أولمبياد الفضائح!.. باريس تشهد العشاء الأخير

بعد 15 يوما، شهدت خلالها العاصمة الفرنسية “باريس” مسلسلا من الفضائح والفوضى والممارسات الهابطة، اختُتمت – يوم الأحد 11 أوت – فعاليات النسخة الأكثر جدلا في تاريخ الألعاب الأولمبية، والتي تصاعدت حولها الانتقادات منذ حفل الافتتاح على خلفية إقامة عروض تروّج للانحراف وتسيء للأديان السماوية وللأخلاق العامة، من خلال عرض مُحاكاةٍ ساخرة للوحة “العشاء الأخير” للفنان “ليوناردو دافينشي” المعروفة بأنها تُصوّر النبي عيسى (عليه السلام) وتلامذته.

=== أعدّ الملف: حميد سعدون – سهام سوماتي – منير بن دادي ===

ورغم أن منظّمي دورة الألعاب الأولمبية في باريس، اعتذروا لكل شخص شعر بالإهانة من العرض الفني، إلا أن اعتذارهم، جاء ملتبسًا بتبريرات مغلوطة لما تضمنته فقرات فاضحة شجبها عموم الناس عبر أنحاء العالم، فيما استنكر مؤتمر أساقفة الكنيسة الكاثوليكية الفرنسية “مشاهد السخرية” من الديانة المسيحية، كما أعربت الطائفة الأنجليكانية في مصر عن “أسفها العميق” مُتّهمة اللجنة الأولمبية الدولية بأنها انحرفت عن “هويتها الرياضية المميزة ورسالتها الإنسانية”.

وانتقد رئيس الوزراء المجري، “فيكتور أوربان”، الغرب في أعقاب إعادة تجسيد لوحة “العشاء الأخير”، قائلا: “لا توجد أخلاق في العالم الغربي”، مضيفا في خطابٍ له، أن حفل افتتاح الأولمبياد أظهر “عدم وجود أخلاق لدى الغرب”. وتابع قائلا: “إذا شاهدت افتتاح الأولمبياد، ترى ذلك جليًّا. الغربيون ينكرون وجود ثقافة مشتركة وأخلاق عامة قائمة عليها”.

واعتبر “أوربان” أن الحفل الذي أقيم الجمعة 26 جويلية الماضي على نهر “السين”، جسّد “الخواء” الأخلاقي في الغرب، وأضاف: “إنهم يتخلّون تدريجيا عن الروابط الروحية والفكرية مع الخالق والوطن والأسرة، ما أدّى إلى تدهور القيم الأخلاقية العامة في المجتمع، كما رأيتم إذا كنتم شاهدتم حفل افتتاح الأولمبياد”.

وأعلن “أوربان” أن “القيم الغربية، التي طالما اعتُبرت عالمية، أصبحت غير مقبولة ومرفوضة بشكل متزايد من قبل العديد من دول العالم”، مثل الصين والهند وتركيا والدول العربية. وفي سياق مُتّصل، ندّد ” عبد الله يوليو” راعي كنيسة الروم الكاثوليك في “رام الله”، يوم السبت 27 جويلية، باستخدام فرنسا المنحرفين في حفل افتتاح الأولمبياد، معتبرا أنّ ما حدث “خطير جدا”.

وقال “يوليو” في تصريحات لوكالة الأناضول: “لا يجوز تمثيل السيد المسيح بهذه الطريقة التي تتضمّن انتهاكا للمقدسات، وأيّ استغلال واحتقار بالنسبة إليّ هو عملية مقصودة لتشويه المفهوم الديني ومحاربة الأديان وليس الدين المسيحي فقط”. وتابع: “إن الموضوع خطير جدا، استخدام المنحرفين عملية خطيرة لإفراغ الدين من محتواه ضمن عملية مدروسة وممنهجة من قوى مَخفية في العالم، عابرة للحدود، تستهدف القضاء على الدين”.

وإلى جانب رداءة العروض، وقع خطأ كبير في حفل الافتتاح، حين رفع الحُرّاس في نهاية حفل الافتتاح العلَم الشهير للألعاب الأولمبية بحلقاته الأولمبية الخمس على عمود في ساحة “تروكاديرو” بالقرب من “برج إيفل”، ولسوء الحظ، كان العلم معكوسا إذ تمّ قلب الحلقتين السفليتين للرمز إلى الأعلى، والشكل المُعتاد للعلم هو “ثلاث حلقات فوق حلقتين”.

وتسببت المشاكل التنظيمية والتقنية في إخراج حفل الافتتاح في أبشع صورة على الإطلاق، فلم تحسب الجهات المنظِّمة أي حساب لهطول الأمطار الذي أدّت إلى حدوث تأخيرات وتأجيلات في منافسات يوم الافتتاح، وانقطاع التيار الكهربائي عن المكان المخصَّص للإعلاميين.

بعد ذلك، حدث خطأ كارثي آخر، لدى مرور القارب الذي كان ينقل رياضيي كوريا الجنوبية في نهر “السين”، إذ تمّ تقديمهم -باللغتين الفرنسية والإنكليزية – على أنهم من “جمهورية كوريا الديمقراطية الشعبية”، وهو الاسم الرسمي لكوريا الشمالية، ما دفع حكومة كوريا الجنوبية إلى تقديم احتجاج رسمي.

وفي فضيحة مشابهة، تخلّل حفل تتويج الفائزين في منافسات الملاكمة لوزن 92 كيلوغراما، خطأ فادح عندما تم رفع العلم التايلاندي بدل علم الملاكم الطاجيكستاني “دولت بولتايف” المُتوّج بالبرونزية.

رقم قياسي في التقيّؤ

وحقّقت المنصّة الرقمية الرسمية لدورة الألعاب الأولمبية “باريس 2024” انتشارا واسعا، بعد الكشف عن تفاصيل شخصية للرياضيين المشاركين في الأولمبياد، فقد أكدت شبكة “ريليفو” الإسبانية أنه عند زيارة المنصة يمكن للمتابعين معرفة معلومات خاصة عن الرياضيين المشاركين، والتي قد تصل إلى أسماء شركائهم أو تتحدث عن أدقّ خصوصياتهم.

ووقع العديد من الرياضيين المشاركين في “أولمبياد باريس” ضحيةً لعمليات سرقة بالقرية الأولمبية، وتم إبلاغ الشرطة عن تلك الحوادث. وكشفت وكالة “كيودو” اليابانية للأنباء، أن لاعبا في فريق الريغبي السباعي سُرق خاتم زفافه وعقد ومبلغ مالي من غرفته في القرية. كما أفاد “خافيير ماسكيرانو”، مدرب منتخب الأرجنتين الأولمبي لكرة القدم، بأن بعض لاعبيه تعرّضوا للسرقة قبل مباراتهم الأولى في دور المجموعات.

وكشف السباح البريطاني “آدم بيتي” أن الرياضيين الذي شاركوا في أولمبياد باريس 2024 وجدوا ديدانا في طعامهم، منتقدا سوء تقديم الطعام في القرية الأولمبية، واشتكى “بيتي” الفائز بست ميداليات أولمبية من كمية وجودة الطعام المقدم، إذ قال إن هذا سيؤثر على أداء الرياضيين. وأوضح “بيتي”: “الطعام ليس جيدا بما يكفي للمستوى الذي يجعل الرياضيين يؤدّون بشكل مثالي. نحن بحاجة إلى تقديم أفضل ما في وسعنا”.

وأضاف: “في طوكيو كان الطعام مذهلا. في ريو كان مذهلا. ولكن هذه المرة؟ لا يوجد خيارات كافية من البروتين… طوابير طويلة، تنتظر 30 دقيقة للحصول على الطعام لأنه لا يوجد نظام للصفوف”. وأكمل: “أحب السمك الخاص بي، والناس يجدون ديدان في السمك. نحن ننظر إلى أفضل الرياضيين في العالم، لنطعمهم من أفضل طعام”.

واضطر أحد أبطال أولمبياد باريس 2024 – وهو السباح الإيطالي توماس سيكونو – إلى النوم في أحد شوارع العاصمة الفرنسية، مشتكيًا من غرف القرية الأولمبية بسبب عدم وجود مُكيّف هواء، ما دفعه إلى أخذ قيلولة في الهواء الطّلق في حديقة بالقرية الأولمبية.

كما أدلى سباحو الألعاب الأولمبية الباريسية بشهادات صادمة عقب تجربتهم السباحة في نهر “السين”، وقالت لاعبة الترياثلون البلجيكية “جوليان فيرميولين” إنها شعرت “بمذاق غريب لا يشبه بالطبع مذاق الكوكا كولا”، كما رأت “أشياء غريبة لا ترغب بتذكّرها” أثناء سباحتها تحت جسر في نهر “السين”، في إطار مشاركتها في سباق 1500 متر، كما تم تسجيل حالات تقيؤ فردية لبعض السباحين بسبب تلوّث مياه نهر “السين”، بينهم اللاعب الكندي في ألعاب الترايثلون “تايلور ميسلاوشوك”، والذي أفاد أنه تقيأ 10 مرات.

ومن جانبها، نشرت السباحة الألمانية “ليوني بيك” التي احتلّت المركز التاسع في سباق 10 كيلومترات، صورة لها بموقع “إنستغرام”، وهي ترفع إبهامها إلى أعلى لكنها تبدو مريضة، وكتبت “ليوني”: “تقيأت 9 مرات مع تعرّضي للإسهال”، قبل أن تضيف ساخرة: “جودة المياه في نهر السين معتمدة”.

وبرزت المخاوف بشأن نهر “السين”، الملوث منذ فترة طويلة حيث حُظرت السباحة فيه لأكثر من قرن بسبب المياه الملوثة بالبكتيريا، إلى الواجهة بعد أن أعلن منظّمو “أولمبياد باريس” عن خطط لتنظيم سباقات سباحة في المياه المفتوحة، وأجزاء من السباقات الثلاثية للسباحة في النهر الشهير الذي يجري في قلب العاصمة الفرنسية.

وعلى الرغم من مشروع التنظيف الضخم والمكلف، أظهرت بعض القراءات وجود مستويات غير مقبولة من البكتيريا مثل: الإيكولاي، الأمر الذي أدّى إلى تغييرات في جدول السباق الثلاثي وإلغاء واحدة من جلستي التدريب في المياه المفتوحة المقررتين قبل سباقات الرجال والنساء لمسافة 10 كيلومترات. وأصيب العديد من الرياضيين بالإعياء بعد السباق الثلاثي، لكنه لم يكن من الواضح إذا ما كانت أيّ حالة من حالتهم ناتجة عن السباحة في نهر “السين”.

وأكّدت منظمة الصحة العالمية أن 40 رياضيا مشاركا في الألعاب الأولمبية على الأقل ثبتت إصابتهم بفيروس كورونا، وكان العدّاء الأولمبي الأمريكي “نواه لايلز” أكبر المتضررين من انتشار الفيروس، إذ بعد حصوله على برونزية سباق 200 متر، كشف “لايلز” النقاب عن معاناته من الإصابة بفيروس كورونا، ما حرمه من المشاركة في سباق آخر.

مُخلّفات عاصمة “بق الفراش” تصل إلى كوريا الجنوبية

شهدت دورة الألعاب الأولمبية “باريس 2024” متاعب صحية متعلقة بالمشاركين في المنافسات التي أقيمت في نهر “السين”، إضافة إلى إصابة عدد من الرياضيين بفيروس كورونا.

ولا تزال المخاوف المرتبطة بدورة الألعاب الأولمبية 2024، التي استضافتها فرنسا خلال الفترة ما بين 26 جويلية الماضي و11 أوت الجاري، مستمرة رغم نهاية المنافسات بشكل رسمي. ولذلك، قررت السلطات الكورية الجنوبية تطبيق إجراءات وقائية بعد أولمبياد باريس لمنع أيّ مخاطر صحيّة قد تتعرض لها البلاد مع عودة الرياضيين والمسؤولين والمشجعين من الدورة الأولمبية.

وتتضمن هذه الإجراءات الاستعانة بكلب مُدرَّب على اكتشاف “بق الفراش” في مطار “إنشيون” الدولي الرئيسي للبلاد خوفّا من تسرب هذه الحشرة الصغيرة إلى داخل أراضيها، وقال “كيم مين سو”، المسؤول في شركة مكافحة الحشرات التي تملك الكلب البالغ من العمر عامين، إنه قادر على فحص غرفة فندق عادية في أقل من دقيقتين.

والكلب الذي يُدعى “تشيكو” هو الأول والوحيد حتى الآن الذي تم تدريبه في البلاد لكشف “بق الفراش”. وتتمّ هذه الإجراءات بالتعاون بين شركة مكافحة الحشرات ووزارتي النقل والأمن ووكالة مكافحة الأمراض والوقاية منها، إلى جانب شركات الطيران ومطار “إنشيون” الدولي حيث يتم تطبيق الإجراءات الوقائية على المسافرين لدى وصولهم.

وفي العام الماضي، اتّخذت السلطات الفرنسية إجراءات موسعة في مواجهة مخاوف واسعة النطاق في البلاد من انتشار الحشرة، بينما كانت الاستعدادات لاستضافة الدورة الأولمبية تسير على قدم وساق.

وقال بيان صحفي لحكومة كوريا الجنوبية: “بينما تجتمع الأسرة الدولية في باريس بفرنسا بمناسبة دورة الألعاب الأولمبية الصيفية 2024 فهناك فرصة لدخول بق الفراش إلى البلاد بعد الحدث”، وأضاف البيان: “ولهذا السبب نقوم بخطوات وقائية لمنع دخول الحشرة البلاد من خلال مطار إنشيون الدولي وهو المنفذ الرئيسي للبلاد”.

وعلقت الكاتبة “سهام معط الله”، وهي أستاذة محاضرة في كلية الاقتصاد بجامعة وهران 2، حول فعاليات النسخة الـ 33 للألعاب الأولمبية الصيفية في باريس بأنها “أشبه بالرسوم الكرتونية، ذات طابع الكوميديا الكرنفالية، الأمر الذي يعكس ضعف فرنسا الفاضح في تنظيم المنافسات العالمية”.

وفي مقال لها، استعرضت “سهام معط الله” ما ورد في تقرير نشرته مؤسّسة الأبحاث حول الإدارات والسياسات العامة (IFRAP) في 22 جويلية، إذ قُدِّرت الميزانية المخطَّط لها في ملف طلب استضافة الألعاب الأولمبية في عام 2017 بـ 6.2 مليارات يورو (6.73 مليارات دولار)، منها 2.3 مليار يورو (2.5 مليار دولار) من المال العام.

وأوضحت الكاتبة أنه “قبل أيام قليلة من افتتاح أولمبياد 2024، بلغت التكلفة الإجمالية والرسمية للنفقات المرتبطة مباشرة باستضافة الألعاب الصيفية 8.8 مليارات يورو (9.56 مليارات دولار)”، وهي – بحسب كاتبة المقال – “أفقر ميزانية منذ أولمبياد أثينا 2004 الذي كلَّف 9.1 مليارات دولار، والذي أعقبه أولمبياد بكين 2008 (42 مليار دولار)، لندن 2012 (16.8 مليار دولار)، ريو دي جانيرو 2016 (23.6 مليار دولار)، طوكيو 2020 (13.7 مليار دولار)”.

باريس تحصل على علامة: 0 من 10

ويبدو أنّ فرنسا – تضيف الكاتبة – وضعَت أولمبياد 2024 على ميزان المكاسب والخسائر، وقرَّرت إثر ذلك ألا تنفق ما في الجيب لقلّة ما سيأتيها في الغيب، بعد أن نظرت إلى ما حقَّقه الذين سبقوها في تنظيم الألعاب الأولمبية من مكاسب، فقد حقَّقت “لندن” إيرادات بلغت 5.2 مليارات دولار فقط، ولم تجنِ “بكين” سوى 3.6 مليارات دولار.

بطبيعة الحال، ظهرت تداعيات هذه الميزانية الهزيلة، التي لا تليق بمقام مدينة الجنّ والملائكة، بمجرَّد وصول البعثات الرياضية، فقد تذمَّر العديد من الرياضيين من المجاعة التي تتغلغل في المطاعم المخصَّصة لهم، وتحديدًا من نقص العديد من الوجبات، خاصة تلك البسيطة التي تحوي كميات عالية من البروتين كالبيض، الأمر الذي يؤثِّر سلبًا في أدائهم بالمنافسات، وفق رأي الأستاذة المحاضرة في كلية الاقتصاد بجامعة وهران 2.

تضيف “سهام معط الله”: “ولوهلة يُشعرنا هذا العجز عن إطعام 15 ألف رياضي، وكأنّ دورة الألعاب الأولمبية تُقام في إحدى الدول الفقيرة بإفريقيا لا في مستعمرِها سابقا ومستنزِف ثرواتها وأحد أكثر البلدان تقدُّما على وجه المعمورة”.

وقالت الكاتبة في مقالها الذي حمَل عنوان “فضائح بالجملة في أولمبياد باريس 2024″، “إن منصّات التواصل الاجتماعي امتلأت عن آخرها بمنشورات السخرية والاستهزاء التي أطلقها الرياضيون على خلفية ظروف الإيواء المزرية في القرية الأولمبية، فقد بلغت شكواهم عنان السماء بسبب أسرَّة النوم غير المريحة بتاتا، لكونها مصنوعة من الورق المقوَّى”.

ناهيك عن أعمال السرقة والنهب في القرية الأولمبية، وتلوُّث نهر السين، وعدم إيجاد حلّ للحرارة المرتفعة، ومشاكل نقص النظافة التي تعاني منها عاصمة الموضة، حيث تغرق هذه الأخيرة في القمامة، وتغزوها الجرذان بشكل مقزِّز ومقرف، يعكس بوضوح – وفق رأي كاتبة المقال – عدم كفاية ما رُصِد من أموال لتنظيف العاصمة، وإعدادها لاستقبال الوفود الرياضية المشاركة.

واعتبرت “سهام معط الله” أنّ الميزانية المرصودة لأولمبياد باريس 2024 لم تتَّسع للحيلولة دون حدوث عمليات التخريب التي أقحمت مدينة النور في ظلام دامس، بعد العبث بشبكة الكهرباء، وشلَّت أيضًا شبكة فرنسا للقطارات السريعة، وتسبَّبت في تعطيل حركة أكثر من 800 ألف راكب، فقد مرَّغ الإخفاق الخطير في ضمان الأمن لأحد أكثر الأحداث الرياضية شهرة في العالم سمعةَ البلاد في الوحل.

هذا الوضع – تقول الأستاذة معط الله – حطَّم الادعاءات الكاذبة لوزير الداخلية الفرنسي “جيرالد دارمانان” الذي سبق له أن تبجَّح بامتلاك بلاده أفضل قوات الأمن في العالم، وتباهى بقدرة فرنسا على استضافة العالم دون أيّة مشاكل، علماً أنّ بلاده – تضيف الكاتبة – قد استشرفت مسبقا عجزها الأكيد عن استضافة الجماهير الغفيرة الراغبة بحضور الأولمبياد.

وذكرت صاحبة المقال بأن الحكومة الفرنسية، كانت قد أعلنت قبل انطلاق الألعاب بأشهر تخفيض عدد الجماهير التي ستحضر فعاليات حفل الافتتاح إلى 300 ألف بدلاً من 600 ألف، وعلَّقت ذلك على شمّاعة الأسباب الأمنية، وإذا دلّ ذلك على شيء فهو يدلّ على تفوُّقها في اختلاق الحجج والأعذار لإخفاقاتها.

ويبدو أن منظِّمي أولمبياد باريس، لم يكونوا مشغولين بعملهم لإنجاح الفعاليات، بقدر ما كانوا يصفون حساباتهم ضد رياضيين من دول لا تستسيغ “باريس” وجودهم لأنّ رايتهم تحرج التاريخ الفرنسي، وهو بالضبط ما حدث مع العداء الجزائري البطل “جمال سجاتي” بعد فوزه ببرونزية سباق 800 متر، إذ تعرّض لهجمات إعلامية بهدف النيل من معنوياته.

وأصدرت اللجنة الأولمبية الجزائرية بيانا ردّت فيه على تقارير إعلامية فرنسية زعمَت أن لجنة مكافحة المنشّطات الفرنسية اقتحمت القرية الأولمبية لتفتيش غرفة العداء “جمال سجاتي” الذي تُوّج يوم السبت 10 أوت بالميدالية البرونزية في سباق 800 متر ضمن أولمبياد باريس 2024.

الجانب “المشرق” في أولمبياد باريس  

وجاء في بيان اللجنة الأولمبية الجزائرية الذي نشرته عبر صفحتها الرسمية بموقع “فيسبوك”: “بضع ثوانٍ بعد فوزه ببرونزية 800 متر في أولمبياد باريس 2024، ها هو البطل الجزائري جمال سجاتي يتلقّى هجمات غير مُبرّرة من طرف جهات إعلامية رياضية”.

وأضاف البيان: “إن اللجنة الأولمبية الجزائرية تعرب عن استيائها الشديد من هذه المحاولات المُغرضة التي تهدف إلى تشويه سمعة أحد أبطالها”، وأكدت أنها اتخذت كل الإجراءات القانونية لحمايته، وتابع البيان: “جمال سجاتي أظهر موهبة استثنائية وروحا رياضية عالية على المضمار واستحق هذا الإنجاز الكبير، وأيّ محاولة للتشكيك في نزاهته أو إنجازاته هي محاولة لضرب الرياضة الجزائرية بأسرها، ونحن لن نقف مكتوفي الأيدي أمام هذه الهجمات”.

وفي ختام بيانها، أكّدت اللجنة دعمها الكامل لـ “جمال سجاتي” ولجميع الرياضيين الجزائريين الذين يمثّلون البلاد في المحافل الدولية بكل شرف واعتزاز. كما وجّه البطل “سجاتي” رسالة عبر صفحة اللجنة الأولمبية الجزائرية يردّ فيها على هذه الأخبار، إذ طمأن الجماهير الجزائرية بقوله: “أنا سعيد جدا بالميدالية التي أهديتها للشعب الجزائري”.

واختتم البطل رسالته قائلا: “أودّ أن أطمئِن الجماهير أنه لم يحدث أيّ شيء في القرية الأولمبية.. هذه حياة المنافسين في المستوى العالي، وأي رياضي من الممكن أن يتعرّض لذلك، الآن تركيزي مُنصبّ على تحقيق إنجازات أخرى مستقبلا إن شاء الله”.

وعبّر الرياضيون الجزائريون المُتوّجون في الألعاب الأولمبية2024، عن اعتزازهم وافتخارهم بإهدائهم الجزائر ثلاث ميداليات أولمبية (ذهبيتان وبرونزية)، خلال هذا الموعد الرياضي العالمي الكبير.

وقد حقّق الذهب للجزائر كل من الجمبازية الشابة “كايليا نمور” في اختصاص العارضتين مختلفة الارتفاع، والملاكمة “إيمان خليف” في وزن (66 كلغ)، بعد تغلّبها على الصينية “يانغ ليو” بإجماع من الحكام (5-0)، فيما حقق “جمال سجاتي” برونزية سباق 800 متر.

وصرّحت “إيمان خليف” عند وصولها إلى أرض الوطن رفقة الوفد الجزائري المشارك في دورة باريس الأولمبية، قائلة: “أشكر الله عز وجل على هذا التتويج. بالنسبة إليّ، لقد حققتُ حلما طال انتظاره لثماني سنوات، والحمد لله تمكّنت من بلوغ هدفي رفقة كل من نمور وسجاتي. جميع الرياضيين قدّموا كل ما لديهم من أجل تشريف الوطن، وأهدينا أغلى ميداليات للجزائر”.

من جهتها، تقدّمت النجمة الصاعدة في الجمباز العالمي، “كايليا نمور” (17 سنة)، بالشكر إلى الشعب الجزائري لدعمه المتواصل، سيما خلال اللحظات الصعبة خاصة بعد الإصابة الخطيرة. “أنا جد فخورة بمنح الجزائر هذه الميدالية الذهبية”، أضافت قائلة.

أما صاحب الميدالية البرونزية، العداء “جمال سجاتي”، صاحب أحسن توقيت عالمي هذه السنة على مسافة 800م، فصرّح قائلا: “الحمد لله على تحقيقنا لهذه النتائج المشرّفة للجزائر، عشنا أيامًا تاريخية رفقة زملائي الرياضيين المشاركين، كما أهنئ زميلاتي نمور وخليف على الميدالية الذهبية. هذا شرف لنا، نحن فخورون بما حققناه في باريس. لقد قدّمنا كل ما لدينا من أجل تشريف الراية الوطنية رفقة جميع الرياضيين الجزائريين المشاركين”.

وقد شاركَت الجزائر في “أولمبياد باريس” بوفد ضمّ 46 رياضيا (27 رجالا – 19 سيدة) في 15 اختصاصا رياضيا، حيث أحرزت ثلاث ميداليات: ذهبيتان وبرونزية، في إنجازٍ رياضي يُعدّ الأول منذ دورة أتلانتا (1996) بالولايات المتحدة الأمريكية.

وقدّم الرياضيون الجزائريون، خلال أولمبياد 2024 بباريس، مستوى تنافسيا في مختلف الاختصاصات، من الجمباز إلى ألعاب القوى مرورًا بالملاكمة، الجيدو، التجذيف، الكانوي كاياك.. وعلى الرغم من أنهم لم يتمكّنوا جميعا من الصعود إلى منصّة التتويج، إلّا أن المجهودات المبذولة من طرفهم مُؤشِّرٌ على تحسّن ملحوظ في مستوى الرياضة الجزائرية على المستوى العالمي.

أولمبياد السقوط الأخلاقي..

المأزق المركّب لـ “إسرائيل” والغرب

بقلم: حامد أبو العز – كاتب فلسطيني

ترمز الألعاب الأولمبية إلى الوحدة العالمية والسّلام والصّداقة، وتجسّد أعلى مُثُل التّعاون الإنساني والاحترام المتبادل. ومع ذلك، فإنّ وجود الوفد “الإسرائيلي” في مثل هذا الحدث يثير أسئلة أخلاقية ومعنوية مهمّة بالنّظر إلى التّوثيق الواسع النّطاق لانتهاكات حقوق الإنسان وجرائم الحرب وجرائم الإبادة الجماعية التي ارتكبتها “إسرائيل” ضدّ الفلسطينيين في غزّة وخارجها.

لعقود من الزّمان، تميّز احتلال “إسرائيل” للأراضي الفلسطينية بانتهاكات جسيمة لحقوق الإنسان، كما وثّقتها هيئات دولية ومنظّمات حقوق الإنسان المختلفة، ووفقًا لمكتب الأمم المتّحدة لحقوق الإنسان، فإنّ الاحتلال الإسرائيلي يُعتبر غير قانوني بموجب القانون الدّولي بسبب استمراره وسياساته التي ترقى إلى الضّم الفعلي للأراضي الفلسطينية.

وهذا ما تمّ تأكيده بشكل مباشر من قبل آخر قرار أصدرته محكمة العدل الدّولية، الذي يخطّط الأمين العام للأمم المتّحدة لعرضه على هيئته للتّصويت من قبل الدّول للتّأكيد على عدم مشروعية أيّ عملية ضمّ “إسرائيلية” للأراضي الفلسطينية، وتشمل هذه الإجراءات “الإسرائيلية” مصادرة الأراضي وهدم منازل الفلسطينيين، والتّخطيط الحضري التّقييدي الذي يؤثّر بشدّة على قدرة الفلسطينيين على الوصول إلى الخدمات الأساسية وحقوق الإنسان الأساسية.

كما دعت محكمة العدل الدّولية إلى منع أعمال الإبادة الجماعية في غزّة، مسلطةً الضّوء على الوضع الإنساني الوخيم الذي تفاقم بسبب العمليات العسكرية الجارية، والحصار الذي يقيّد حركة الأشخاص والمساعدات الإنسانية، ممّا يؤدّي إلى انتشار الفقر والحرمان والتشرّد في غزّة المحاصرة. كما لاحظت هيومن رايتس ووتش أنّ السّياسات “الإسرائيلية” خلقت “سجنًا مفتوحًا” في غزّة، مع فرض قيود شديدة على الحركة والأنشطة الاقتصادية، ممّا يُسهم في أزمة إنسانية لم يشهدها العالم منذ الحرب العالمية الثّانية.

صنّفت منظّمة العفو الدّولية جرائم “إسرائيل” ضدّ الفلسطينيين على أنّها نظام فصل عنصري، يتميّز بالقمع والهيمنة المنهجية في مناطق مختلفة، بما في ذلك داخل “إسرائيل” والضفّة الغربية وغزّة، ويشمل هذا؛ القوانين التّمييزية، والتّهجير القسري، والحرمان من الحقوق الأساسية، التي تهدف مجتمعة إلى السّيطرة على السكّان الفلسطينيين وتهميشهم.

وطالب المجتمع الدّولي، بما في ذلك هيئات الأمم المتّحدة المختلفة، مرارًا وتكرارًا بالمساءلة ووضع حدّ لهذه الانتهاكات. وتثير الجرائم “الإسرائيلية” المستمرّة تساؤلات عميقة حول مدى توافق جرائم “إسرائيل” مع مُثُل السّلام والكرامة الإنسانية التي تمثّلها الألعاب الأولمبية.

إنّ مشاركة كيان غاصب متّهم بمثل هذه الجرائم الخطيرة في حدث مخصّص للوحدة والاحترام تبدو متناقضة وتقوض المبادئ ذاتها التي تسعى الألعاب الأولمبية إلى تعزيزها.

لقد سلّطت التّطورات الأخيرة المحيطة بأولمبياد باريس الضّوء على التوتّرات السّياسية والأمنية الكبيرة، وخاصّة فيما يتعلّق بمشاركة “إسرائيل” اللاأخلاقية في الحدث الرّياضي العالمي، وقد بدأ الجدل بمقطع فيديو يُظهر مسلّحًا ملثمًا، يُزعم أنّه من حماس، يهدّد بالعنف في أولمبياد باريس، وتوعد صاحب هذا الفيديو، الذي تمّ تداوله على نطاق واسع على وسائل التّواصل الاجتماعي، أنّ “أنهار الدّماء” ستتدفّق عبر شوارع باريس بسبب مشاركة “إسرائيل” في الألعاب الأولمبية.

ومع ذلك، أكّد تحقيقٌ أجرته هيئةُ الإذاعة البريطانية ومصادر أخرى أنّ الفيديو مفبرك، ونفت حماس بسرعة أيّ تورّط لها، حيث وصف المسؤول الكبير عزّت الرّشق بأنّ الفيديو هو دعاية صهيونية مصمّمة للتّحريض ضدّ المقاومة الفلسطينية. وأيّد المحلّلون العالميون هذا الرّأي، مشيرين إلى العديد من الأخطاء في الفيديو التي تشير إلى أنّه لم يتم إنشاؤه من قبل متحدّثين أصليين للّغة العربية أو من قبل حماس، ويشمل ذلك استعمال عبارات عربية غير صحيحة والزّي غير المألوف للرّجل في الفيديو، الذي انحرف عن الزّي النّموذجي للمقاومة الفلسطينية.

إنّ هذه الحادثة هي جزء من نمط وإستراتيجية أوسع، حيث يبدو أنّ كلًّا من فرنسا و”إسرائيل” تؤطّران المعارضة المدنية السّلمية لمشاركة “إسرائيل” في الألعاب الأولمبية باعتبارها تهديدات أمنية وليس احتجاجات مشروعة. هذا التّأطير ليس جديدًا ويعكس إستراتيجيات سابقة استعملت لتشويه سمعة المعارضة وتعزيز التّدابير الأمنية لقمع حريّة الرّأي وتقويض المشاركة الشّعبية الدّاعمة لفلسطين في باريس،-فعلى سبيل المثال- فقد تمّ احتجاز وفد رئيس الاحتلال الإسرائيلي إسحاق هيرتزوج على متن طائرته في مطار باريس بسبب “حادث أمني” مزعوم، ممّا يؤكّد بشكل أكبر على الرّواية الفرنسية-“الإسرائيلية” المزيّفة للتّهديدات.

إنّ الألعاب الأولمبية، رمز الوحدة العالمية والسّلام وذروة الإنجاز البشري، تواجه مأزقًا أخلاقيًا بمشاركة “إسرائيل” فيها. ففي خضم الاحتفال بالوئام والتّعاون، يتحوّل الضّوء إلى جرائم “إسرائيل” المستمرّة في فلسطين، الأمر الذي يلقي بظلاله على المُثُل العليا للحدث.

ولكن ردود فعل المدنيين في باريس جاءت لتفضح كلّ هذه الممارسات الأمنية الكاذبة والمزيّفة. فأثناء مباراة بين “إسرائيل” ومالي، واجه الفريق “الإسرائيلي” صيحات الاستهجان والصّافرات من الجمهور، مصحوبة بهتافات “تحيا فلسطين”، وعلى الجانب الآخر، تميّز ظهور الوفد الفلسطيني في حفل الافتتاح بهتافات داعمة، ممّا يسلّط الضّوء على الاستنكار الشّعبي الواسع النّطاق لمشاركة “إسرائيل” بسبب جرائمها المستمرّة في غزّة.

ختامًا، إنّ الألعاب الأولمبية، رمز الوحدة العالمية والسّلام وذروة الإنجاز البشري، تواجه مأزقًا أخلاقيًا بمشاركة “إسرائيل” فيها. ففي خضم الاحتفال بالوئام والتّعاون، يتحوّل الضّوء إلى جرائم “إسرائيل” المستمرّة في فلسطين، الأمر الذي يلقي بظلاله على المُثُل العليا للحدث.

وترسم انتهاكات حقوق الإنسان الموثّقة، من مصادرة الأراضي إلى حصار غزّة، صورة قاتمة تتناقض بشكل صارخ مع روح الألعاب الأولمبية، وتكشف التّهديدات الأمنية الملفّقة من قِبَل باريس و”إسرائيل” المحيطة بألعاب باريس، التي تهدف إلى تشويه سمعة الاحتجاجات المدنية السّلمية والمشروعة، عن المدى الذي قد يذهب إليه البعض لإسكات المعارضة عبر التّزييف والتّزوير.

ومع ذلك، فإنّ أصوات الناس في باريس، وهم يهتفون “عاشت فلسطين” ويطلقون صيحات الاستهجان ضدّ الفريق “الإسرائيلي”، تردّد نداءً قوياً من أجل العدالة والمساءلة. ومع تجمّع العالم للاحتفال بالوحدة، يصبح من الضّروري التّوفيق بين هذه المبادئ والحقائق على الأرض.

لا يمكن الحفاظ على الجوهر الحقيقي للألعاب الأولمبية إلّا عندما تلتزم جميع الدّول معايير الكرامة الإنسانية والاحترام ذاتها، ممّا يضمن أن تظلّ الألعاب منارة للأمل والتّضامن للجميع.

وفي ظلّ فشل اللّجنة الأولمبية بشكل متعمد في استبعاد “إسرائيل” من المشاركة في الحدث الرّياضي العالمي، يبقى الطّريق مفتوحًا أمام الجماهير لإطلاق صيحات الاستهجان ضدّ “إسرائيل” في الملاعب وخارجها، خلال التظاهرات المقبلة، وينبغي كذلك رفع الصّوت عاليًا أمام انهيار المنظومة الأخلاقية للغرب الذي سمح بمشاركة مجرمي الحرب في الأحداث الرّياضية.

علمانية متوحّشة..

السقوط في وحل الشّذوذ!

بقلم: الدّكتور صالح نصيرات – كاتب وباحث أردني

جاءت العلمانية في أوروبا في ظروف معروفة للكثيرين، فهي ردّة فعل على ممارسات النّظام الأكليروسي الكاثوليكي الذي مارس التسلّط والظّلم لقرون، ولأنّ لكلّ فعل ردّ فعل مساو له في القوّة ومعاكس له في الاتّجاه، فقد سلكت العلمانية طريقًا معاكسًا للكنيسة، فقامت بتجريم التديّن وجعلت من الدّين أضحوكة في الغرب من خلال ممارساتها المتعدّدة التي لا تقلّ بشاعة عمّا فعلته الكنيسة.

فإذا كان خلاص الإنسان في الكنيسة هو الولاء المطلق للبابا، فإنّ العلمانية جاءت لتقدّم للنّاس أصنامًا جديدة، اسمها حقوق الإنسان والحريّة والأخوّة الإنسانية. وعندما أقول أصنامًا، فأنا أقصد أنّ ممارسات أوروبا العلمانية في استعمار الدّول ونهب اقتصاداته وتدمير ثقافاتها كان معاكسًا تمامًا لتلك اللّافتات البرّاقة التي رفعتها.

ومع الأيّام حاولت الكنسية التّأقلم مع العلمانية، فتخلّت عن مبادئ مهمّة في المسيحية مثل التّسامح مع الشذوذ والقيم المخالفة للفطرة الإنسانية، فشربت من كأس العلمانية حنظلًا بدل أن تقدّر العلمانية للكنسية تلك التّوجّهات المنسجمة معها.

إنّ ما حصل في افتتاح الألعاب الأولمبية في باريس من سخرية فاضحة من نبي الله عيسى عليه السّلام وحوارييه، ليس أمرًا جديدًا على ما يسمّونه السّينما والمسرحيات والنّحت الفن والرّسم، وما صدر من الرّوايات والكتب التي قدّمت الرّموز الدّينية للنّاس بشكل بشع. فماذا ستفعل الاستنكارات والإدانات من زعماء غربيين هم أنفسهم نماذج للعلمانية التي لا تعترف بالآخر، ومستعدّة لصراع طويل مع الإسلام والتديّن؟

إنّ انتشار الشّذوذ بل لِنقُلْ فرضه وكذلك الانحطاط الذي تروّج له العلمانية منذ سنوات سرًّا وعلانية، وضع الدّين المسيحي ومعتنقيه في الغرب تحديدًا في مأزق حقيقي. فلا هو كسب النّاس ولا المؤسّسة العلمانية، بل حصل العكس تمامًا، فجاءت الممارسات التي شهدنا بعضها في حفل الافتتاح المذكور، وأخرى ستأتي بلا شكّ بسبب المواقف المتخاذلة أمام العلمانية والظّن الحسن بها، كمنظومة تدعو إلى الحريّة وحقوق الحيوان قبل الإنسان لم يكن في مكانه.

إنّ الموقف الإسلامي من العلمانية هو الموقف الصّحيح، فكما يقول الملاكم الأمريكي الذي أسلم حديثًا وما يقدّمه الفكر الأمريكي المسلم شهيد أولسن وغيرهم أنّ الإسلام قادر على هزيمة الفكر الإلحادي المناوئ للدّين ولقيم السّماء التي جاءت منسجمة مع الفطرة الإنسانية، وإسقاط إمبراطوريات الشّر.

إنّنا نقول لمن يرفع راية العلمانية المتوحّشة وقماماتها في بلاد المسلمين هوّن عليك، فالإسلام لن تهزّه رياح صفراء قادمة من عواصم الشذوذ والعنصرية ومساندة القاتل. فالإسلام كما يقول رئيس وزراء بريطانيا الجديد كير ستارمر-وهو ملحد كما هو معلوم- تهديد وجودي للحضارة الغربية، فهو الدّين الوحيد القادر على بناء الحضارة، بما يملكه من قدرة على إجابة كلّ الأسئلة التي يحتاجها اليوم.

وأضاف ستارمر: ليس أمامنا سوى أن نعتنق الإسلام أو نقاومه حتّى النّهاية. فقد انهزمت ليبراليتنا وعلمانيتنا أمام الإسلام الذي يزداد عدد معتنقيه من شبابنا اليوم لأنّه يقدّم لهم الإجابات الحقيقية روحيًا ونفسيًا واجتماعيًا. هذا الدّين لن يهزم أمام اللّافتات البّراقة للعلمنة الشّاملة.

هذا السّياسي الجديد على السّاحة البريطانية قال نصف الحقيقة. فالإسلام كما اعترف هو بأنّه دين قادر على بناء حضارة حقيقية ليس مصدر تهديد لأحد، بل الأصل أن يعترف أيضًا بأنّ هذا الدّين هو الذي سيعيد للإنسان فطرته السّليمة لينكر الشّذوذ والإرهاب الفكري الذي تمارسه العلمانية والانحياز الفاضح للقتلة الصّهاينة، وهو الدّين الذي بقي على مدى خمسة عشر قرنًا ثابتًا كالطّود لا تهمّه عواصف الاستعمار والخذلان والاستبداد، ولن يضع رايته حتّى ترى الإنسانية الخيرية الحقيقية التي ستأتي لها بسلام لم تستطع أوروبا وسيدتها أمريكا أن تأتي به على مدى قرون.

وشهد شهود من أهلها.. 

أولمبياد باريس المجرّدة من الأخلاق!

بقلم: ميسوري رزقي – أستاذ جامعي وخبير جزائري

شاهد العالم كلّه حفل افتتاح الألعاب الأولمبية الباريسية بفرنسا يوم الجمعة الرّابع والعشرين من شهر جويلية 2024 الذي خالف كلّ البروتوكولات المعمول بها تنظيميًا والمتعارف عليها أولمبيًا، المتوارثة بين سكّان المعمورة للأحداث الرّياضية الباعثة للقيم الأولمبية الدّاعية للسّلام والعدالة والتّآخي بين الشّعوب، بعيدًا عن كلّ الإيحاءات التي تنشر العداوة والفرقة بين أبناء الكرة الأرضية، رغم الاختلافات العرقية والدّينية واللّغوية والجغرافية والتّراثية والتّاريخية والحضارية منذ بداياتها سنة 1896 بأثينا اليونانية نهاية القرن العشرين.

حفل تراثي غربي ورياضي اتّسم بالاستثنائية وخالف كلّ التوقّعات التي كانت منتظرة من مسؤوليه المباشرين وعلى رأسهم توماس جولي الذي أوكلت له هذه المسؤولية. هذا الأخير أفرغه من القالب الأولمبي إلى قالب غرائزي ليحوله من موقع أرضية الملعب الأولمبي المتوارثة إنسانيًا إلى الهواء الطّلق وعلى نهر السّين من خلال ناقلات البواخر استقبلت الوفود عليها سابحة قبالة برج إيفل الرّمز الفرنسي، تهتف لهم الجماهير على ضفافه تحية الاستقبال بالأبطال الأولمبيين.

لكن العجيب والغريب والمدهش هو طبيعة ومحتوى القطعات الفنية المتمرّدة التي أطلقها هذا الاحتفال، التي أقلّ ما يقال عنها بأنّها فاسقة عظيمة الفجور وعديمة الأخلاق، وهو أمر توحّدت فيه كل الوجوه الفنية والشّخصيات المؤثّرة والاعتبارية والمسؤولين السّياسيين ورجال الدّين من مختلف الأطياف والعقائد على تأكيد فسقه، حتّى العائلات الفرنسية تذمّرت واستاءت من سوء التّعبير الفنّي والفكري والعَقَدي فيه، كيف لا وهو الاحتفال الذي كسر كلّ الطّابوهات من خلال مشاهد حقيرة أفرغت الألعاب الأولمبية من محتواها الأخلاقي من القيم الإنسانية الواجب تثمينها واستثمارها في الأجيال القادمة.

فسق وفجور ومجون وشواذ، عري ومثلية وسخرية وإيحاءات جنسية ساقطة…، جملة من الوقاحات الاحتفالية التي تتنافى مع شروط الاحتفال الذي يدعو إليه الميثاق الأولمبي جعلت عديد القنوات العمومية والخاصّة تقطع البثّ المباشر لهذه المهازل التي تبرأ منها شعوب وحكومات وقساوسة المسيحيين قبل المسلمين.

المتتبّع لاحتفالات الألعاب الأولمبية السّابقة سيدرك مدى التّجاوزات غير الأخلاقية التي سقط فيها مسؤولو الحفل الأولمبي الباريسي الفرنسي، التي عبرت عن المكنونات والعقائد الفكرية والفلسفية لماضي وحاضر ومستقبل البشرية حسب رؤية الفرنسيين التي أذهلت العالم لمستوى الانحطاط الفكري والرّداءة التّعبيرية للمعتقدات والتّصورات والفلسفة التي وصلت إليها الحضارة الغربية عبر إحدى دولها وهي فرنسا، هذه الأخيرة التي تسوّق لفكر علماني فاسق وساقط ومنحط ونشر للرّذيلة ضدّ الفضيلة والغريزة الحيوانية ضدّ الفطرة الإنسانية السّليمة التي لابدّأن تحافظ عليها المسؤولية الإنسانية.

فرنسا عبر هذا الاحتفال سقطت في المحظور وعكست توجّهاتها الأخلاقية لمجتمعها الذي عرّته من خلال هذا الحفل الفنّي الرّياضي السّاقط والفاسق وأرسلت للعالم برسالة شيطانية، التوجّه والانحلال الأخلاقي الذي تنادي به نخبة الحضارة الغربية في القرن الواحد والعشرين، ويبدو أنّ مستقبل البشرية دخل نفقًا عتمًا مظلمًا سيصعب مجابهته وتصفيته في ظلّ سلطوية القيادة العالمية لهذه الحضارة الغربية.

إنّ الألعاب الأولمبية الحديثة الّتي أطلقها الفرنسي بيار دي كوبرتان المدعو دي فييري سنة 1896 من رقودها الإغريقي والرّوماني طيلة 15 قرنًا باعتبارها إرث لحضارات أوروبا المتعاقبة، وجب تعميمه وتدعيمه وتثمينه لخدمة الإنسانية جمعاء وتقديس حقوقها من واجباتها في السّلام والتّآخي والتّقارب من باب التّنافس الرّاقي، خرج عن سياقه الأولمبي وغايات بداياته المثالية الدّاعية للتّعايش السّلمي، وجعلت منه فرنسا وشبيهاتها من الدّول المنحطّة أخلاقيًا أحد آليات الاستغلال الحضاري لخدمة أجندتها وتوجّهاتها السّياسية والفكرية والعقدية لفرض واقع أناني متعجرف لا يحترم الاختلافات في الأحكام والتصوّرات والقواعد التي تبنى عليها الدّول من جمهوريات وممالك وإمارات وسلطنات وفيدراليات… ولا تحترم التنوّع الحضاري الذي عاشته البشرية بهكذا رؤية فنية احتفالية مزرية تجاوزت كلّ حدود اللّباقة والضّيافة والاحترام الواجب فرضه… وهو تجاوز صارخ وصادم ووقح على القانون الدّولي في شقّه الأولمبي الرّياضي، هذا الأخير الذي يجعل من المنافسة الشّريفة بين أبطال الدّول الأولمبيين كتلة موحّدة لنخبة رياضيي العالم في قرية أولمبية موحّدة وفق ميثاق أولمبي موحّد وتحت عزف نشيد ورفع راية أولمبية موحّدة توحّد سكّان القارات الموحّدة..، إلا أنّ هذه الوحدة رفست بمثل هكذا احتفال فاسق

داء الازدواجية لدى الغرب..

حرية اللاقيّم في مواجهة الحقوق الإنسانية!

عبد الرحمان بوثلجة – أستاذ وباحث في الشؤون الدولية

يرى الأستاذ والباحث في الشؤون الدولية، عبد الرحمان بوثلجة، أنّ تطرف الغرب فاق كل الحدود وشمل كافة مناحي الحياة، وهذا ما يظهر -وبشكلٍ واضح- عبر مختلف الميادين والمجالات التي يكون الغرب جزءا منها، فعلى سبيل المثال لا الحصر، وخلال حفل افتتاح أولمبياد باريس ظهر الوجه الحقيقي لفرنسا لكل الغرب، وتجلى ذلك في المشاهد المسيئة التي تضمّنها حفل الافتتاح خاصة العرض التمثيلي للوحة “العشاء الأخير” لليوناردو دا فينتشي، التي لم تكن مسيئة فقط لدين معين أو لشخصية مقدسة بعينها، إنما كانت إساءة إلى الإنسانية جمعاء وإلى الفطرة السليمة بشكل عام.

وفي هذا الصدد، أوضح الأستاذ بوثلجة في تصريح لـ”الأيام نيوز”، أنّ الجميع لاحظ كيف تمّ التّرويج والاحتفاء بما كان منذ فترة قصيرة فقط يُسمى “شذوذا”، واليوم -في واحدةٍ من أكبر وأهم المحافل الرياضية العالمية- أصبح يُروَّجُ له بشكلٍ علني ومفضوح وتصويره وكأنه أمر عادي جدا، وكل ذلك يأتي تحت غطاء الحرية المطلقة التي يدافع عنها الغرب ويحاول بكل السبل المشروعة وغير المشروعة أن يفرضها كأمر واقع على الجميع دون أي استثناء.

في السياق ذاته، أشار محدثنا إلى أنّ الغرب يعيش حالةً من التطرف المفرط سواء تعلق الأمر بتيار اليمين أو اليسار، حيث نجد أنّ اليسار يدافع عن المثلية والشذوذ ولا يدخر جهداً في الترويج والتسويق لهذه الأفكار الخارجة عن الفطرة السليمة، على غرار الرئيس الأمريكي جو بايدن الذي يُعدُّ واحداً من أشدّ المدافعين عن مثل هذه الأفكار الدخيلة، وحتى في فرنسا أيضا هناك وزارة خاصة بهذه المجموعة.

وفي الوقت ذاته نرى أن المرشح للانتخابات الأمريكية المقبلة دونالد ترامب يعارض مثل هذه الأفكار ويحاربها بمختلف الطرق، الأمر ذاته بالنسبة إلى الرئيس الروسي فلاديمير بوتن، وبالطبع نفس الشيء بالنسبة إلى دولنا العربية والإسلامية ودول العالم الثالث ودول جنوب أمريكا والدول الإفريقية وغيرها.

إلى جانب ذلك، أفاد الخبير في الشؤون الدولية، أننا نجد تطرفا من نوع آخر لدى اليمين في الغرب، فمثلا اليمين يقف بقوة خلف الكيان الصهيوني ودون حدود، وقبل ذلك، لاحظنا رئيس مجلس النواب الأمريكي الذي انتقد حفل افتتاح الألعاب الأولمبية واعتبره يتعارض ويتنافى مع مقدساته ودينه وما يؤمن به، وفي الوقت ذاته هو من استقبل في مجلس النواب أكبر مجرم في التاريخ المعاصر وقاتل الأطفال والنساء.

ونتحدث هنا عن رئيس الوزراء الصهيوني بنيامين نتنياهو الذي ألقى كلمة أمام الكونغرس، وتم التصفيق له بطريقة ربما لا نراها حتى عندما يلقي رئيس أمريكا خطاباً، الأمر ذاته بالنسبة إلى الكثير ممن ينتمون إلى تيار اليمين في الغرب الذي يدعم “إسرائيل” بقوة، على عكس اليسار الذي ربما في هذا الجانب يُبدي نوعا من الإنسانية فيما يتعلق بالقضية الفلسطينية ونظرته بصفة عامة إلى دول العالم الثالث والدول التي لا تسير في فلكه.

على صعيد متصل، أوضح المتحدث، أنّه من المؤكد -حتى في الغرب المتطرف- وجود أقلية لا تنتمي لا إلى اليسار المتطرف فكريا واجتماعيا ولا إلى اليمين المتطرف سياسيا، بمعنى توجد فئة مناقضة ولكنها تبقى أقلية لذلك لا نسمع لها صوتا، والكثير من الشخصيات ومن المواطنين في دول الغرب يدعمون القضية الفلسطينية ولا يدافعون عن المثلية مثلا.

وقد لاحظنا هذا من خلال الاحتجاجات والمسيرات التي يتم تنظيمها عبر مختلف شوارع ومدن هذه الدول تعبيرا عن رفضهم لأفكار المثلية، أو تعبيرا عن إسنادهم ودعمهم للقضايا العادلة مثلما حدث مؤخرا عبر مختلف الجامعات الأمريكية والغربية أين خرج آلاف الطلبة في مظاهرات حاشدة دعما وإسنادا للحق الفلسطيني.

في سياق ذي صلة، أبرز الأستاذ بوثلجة، أنّ الغرب بالفعل سقط من كل النواحي عسكريا وسياسيا وإعلاميا، بالعودة إلى تناقضه المفضوح مع كل ما يجري في قطاع غزّة وما يجري أيضا في أوكرانيا، فعلى سبيل المثال لا الحصر ينتفض هذا الغرب المتطرف في كل مرة يتعلق الأمر بأمن “إسرائيل”، وكان هؤلاء قد اتهموا حزب الله اللبناني باستهداف مجدل شمس في الجولان المحتل، ما أدى إلى مقتل مواطنين بينهم أطفال، فيما لا نسمع له صوتا عندما يتعلق الأمر بارتكاب الاحتلال الصهيوني مجازر إبادة جماعية بالجملة واستشهاد العشرات من المدنيين يوميا في قطاع غزة، جلهم من الأطفال والنساء، بل إنّ الأمر أصبح عاديا بالنسبة لهم، والفلسطيني أصبح مجرد رقم، ربما كان البعض ينتبه لهذه الأرقام في البداية لكن حاليا القليل فقط ممن بقيت تعني لهم هذه الأرقام شيئا.

وفي هذا الشأن، أشار الخبير في السياسة، أنّ الغرب المعروف عنه ازدواجية المعايير المفرطة، يتحدثون في كل مرة عن عدم إدخال السياسة في الرياضة، إلا أنهم في الواقع يفعلون عكس ذلك تماما، حيث لا يتوانى هؤلاء لحظة واحدة في التضييق على الرياضيين الروس بسبب الصراع بين روسيا وحلف الناتو والغرب.

وفي الوقت ذاته يدافعون ويعملون على توفير كل ظروف الراحة والأمن للرياضيين الإسرائيليين المشاركين في أولمبياد باريس، وهم الذين تعتبر دولتهم “دولة” فصل عنصري، والعالم بأسره وقف على حجم وبشاعة المجازر المروعة التي يرتكبها هذا الكيان المستبد بحق الأبرياء والعزل في قطاع غزّة.

وأردف محدث “الأيام نيوز” قائلا: “اليوم بعد أن فُضح هذا الغرب المتطرف من خلال ازدواجية المعايير، ومن خلال عدم إنسانيته، ومن خلال تحيزه المفضوح، ومن خلال التضليل الإعلامي الذي يمارسه، ها هو اليوم يسقط أخلاقيا من خلال الترويج لأفكار المثلية والشذوذ، التي قد تؤدي إلى تدمير البشرية”.

خِتاما، أبرز الأستاذ والباحث في الشؤون الدولية، عبد الرحمان بوثلجة، أنّ الذين يقفون وراء الترويج والتسويق لهذه الأفكار الخارجة عن الفطرة السليمة، يهدفون أساساً إلى تشجيع المثليين وجعلهم في المقدمة، وهنا تكمن خطورة الأمر، فالذي يجب أن نندد به والذي لا يجب أن يقبل به بأيّ شكل من الأشكال هو أن يصبح هؤلاء في المقدمة وأن يصبح هؤلاء قدوة للأجيال الصاعدة، وأن يتم التسويق لهم وفي أحداث رياضية كبيرة مثلما حدث في حفل افتتاح أولمبياد باريس، ليبقى ما حدث سقوطا أخلاقيا للغرب بعدما سقط هذا الغرب المتطرف في جميع النواحي، عسكريا وسياسيا وإعلاميا.

أولمبياد باريس..

العودة إلى ما قبل الحضارة!

بقلم: مهنا الحبيل – كاتب أردني

أخذتُ وقتاً يكفي لكي أطّلع على المادة المنتجة، للمشهد المعتنى به في افتتاح أولمبياد باريس، المخصص لإعلان ما يشبه بياناً تاريخيًّا تبنته فرنسا التقدمية، بصفتها إحدى أهم عواصم الحداثة الغربية الرأسمالية بجذرها العقائدي، كمركز ديني كوني يعلن سيطرته على العالم، وراجعتُ المشهد بتركيز حتى تكون الرؤية النقدية مبنية على مادة صلبة ذات دلالة واضحة، وفيما يلي ثنائية مهمة للغاية، في هذا البيان:

شقها الأول الاستهزاء بالمسيح بصفه نبيا يمثل مفهوم النبوات، وعلاقتها بتاريخ العالم منذ وجوده، وليس فقط في رسالة المسيح عليه السلام بذاته، فأهم مركز عَقَدي وصلت إليه الحداثة، هو مفهوم الإنسان الإله، هذا المفهوم تجلى في هذه اللوحة بقوة.

فهذا الكائن المثلي المتنوع المضطرب سلوكيًّا -بكل الصور الشائنة متعددة الشذوذ- هو (السيد المسيح)! فلا إله ولا نبوات، وإنما الإله الجديد هو الشهوة والنزوة، وهي الثنائية التي حلبت منها الرأسمالية العالمية حياة الناس ومقدراتهم المالية، وكانت الحافز الضخم المتتالي، المدعوم في مركزها الغربي بين واشنطن وباريس، التي تسخّر بشراسة لا حدود لها لصالح تسليع قدرات الإنسان، ثم تسليع ذاته وأطفاله.

إذًا.. بيان باريس أعلن رسميًّا سقوط أي حق أخلاقي، وهو العنصر الثاني في رسالة المشهد، ورفضت (باريس الأولمبياد) أي مبدأ احترام أساسي كفلته الشرائع والقيم في تاريخ العالم كله، في حق احترام معتقد الضمير، ونلاحظ هنا مسألة مهمة في هذه الاستباحة، والطعن الشرس، والابتذال المنحط في تصوير الحواريين أو المحيطين بالمسيح، في رمزية لوحة دافنشي التي سبق أن رأيتها عن قرب، وكتبتُ مقالا عن لوحتها الأصلية، خلال زيارة سابقة لمعرض موسمي في قصر باكنغهام في لندن.

هذه الاستباحة الهجومية قُدمت في منصة المثلية القهرية والجندر الإلحادي، التي تطارد ببعض سلطات الدول الغربية كل الأسرة البشرية من دينيين وغير دينيين، وتشرّع قوانين حتى في الأمم المتحدة لعدم نقدهم أو التعرض لهم! فيما بيان أولمبياد باريس، يطعن في الدين والنبوات، ويسخر من الأسرة الفطرية، ثم يعلن نهايتها، وقد قرر تحويل إرثها لمكتسبات الشذوذ المطلق، فالْحَظْ هنا مقدار الهجوم الشرس على المركز الأخلاقي في الأرض واستفزاز كل شعوبه!

ومن المهم أن نقف عند لقطة عابرة رمزية طافت حول الطفولة، وهي ترمز إلى التمهيد لفرض سلوكيات الشذوذ الجنسي ومعاشرة الأطفال شذوذيًّا، ولكنها لم تكشف عن تشريع السادية ضدهم في المشهد، وهي القاعدة النهائية لفلسفة ميشيل فوكو وعقيدته في إعلان مرجع النزوة في الذات البشرية، والخضوع عند سلطتها.

إن مستوى التمهيد للترويج للسادية ضد الأطفال تقدم كثيراً، ففرض المثلية على الأسرة، ونزع مرجعية الآباء والأمهات على بنيهم من كل الديانات، وصولاً إلى تفويض الدولة اختطاف الطفل في لحظة قهر لوالديه، وإغراء مخادع للطفل بعد التشكيك في جنسه، تحت الضخ الإعلامي العاصف، ثم قذفه في المشفى (الرأسمالي)، ثم إعطائه كمًّا هائلاً من الهرمونات، ثم استئصال أعضائه الجنسية، وهذا لم يكن سائغاً من قبل في كل العالم، حيث كانت الأسرة الإنسانية تتمسك بفطرتها، تماماً كما تتنفس الطبيعة الخضراء في بيئتها.. واليوم أصبحت هذه الفكرة تُفرض من حكومات غربية، وتروّج من الأمم المتحدة، أما في الأمس فلم يكن هناك مجال لذلك.

ماذا يعني هذا؟

يعني أن عشر سنوات، أو أقل أو أكثر، قد تسمح بظهور لوحة أخرى، تعيد عقيدة النزوة مع الأطفال لمنصة الفرض المتوحش، فيكون مشهد فوكو وهو يوقّع خطاب المطالبة بتشريع السادية مع الطفولة، أو وهو يطارد أطفال تونس لممارسة السادية الجنسية عليهم، مذهبا جندرياً حراً، لأنه يُعظّم عقيدة الشهوة والنزوة، ولو لاحظنا إيقاع المشهد وجنونية الرقص، الذي تشابه مع أغنية المغنية الإباحية الأسترالية إيغي أزاليا في مهرجان الطائف في السعودية، سندرك معنى الوحدة العَقدية لهذا المشروع، لكن فرضه على الطفولة يحتاج بعض الوقت، وهذا ما تخطط له الحداثة المثلية.

ورغم الفزع من المشهد، وحجم تخطيه كل الحدود، فإنه في تقديري مشهد يشير إلى خوف وقلق، هذا القلق بسبب عودة مشاعر الروح والعاطفة الفطرية، ومعنى العلاقة المقدسة بين الأسرة والطفولة في دين الفطرة الخَلقِية، التي تؤمن بها الديانات السماوية وغيرها، إن هذه المشاعر المنتفضة في الأوساط المسيحية، الخائفة على فلذات أكبادها، باتت تطرح تاريخ التواطؤ من بعض الكنائس المسيحية الغربية مع الحداثة الرأسمالية ضد الإنسان وحياته، وإعلان وصاية الإنسان الإله على البشري، لا على قوته ولا على رياضته ولا على زمنه وحسب، ولكن على المولود في رحم أمه.

فهل تتقدم الإنسانية إلى تحالف أخلاقي ينقذها من الحداثة الرأسمالية، إلى الروح الأخلاقية التي تصلح بها مفاهيم الحقوق العالمية، نحو حداثة تخدم الإنسان لا حداثة تسحقه؟

الأيام نيوز - الجزائر

الأيام نيوز - الجزائر

اقرأ أيضا

آخر الأخبار
عطاف يشارك بالقاهرة في اجتماع اللجنة الوزارية العربية المُصغرة نفذها الاحتلال جنوب غزة.. 40 شهيدا وعشرات المصابين في مجزرة جديدة أمطار رعدية على 9 ولايات هل سيحسم عمالقة التكنولوجيا نتائج السباق نحو البيت الأبيض؟.. مستقبل أمريكا في متاهة "السيليكون فالي" فشل ثلاثي الأبعاد.. المخزن يتخبط في مستنقع الإخفاقات انتقادات واسعة.. أداء سلطة الانتخابات في مرمى المترشّحين الثلاثة جهود التدخّل والإغاثة مستمرة.. إجراءات فورية للتعامل مع أضرار فيضانات ولاية بشار عائلته تستقبل التعازي في "بيت فرح وتهنئة".. الشهيد "ماهر الجازي" هدية الأردن لفلسطين وغزة العهدة الثانية للرئيس تبون.. أمريكا تسعى إلى ترقية التعاون الثنائي اختتام الألعاب البارالمبية في باريس.. الجزائر الأولى عربيا وإفريقيا وزارة التعليم الفلسطينية.. فتح مدارس افتراضية لأول مرة في غزة تعليم عالي.. استلام 19 إقامة جامعية جديدة بتكليف من رئيس الجمهورية.. عطاف في القاهرة ولقاءات مرتقبة مع نظرائه العرب الرئيس الصحراوي يوجه رسالة تهنئة إلى الرئيس تبون بعد فوزه بالعهدة الثانية.. اليامين زروال يهنئ عبد المجيد تبون جبهة البوليساريو تدين السياسة الإجرامية للاحتلال المغربي ضد الصحراويين أكد تمسكه بالعلاقة الاستثنائية بين البلدين.. ماكرون يهنئ تبون على إعادة انتخابه إجراءات عاجلة للتكفل بمخلفات الأمطار بولاية بشار وزارة التربية.. هذا هو موعد فتح المنصة الرقمية للتعاقد أسعار النفط ترتفع بأكثر من 1%.. وخام برنت يتداول قرب 72 دولارًا