أوْراقٌ من تاريخ الفلاّح الجزائري (الجزء الأول)

مهْمَا بلغت الحياةُ من تطوّر في التكنولوجيا والعمران والعلوم فإن استمراريّتها مرهونةٌ بسماء تُمطر وأرض تُنْبِت. وقد استطاع الإنسان منذ وجوده في كوكب الأرض أن يعيش ويتكيّف مع الحروب والأوبئة ومختلف أنواع القهر والظّلم والحرمان.. ولكنه بقِيَ عاجزًا في الحفاظ على حياته ووجوده في ظروف العطش والمجاعة. وإذا ما أردنا أن نتصوّر نهايةً للحياة، بعيدًا عن معتقدنا، فهي عندما تتوقّف السّماء عن الإمْطار والأرض عن الإنْبات.

الحياةُ.. مطرٌ وأرضٌ وفلاّحٌ

عندما نتحدّثُ عن المطر والأرض، فإنّنا نتحدّثُ ضِمْنِيًّا عن الفلاّح الذي يحرث ويبذر ويزرع ويسقي.. لتُخرج الأرضُ خيراتَها ويتدفّق الغذاءُ للنّاس. وعندما نتحدّثُ عن الأرض والفلاّح فإننا نتحدّثُ ضمنيًّا عن تربية المواشي والدّواجن وما يرتبط بهما من منتوجات غذائية وصناعية متنوّعة. ومن منطلق هذه الرؤية فإنّ الفلاّح هو الضّامِن للوجود الإنساني، وهو صانعُ التّاريخ الحقيقي في كل الحضارات.

الفلاّح.. بطلٌ في كل الأزْمِنة

في زمن الاستعمار الفرنسي، كان الفلاّح هو “البطلُ” الذي أبْقىَ الشَّعب الجزائريّ على قيْد الوجود، ليس لأنه كان يُنتِجُ الغذاءَ فحسب، في ظروف استأثرتْ فيها فرنسا بالخيْرات الفلاحية الجزائرية.. بل لأنّ الفلاّح كان وُقودَ كل الثّورات الشعبية والجنديَّ الأمثلَ في جيش التحرير الوطني. وهو “الأمثلُ” لأنّه ابن الأرض وارتباطه بها يجعلُ من إيمانه أقوى سلاح في مواجهة الاستعمار بكل ما يمتلكه من عتاد حرْبيّ ووسائل مُتطوّرة في تدمير الإنسان والأرض والحياة.

الفلاّح والثورة العربية في الجزائر

من المُجدي أن نتعرّفَ على واقع الفلاحة في الجزائر خلال الزمن الاستعماري، وسوف تُضيئ “الأيام نيوز” هذه الزاوية في مناسبة أخرى، وتُفسح المجالَ أمام أُولَى الكتابات التي تنبّهت إلى “تاريخ” الفلاّح الجزائري منذ بداية الاستعمار الفرنسي إلى اندلاع ثورة التحرير الوطني، وذلك من خلال مقال مُطَوّل نشره الدكتور “عثمان سعدي” في الأول جانفي 1959 تحت عنوان “الفلاّح والثورة العربية في الجزائر” في مجلة “الآداب” البيروتية التي خصّصتْ عددًا مُمتازا عنوانُه “البطولة في الأدب العربي”، وكان الفلاّح الجزائري حاضرًا في هذا العدد بصفتِه بطلاً في الأدب والحياة والثّورة. وتُعيد “الأيام نيوز” نشر ذلك المقال ببعض التّصرّف..

الأرضُ مَنْبعُ المُقاومة

إن أبْرز سِمات الثورة العربية بالجزائر ارتباطُها بالأرض. فالأرضُ هي الإطار الذي يُبرِز النّضالَ، والأرض هي مَنبعُ مقاومة جيوش الاحتلال، وهي المصدر لكل الانتفاضات التي قام بها شعبنا.. هذه الانتفاضات التي تطوّرت إلى ثورة اعتُبِرتْ مُعجزةً في تاريخ نضال الشّعوب ضد الاستعمار.

الفلاّحون في الثّورات الشعبية

وإذا تفحّصنا تاريخ الجزائر بمجهر النّزاهة العلمية والإنصاف الموضوعي، وجدْنا أن العنصر الدّينامي الفعّال الذي لعب دوْرًا رئيسيًّا في المقاومة والثّورات هو الفلاّح.. الفلاّح هو الذي قاد المقاومةَ ضدّ جيوش الاحتلال الفرنسية والتي استمرّت من سنة 1830 إلى 1903، فمِن الفلاّحين كَوّن “الأميرُ عبد القادر” جيشَه الذي قاد المُقاومة سبعة عشر عامًا. والفلاّحون هم الذين قاموا بثورة “أبي بغلة” سنة 1851. وقاموا بثورة “بني سناسن” سنة 1859. وهم الذين قاموا بثورة “أولاد سيدي الشيخ” الأولى سنة 1864. والفلاّحون هم الذين كَوَّن منهم البطلان الخالِدان “المقراني” والشيخ “الحدّاد” جيْشًا ثوريًّا سنة 1871 اضطرَّ فرنسا إلى إرسال رُبْع مليون جندي لإخماد هذه الثورة بعد أن خسرت فيها 60000 جنديًّا من زهرة أبنائها. والفلاّحون هم الذين قاموا بثورة “أولاد سيدي الشيخ” الثانية سنة 1881 عقْب احتلال فرنسا لتونس مُباشرة.. والفلاّحون مع البدو هم الذين حاربوا جيوش فرنسا بصحراء الجزائر من سنة 1889 إلى سنة 1892. والفلاّحون هم الذين قاموا بثورة “الأوراس” سنة 1917.. (هناك ثورات شعبية أخرى لم يذكرها الكاتب، وجميعُها اعتمدت على الفلاّحين).

سِرُّ الثّوْريّة في نفْسيَّة الفلاّح الجزائري

لكن لماذا كان الفلاّح الجزائري عنيفًا في مقاومته للاحتلال الفرنسي، في الوقت الذي نجِد فيه شقيقَه بتونس ومرّاكش لم يقُم بدوْر نضالي يُذْكَر ضدّ الوجود الفرنسي؟ أَليسَ الفلاّحون في المغرب العربي من طينة واحدة؟ أّلاَ يجري في عروق الفلاّح الجزائري الدّمُ نفسُه الذي يجري في عروق فلاّح تونس والمغرب الأقصى؟

إنّ الأرض هي السّبب في عُنْف مقاومة الفلاّح بالجزائر للاحتلال. فتوزيع الأرض بالجزائر، الذي يكادُ يكون الوحيدَ من نوعه في تاريخ الأقطار الحديث، هو الذي وَلّدَ هذه الطاقة الثّورية في نفسية الفلاّح الجزائري.

عندما دخل الفرنسيون إلى الجزائر وجدوا أنواعًا من الملكية العُقّارية:

–        ملكية الدولة أو البابليك (في المنطوق الشعبي يُقال: البايْلك).

–        أراضي الحبْس المَوْقوفة على المنشآت الدينية والجمعيات الخيرية.

–        أراضي القرية أو القبيلة (أراضي العرش) وهي عبارة عن ملكية جماعية. (يُقال: تراب العرش، وهذه الملكية مازالت موجودة إلى الآن).

–        أراضي المُلاّك الأفراد.

تنعدمُ من الخمْسة أسْداس الخارجة عن نطاق الحُكم التركي، الملكيّةُ الفردية وتنتشر الملكية الجماعية التي نجدها بِقِلّة في السّدس الواقع تحت النّفوذ التّركي. (جاء في هامش المقال: كانت الجزائر في العهد التّركي مُقسّمة إلى قِسمين. قسمٌ يَقَع تحت نفوذ الأتراك وهو عبارة عن بعض المُدن الكبيرة ومساحة لا تتجاوز سُدس القُطْر الجزائري، أمّا الخمسة أسداس الباقية فقد بقِيَت محكومة بواسطة جمهوريات قبَلِيّة).

والقبائل بالجزائر لم تعرف الملكية الفردية إلاّ بعد دخول الفرنسيين. لقد كان لكل قرية أرضُها الخاصةُ بها، يستغلّها سكّانها استغْلالاً جماعيًّا، يُعيّن شيخ القرية كلّ سنة جُزْءًا من الأرض للأُسْرة تستغلّه، وتضمُّ مجموعات من الأُسَر الأراضي المُخصّصة لها، بعضها إلى بعض، ثمّ تزرعها، والفرْد والأسرة لهما حقّ الاستغلال وليس لهما حقّ الملكية.

الأرضُ مِلْكٌ للجميع

كانت القبائل لا تعرفُ بيع الأرض قبل دخول الفرنسيين، وإذا استثنينا السُّدسَ الواقعَ تحت نفوذ الأتراك، وَجدْنا أن هذا النّظام الزّراعي لم يُتِح للإقْطاعية أن تنشأ، وخلق نوعًا من الحياة الديموقراطية تتّخذ العدالةَ الاجتماعية قاعدةً لها. فالأرض مِلْكٌ للجميع، والفُرَصُ متاحةٌ للجميع، وما على الفرد إلاّ أن يَكِدَّ ويعمل حتى يحصل على الإنتاج الذي له كرامته الإنسانية.

شهادات استعمارية.. ديمقراطية ورجولة وجمال

وقد شهِد بهذا القادةُ العسكريون الفرنسيون أنفسهم عندما دخلوا الجزائر، ووجدوا بها حياةً ديمقراطية أفضل من الحياة السائدة في فرنسا نفسها، مثل “الكُونْت دي هيرسون” الذي كَتَب يقول: “إنني أشكُّ في شرعية احتلالنا لهذا البلاد، فإن للقبائل حقّ الأولوية – الذي لا جدال فيه – من المعيشة بين منازلها كما هو حالها من أجيال مضتْ. ويبدو لي أن العرب لم يُسيئوا التّصرفَ في معيشتهم ما داموا يحكمون أنفسهم بقوانين ديمقراطية صالحة.. ونحن إنّما نَقْسوا عليهم لا لشيىء إلاّ لأنَنا أقوى منهم”.

ويقول الكولونيل “فوري”: “لم أرَ قطُّ ولم أكن أتوقّع من هذه الكُثرة من السّكان، ومن ضخامة المراكز التي تجمعهم كما رأيتُ في جبال (بني بو عايش) و(بني مالك). فهنا تجد المساكن المُنعزلة كثيرةً، ولكن تجد أيضا مداشِرَ (جمع دَشْرَة ويُقال في اللغة: دَسْكَرة) وقُرى شبيهة بالتي عندنا في فرنسا، وفي أحسن وأجمل ما تكون من الواقع، كلّها مُحاطة بالبساتين والجبال المُشَجّرة العاتية العظيمة بزياتِينها (الزياتين جمْعُ زيتونة).. لقد وَقفْنا كلّنا مَشْدوهين مَذهولين لهذا الجمال الطبيعي الذي لا يكاد يُحّدُّ، ولكن الأوامر هي الأوامر.. وقد كان اعتقادي أنّني أقوم بواجبي كأكمل ما يكون عندما لا أتركُ قريةً واحدةً قائمةً، ولا شجرةً واقفةً على ساقِها، ولا حقْلاً عامرًا. وإنّ الشّرورَ التي اقترفَها جنودي كانت لا تُعدُّ ولا تُحصَى. ولكن هل ذلك شرٌّ أو هو خيرٌ؟ إنني أعتقدُ أن ذلك هو الوسيلة الوحيدة لحَمْل السّكان على الاستسلام والهجرة”.

ونتيجة لهذا الحياة الجماعية العادلة، كان الفلاّح يتمتّع بمستوى من المعيشة حسنٌ، أثّر في بنيته وصحّته. وها هو الجنرال “فالازيه” يشهد بذلك في أحد تقاريره: “كان هؤلاء البدو والسّكان في القرى والمداشر يُمارسون بعض الألعاب الرّياضيّة البدنية جعلتْ منهم – مع ما كانوا يتمتّعون به من الهواء الطّلق والرّخاء الحقيقي في المعيشة – رجالاً كاملِي الرّجولة”.

الفلاّح الجزائري.. الأنموذج الكامل للإنسان الثائر

ورخاءُ المعيشة والحياة الديمقراطية وسلامة البُنيَة جعلت من الفلاّح الجزائري نموذجًا كاملاً للإنسان الثائر. فهو لا يعرف سوى الحُريّة، ويجهل كل أنواع العبودية. له نفسٌ تأْبَى الضّيمَ وتعاف الذّلَ. جبّارٌ إذا ما شعَر بأن كرامته مُسّتْ. أسدٌ إذا أعْتُدِيَ عليه. إذا ثارَ فهو صامدٌ لا تلين له قناة. له إصرارٌ على الوصول على الهدف يبلغُ حَدَّ العناد.

محمد ياسين رحمة - الجزائر

محمد ياسين رحمة - الجزائر

اقرأ أيضا

آخر الأخبار
لائحة الأمن في البحر الأحمر.. لهذا السبب امتنعت الجزائر عن التصويت! أحوال الطقس.. أمطار وثلوج على هذه المناطق بعد الكرة الذكية والملعب الذكي.. ماذا بقي من لعبة بيليه ومارادونا؟  بعد إعلان وقف إطلاق النار في غزة.. ترامب يطلق تصريحات اجتماع الحكومة.. مشاريع قطاع الري على طاولة العرباوي وزارة الدفاع.. إرهابي يُسلم نفسه إلى السلطات العسكرية ببرج باجي مختار قوجيل: فرنسا هي من تحتاج الجزائر أكثر وليس العكس تطورات الوضع في اليمن.. الجزائر تترأس اجتماعا لمجلس الأمن لضمان استقرار السوق في رمضان.. استيراد 28 ألف طن من اللحوم أول شركة ناشئة تقتحم السوق المالي.. ماذا يعني إطلاق تداول أسهم "مستشير" في بورصة الجزائر؟ سيكون من أحسن المطارات في إفريقيا.. فتح سوق حرة بمطار الجزائر الدولي قريباً التقلبات الجوية.. طرق مغلقة بسبب تراكم الثلوج الارادة السياسية المشتركة.. رئيس الكونغو الديمقراطية يشيد بدور الجزائر الريادي «إسرائيل» تُقايض الأرواح بثمن مُر   في اليوم الـ467 للحرب على غزة.. وفد الاحتلال المفاوض يناقش قوائم الأسرى الفلسطينيين هبوط المخزونات الأمريكية.. استقرار في أسعار النفط أحوال الطقس.. 12 موجة خطيرة تضرب السواحل الجزائرية فرنسا تدعي والجزائر تكشف المستور.. عن أي مساعدة للتنمية تتحدث؟ مفكّكا أسطورة المثالية الأمريكية.. تشومسكي يفضح الديمقراطية الملطخة بعار الإمبريالية رئيس الجمهورية يستقبل حساني شريف