في عالم تعصف به تحوّلات جيوسياسية متسارعة، تبدو فرنسا غارقة في أزمات داخلية وخارجية، عاجزة عن مواكبة تحديات الواقع المتغير. وعلى الرغم من محاولاتها المستمرّة لإعادة تعريف مكانتها الدولية، تجد باريس نفسها محاصرة بسياسات استعراضية مشحونة بالمبالغة، تطغى عليها نزعة تهويلية تجعلها تبدو إما في دور الضحية أو منغمسة في عدائية مفرطة. وهذا النهج لا يقتصر على علاقاتها مع الأقطاب الكبرى مثل روسيا والولايات المتحدة والصين، بل يمتد أيضًا إلى علاقاتها مع القوى الإقليمية الصاعدة، وخاصة إزاء الجزائر، حيث تتعامل معها بروح من الغيظ والكبرياء الوهمي، ما يعكس حالة من الخوف والارتباك، بالإضافة إلى شعور متزايد بالتناقض والازدواجية. ومن خلال تحليل هذه السياسات، يظهر بوضوح كيف أن فرنسا فقدت نفوذها في إفريقيا واهتزت هيبتها داخل الإطار الأوروبي، لتجد نفسها عالقة في صراع داخلي مع تحديات الهيمنة الاقتصادية والفشل الدبلوماسي. وفي هذا السياق، يتناول ركن “إضاءات” في هذا العدد من “الأيام نيوز” أبعاد السياسات الفرنسية، التي قد تجعل منها مستقبلا مجرد عادية تماما، فاقدة للطموح ومنكفئة على ذاتها.
من خلال متابعة التصرفات الفرنسية تجاه روسيا، يتضح بجلاء الحساسية المفرطة في ردود الفعل. فموسكو، التي تسعى لحماية حدودها، تجد نفسها مضطرة لصد عمليات الاستطلاع الفرنسية، التي تشكل جزءًا من الأجندة العسكرية لحلف شمال الأطلسي. ورغم أن هذه العمليات تُعد من الأنشطة الاستخباراتية المعتادة في المناطق الحدودية، فإن فرنسا تصرّ على تقديم نفسها في هذا السياق كدولة ضعيفة تتعرض لهجوم عسكري وتطلب النجدة.
أما في مواجهة الولايات المتحدة والصين، تتصاعد النبرة الفرنسية ضد الهيمنة الاقتصادية الأمريكية، في وقت يشهد فيه النفوذ الصيني توسعًا ملحوظًا على الساحة العالمية. وتعكس خطابات المسؤولين الفرنسيين تهديدات وجودية قد تؤدي إلى تقليص قدرة فرنسا على المنافسة الدولية، مما يخلق شعورًا مبالغًا فيه بالقلق والخوف من “السحق” أو التهميش إذا لم تُتخذ إجراءات حاسمة لمواجهة هذه القوى.
على المستوى الإقليمي، تشهد فرنسا توترات مستمرة مع الجزائر، تنعكس بشكل صارخ في تصريحات مسؤوليها. ففي حين سعى وزير الخارجية الفرنسي إلى تبني مواقف متوازنة تهدف لتهدئة الأوضاع، يصر وزير الداخلية على التصعيد، مما يكشف عن وجود تباين داخلي في الاستراتيجية الدبلوماسية الفرنسية. إضافة إلى ذلك، يساهم النقد الحاد الموجه من شخصيات سياسية بارزة في تعميق الأزمة، مما يشير إلى حالة من الفوضى داخل السياسة الخارجية الفرنسية في تعاملها مع القضايا الإقليمية الحساسة.
هل شنّت روسيا هجومًا عسكريًا ضد فرنسا؟
وفي حادثة جديدة تبرز التوتر المتزايد بين روسيا وحلف شمال الأطلسي، اعترضت الدفاعات الجوية الروسية طائرة استطلاع فرنسية فوق بحر البلطيق. وهذه الحادثة، التي تناولتها الكاتبة “فاليريا فيربينينا” في صحيفة “فزغلياد”، تسلط الضوء على نزعة التشكِّي والتهويل التي تنتهجها باريس في التعامل مع مشاكلها مع موسكو. فقد وصفت فرنسا تصرفات الدفاعات الجوية الروسية بأنها “محاولة ترهيب”، مشيرة إلى أن الطائرة الفرنسية، التي كانت جزءًا من منظومة استخباراتية لحلف شمال الأطلسي، تعرضت للرصد من قبل منظومة “إس-400” الروسية. ورغم أن الطائرة لم تُسقط، فإن استخدام الرادار الروسي أثار استياء باريس التي بالغت في رد فعلها واعتبرتها حادثة عدائية.
الموقف الفرنسي بدا متناقضًا، إذ سعت باريس لتصوير نفسها كضحية بينما كانت الطائرة تقوم بمهمة استخباراتية بالقرب من الحدود الروسية، وهو ما يستدعي ردود فعل متوقعة من موسكو. وقد أشار مقال الكاتبة “فاليريا فيربينينا” إلى أن رد الفعل الفرنسي جاء مبالغًا فيه، كما لو أن روسيا قد شنت هجومًا عسكريًا ضد فرنسا. وأكد الخبير العسكري يوري ليامين أن حلف شمال الأطلسي، بما في ذلك فرنسا، ينفذ عمليات استطلاع نشطة بالقرب من الحدود الروسية، حيث يتم تزويد أوكرانيا بمعلومات استخباراتية تُستخدم في استهداف الأراضي الروسية، وهو ما يعد جزءًا من السياسات الاستفزازية التي تنتهجها باريس وحلفاؤها تجاه موسكو.
روسيا، من جانبها، ترى أن تصرفاتها دفاعية ومشروعة، حيث تتماشى مع القوانين الدولية، إذ يعدّ استخدام منظومة “إس-400” لرصد الطائرة الفرنسية إجراءً طبيعيًا لحماية حدودها في ظل النشاط الاستخباراتي المتزايد للناتو في مناطق حساسة مثل بحر البلطيق. ويؤكد المقال أن روسيا لن تتهاون مع أي محاولات استفزازية تُهدد أمنها القومي.
الحادثة تُبرز أيضًا البعد العسكري والسياسي للصراع، حيث يُعد بحر البلطيق منطقة استراتيجية تشهد تكثيف الأنشطة العسكرية من الطرفين. فقد بعثت موسكو، عبر رصد الطائرة الفرنسية، برسالة واضحة مفادها أنها على استعداد للدفاع عن سيادتها، في مواجهة أي محاولات تدخلية أو استفزازية.
التحليل الروسي للحادثة يوضح أن موسكو تنظر إلى أي نشاط استطلاعي قرب حدودها كعمل عدائي، خاصة إذا كان يهدف إلى دعم أوكرانيا التي تخوض ضدها روسيا نزاعًا عسكريًا. وبالمقابل، يبدو أن فرنسا تحاول استغلال الحادثة لخلق حالة من التعاطف الدولي، متجاهلة حقيقة دورها في تصعيد التوتر عبر دعمها الاستخباراتي والعسكري لكييف.
تعكس هذه الحادثة أيضا، استمرار التوتر المتصاعد بين روسيا والناتو، حيث تلعب فرنسا دورًا محوريًا في هذا الصراع عبر ممارساتها الاستفزازية، ويبدو من الرد الروسي، أنه رغم التصعيد المتزن، إلاّ أن موسكو لن تتسامح مع أي تهديدات تمس أمنها القومي، خاصة في ظل الدعم الغربي المتزايد لأوكرانيا.
هل ” يسحق” ترامب فرنسا؟
وإذا كانت فرنسا تغامر بإظهار عدائها لروسيا دون القدرة على تحمل مسؤولياتها، فإنه في الجهة المقابل تعبر بكثير من التهويل وروح التشكّي عن مخاوفها من الرئيس الأمريكي المنتخب دونالد ترامب، فقد قال رئيس الوزراء الفرنسي فرانسوا بايرو، يوم الاثنين الماضي، إنه ينبغي على فرنسا وأوروبا ككل الوقوف في وجه ترامب وسياساته وإلا فستواجه “السحق”.
وقال بايرو للصحفيين، في كلمة بمناسبة العام الجديد بمدينة بو، “قررت الولايات المتحدة الشروع في شكل من أشكال الهيمنة السياسية الشديدة، من خلال الدولار، ومن خلال سياستها للقطاع الصناعي، ومن خلال قدرتها على الاستحواذ على استثمارات وأبحاث العالم”.
وأضاف “إذا لم نفعل شيئا فإن مصيرنا سيكون وبكل بساطة: سوف نتعرض للهيمنة، وسوف نُسحق، وسوف نصبح مهمشين”، وقال بايرو “وكيف نرد، هذا قرار يقع فقط على عاتق الشعب الفرنسي وعلى كاهل أوروبا، لأنه من الواضح أنه دون أوروبا لا يمكننا أن نفعل أي شيء”، وأشار أيضا إلى “قوة الصين” التي تجاوز فائضها التجاري في ديسمبر الماضي حاجز الألف مليار دولار، وقال “إن فرنسا وأوروبا تواجهان اليوم تحديين”، الأمريكي والصيني.
وقبل أيام أعلنت الصين تحقيقها نموا بواقع 5% في عام 2024، ووصف بيير أوليفييه جورينشا كبير الاقتصاديين بصندوق النقد الدولي هذه التقديرات بأنها “مفاجأة إيجابية” مقارنة بتوقعات المؤسسة المالية الدولية البالغة 4.8%.
هستيريا فرنسية وحكمة جزائرية..
هذه السياسة المبالغ فيها تصبح أكثر وضوحًا عند تناول القضايا الإقليمية، كما يظهر في الأزمة المتفاقمة مع الجزائر. فقد عكست تصريحات وزير الداخلية الفرنسي، برونو روتايو، التي تضمنت هجومًا مباشرًا على الجزائر، تناقضًا صارخًا داخل الجهاز التنفيذي الفرنسي. جاء ذلك بعد أن انتقد وزير الخارجية جون نويل بارو هذه التصريحات بشكل غير مباشر، ما يسلط الضوء على حالة من الانقسام الداخلي، حيث تبدو فرنسا تمارس التهويل ليس فقط ضد الخارج، بل إن أعضاء حكومتها يمارسون التهويل ضد بعضهم بعضا.
وزير الخارجية الفرنسي، جون نويل بارو، دعا إلى اتباع نهج أكثر توازنًا في التعامل مع الجزائر، مشددًا على أن التصريحات التصعيدية لا تسهم في حل الأزمات، بل تزيد من تعقيد العلاقات الثنائية. ويُبرز هذا التوجه حالة من التخبط داخل السياسة الخارجية الفرنسية، ويؤكد الحاجة الملحة لمراجعة المواقف والخطابات لضمان الحفاظ على مكانة باريس في عالم مليء بالتحديات.
في المقابل، استمر وزير الداخلية الفرنسي، برونو روتايو، في تبني لهجة تصعيدية، حيث أعاد التأكيد على تصريحاته المثيرة للجدل الصادرة في العاشر من الشهر الجاري. جاءت هذه التصريحات عقب رفض الجزائر استقبال المؤثر “بوعلام”، الذي تم ترحيله بقرار إداري أثار انتقادات واسعة لافتقاره إلى الأسس القانونية والدبلوماسية. وقد صف روتايو الموقف الجزائري بأنه “إهانة” لفرنسا، معتبرًا أن ما حدث تجاوز غير مقبول.
تصريحات روتايو جاءت بعد أيام فقط من انتقادات ضمنية وجهها له وزير الخارجية بارو خلال برنامج حواري بثته إذاعة وتلفزيون لوكسمبورغ “آر تي آل”. بارو رفض وصف حادثة الترحيل بأنها “إهانة”، داعيًا إلى تجنب تأجيج التوترات مع الجزائر، معربًا عن استعداده لزيارة الجزائر لتحسين العلاقات إذا ما وافقت سلطاتها على ذلك.
ورغم جهود التهدئة التي قادها وزير الخارجية، أصر روتايو على تصعيد الموقف، مدعيا أن “الجزائر لم تحترم القانون الدولي ولا يمكنها أن تسيء إلى فرنسا دون رد”. ودعا، خلال تصريحاته لقناة “بي آف آم تي في”، إلى اتخاذ إجراءات صارمة، بما في ذلك مراجعة اتفاقية 1968 الخاصة بالهجرة، ما زاد من تعقيد المشهد السياسي.
هذه التصريحات لم تمر مرور الكرام، إذ أثارت استياء عدد من الشخصيات الفرنسية البارزة، من بينهم الوزير الأول الأسبق دومينيك دوفيلبان، الذي انتقد بشدة دعوات روتايو دون أن يذكره بالاسم. ووصف دوفيلبان اقتراح إلغاء اتفاقية 1968 بأنه يتناقض مع القيم الإنسانية والمبادئ التاريخية والجغرافية التي تربط فرنسا بالجزائر.
تفاقم التوتر داخل الجهاز التنفيذي الفرنسي أظهر تباينًا واضحًا في الرؤى، حيث بدت تصريحات روتايو وكأنها تحدٍ مباشر لوزير الخارجية بارو، الذي شدد على ضرورة احترام صلاحياته الحصرية في إدارة العلاقات مع الجزائر. بارو أكد أن مهمته تتركز على حل الأزمات لا خلقها، في رسالة واضحة إلى زميله بأن تصرفاته تعرقل جهود استعادة العلاقات الثنائية مع الجزائر، التي وصفها مرارًا بأنها استراتيجية ومهمة لمصالح فرنسا.
وأشار بارو، إلى أن مراجعة اتفاقية الهجرة لسنة 1968 تعد أمرًا معقدًا للغاية، بالنظر إلى التعديلات العديدة التي طرأت عليها في أعوام 1986 و1994 و2001. كما استذكر فشل محاولة مراجعتها في عهد الرئيس الأسبق نيكولا ساركوزي عام 2011. وأوضح بارو أن طبيعة العلاقات الثنائية بين الجزائر وفرنسا تجعل من المستحيل فرض مراجعة أحادية الجانب لهذه الاتفاقية الدولية.
وفي سياق متصل، تصاعدت الدعوات من قبل شخصيات من اليمين المتطرف في فرنسا، وعلى رأسهم السفير الأسبق لدى الجزائر كزافيي دريانكور، للمطالبة بإلغاء اتفاقية 1968، إلاّ أن هذه المطالب واجهت رفضًا وتحذيرات صريحة من شخصيات سياسية بارزة، مثل سيغولين روايال، والسكرتير الأول للحزب الاشتراكي أوليفيي فور، وزعيم حزب “فرنسا الأبية” جون لوك ميلونشون. وهؤلاء السياسيون حذروا من خطورة الاستجابة لضغوط اليمين المتطرف، الذي تغذيه رواسب الماضي الاستعماري، على حساب العلاقات الفرنسية الجزائرية.
من بين المحذرين، كان الوزير الأول الفرنسي السابق دومينيك دي فيلبان، الذي انتقد بشدة الحكومة الفرنسية وتسييرها للقضايا الدبلوماسية الكبرى لاسيما العلاقات مع الجزائر حيث أدان استفزازات وزير الداخلية برونو روتايو متهما إياه بـ “إهانة” التاريخ والروابط العميقة بين البلدين.
دبلوماسية التغريدات الاستفزازية
في حوار خاص مع “ميديا بارت” الذي تم بثه على قناة يوتيوب التابعة لهذه الوسيلة الإعلامية الفرنسية، أعرب دومينيك دي فيلبان عن استيائه قائلاً: “هناك أمر يزعجني يوميًا وهو الطريقة التي يتم بها التعامل مع القضايا الدبلوماسية الكبرى من قبل السياسيين الفرنسيين عبر تويتر في بضع جمل فقط”، وتساءل دي فيلبان، الذي شغل منصب وزير الخارجية الفرنسي سابقًا، قائلاً: “هل يجب علينا إدانة اتفاقية 1968 مع الجزائر؟ عندما نُدقق في تاريخنا المشترك مع الجزائر، هل يمكننا اختزاله في صيغة كهذه؟ ماذا يعني ذلك؟ هل يعني أنه يجب إلغاء اتفاقية 1968؟ هل هذه هي الدبلوماسية؟ هل هذه هي سياستنا تجاه دولة تربطنا بها الثقافة والتاريخ والجغرافيا والشعب؟”
وأضاف دو فيلبان قائلاً: “لا يمكننا اليوم الادعاء بأننا نخاطب العالم بلغة المزايدة فقط”، وأوضح أن “الأمر يتعلق بالضغط على زر لتقديم مزايدة. إن الإقصاء والاستبعاد والمواقف الحاسمة هي إشارات سياسية في مجتمع نتقدم فيه في استطلاعات الرأي والمشاهدات والإجابات فقط لأننا نستخدم الإشارات الصحيحة.”
تأتي تصريحات دو فيلبان، المدافع بقوة عن الجزائر، لتضاف إلى الأصوات العديدة التي ارتفعت في فرنسا لانتقاد حملة التضليل الأخيرة التي شنها اليمين المتطرف ضد الجزائر، وانتقاد الهجوم المستمر من بعض الأطراف على الجزائريين.
وكانت نائب فرنسية من حزب “فرنسا الأبية” قد دانت الأسبوع الماضي بشدة استفزازات وزير الداخلية الفرنسي ضد الجزائر، واصفة إياه بـ “المحرض الحقير.”
وفي مناقشة سياسة الحكومة الفرنسية العامة، قالت رئيسة المجموعة البرلمانية “فرنسا الأبية”، ماتيلد بانوت، مخاطبة رئيس الوزراء الفرنسي، فرانسوا بايرو: “وزير داخليتكم أدلى بتصريحات عنصرية، حيث وصف جزءًا من مواطنينا بأنهم ‘فرنسيون همهم الوحيد الوثائق”، ومن جهتها، ردت مديرة مجلة “روغار”، كاترين تريكو، على استفزازات وزير الداخلية الفرنسي، معتبرة أن “من الأفضل لفرنسا أن تتحلى بالهدوء وتعمل على تحسين علاقاتها مع العالم.”
وفي سياق آخر، تناولت الوزيرة السابقة، سيغولين رويال، مؤخرًا ما وصفته بـ “الدْين الأخلاقي” الذي تتحمله فرنسا تجاه الجزائر، وذلك نتيجة الجرائم التي ارتُكبت خلال الحقبة الاستعمارية. وفي هذا السياق، استمر حزب “فرنسا الأبية” اليساري في توجيه انتقادات حادة للوزراء والمسؤولين الفرنسيين الذين هاجموا الجزائر في الآونة الأخيرة، مستنكرًا تلك التصريحات العدائية. من جانبها، أعربت الفدرالية الفرنسية-الجزائرية للتعزيز والتجديد عن “استيائها العميق” إزاء الحملة السياسية والإعلامية التي تستهدف الجزائر والجزائريين.
إفريقيا.. حينما أخطأ ماكرون في فهم العصر
وعلى الرغم من تركيز الإعلام العالمي على تصريحات السياسيين الفرنسيين واستفزازاتهم ضد الجزائر، إلا أنه في المقابل لم يولِ القدر الكافي من الاهتمام لتدهور نفوذ فرنسا السياسي والعسكري في القارة الإفريقية، حيث تتصاعد المطالب هناك بتصفية الإرث الاستعماري. وقد تجلى ذلك مؤخرًا في تصريحات الرئيس إيمانويل ماكرون، الذي اتهم فيها زعماء أفارقة بـ “الجحود”، ما أثار موجة غضب رسمية، خاصة من تشاد والسنغال. وواجهت باريس اتهامات بازدراء الأفارقة وعدم امتلاكها الشرعية أو القدرة على ضمان أمن وسيادة القارة، مما يبرز أزمة عميقة في علاقتها مع إفريقيا وتراجع مكانتها التاريخية فيها.
ووفق باحث بالعلاقات الدولية، في حديث للأناضول، فإن فقدان فرنسا لمراكز النفوذ والتأثير التاريخية في إفريقيا يفسر لجوء ماكرون لنبرة تحيل إلى تاريخ فرنسا الاستعماري والاستعلائي. ودعا الباحث الدول الإفريقية إلى الانفلات من ضغط التأثير الغربي، عبر بناء نموذج سياسي واقتصادي محلي متكامل ومتحرر من التبعية الاقتصادية ومدعوم بإرادة سياسية وديمقراطية حقيقية.
في 6 جانفي الجاري، ادّعى ماكرون، خلال اجتماع في قصر الإليزيه مع سفرائه بالخارج، أن دول إفريقيا “لم تشكر” بلاده على الدعم الذي قدمته للقارة في مكافحة الإرهاب. واتهم زعماء أفارقة بـ “الجحود”، واعتبر أن فرنسا كانت “محقة بتدخلها عسكريا في منطقة الساحل (غربي إفريقيا) ضد الإرهاب منذ عام 2013”.
وقال ماكرون إن القادة الأفارقة “نسوا أن يشكروا فرنسا على هذا الدعم، ولولا تواجدها عسكريا لما تمكن هؤلاء القادة من حكم دول ذات سيادة”، ولم تمر تصريحات ماكرون مرور الكرام، حيث ظهر ما يبدو أنه خطاب إفريقي جديد يتسم بالحدة والانتقاد.
وقال رئيس تشاد محمد إدريس ديبي، في منشور للرئاسة عبر “فيسبوك”: “أود أن أعرب عن استيائي من تصريحات ماكرون، التي تصل إلى حد ازدراء إفريقيا والأفارقة”، ورأى أن “ماكرون أخطأ في فهم العصر”، ووصف قرار بلاده وضع حد للتعاون العسكري مع فرنسا بأنه “سيادي”.
كما أعرب وزير خارجية تشاد عبد الرحمن كلام الله عن “قلقه العميق” حيال تصريحات ماكرون لأنها “تعكس موقف ازدراء تجاه إفريقيا والأفارقة”، ودعا كلام الله، في بيان، إلى احترام إفريقيا، وشدد على “الدور الحاسم لإفريقيا وتشاد في تحرير فرنسا خلال الحربين العالميتين”، وهو دور “لم تعترف به فرنسا أبدا”. وأضاف أنه “خلال 60 عاما من الوجود الفرنسي كانت مساهمة فرنسا في أحيان كثيرة مقتصرة على مصالحها الاستراتيجية، دون أي تأثير حقيقي دائم على تنمية الشعب التشادي”.
كما ندد رئيس الوزراء السنغالي عثمان سونكو بتصريحات ماكرون، وقال أيضا في بيان إنه “لولا مساهمة الجنود الأفارقة في الحرب العالمية الثانية (1939-1945) في تحرير فرنسا من الاحتلال النازي، ربما كانت ستبقى ألمانية إلى اليوم”، ورأى أن “فرنسا لا تمتلك القدرة ولا الشرعية لضمان أمن وسيادة إفريقيا… “بل على العكس، ساهمت فرنسا في أحيان كثيرة في زعزعة استقرار بعض الدول الإفريقية مثل ليبيا، ما أدى إلى عواقب وخيمة على استقرار وأمن منطقة الساحل”، وفق سونكو.
تزامنت تصريحات ماكرون المثيرة للجدل مع تراجع نفوذ فرنسا بشكل ملحوظ في دول الساحل والصحراء، ففي 28 نوفمبر الماضي، أعلنت تشاد عن إلغاء اتفاقية التعاون الدفاعي مع فرنسا، وطالبت بسحب جميع القوات الفرنسية من أراضيها بحلول 31 جانفي الجاري. جاء ذلك في أعقاب انسحاب فرنسا من مالي قبل أشهر، حيث أنهت وجودها العسكري هناك، بالتزامن مع إعلان النيجر وبوركينا فاسو عن إنهاء الاتفاقيات العسكرية الموقعة مع باريس. ومؤخرًا، أكد الرئيس السنغالي باسيرو ديوماي فاي نيته إغلاق القواعد العسكرية الفرنسية في بلاده.
هذا التراجع الواضح في النفوذ الفرنسي يعكس أزمة أعمق في علاقة باريس مع القارة الإفريقية، حيث تتزايد المطالب بتصفية الإرث الاستعماري. وفي الوقت ذاته، يظهر دخول لاعبين دوليين جدد إلى الساحة الإفريقية، مثل الصين وروسيا، مما يعيد تشكيل الخريطة الجيوسياسية في القارة السمراء.
شعبية ماكرون.. إلى الحضيض
على صعيد آخر، يواجه الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون تحديات داخلية متصاعدة، رغم تأكيده في خطاب حديث عزمه على مواصلة ولايته الرئاسية حتى نهايتها. إلا أن الواقع السياسي والاجتماعي في فرنسا يعكس تصاعد حالة السخط الشعبي، التي تترافق مع مطالب متزايدة باستقالته كخطوة لإنقاذ الجمهورية الخامسة من أزمات متشابكة تشمل التشرذم السياسي والضغوط الاقتصادية المتفاقمة.
تشير البيانات إلى تراجع مستمر في شعبية ماكرون، حيث أظهرت نتائج استطلاع للرأي أجراه معهد “إبسوس” لصالح صحيفة “لا تريبون ديمانش” انخفاض نسبة التأييد للرئيس إلى 21% فقط، مقارنة بـ 23% في نوفمبر الماضي. وتقترب هذه النسبة من أدنى مستوياتها، التي سجلت 20% في ديسمبر 2018، ما يعكس تنامي الغضب الشعبي تجاه سياساته على المستويين الداخلي والخارجي.
ماكرون، الذي بات يواجه اتهامات بـ “فقدان الشرعية السياسية”، تعرض لمزيد من الانتقادات بعد حل البرلمان وإجراء انتخابات تشريعية مبكرة. قراره هذا، الذي تجاهل نتائجه ولم يعترف بالحكومة اليسارية التي اختارها الشعب، أدى إلى انخفاض تصنيفه الشعبي بواقع 12 نقطة، ما يعزز المطالبات باستقالته كحل للأزمة السياسية المعقدة التي تعصف بالبلاد.
وفي الجانب الاقتصادي، تبدو التحديات أشد وطأة. تشير المعطيات المالية إلى تحول فرنسا إلى واحدة من أكثر الدول مديونية في منطقة اليورو. وفي محاولة لخفض الإنفاق، يسعى رئيس الوزراء فرانسوا بايرو إلى توفير نحو 60 مليار يورو، إلا أن الأزمة تتفاقم بسبب ارتفاع أسعار الفائدة على الديون طويلة الأجل. فقد وصلت الفائدة على سندات العشر سنوات إلى 3.45% في جانفي 2025، وهو أعلى مستوى لها منذ أكتوبر 2023، مما يزيد من أعباء ميزانية الدولة المثقلة بالديون ويهدد بتخفيض جديد في التصنيف الائتماني لفرنسا. وتُظهر هذه التطورات السياسية والاقتصادية أن ماكرون يقف أمام معضلة غير مسبوقة، وسط توقعات بأن الأزمات القادمة قد تكون أشد تأثيرًا على استقرار فرنسا.
حكومة بايرو.. أزمة دعم سياسي وشعبي
تعاني حكومة رئيس الوزراء الفرنسي فرانسوا بايرو من ضعف الدعم الشعبي والسياسي، إذ تشير نتائج استطلاعات الرأي إلى أن شعبيته لم تتجاوز 20%، وهي أقل من شعبية سلفه ميشال بارنييه، الذي أُسقطت حكومته في وقت مبكر.
على الصعيد الاقتصادي، تواجه فرنسا وضعًا يُوصف بأنه “بالغ الخطورة”. فقد وصلت نسبة الدين العام إلى 110.5% من الناتج المحلي الإجمالي في عام 2023، مع توقعات بارتفاعها إلى 124.9% بحلول عام 2029، وفقًا لدراسة نشرتها الجريدة الإلكترونية الفرنسية المتخصصة “كونتروبوان” تحت عنوان “فرنسا في حالة طوارئ”، الدراسة، التي أعدها كلود سيكارد، وهو خبير اقتصادي ومؤلف كتب متخصصة، وصفت الوضع المالي الراهن بأنه الأسوأ الذي شهدته البلاد منذ نصف قرن، مع تزايد غير مسبوق في حجم الديون وتكاليفها وسط ارتفاع نفقات الدولة وتفاقم العجز العام.
يرى سيكارد أن السبب وراء هذا التدهور الاقتصادي يعود إلى سياسات القادة الفرنسيين، التي وصفها بأنها تتميز بإنفاق عام يُعد “الأعلى بين الدول المتقدمة” وضرائب “قياسية تخنق الاقتصاد”. ويُبرز التحليل الحاجة إلى إصلاحات عاجلة في ظل القلق الدولي المتزايد. فقد تراجع تصنيف ديون فرنسا من قبل وكالة “موديز”، وأعرب صندوق النقد الدولي عن مخاوفه بشأن الأوضاع المالية. كما قامت بروكسل، في جولية 2024، باتخاذ إجراءات صارمة بشأن العجز العام “المفرط”.
دعم المؤلف تحليله بأرقام ومعطيات مقلقة عن الأزمة الاقتصادية التي تعاني منها فرنسا، مشيرًا إلى أن الدين العام للبلاد لم يتوقف عن الارتفاع على مدى العقود الماضية. فقد ارتفعت نسبة الدين من 20% من الناتج المحلي الإجمالي عام 1974 إلى 60% في عام 2000، ثم 96% عام 2016، لتصل إلى 110.5% في عام 2023، متجاوزة بكثير القدرات المالية للدولة.
وأشار الخبير الاقتصادي إلى أن ديون فرنسا تضخمت بمقدار ألف مليار يورو خلال ولاية الرئيس إيمانويل ماكرون، وهو رقم يفوق بكثير ما تراكم خلال عهدة جميع أسلافه. كما توقع أن تصل نسبة الدين العام إلى 124.9% من الناتج المحلي الإجمالي بحلول عام 2029. وأكد أن سداد الديون أصبح أكبر بند في ميزانية الدولة، محذرًا من أن هذا العبء قد يُعرض فرنسا إلى فرض غرامات من قبل المفوضية الأوروبية بسبب تجاوزها الحد المسموح به من الديون والعجز المالي.
في الوقت ذاته، ألقى المؤلف الضوء على التدهور الملحوظ في النشاط الاقتصادي، مع التركيز على القطاع الصناعي. وبيّن أن مساهمة الصناعة في الناتج المحلي الإجمالي لفرنسا تراجعت إلى 10% فقط، مقارنة بـ 23% إلى 24% في دول مثل ألمانيا وسويسرا. ووصف المؤلف فرنسا بأنها “الدولة الأكثر تراجعًا صناعيًا في أوروبا، باستثناء اليونان”.
وعند مناقشة الآفاق الاقتصادية المستقبلية، أبدى المؤلف نظرة تشاؤمية، متوقعًا نموًا اقتصاديا منخفضًا لا يتجاوز 1% سنويًا في الأعوام المقبلة، ودعا الحكومة الفرنسية، ممثلة برئيس الوزراء والبرلمان، إلى اتخاذ إجراءات عاجلة للاتفاق على توزيع التوفير المتوقع بين البندين الرئيسيين للنفقات العامة: التشغيل والنفقات الاجتماعية. وأشار إلى أن “الجهد المطلوب سيكون هائلًا”، إذ يقدر حجم التوفير اللازم بحوالي 40 مليار يورو سنويًا حتى عام 2029.
سيف الإسلام القذافي يعمّق الجراح ..
تُعد قضية التمويل الليبي لحملة الرئيس الفرنسي الأسبق نيكولا ساركوزي الانتخابية لعام 2007 واحدة من أكثر الملفات إثارةً للجدل في الساحة السياسية والقضائية الدولية. هذه القضية التي تعود جذورها إلى العلاقات بين نظام العقيد معمر القذافي وفرنسا، ألقت بظلالها على مشهد سياسي معقد ومتشابك.
وفي هذا السياق، خرج سيف الإسلام القذافي، نجل الزعيم الليبي الراحل، بتصريحات نادرة ومثيرة عبر إذاعة فرنسا الدولية، كاشفًا تفاصيل جديدة تتعلق بالدعم المالي والضغوط التي تعرض لها لتغيير شهادته. تتداخل في هذا الملف اتهامات بفساد سياسي، ووعود بمنافع متبادلة، وضغوط دولية، لتبقى القصة في قلب الأضواء رغم مرور سنوات على وقوعها.
بحسب سيف الإسلام القذافي، بدأت الضغوط عليه في عام 2021 من خلال سهى البدري، المستشارة الفرنسية، التي عرضت عليه نفي الدعم الليبي لحملة نيكولا ساركوزي مقابل مساعدته في إنهاء ملاحقته أمام محكمة العدل الدولية. ثم تكررت هذه المحاولات في عام 2022 عبر نويل ديبيس، وسيط متورط في القضية، الذي تواصل مع حنيبعل القذافي، شقيق سيف الإسلام المحتجز في لبنان، وعرض إطلاق سراحه مقابل تعديل شهادة سيف الإسلام. كما أشار إلى محاولة أخرى من وسيط فرنسي من أصل عربي لم يفصح عن هويته. ورغم هذه المحاولات، أكد سيف الإسلام رفضه التام لهذه الضغوط.
وأشار سيف الإسلام إلى أن ليبيا قدمت 5 ملايين دولار نقدًا لدعم حملة ساركوزي الانتخابية، وذلك على دفعتين بقيمة 2.5 مليون دولار لكل منهما. وأضاف أن الأموال نُقلت في حقائب إلى كلود غيان، مدير مكتب ساركوزي آنذاك، بمساعدة بشير صالح، مدير المحفظة الليبية الأفريقية. وأكد سيف الإسلام أن هذه الأموال أودعت لاحقًا في بنك سويسري. كما أشار إلى أن هذا الدعم المالي كان مرتبطًا بوعود فرنسية بتنفيذ عقود ومشاريع لصالح ليبيا، إضافة إلى إنهاء الملاحقات القضائية في قضية تفجير طائرة “دي سي 10” التابعة لشركة “UTA” عام 1989، التي أسفرت عن مقتل 170 شخصًا، بينهم 54 فرنسيًا.
كما ذكر سيف الإسلام وجود تسجيلات تُثبت أن ساركوزي قد تواصل مع عبد الله السنوسي، رئيس المخابرات الليبية السابق، ووعده بشطب اسمه من قائمة الإنتربول بمجرد فوزه بالانتخابات. ومع ذلك، لم يقدم أي دليل مادي يدعم هذه الادعاءات، وهو ما أكده القضاة الفرنسيون في تصريحاتهم.
وفي حديثه مع إذاعة فرنسا الدولية، أكد سيف الإسلام أن نيكولا ساركوزي حصل نقدًا على مبلغ قدره مليونان ونصف مليون دولار من ليبيا لتمويل حملته الانتخابية في عام 2007، مشيرًا إلى أن مقابل هذا المبلغ كان على ساركوزي تنفيذ عقود وتحقيق مشاريع لصالح ليبيا. كما حصل ساركوزي على مبلغ آخر بنفس القيمة، تم تسليمه لمقربين منه بحسب سيف الإسلام، الذي لم يحدد توقيت التسليم، لكنه أكد أن السلطات الليبية كانت تأمل أن يتم إنهاء الملاحقات المتعلقة بقضية تفجير طائرة “دي سي 10” في مقابل ذلك. مع العلم السلطات الليبية كانت ترغب أيضا بسحب ستة أسماء متورطة في القضية من قائمة الاتهام، من بينها عبد الله السنوسي، مدير المخابرات الخارجية الليبية وصهر القذافي الأب.
سيف الإسلام يؤكد –وفقا لإذاعة فرنسا الدولية- أنه قام بنفسه باقتراح هذا المبلغ على الرئيس الفرنسي الأسبق مقابل وضع حد للملاحقات، ويقول إنه قام بنفسه بالإشراف على إيصال المال نقداً. وهو يؤكد أن حقائب المال سلمت لكلود غيان، الذي كان في حينه يدير مكتب نيكولا ساركوزي، “المال نقل إليه عن طريق بشير صالح”، الذي كان يدير في حينه المحفظة الليبية ـ الأفريقية ويحظى بثقة القذافي. وهو يحاكم أيضا في إطار قضية التمويل. كان ذلك، يوضح سيف الإسلام، عن طريق ألكسندر جوهري، رجل أعمال فرنسي من أصل جزائري.
يروي نجل الزعيم الليبي السابق مجددا المشهد الشهير، الذي رواه في الأساس بشير صالح، والذي “أضحك كل من كان حاضرا”، حين قام كلود غيان، الذي شغل سابقا منصب وزير الداخلية الفرنسي، بالصعود على الحقيبة المليئة بالدولارات بعد أن واجه صعوبة في إغلاقها. كانت تلك الوسيلة الوحيدة للتمكن من إغلاقها. كلود غِيان، الذي لا زال ينفي تورطه في قضية التمويل الليبي.
هذه الطرفة ترد في محضر الإحالة لمحكمة الجنايات في شهادة سيف الإسلام المكتوبة عام 2018. في شهادته الواردة بالعربية، سيف الإسلام كان أكد مسبقا للقاضي الفرنسي أنه خلال اللقاء الذي جمع بين نيكولا ساركوزي والقذافي الأب عام 2005 في طرابلس، تم إثارة موضوع المساندة المالية للمرشح الرئاسي المقبل للانتخابات الفرنسية.
سيف الإسلام كان أكد أن الدعم لهذه الحملة “تمثل في تسديد مبلغ مليونين ونصف يورو”. وبحسب القضاة فإن سيف الإسلام شرح بأنه “بسبب ذلك أوفد نيكولا ساركوزي إلى طرابلس مدير مكتبه كلود غيان لاستلام المبلغ”. ويقول المحضر بأن “سيف الإسلام حصل على تأكيد بالتسليم من كلود غيان عبر بشير صالح في مكتب هذا الأخير”. كلود غيان يكون إذن قد “عاد إلى فرنسا ومعه مبلغ مليونين ونصف مليون يورو نقداً”، يشير محضر القضية نقلا عن سيف الإسلام الذي يؤكد في جانب آخر أن “زياد تقي الدين وضع في الصورة”.
في الحديث المتبادل مع إذاعة فرنسا الدولية، يؤكد سيف الإسلام أيضا أن نيكولا ساركوزي حين كان وزيرا للداخلية، اتصل شخصيا بعبد الله السنوسي وزير الداخلية الليبي الأسبق، خلال زيارته لليبيا عام 2005، واعدا إياه بسحب اسمه من لائحة الإنتربول بمجرد أن يتم انتخابه رئيسا. ويؤكد ابن الزعيم الليبي أن هناك تسجيلات لهذه المحادثة الهاتفية وأن التسجيلات لا زالت في حوزة السنوسي. ويشير إلى أن كل ذلك تم ذكره عام 2018 للقاضي تورنير المكلف بالقضية.
سابقا، وفي عدة مناسبات، أكد المسؤولون الليبيون امتلاكهم لتسجيلات ووثائق تؤكد تورط الرئيس ساركوزي في التمويل غير المشروع، لكن إلى اليوم لا يملك القضاء الفرنسي مثل هذه الوثائق. وكان سيف الإسلام قد أشار إلى هذا التمويل المفترض في مارس 2011، خلال مقابلة مع شبكة يورونيوز ومن ثم خلال مؤتمر صحفي عقده في طرابلس، في وقت سبق سقوط النظام الليبي. وبعد تدخل حلف الناتو في ليبيا، طالب سيف الإسلام عندها الرئيس الفرنسي ساركوزي بإعادة الأموال التي أخذها من ليبيا.
يبرز ملف القضية لدى محكمة الجنايات الفرنسية عدة عناصر تفيد بتعدد دوائر إرسال الأموال وبتعدد الجهات المشاركة في عملية التمويل وتحويل الأموال إلى فرنسا داخل النظام الليبي. ويوصّف محضر المحكمة وجود نظام تمويل مفترض يتخطى الدور الذي لعبه سيف الإسلام كما يصرح به.