تُعرف الشاعرة الفلسطينيَّة “نهى شحادة عودة” في المجتمع الأدبي العربي باسم “ياسمينة عكَّا”، أبصرت النُّور في مُخيَّمات اللاَّجئين في لبنان ذات يومٍ مُندسٍّ بين أعوام ثمانينيات القرن الماضي، وتعود أصُولها إلى قرية شَعَب في قَضاء عكّا بفلسطين.. هي ناشطة ومناضلة من أجل الحفاظ على الثقافة والذاكرة الفلسطينيَّة وضمان توريثها لأجيال اللاّجئين.. نشرت رواية واحدة وعددًا من الدواوين الشِّعرية، وخصَّت جريدة “الأيام نيوز” بمجموعة من القصاصات التي تستحضر فيها حكايات جدَّتها عن كوابيس التَّهجير، ومآسي الرحلة نحو المجهول، وأحلام العودة إلى أرض فلسطين.. وتقتنص بعض الأقاصيص والمواقف والمشاهد من طفولتها، ومن تفاصيل حياتها اليوميَّة في مخيَّمات اللاجئين..
عندما بلغت “مريم” من العمر 12 عامًا، التحقت بمعسكر في المخيّم تابع لحركة التحرير الوطني الفلسطيني (فتح)، كانت تذهب إلى معسكر التّدريب، فترتدي البدلة العسكرية الخاصة بـ “الزّهرات” وهي تسميّة من التّسميات التي أطلقها الشهيد الراحل “ياسر عرفات” على فئات المُعسكر، إضافة إلى فئة “الأشبال”. البداية كانت بترديد النشيد الوطني الفلسطيني، ومنذ ذلك الحين أدركت “مريم” أنَّ سكّان المُخيّم هم فلسطينيون هُجِّروا من بلادهم فلسطين، وأنَّ أرضهم اغتصبها الصهاينة، والوقوف أمام العلم الفلسطيني وترديد النشيط الوطني لفلسطين كل صباح هو تأكيد بأنَّ الإقامة في المخيم مؤقَّتة، ولا بدّ من العودة إلى الوطن مهما طال الزّمن.
قالت مريم: لم أكن طفلة عادية، كانت تحيط بي الأسئلة الكثيرة، وكنت متيّمة بالأجوبة شرط أن تكون مقنعة. وبدأ حلمي بالعودة إلى فلسطين يتبرعم.. عاصرت جيلا عاش النكبة ومآسي التّهجير القسري، وكنتُ أستمع بشغف إلى البطولات التي سطّرها الشهداء على ثرى أرض أجدادي. بدأت تخيّلاتي تزداد كل يوم فلسطين وقضيّتها وجغرافيّتها وشعبها الذي تفرّقت به الدرّوب والوجهات..
في ذلك الوقت بدأتُ بالتردّد الدائم على معسكر تدريب لـ: الأشبال والزّهرات، كانوا يقدِّمون لنا وجبات الطعام، يعلِّموننا المشية العسكرية، إضافة إلى الدّورات الخاصة بالقضية الفلسطينية. كنا نقيم الاحتفالات الوطنية وكانوا يختارون صوتا جميلا عذبا ليغنّي الأناشيد الوطنية.
ذات مرّة كان هناك احتفال كبير، وسمعنا بأنّ القائد “ياسر عرفات” (أبو عمار) سوف يحضر ليرى: الأشبال والزّهرات. كنت أنا ضمن وحدة الزّهرات، شعرت بفرح شديد، فهي المرة الأولى التي سأراه فيها.. هذا الرجل الذي حفظنا اسمه وعرفنا قوته وحبه لوطنه ولأبناء شعبه. كنّا نؤمن به، وبأنه لسان فلسطين وكل أبنائها، والحامل للقضية الفلسطينيّة ومأساة الشعب الفلسطيني داخل الوطن، وفي بلدان اللجوء، وفي كل مكان في هذا العالم.
بدأت مراسم المهرجان الوطني، وتقدَّمنا الصفوفَ الأمامية نحن: الأشبال والزهرات، واستطعتُ أن أصل إلى القائد “ياسر عرفات”، حيث لم تكن حواجز بيننا وبينه.. كنّا نشعر بقربه وبأبوّته. وكنّا نرى المتغيّرات الكثيرة التي طرأت على المخيّم منذ وصول “الثوّار”، هذا الشيء جعلني سعيدة جدّا.. وحينما رجعت إلى منزلنا، لم أكفّ عن سرد ما حدث في ذلك اليوم.
في كل مناسبة يُقام فيها احتفالٌ أو مهرجان وطني، كنت أسأل أمي – رحمها الله – عن سبب خروجنا من فلسطين، فكانت أجوبتها دائما حزينة ومشحونة بالحُرقة والغُصّة والألم.. لقد طال الزمن ونحن مُبحرون في الغياب ونتوارث الغربة “الإجبارية”، والحنين إلى الوطن يزداد اشتعالا في كل يوم، ويلازمه الخوف المستمرّ من المجهول الذي نُسمّيه: “المستقبل”.