تشكّل مسألة الاحتباس الحراري ـ وتداعياتها على المناخ ـ واحدة من أهمّ معضلات العصر، نظرا لاقترانها بشبح الجفاف والكوارث الطبيعية وبشكل خاص “الحرائق” التي أصبحت تمثّل تهديدا حقيقيا لكثير من بلدان العالم على غرار الجزائر التي تعرف خلال الأشهر المقبلة ارتفاعا قياسيا في درجات الحرارة ما ينذر ـ لا سمح الله ـ بنشوب حرائق قد يساعد على انتشارها تضرر الغطاء النباتي بسبب شح الأمطار، غير أن المصالح المعنية من دوائر وزارية ومديريات أخذت على عاتقها ككل سنة ـ منذ كارثة حرائق تيزي وزو وخنشلة صيف 2021 ـ اعتماد إجراءات استباقية لحماية الثروة الغابية والمحاصيل الزراعية.
الأكيد أن الجزائر تولي الاهتمام اللازم لمكافحة التغيّر المناخي والكوارث النّاجمة عنه، باعتبارها إحدى التزاماتها وأولوياتها الدائمة على المستوى الوطني والدولي، وهو ما ترجمه حضور رئيس الجمهورية قمة قادة العالم في المؤتمر الـ27 لأطراف اتفاقية الأمم المتحدة الإطارية بشأن التغيرات المناخية (كوب-27) بشرم الشيخ (مصر) نوفمبر الفارط.
هذه المشاركة الجزائرية أكدت مجددا رؤية الرئيس، الذي شدّد في أكثر من مناسبة على أهمية تعبئة جميع الموارد واتخاذ الإجراءات والتدابير اللازمة لمكافحة آثار التغيرات المناخية، من بينها المخطط الوطني للمناخ وقانون مكافحة المخاطر الكبرى، وكذا إعادة بعث مشروع السد الأخضر بهدف المساهمة في إنشاء منطقة خضراء منخفضة الكربون ومقاومة للمناخ.
الثابت أن الجزائر تعرف مرحلة جفاف أفرزتها تغيّرات مناخية، أدت إلى شحّ في الأمطار وبالتالي نقص المياه الجوفية ومياه السدود، وما يقابله من ارتفاع قياسي في درجات الحرارة خلال الأشهر المقبلة، هذا الوضع قد يؤدي إلى حدوث حرائق في أكثر من عشر ولايات، لاسيما وأن صيف 2022 شهد حرائق غابية بعدد من الولايات، نجم عنها وقوع ضحايا وأضرار مختلفة، وقد نجحت أجهزة التدخّل المختصّة رفقة الجيش الوطني الشعبي في تطويقها وإخمادها وإنقاذ المواطنين القاطنين في محيطها.
وزيرة البيئة والطاقات المتجددة السابقة فاطمة الزهراء زرواطي:
“أمن الإنسان مرتبط بالأمن الطبيعي”
من جهتها، قالت الوزيرة السابقة للبيئة والطاقات المتجددة، فاطمة الزهراء زرواطي، إن الجزائر شهدت تجارب متراكمة كثيرة فيما يخص مجابهة الحرائق التي تندلع في مناطق ذات مسالك وعرة، بعيدا عن مصادر الماء، ففي حال توفر طائرات إطفاء حرائق سرعان ما تلتهب قبل الوصول إليها، لاسيما بوجود النفايات القابلة للاشتعال والنباتات الجافة، مؤكدة على ضرورة تطبيق قوانين رادعة ضد المُتسبّبين في هذه الحرائق، موازاة مع اعتماد آليات استباقية ورؤية استشرافية وإطلاق عمليات تحسيسية وتوعية في صفوف المواطنين من مختلف الفئات لأن أمن الإنسان يتحقّق حينما يتوفر الأمن الطبيعي.
وبعد أن أوضحت زرواطي في تصريح لـ”الأيام نيوز” أن الجزائر في مرحلة فاصلة إذا استمر الوضع على حاله ولاسيما تجاهل المواطنين لكثير من المتغيرات الطبيعية التي قد تهدّد أمنه وسلامته، أبرزت الناشطة الجزائرية في البيئة، أن الطبيعة تُدير نفسها وفق قوانين ضبطها الله عز وجل، من أجل مساعدة الإنسان الذي يتسبب ـ تضيف زرواطي ـ في اختلال التوازن الطبيعي والبيئي الذي قد يُفرز تهديدات مناخية، وانتقدت المتحدثة تذمّر المواطن من غلاء الأسعار المحكومة بقانون العرض والطلب، في وقت يتسبّب هذا المواطن نفسه ـ بشكل أو بآخر ـ في تخريب الأراضي الزراعية والصيد العشوائي وما ينجرّ عنهما من زوال للثروة.
منطق توازن الطبيعة
وعادت مهندسة الدولة في البيئة، لتؤكد على أن الإنسان هو العامل الرئيس في التأثير على توازن الطبيعة والمتسبّب في حرائق كارثية وتخريب الأراضي النباتية، فالحرائق ـ تضيف ـ كارثة طبيعية تحدث منذ الأزل وتساهم في التوازن الطبيعي فتنظف الغابة والنباتات الطفيلية، لكن بفعل النفايات القابلة والمساعدة للحرق التي يتسبب فيها الإنسان يحدث خلل قد يؤدي إلى نتائج كارثية تلحق أضرارا بكل الكائنات الحية في الطبيعة، على حد تعبيرها.
ثمة حاجة ماسّة اليوم إلى أخلقة الحياة العامة فهي هي ضرورة تضمن عودة النظام الطبيعي إلى عهده، تقول زرواطي التي شدّدت مجدّدا على دور التوعية في أوساط الأسرة، المدرسة والمساجد من أجل تنشئة جيل على التصرفات الصحيحة حيال الطبيعة.
أما عن الاحتباس الحراري والمتغيرات المناخية، فأوضحت الوزيرة السابقة للبيئة، أن الظاهرة يعرفها العالم منذ منتصف القرن الماضي إلا أن الانعكاسات لم تظهر سريعا بما أن التّغيرات المناخية تعود بالأساس إلى التقلبات الطبيعية، فالمتعارف عليه أن الطبيعة ليست جامدة، لكن مع الثورة الصناعية وانبعاثات الكربون وغير ذلك أدى إلى اختلال توازن الطبيعة، ثم إلى الدخول في نمط استهلاكي مجحف في حق الطبيعة، لأنه مقرون بالتبذير (رمي ثلاثة أضعاف ما يمكن استهلاكه)، إلى جانب وسائل التكنولوجيا وما تلحقه من ضرر للمناخ (مخلّفات استخدام السيارات والمكيفات)، لتبقى ثنائية ارتفاع درجات الحرارة وهطول الأمطار متعلقتان بتوازن سيكولوجي بعيدا عن أي خلل، قد ينعكس على تطور الإنتاج الزراعي، تقول زرواطي.
وفي الأخيرة، خلصت زرواطي بالقول، إن قمة المناخ «كوب-27» تعمل على خفض درجة الحرارة باعتماد أساليب الخفض من خلال الصناعات النظيفة والممارسات الجديدة السليمة وانتهاج النظام الغذائي الصحيح.
أسباب تُغذي فرضية نشوب حرائق هذا الصيف
خبير العلوم الهيدرولوجية، الدكتور بوزناد عماد، توقّع نشوب حرائق هذه السنة، بسبب تأثر الغطاء النباتي نتيجة ارتفاع درجات الحرارة مؤخرا في ظل التغيرات المناخية، لاسيما ما تعلّق بموجه الجفاف التي تشهدها البلاد إلى جانب نقص الموارد المائية.
وتناول المختصّ في علوم المياه، ظاهرة موجة الحرّ وسلسلة فترات الجفاف المتقطّعة التي مرّت على الجزائر، لاسيما خلال 1970 و1975 حين عرفت البلاد مرحلة صعبة وصل تأثيرها حتى المناطق الشمالية الساحلية، وتلتها فترة جفاف أخرى بدأت سنة 1999 وانتهت في 2003، إلى غاية آخر فترة تشهدها الجزائر منذ سنة 2021 إلى غاية اليوم، ليتنبأ محدثنا، باستمرار موجه الحرّ الحالية لعامين آخرين وذلك قياسا بفترات الجفاف المذكورة سلفا والتي تتراوح مدتها الزمنية في العادة من 4 إلى 5 سنوات، معتبرا أن ندرة الأمطار والاحتباس الحراري الذي يشهده العالم ككل على غرار الجزائر، عاملان رئيسيان من العوامل المؤدية لحدوث الجفاف.
وكإجراءات استباقية لمواجه هذه المرحلة، اقترح الخبير ـ في اتصال مع «الأيام نيوز» ـ استغلال مياه التصفيات، أي معالجة المياه المستعملة واستخدامها في الزراعة والصناعة أو حتى تغذية خزانات المياه الجوفية مثلما تقوم به الدول المتقدمة، مذكرا بأن أزمة الجفاف من زاوية أخرى فرصة يمكن استغلالها لتنقية السدود من الأوحال وزيادة سعتها لاستخدامها مستقبلا.
ولفت دكتور العلوم الهيدرولوجية، إلى أنه يعمل وبالتعاون مع باحثين جزائريين، إيطاليين وأتراك على مشروع تتبع التغيرات المناخية في بلدان حوض البحر المتوسط، على اعتبار أن تتبع الجفاف المكاني والزماني في حوض البحر المتوسط وكيفية تأثيره على الغطاء النباتي والفلاحة بالخصوص، يُعدّ ـ حسبه ـ حلا وقائيا للكثير من المشاكل الطبيعية وعلى رأسها مواجهة الجفاف والحرائق.
تنصيب اللجنة الوطنية لحماية الغابات لسنة 2023
وبدورها، شرعت وزارة الداخلية بالتنسيق مع وزارة الفلاحة في التحضير المُبكر لهذا الصيف، حيث أكد وزير الداخلية والجماعات المحلية إبراهيم مراد، خلال مراسم تنصيب اللجنة الوطنية لحماية الغابات لسنة 2023، بحر الأسبوع الفارط، اتخاذ إجراءات استباقية، تنبؤية ووقائية لمواجهة الحرائق لموسم 2023 وفق معايير ومقاييس دولية مضبوطة في هذا المجال، موازاة مع تفعيل المخطط الولائي للوقاية ومحاربة حرائق الغابات بالتعاون مع الولاة، إلى جانب إجراء تمارين افتراضية ميدانية لحدوث حرائق للوقوف على مدى جاهزيتها وفعاليتها لمجابهة الحرائق المحتملة وكذا فتح العديد من المسالك والخنادق الغابية على مستوى العديد من الولايات، ما يسمح بتسهيل عملية التدخل، فضلا عن تنظيم حملات تحسيسية مبكرة، حسب الوزير.
وعليه فقد وقف مراد بحر هذا الأسبوع على تنفيذ تمرين جهوي لفرق الدعم والتدخل الأولي للحماية المدنية بالشلف، وإعطاء إشارة انطلاق الحملة التحسيسية للوقاية من مخاطر الكبرى مع معاينة استراتيجية الحماية المدنية في هذا المجال.
استئجار 6 طائرات قاذفة للمياه والشروع في اقتناء 4 أخرى
وبالنسبة للإجراءات المُتخذة فقد أعلن الوزير ذاته، عن انطلاق أشغال إنجاز مهابط على مستوى عشر ولايات حيث تتراوح نسبة تقدم الأشغال بها بين 10 و60 بالمائة ويرتقب استلامها في بداية شهر جوان الداخل، موازاة مع تسخير جميع الإمكانيات المادية والبشرية المُتاحة بما فيها الوسائل الجوية وتوظيف عمال موسميين، لتعزيز اليقظة والتدخل الأولي بالتنسيق مع مصالح الغابات، في وقت تم مباشرة إجراءات استئجار وحجز ستة طائرات قاذفة للمياه، مرفقة بطاقم تقني للملاحة الجوية، فيما شرعت وزارة الدفاع الوطني ـ حسب الوزير ـ في إجراءات اقتناء أربع طائرات روسية الصنع من نوع Beriev بسعة 120 ألف لتر، والتي من المفترض تسليمها خلال هذه السنة، كما تم الشروع في تطوير طائرات بدون طيار جزائرية الصنع من خلال المبادرة التي أطلقتها المندوبية الوطنية للمخاطر الكبرى.
مخطط لحماية المحاصيل الزراعية
ومن جهتها، أعدّت المديرية العامة للحماية المدنية إجراءات استباقية لحماية المحاصيل الزراعية من أخطار الحرائق على مستوى المستثمرات الفلاحية عبر الوطن، حيث تم الإطلاق الرسمي للحملة الوطنية من ولاية المنيعة نهاية أفريل الفارط، إذ تم إعداد ورشات تدريبية تطبيقية لمستعملي آلات الحصاد وكيفية التعامل مع الحرائق أثناء حملة الحصاد والدرس، بما يساعد على اتخاذ كافة الإجراءات الوقائية التي قد تمكنهم من السيطرة على الحرائق في وقت وجيز، وتفادي القدر الممكن من الخسائر.
هذا واستهدفت الحملة فلاحي ولايات الجنوب، من أجل حماية المحاصيل الزراعية من أخطار الحرائق على مستوى المستثمرات الفلاحية عبر الوطن سواء تعلق الأمر بالطبيعة من خلال ارتفاع درجات الحرارة أو تلك الحرائق الناجمة عن آلات الحصاد التي قد تسبب فيها الجرّارات أثناء حملة الحصاد والدرس.