقيِّم كل شيء بالمال، وفي الغرب مقولة شهيرة في هذا الصّدد، تفيد أن “الوقت مال” (Time is money)، حيث يتم تحفيز النّاس بالمال حفاظّا على الوقت، إذ إن لكل ساعة عملٍ قيمةٌ مادية تقّدر بثمن معيّن. فعمد العرب إلى تقييم حياتهم بثقافة المجتمعات الغربية نفسها. كما أن أفكار الغرب خرقت جدار قِيَمنا العربية، فتغلغلت في مجتمعاتنا وأصبحت غاية حياة الإنسان العربي مستقاة من الإنسان الغربيّ ومتمثّلة في الاستمتاع بملذّات الدّنيا، بغض النّظر عن إذا كان ذلك محرمًا أم لا. وكانت حجّتهم واهية، وهي أن الحياة قصيرة وتُعاش مرة واحدة، فركزوا على المتعة الآنية، فأضاعوا البوصلة.

بيد أنّ الوقت أجلّ من أن يُقدّر بالمال، فالإنسان سوف يُسأل بعد الموت عن عمره فيما أفناه، وعن شبابه فيما أبلاه. ومن هذا المنطلق، فإن الإسلام حثّ على العمل، وعدم تضييع الوقت؛ يقول تعالى: ﴿ وَقُلِ اعْمَلُوا فَسَيَرَى اللَّهُ عَمَلَكُمْ وَرَسُولُهُ وَالْمُؤْمِنُونَ﴾ (سورة التوبة: 105). فالمسلم وحتى وإن كان زاهدًا بالدنيا، فإن دينه يحثّه على العمل ليجني ثمرة عمله في الآخرة.

جائحة كورونا (Coved 19)

بحث بعض النّاس عن بدائل تمكّنهم من استثمار وقت فراغهم خلال جائحة كورونا (Coved 19). هذه الجائحة التي أدخلت البلاد والعباد في نفق مظلم وحبسٍ مُحكم، ما وضعهم في حيرة… وحيّر العلماء. فبعد تبدل الأحوال واضطرار النّاس، سواء للعمل من بعد أو ترك عملهم نتيجة هذه الجائحة. وجدوا أن متابعة التّعلم من بعد هو البديل الإيجابي، ليتمكنوا من الاستمرار في الجد والاجتهاد، وتقبل ما آلت إليه حالهم والسّير قدمًا في حياتهم. وهذه الجائحة حفزت العلماء والأطباء على إجراء الدّراسات ليتمكنوا من البحث عن العلاج وإنقاذ حياة الكثير من البشر.

فعلى الإنسان أن يبحث دائًما عن البدائل لحلِّ الأزمات المتتالية التي قد يتعرّض لها، ليتمكّن من الشّعور بأهمية وجوده، وفي حال استسلم فعلى الدّنيا السّلام. فالحياة قصيرة والوقت ثمين ولا يمكن أن يُعوّض، وهذا ما أكدّ عليه الدّين الإسلامي وحثّ على الاستثمار فيه. وعن أهمية الوقت، قالت “رابعة العدوية” لـ “سفيان الثّوري”: “إنما أنت أيام معدودة، فإذا ذهب يوم ذهب بعضك، ويوشك إذا ذهب البعض أن يذهب الكل، وأنت تعلم فأعمل واعتبر، ولا تقل ذهب لي درهم ودينار وسقط لي مال وجاه، بل قُل ذهب يومي ماذا عملت فيه، فإن باليوم ينقضي العمر”.

تجربة شّخصية

لن أخوض مطوّلًا في تجربتي الشّخصية، ولكن أكتفي بما قد يكون عبرة ودعوة لبذل الجهد وعدم تضييع ما تبقّى لنا من وقت. فبعد طول انقطاع عن الدّراسة بسبب انشغالي الدّائم بالعمل، ولفترة طويلة من الزمن؛ حالي كحال الكثيرين ممّن يبحثون عن سُبل أفضل للعيش الكريم؛ ونظرًا إلى ما آلت إليه الأوضاع في لبنان، ولا سيما بعد الأزمة الاقتصادية التي مرّ بها، وللأسف لا تزال تعكس آثارها حتى يومنا هذا، فقد وجدت السّلام والملاذ الآمن في متابعة دراستي الجامعية.

فها أنا اليوم أتحضّر لنيل شهادة الماجستير من الجامعة اللبنانية، وأعتزّ بذلك بعد أن تجاوزت سن الخمسين. والمضحك بالأمر، أنني عندما كنت في طور الشّباب، وكنت أتعلّم في الجامعة لنيل شهادة اللّيسانس، استوقفني، مشهد لا يمكنني أن أنساه. مشهد لامرأة عجوز يتجاوز عمرها السّبعين عامًا، كانت تتابع دراسة اللّيسانس. صراحة ضحكت مطولًا وقتها، وقلت في نفسي: “ما بقى محرزة”. وها أنا اليوم أمرّ بالظّرف نفسه، وأفتخر أنني ألملم أطرافي وأجتهد، حتى أشعر بوجودي وأنجو بنفسي، وأنمّي عقلي، ما يتيح لي أن أبقى مؤثرة في المجتمع على الرّغم من مرور الزّمن.

العبرة لمن اعتبر

فلنستثمر الوقت، فاليوم عند الله كألفِ سنة ممّا نعدّ ونحصي. إذا ما قسمنا المعادلة الإلهية للوقت، يكون عمر الإنسان ساعتين أو أكثر بقليل في هذه الدّنيا الفانية، وكلما انقضى الوقت خسر الإنسان، يقول تعالى: ﴿وَإِنَّ يَوْمًا عِندَ رَبِّكَ كَأَلْفِ سَنَةٍ مِّمَّا تَعُدُّونَ﴾ (سورة الحج: 47).

لا تهدر الوقت فتعيق حياتك وتظلم نفسك. وبغضّ النّظر عن وضعك المعيشي، ضع أهدافا أخرى لحياتك واسعَ، يقول تعالى: ﴿وَأَن لَّيْسَ لِلْإِنسَانِ إِلَّا مَا سَعَىٰ﴾ (سورة النجم: 39)، ويقول أيضًا: ﴿وَمَنْ أَرَادَ الْآخِرَةَ وَسَعَىٰ لَهَا سَعْيَهَا وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَأُولَـٰئِكَ كَانَ سَعْيُهُم مَّشْكُورًا﴾ (سورة الإسراء: 19). فطالما أنت تتنفّس اسعَ، واسعَ دون كلل أو ملل.

سلوى غيّة 3
سلوى غيّة (باحثة وناقدة – لبنان)

فلنراجع حساباتنا في مفاهيمنا.. الوقت لا ينتظر أحدًا!

 الكلّ يُردّدُ كلمات مثل: “لم يعد هناك وقت، تأخرنا، غدًا، بعد غد، في المستقبل”، لكنّ القليل منّا يتوقفون ليفكروا في جوهر الوقت وفهمه على حقيقته؛ فمعظمنا يعايش الوقت في صورته السّطحيّة فقط، من دون أن نغوص في أعماقه لندرك أهميته وقيمته الحقيقية.. الوقت، عنصرٌ يتسرّب من بين أيدينا، لكنّه يترك آثارًا لا تُمحى في حياتنا.

فالوقت، عزيزي القارئ، لا يتجسّد فقط في السّاعات التي نرتديها على معاصمنا، أوفي الشاشات التي تعرض لنا ثواني اليوم، بل هو مفهوم أعمق بكثير. هو لا يُعبّر فقط عن مرور لحظات في الزمن، بل هو محرك رئيسي لحياة الإنسان، وهو وسيلة للتأمّل والتفكير. لا يمكن للوقت أن يُختصر إلى مجرد عدّ الساعات؛ بل هو عنصر أساسيّ في بناء التجربة الإنسانيّة وتوجيه مسارات الحياة.

إذا خرجنا من دائرة القيود الزمنيّة المعتادة، نجد أنفسنا أمام مفهوم أوسع للوقت، وهو يتجاوز كونه مقياسًا للأيام والأسابيع، وهذا ما نحتاجه. ففي الأدب، يُستخدم الوقت كرمز للحركة والتطور. هو يُشكّل المحور الذي تدور حوله العديد من القصائد والكتابات الأدبيّة، ويُوظّف للتعبير عن مختلف مشاعر الإنسان. الشعراء والأدباء، عندما يتناولون موضوع الوقت، لا يقتصرون على الحديث عن الوقت الماديّ فقط، بل يتطرّقون إلى البُعد العاطفي والفلسفي لهذا المفهوم.

في الأدب العربي، ارتبط الوقت بقوّة بمفاهيم الحياة والموت. استخدم الشعراء الوقت للتعبير عن همومهم وقلقهم بشأن مرور الزمن، واعتبروا أن الوقت يُحرك الواقع ويؤثّر في مصير البشر. هؤلاء الشعراء لم ينظروا إلى الوقت على أنّه مجرّد دقّة متسارعة للساعات، بل جعلوه رمزًا لحياة الإنسان التي لا تعود ولا تتوقف، فعبروا الوقت وخلدوا!

فالوقت، في نظر الشاعر، ليس كائنًا عابرًا، بل هو جوهر مستمر يعكس عمق الحياة والتّجارب التي يعيشها الإنسان. هو مرآة للمشاعر والتّقلبات التي تطرأ على الوجود البشري، من الحبّ إلى الفقدان، ومن الأمل إلى النّدم. وفي النهاية، يبقى الوقت هو الذي يقيس المسافة بين ميلاد الأمل وانطفائه، ويُحدد كيف نعيش وكيف نغادر.

الشعراء ينظرون إلى الوقت كقوّة خارجة عن إرادة الإنسان، قوّة تحدد مصير الإنسان وتوجيهه، وعلى الرغم من أنّ الوقت يظلّ في النهاية متسارعًا، فإنّ الشعراء قد حاولوا مرارًا أن يحوّلوا هذا الزمن إلى تجربة مفعمة بالمعنى، فربطوا بين الإنسان والوقت لخلق روابط أعمق وأشدّ تأثيرًا على فهم حياتنا.

فالوقت كان له حضوره اللافت في الأدب العربيّ على مرّ العصور، ولا سيما في الشِّعر، فقد أخذ حيّزًا ليس بالهيّن، حيث أُعتبر عنصرًا أساسيًا في التعبير عن صراعات الحياة المختلفة.

فالشاعر لم ينظر إلى الوقت كمسألة حسابيّة فحسب، بل وسّع نظرته إلى ما هو أبعد من ذلك، حيث نظر إليه كإشارة للتحولات الكبرى في الحياة: الموت والميلاد، الفراق والفقدان، الألم والوجع، الأمل والحلم. ومنهم من اعتبره وسيلة لتحقيق النّجاحات والطموحات والإنجازات.

فها هو “أحمد شوقي” يقول:

دقات قلب المرء قائلة له — إنّ الحياة دقائق وثواني

يُعبّر “شوقي” عن فلسفة الحياة والوقت، ونجده يوظّف “دقّات قلب المرء” كرمز للزمن الذي يمضي ولا يتوقف، فكلّ دقّة في القلب تُمثّل لحظة من لحظات الحياة. فيمثل لنا هذه الدّقّات كعقارب السّاعة كلاهما مرتبطان، فالحياة لا تتوقف وكلّ لحظة تمرّ تقترب بنا من النهاية.

ويُشير أيضًا إلى أنّ الحياة قصيرة للغاية، وأنّ الزمن يمرّ بسرعة لا يمكن لإنسانٍ إيقافها أو التّحكّم بها، فكلّ دقيقة وثانية تحمل قيمة كبيرة ويجب أن يتمّ استغلالها جيدًا لأنّ الوقت لا يعود.

فالشاعر هنا يحثّنا على أن نُقدّر الوقت ونستغل حياتنا بشكلٍ مثمر…

يُطالعنا “المعري” برؤيته ونظرته للزمن وكأنّه قوّة قاهرة، يُظهر فيها الشاعر مشاعر الخضوع والتسليم لسلطة الزمن، بقوله:

مطيّتي الوقت الذي ما امتطيته — بودّي ولكنّ المهيمن أمطاني

البيت يعكس صراع الإنسان الأبدي مع الزمن؛ فالشاعر في سعيه إلى الركوب على الزمن والسّيطرة عليه، يكتشف في النّهاية عجزه، ويُعبّر عن تسليمه لسلطة الزمن التي تفوق إرادته.

ثمّ يُلفتنا قولًا لـ “الوزير بن هبير” إذ يقول:

والوقت أنفسُ ما عُنيتَ بحفظه — وأراهُ أسهلَ ما عليكَ يضيعُ

الشّاعر هنا يُعبّر عن التّناقض بين قيمة الوقت وسهولة ضياعه؛ فبالرغم من أنّ الوقت من أغلى الأشياء التي يجب أن يوليها الإنسان اهتمامه، إلّا أنّ الإنسان غالبًا ما يضيع الوقت بسهولة، إمّا بسبب الإهمال أو بسبب انشغاله بأمور أخرى قد تكون أقلّ أهمية.

الشاعر يُحذّرنا من أنّ الوقت يمرّ بسرعة، وأنّه من السّهل أن نضيعه إذا لم نكن حريصين عليه. وهذا يأتي كدعوة للاهتمام بالوقت واستثماره بشكل جيد.

في هذا البيت، يُعبّر الشاعر عن فلسفة الإنسان تجاه الزمن، وكيف أنّه رغم أهميته العظمى، يميل الإنسان إلى إهماله، فيشعر بأن الوقت “أسهل ما يضيع”، أي أنّه يمضي بسرعة كبيرة وقد يضيع من دون أن ندرك ذلك.

هذا يعكس فكرة أنّ الإنسان يميل إلى التّضحية بالوقت لأمور أقلّ قيمة، ويُشجعنا الشاعر على إعادة النظر في كيفية استخدامنا للوقت وكيفية تقديره.

البيت يُحذّرنا من كيفية هدر الوقت رغم أنّه أغلى شيء يمكن أن نملكه. إنّنا غالبًا ما نضيعه بسهولة من دون أن ندرك قيمة لحظاته، وهو دعوة للإنسان ليكون أكثر وعيًا في استخدامه للوقت، لأن الوقت لا يعود بعد أن يمرّ.

فالوقت في الأدب يحمل معاني عديدة، منها الزمان الذي يحدّ الإنسان، ومنها القوّة والتّحدي والممانعة. فنجد أنّ الوقت بالنسبة للشعراء كان مسرحًا للتأمّل في عجينة الحياة المصنوعة من الولادة والموت، النّجاح والفشل، الأمل والألم، اللقاء والفراق، الحزن والفرح، القبول والرّفض، التّأقلم والنّفور، الحبّ والكره… “الوقت كالسّيف إن لم تقطعه قطعك”

قولٌ ينظر فيه قائله بعين البصيرة الثّاقبة، فيُحتّم فيه ضرورة استثمار الوقت، ويشبّهه بالسّيف الحادّ الذي إن لم تُمسكه بقوة، سيتخطاك ويقطعك.. يعكس هذا المعنى ضرورة السعيّ الحثيث وراء الفرص، لأنّها إن فاتتك قد لا تعود.

لا أُخفي عليكم أنني مِن أولئك الذين بنوا أفكارهم على هذا القول، فقد جعلته توقيعًا لي على أيّ كتاب أقرأه أو أيّ عمل أقوم به. كما أنّني وضعته نُصبَ عينيّ منذ الصّغر، لأعي تمامًا حقيقته.

لقد كان هذا القول بالنسبة لي بمثابة مُرشد وصار له مكانة في حياتي كدليل يوجّهني في مسيرتي اليوميّة.

حتّى لا نطيل عليكم، وبعدما استعرضنا كيف أقحم بعض الشعراء موضوع الوقت في كتاباتهم، يمكننا أن نستنتج أنّهم نظروا إلى الوقت كرمز عميق يحمل بين طياته معاني فلسفيّة تدعونا إلى إعادة النظر في فهمنا للوقت، وأن ندرك أنّه ليس مجرّد مقياس زمني للوجود، بل هو قوّة محوريّة تؤثّر في مسار حياتنا وتوجهاتنا.

فالوقت، عزيزي القارئ، يمكننا أن نعتبره بثقة كالثروة، فإن لم يتم استثماره بشكل جيد، فسيضيع حتمًا من دون جدوى. يمكننا اعتباره مصدرًا ذا نفع، تمامًا كما نعتبر المال مصدرًا قيّمًا يمكنه تحسين حياتنا. ومن هذا المنطلق، يُحتّم علينا أن “نعي الوقت” بكل تفاصيله وجوانبه، وأن ندرك تمامًا كيفية استخدامه بما يعود علينا بالنفع. فالإنسان الذي يعي قيمة الوقت سيدرك حتمًا قيمة اللحظات الحياتيّة.

 

محمد ياسين رحمة - الجزائر

محمد ياسين رحمة - الجزائر

اقرأ أيضا

آخر الأخبار
البنك الأوروبي يحذر من تداعيات الحرب التجارية على الاقتصاد العالمي حجز 1.7 مليون قرص مهلوس بإن أمناس وزير الداخلية الفرنسي يُحمّل "روسيا" مسؤولية طرد بلاده من القارة الأفريقية شبح المجاعة يهدد غزة وإغلاق المعابر يفاقم الوضع فلكيا.. هذا موعد عيد الفطر بالدول العربية مجموعة "أ3+" بمجلس الأمن تدعو إلى وقف إطلاق النار في السودان سعيود يأمر بتعجيل إجراءات إنشاء شركة مختصة في النقل الجوي الداخلي طقس.. أمطار ورياح قوية مرتقبة على هذه الولايات ارتفاع أسعار النفط عالميا فلسطين تُشيد بتقرير أممي يُدين جرائم الاحتلال ويُوثّق ارتكابه إبادة جماعية بداري يطمئن على جرحى حادث انقلاب حافلة نقل جامعي بسطيف الجزائر تُؤكد التزامها بتمكين المرأة اقتصاديًا واجتماعيًا نحو تعزيز التعاون الجزائري الألماني في مجال الطاقات المتجددة والهيدروجين الرئيس تبون: "منصب حدادي في الاتحاد الإفريقي يؤكد مكانة الجزائر القارية" عطاف: "مفتاح حلّ الأزمة الليبية يكمن في وضع حدّ للتدخلات الخارجية" لمواكبة التحولات الرقمية.. وزير التجارة يؤكد على تطوير المركز الوطني للسجل التجاري وزير النقل: "نعمل على تحديث مطار الجزائر الدولي باعتماد أحدث التكنولوجيات" الجزائر تدافع عن ضحايا الألغام المضادة للأفراد بمجلس حقوق الإنسان بالأسماء.. تعرف على أعضاء مجلس الأمة المستمرين بعد قرعة التجديد إصابة 17 شخصًا في انقلاب حافلة نقل طلبة بسطيف