إذا لم يغيّرنا رمضان.. فمتى نتغيّر؟.. ليس بعد شهر الهداية إلا شهور التّيه!

اختار لنا الله أن يكون “رمضان” هو المعلّم الذي يرافقنا في رحلة الصيام طيلة أعمارنا، ففي كل عام يُلقي فينا دروسه النهارية والليلية، ويحفّزنا على تجديد قوة الخير الكامنة فينا، وتفجيرها في مسالك الحياة وحقولها، فنستعيد أنفسنا من التّيه الذي يجتذبها إليه طيلة أشهر العام الأخرى.. هذا التّيه يُوشك أن يقتل فينا القيم الروحية ويمكّن للمادة لتفترسنا وتهيمن علينا فنستسلم لها ونكون عبيدا لها.

“رمضان” هو المعلّم الذي يحافظ على التعادلية بين الروح والمادة في بنائنا الداخلي والشخصي، و”يصفعنا” عندما توشك الشهور الأخرى أن تحرّفنا عن مسار أصالتنا وتجعل منّا أناسًا آخرين غيرنا لا يشبهوننا، فننتبه إلى أنّنا على حافّة السقوط في هاوية الشرّ وعبَدَة الشيطان، فنبادر إلى إنقاذ أنفسنا وتجديد إيماننا وتمسّكنا بقيمنا وأخلاقنا وفضائلنا..

ماذا لو لم يفرض اللهُ علينا “رمضانَ”؟ ماذا لو كان عبادةً “اختيارية” أو شعيرة فرديّة؟ ربّما يصعب أن نتخيّل حال الشعوب الإسلامية بدون رمضان؟ فواقع حالهم، رغم وجود رمضان، يدعو إلى الرّثاء الذي يمزّق القلوب والأكباد، ويعصف بالعقول والأفكار! وسنترك للقارئ أن يتخيّل حال الأمّة الإسلامية بدون رمضان.. رمضان المعلّم الذي يُلزمنا في دروسه بالوحدة والتكافل والتضامن والمحبّة والانتصار للحق والتقرّب إلى الله والابتعاد عن أهل الشرّ وعَبَدته وغيرها من الدروس التي حُفظت كلامًا في الأوراق أو على ألسن المتكلّمين، ولكن أكثرها غائبة من يوميات الحياة وتفاصيلها!

رمضان هو شهر الفرد والمجتمع والأمة على حدّ السواء، ولعله يفقد كثيرًا من معانيه النبيلة – مثلا – عندما لا يتداعى جسد الأمة كلها لما يحدث للشعب الفلسطيني في غزّة.. بالسهر والحُمّى، والغيرة والحميّة على أبناء الإسلام الواقعين فريسةً للقهر والظلم والتجبّر العالمي لقوى الشّر! واعتقادنا بأن هذه الأمّة إذا عجز أبناؤها أن يغيّروا ما بأنفسهم في شهر رمضان، فلن يغيّروه في شهور “التّيه” من السنة!

لقد كان وسيظلّ “رمضان” معلّمنا الأعظم عبر قرون طويلة خاصة فيما يتعلّق ببطولات الصادقين وانتصارات الصابرين في الحروب والمعارك الكبرى ضدّ بيادق قوى الشرّ الذين عملوا ويعملون على هدم الإنسان والأوطان، ولا يزالون سائرين في رسالتهم الشيطانية لنشر الشّرور في كل العالم!

في سياق هذا الشهر الفضيل، توجّهت جريدة “الأيام نيوز” إلى نخبة من الكتّاب الأفاضل بهذه الرسالة: رمضان شهرٌ عظيم وله ذكرياته في حياة كل إنسان، فما هي ذكرياتكم حول رمضان: أيامه، لياليه، سهراته، سحوره وفطوره، طقوسه بين الأمس واليوم؟ وهل تُمارسون الكتابة الإبداعية خلال شهر رمضان؟ قديما قال الشاعر ابن الرومي:

شهـر الصيـام مبــاركٌ — ما لم يكـن فـي شهر آبِ

خِفت العذاب فصمته — فوقعت في نفس العذاب

فالأدباء والشعراء لهم حكاياتهم مع هذا الشهر الفضيل، فهل هو شهر الأدب مثلما هو شهر العبادة والعمل؟ وكيف تكون الكتابة بأمعاء خاوية؟

وماذا عنك عزيزي القارئ، هل لديك ما تقوله عن رمضان؟ حاول أن تتوجّه إليه برسالة تخاطبه فيها، وتصارحه بكل ما يجول في خاطرك حول هذا الشهر العظيم الذي جعله الله فرصةً للمسلمين كي يتطهّروا من أدرانهم ويجدّدوا إيمانهم ومنابع المحبّة في أعماقهم. تقبّل الله صيامكم وجعلكم ممّن تدعون الله فجيب دعاءهم ولا يجعلكم ممن تدعون فلا يُستجاب دعاؤهم، وكل عام ورمضان مُعلّمكم الأعظم.

وحيد حمود 3 1
وحيد حمّود (كاتب من لبنان)

رمضان لم يتغيّر يا أبي.. بل نحن الذين تغيّرنا!

ما زلت أذكرُ صوت أبي، رحم الله أبي، كان يدخل غرفتنا، يقترب من سريرنا الذي كنّا نتقاسمه وإخوتي الثلاثة، يمدّ يده فينكزني هامسًا: قم قبل أن يضرب المدفع. أسمع الهمس نفسه مرّاتٍ عدّة، كان ينتقل به من وجهٍ إلى وجه، كنت أتململ في السّرير بعد أن يفرغ ممّن كانوا يقاسمونني إيّاه، أسرق راحةً لطالما طمعت في الحصول عليها، وحين حصلت عليها كبيرًا، صار كلّ شيءٍ ضيّقًا، ربّاه كيف تصير الرّاحة ضيقًا؟ كانت تمتدّ فوق ثغري المتثائب لفحة عطشٍ عتيق، كهذا العطش الذي يراودني الآن وأنا أكتب هذي السّطور، كان العطش قديمًا يُروى بجرعة ماء، والآن لا شيء يرويه، فمن ذا الذي يروي واقعًا تبدّل، إذ إنّ كلّ من تقاسم معي سرير الطّفولة أمسى في أرضٍ غريبة، ووجه أبي، صوت أبي، رائحة أبي، عادوا إلى الأرض.

“قوموا على سحوركم، صلّوا على شفيعكم” لم تزل الكلمات الممزوجة بصوت الطبلة تدقّ طبلة أذني الآن، كلّ شيءٍ تغيّر، من فينا لم يتغيّر؟ لم يكن السّحور خفيفًا، إذ إنّ ما تبقّى من طعام الإفطار هو وجبة السّحور، وكنّا سعداء، أذكر ذلك جيّدًا، وأشعر بتلك القشعريرة الحلوة الآن، تحسّسوها معي، كان كلّ شيءٍ عفويًّا عاديًّا، وما أجمل أن يكون كلّ شيءٍ هكذا، كنّا نأكل أيّ شيء، ونشبع، نحمد الله، ونبتسم لفنجان الشاي الذي ينهي رحلة السّحور القاسي على المعدة واللطيف في أعيننا، والآن، يمتدّ السّحور بأطباقه المتنوّعة، وأشعر بجوعٍ لا ينتهي، أيُّ سحورٍ يُشبع روحًا تحنّ إلى الغياب؟ الآن أُدرك تمامًا أنّ السّعادة في الأشياء التي لم نكن نعِرها انتباهنا، في الوقت الذي انقضى برفقة من نحبّ، ليس في طعامٍ ولا شراب.

رمضان لم يتغيّر يا أبي. بل نحن الذين تغيّرنا

أسأل نفسي دائمًا: أيّهما أقسى؟ الحنين لأيّامٍ اشتهينا فيها واقعًا أفضل، أم الواقع الذي صار فارغًا رغم امتلائه بكلّ ما نريد؟ ليس لديّ جواب، لكنّ كلّ شيءٍ يمرّ، وها هي الأيّام تتوالى، رمضان يكبر فينا ونكبر معه، وتكبر معه أشواقنا لتلك اللحظات، والآن نكتب بمعدةٍ خاوية، إنّها معدة الرّوح، ليست معدة الجسد، وما من شيءٍ يُشبع روحًا توّاقةً لمن رحلوا.

رمضان اليوم يسري في عروقي، يحمّلني ذكريات “اللمّة الحلوة”، أتخيّل وجه أبي جالسًا على رأس السّفرة، مادًّا يديه يحمّلهما تمتمات أدعيةٍ حبّذا لو أنّني عرفتها آنذاك، لم يكن ليباشر بالطعام قبل أن ينهي أدعيته، لكنّني أظنّ أنّني ثقفتها الآن. نم قرير العين يا أبي، فدعواتك أتحسّسها في كلّ خطوة.

لم نكن نزيّن البيت، لم نضع فانوسًا مضيئًا، لكنّ بيتنا كان محاطًا بنورٍ سماويّ، والآن تزيّنت السّاحات، وامتلأت الطرقات بالأنوار، واستفاقت الشوارع كأنّها لم تعد تعرف إلى النّوم سبيلا، ولكنّ شيئًا ما تغيّر، لقد بتنا نهتمّ بضوءٍ في الشارع وننسى ضوء البيوت، بتنا نتقاسم صور الأطعمة والجوع يسري في عروق غيرنا من دون رحمة، كم من منزلٍ عانقت حجارته أرضه وأهله يفترشون الخيم؟ تُرى كيف يكون رمضان عند هؤلاء؟ كم من جرحٍ نازفٍ في غزّة وشهر الخير تملّص منه أهل الخير؟ لقد كان أبي يخبرنا بأنّ الإنسان إنسانٌ ما بقي لديه الحسّ بمن ليس لديهم مأوى، لقد أخبرنا أنّ الجوع ليس جوعًا إن تقاسمنا رغيفًا مع إخوتنا، والآن يا أبي، غافلون نحن، نحيا حياتنا وكأنّ الأرض ليس فيها غيرنا، تغيّرنا، واشتدّ الجوع بمن نسيناهم حتى في دعواتنا، حبّذا لو ترجع يا أبي، فتذكّرنا بما قد نسيناه، حبّذا لو ترجع فيرجع معك رمضان الذي بتنا نفتقد إليه، حيث كنّا نشعر بغيرنا.

الآن أكتب، وفي جحر عينيّ يتسلّل دمعٌ هاربٌ من زمنٍ بعيد، حين كان ليل رمضان يرتدي ثوب الحياة، حيث كانت أرض بلدي الحبيب مقدّسةً لم تطأها قدمٌ صهيونيّة لعينة، حيث كانت أرض غزّة تفتح ذراعيها لملاقاة الأطفال، إنّهم الأطفال نفسهم اليوم، لكنّ الأرض نفسها، من شدّة حبّها لهم احتضنتهم في ترابها، هذا التراب العصيّ على الهوان: أرض لبنان وأرض فلسطين. كم كنت حرًّا يا أبي، كم علّمتنا معنى أن يستشهد الإنسان في سبيل أرضه في تلك السّهرات الرمضانيّة، والآن نرى المشاهد على شاشات هواتفنا، فلا يهتزّ لنا جفن، أين نحن من أحاديث تلك الليالي؟

رمضان لم يتغيّر يا أبي، بل نحن الذين تغيّرنا.

سحر قلاوون 3
سحر قلاوون (كاتبة من لبنان)

رمضان.. شهر تغيّر الأولويات

حلّ شهر رمضان المبارك وحمل معه الاطمئنان والفرح والأمل بغد أفضل. وكم كنا، نحن أبناء الأوطان المتعبة، بحاجة لهذا الشهر الفضيل ليمسح آلامنا ويخبرنا عن أيام قادمة ستكون بإذن الله أجمل وأفضل.

يصبح من عاداتنا الاستيقاظ على صوت المسحّراتي، ومن ثم نعدّ السحور، ففي السحور بركة، وبعد أن نستمع إلى صوت الأذان نجد أنفسنا نقف بين يدي الله ونناجيه بروح أثقلتها المآسي ونرمي على مسامعه أدعيتنا التي خبّأناها داخل قلوبنا.

في رمضان، أيامنا ليست كبقية أيام السنة، ففيها نجد نوعا من السرور لا يتواجد كل يوم.

ولأن الصوم ليس فقط صومًا عن الطعام والشراب، بل هو صوم عن أذيّة الآخرين، ولأن رمضان يذكرنا رغما عنا بالآخرين، تصبح الصدقة حاضرة في جيوبنا مهما كانت كبيرة أو صغيرة، فالمهم هو أن نساعد غيرنا حسب قدرتنا.

وبعد نهار نقضيه، يأتينا وقت الإفطار، فنتناول ما لذّ وطاب من المأكولات ونحمد الله على نعمه التي لا تُعدّ ولا تُحصى.

أما الكُتّاب الذين يحرصون على جعل الكتابة جزءًا لا يتجزأ من روتينهم اليومي في الأيام العادية، تجد قسما منهم قد أهمل الكتابة في هذه الفترة نظرا لضيق الوقت، وربما القسم الآخر منهم يزيد من كتاباته.

هذا هو رمضان بأبهى حُلله، رمضان الذي يأتي سنويا ليكون من أهم الفترات التي نعيشها.

لكن هنالك صورٌ متعددة تجعل هذا الشهر صعبا على كُثرٍ، والسبب أننا نعيش في وطن لا يعرف إليه الاستقرار طريقا.

إذ يتم استقبال شهر رمضان على التلفاز بالشرح في كل سنة عن ارتفاع سعر صحن “الفتّوش”، فنتعرف أكثر وأكثر على جشع الكثير من التجار.

أولم ترتفع أسعار الزجاج والحديد بعد انفجار مرفأ بيروت؟! نعم، لقد ارتفعت حينها، وذلك رغبة من التجار في زيادة أموالهم على حساب من تدمَّرت منازلهم!

تدخل إلى السوبرماركت، فتُصدم بارتفاع الأسعار، فتظن للوهلة الأولى أنك دخلت محلًّا يبيع الذهب، وليس محلا يبيع الأرز والعدس والمُعلّبات.

في كل فرصة على التاجر أن يكون يقظًا ليزيد أسعاره، فيزيد بالتالي رصيده البنكي، غير مكترثٍ لمصير مئات الأُسر التي ترزح تحت وطأة الأسعار الباهظة.

حتى الملابس، ترتفع أسعارها استعدادا لمُشتري العيد، فيجد ربُّ الأسرة نفسه غير قادر على شراء ملابس العيد لأطفاله، وغير قادر على شراء القليل من الحلوى ليُفرِح قلوبهم البريئة التي تفرح بأبسط الأمور.

كما لاحظنا، رمضان هو شهر تغيّر الأولويات، ولعل هذا التغيّر الذي يجري بحلول شهرنا الكريم، ينبغي أن يستمر طيلة السنة، طبعا أنا هنا أتحدث عن التغيير الإيجابي، أما من يستغلّ هذا الشهر لتحقيق مكاسب لا تحقّ له فعليه أن يراجع حساباته، لأن كل ما يفعله الإنسان سيُحاسَب عليه يوما ما.

صبري فوزي
الدكتور صبري فوزي أبو حسين (أستاذ ورئيس قسم الأدب والنقد بكلية الدراسات الإسلامية والعربية للبنات بمدينة السادات – مصر)

رمضان شهر الإنجاز الروحي والثقافي

لا ريب عند العقلاء من الأدباء والدعاة والعلماء والفقهاء والباحثين أن (رمضان) شهر عظيم وله ذكرياته في حياة كل إنسان مسلم، فهو نفحة إلهية، تحيي الروح بالقربات وتطعمها بالإيمانيات، وتهذبها بالامتناعات عن الشهوات والملذات، فضلا عن المحرمات، وإن العقل فيه ليصفو ويزكو في هذا الزمان الصفي النقي، فيكون الإنتاج فيه فاعلا ومؤثرا.

إن رجلا مثلي بلغ الخمسين من عمره، ومرّ عليه عشرات الرمضانات، لجدير به أن يسرد حكاياته ومرئياته عن هذا الشهر العظيم روحانيا وعقلانيا واجتماعيا. وأن يرصد حالاته معه في نهاراته ولياليه وطقوسه وأحوال الناس فيه بين من هو أهله ومحبيه، ومن هو من غير أهله والنافرين منه!

(رمضان) في طفولتي هو زمان اللعب واللهو والتمتع بأجوائه الفنية من مسلسلات وبرامج لا سيما الدينية منها! ورمضان في شبابي هو زمان التعلم والتعبد والكفاح لإثبات الذات ثقافيا واجتماعيا. مع جنوح إلى الشغف بالعبادات الفريدة في رمضان مثل التراويح (واحد وعشرون ركعة)، وصلاة التهجد، وسُنّة الاعتكاف، وتعلم السيرة النبوية… مع صحبة عالية للقرآن الكريم تلاوةً وحفظا وتدبرا.

و(رمضان) بالنسبة إلى شخصي في هذا الزمان الذي أعيشه الآن: فلم يكن شهر رمضان شهر كسل ولا شهر نوم ولا شهر تعب أو شهر إحساس بالتعب ولا استكانة إلى الراحة، ولا ينبغي لي أن أستريح فيه، لا بد في كل يوم من أيامه من إنجاز. بدءا بفرائض اليوم العبادية وفرائضه الوظيفية في مجال التعليم والدعوة، ومرورا لمتطلبات الحياة الاجتماعية، وانتهاء بالمستحبات التي تطرأ مثل هذا المقال مثلا! إن اليوم الرمضاني ينقسم بين نهار عملي وليل روحي، وبينهما نوم، ولحظات فارقة تتمثل في لحظتَي الإفطار والسحور. إضافة إلى صلاة القيام إماما بالناس أو مأموما! وأقضيه باحثا ومفكرا، ومُعدًّا لمادة علمية تصلح لمحاضرة جامعية حيث وظيفتي، أو محاضرة ثقافية في ليالي قصور الثقافة أو خطبة مسجدية منبرية أو درس عملي، أو كتابة مقال أو متابعة مشروع من مشاريعي البحثية، ومن عجب أن كل هذا التنوع يكمل بعضه بعضا، ويضيف بعضه إلى بعض، فالثقافة العربية متشابكة متداخلة متثاقفة، يتناص كل مجال فيها مع المجالات الأخرى في حوار بيني فاعل وساحر.

و(رمضان) متنوع العطاءات في مجالات فكرية وخطابات ثقافية متنوعة، وهاك بيان ذلك:

رمضان” لغويا

من عجيب أمر رمضان أنه في استعمال العرب دال على الحرارة الحسيّة، جاء في لسان العرب: “رمضان: من أسماء الشهور معروف، قال الراجز:

جارية في رمضان الماضي — تقـطـع الحديث بالإيـمـاض

أي: إذا تبسمت قطع الناس حديثهم ونظروا إلى ثغرها. قال أبو عمر مطرز: هذا خطأ، الإيماض لا يكون في الفم إنما يكون في العينين، وذلك أنهم كانوا يتحدثون فنظرت إليهم فاشتغلوا بحسن نظرها عن الحديث ومضت، والجمع رمضانات ورماضين وأرمضاء وأرمضة وأرمض (عن بعض أهل اللغة، وليس بثبت). قال مطرز: كان مجاهد يكره أن يجمع رمضان ويقول: بلغني أنه اسم من أسماء الله عز وجل. قال ابن دريد: لما نقلوا أسماء الشهور عن اللغة القديمة سموها بالأزمنة التي هي فيها فوافق رمضان أيام رمض الحر وشدته فسمّي به. “الفراء”: يقال هذا شهر رمضان، وهما شهرا ربيع، ولا يذكر الشهر مع سائر أسماء الشهور العربية. يقال: هذا شعبان قد أقبل. وشهر رمضان مأخوذ من رمض الصائم يرمض إذا حر جوفه من شدة العطش.. ومن دلالات الجذر “ر/ م /ض” (الحدة والترقيق)، جاء في اللسان: ورمض النصل يرمضه ويرمضه رمضا: حدده. ابن السكيت: الرمض مصدر رمضت النصل رمضًا إذا جعلته بين حجرين ثم دققته ليرق. وسكين رميض بين الرماضة أي: حديد. وشفرة رميض ونصل رميض أي: وقيع، وأنشد ابن بري للوضاح بن إسماعيل:

وإن شئت فاقتلنا بموسى رميضة — جميعا فقطعنا بها عقد العرا

وكل حادٍّ رميضٌ. ورمضته أنا أرمضه وأرمضه إذا جعلته بين حجرين أملسين ثم دققته ليرقّ. وفي الحديث: إذا مدحت الرجل في وجهه فكأنما أمررت على حلقه موسى رميضا، قال شمر: الرميض الحديد الماضي، فعيل بمعنى مفعول، وقال: وما رمضت عند القيون شفار، أي: أحدت. وكذا نجد لهذا الجذر دلالة الوثوب، قال مدرك الكلابي فيما روى أبو تراب عنه: ارتمزت الفرس بالرجل وارتمضت به أي: وثبت به. والوثوب معنى غريب على هذا الجذر!

ومن عجيب أمر هذا الجذر اللغوي أن له دلالة خاصة بالطعام جاء في اللسان: والمرموض: الشواء الكبيس. ومررنا على مرمض شاة ومنده شاة، وقد أرمضت الشاة فأنا أرمضها رمضا، وهو أن تسلخها إذا ذبحتها وتبقر بطنها وتخرج حشوتها، ثم توقد على الرضاف حتى تحمر فتصير نارا تتقد، ثم تطرحها في جوف الشاة وتكسر ضلوعها لتنطبق على الرضاف، فلا يزال يتابع عليها الرضاف المحرقة حتى يعلم أنها قد أنضجت لحمها، ثم يقشر عنها جلدها الذي يسلخ عنها وقد استوى، لحمها، ويقال: لحم مرموض، وقد رمض رمضا. ابن سيده: رمض الشاة يرمضها رمضا، أوقد على الرضف ثم شق الشاة شقا وعليها جلدها، ثم كسر ضلوعها من باطن لتطمئن على الأرض، وتحتها الرضف وفوقها الملة، وقد أوقدوا عليها فإذا نضجت قشروا جلدها وأكلوها، وذلك الموضع مرمض، واللحم مرموض. والرميض: قريب من الحنيذ غير أن الحنيذ يكسر ثم يوقد فوقه. وارتمض الرجل: فسد بطنه ومعدته، عن ابن الأعرابي”. وكأن العرب القدامى الذين اختاروا هذه اللفظة (رمضان) من هذا الجذر (ر/ م/ ض) للدلالة على هذا الشهر، كانوا كمن يختار عن علم غيبي بما سيكون عليه هذا الشهر إسلاميا من حرارة، وفرادة، وحدة، وترقيق، وعناية لأهله بصنوف الطعام! وبما قد يعتري بعض المسرفين فيه من فساد بطونهم ومعاداتهم!

“و(رمضان) مشتق من الجذر “ر/ م/ ض”، قال “ابن فارس” في معجمه الفريد “المقاييس”: الراء والميم والضاد أصل مطَّرِدٌ يدل على حدة في شيء من حر أو غيره. فلهذه المادة عدة معانٍ مرتبطة بالحرارة والاحتراق، فالرَّمَضُ: يعني شدة الحرارة، وبخاصة حرارة الشمس على الرمال أو الحجارة. والرَّمْضاءُ: هي الأرض شديدة الحرارة. والارتماض: يعني الاحتراق. فرمضان حار حرارة مناخية، إذ يُقال: إن تسمية الشهر جاءت من شدة الحرارة التي كانت تصادف هذا الشهر في وقت تسميته في اللغة القديمة. وقد تكون حرارة معنوية خاصة بحرقه الذنوب، فهو مشتق من “الرمض”، بمعنى حرق الذنوب والمعاصي، حيث يُعتبر رمضان شهرًا للتوبة والمغفرة.

وقد تكون حرارة رمضان حرارة جسدية، حيث حرارة الجوف لدى العبد الصائم يُقال: إن جوف الصائم يشتد حره من شدة الجوع والعطش خلال الصيام. فرمضان ذو حرارات متنوعة، منها الجغرافي المرتبطة بشدة الشمس وقت الصيف، ومنه الحسي الذي يظهر داخل جسد العبد بفعل عبادة الصوم، وأضيف الحرارة العقلية، فحالة الصفاء العقلية برمضان لا مثيل، ولا ريب انه خير معين على الإبداع والإشراق والتوهج والإمتاع والإبداع، لمن استطاع أن يعلو على جسده، ويعيش مع روحه تلك التي تجعله سماويا ملائكيا محلقا.

225a163ea63d0ab018f45c6a3aff65d1

رمضان شعريا

عبر الشعراء عن رمضان في أشعارهم حبا ومدحا وأحيانا نفورا وقدحا، ومن أبرز النصوص في ذلك قول الشاعر العباسي “ابن الرومي”:

شهـر الصيـام مبــاركٌ — ما لم يكـن فـي شهر آبِ

الليل فيه ساعة — ونهاره يوم الحساب!

خِفت العذاب فصمته — فوقعت في نفس العذاب

فقام بتشطيرها الشيخ “محمد الخضر حسين”، رحمه الله، شيخ الأزهر في زمانه، فأبدل معناها السيء بآخر حسن، فقال:

(شهر الصيام مبارك) — في كل فصل مستطاب

سهل عليّ صيامه — (ما لم يكن في شهر آب)

(خفت العذاب فصمته) — ورجوت نافلة الثواب

لمّا انقضى اشتد الأسى — (فوقعت في نفس العذاب)

ولأمير الشعراء هذه النفثة عن رمضان، والتي تعلن عن موقف بشري من قيود رمضان وتحكّماته في بعض البشر، يقول فرحا بانتهائه وقدوم العيد:

رَمَضانُ وَلّى هاتِها يا ساقي — مُشتاقَةً تَسعى إِلى مُشتاقِ

ما كانَ أَكثَرَهُ عَلى أُلّافِها — وَأَقَلَّهُ في طاعَةِ الخَلّاقِ

اللَهُ غَفّارُ الذُنوبِ جَميعِها — إِن كانَ ثَمَّ مِنَ الذُنوبِ بَواقي

بِالأَمسِ قَد كُنّا سَجينَي طاعَةٍ — وَاليَومَ مَنَّ العيدُ بِالإِطلاقِ

ضَحِكَت إِلَيَّ مِنَ السُرورِ وَلَم تَزَل — بِنتُ الكُرومِ كَريمَةَ الأَعراقِ

وقد ردّ عليه الشاعر الإسلامي “جابر قميحة” فأبدع قصيدة معارضة لها بعنوان “لا يا أمير الشعراء”، جاء فيها:

رمضانُ ودَّع وهو في الآماق — يا ليته قد دام دون فراقِ

ما كان أقصَرَه على أُلاَّفِه — وأحبَّه في طاعةِ الخلاق

زرع النفوسَ هدايةً ومحبة — فأتى الثمارَ أطايبَ الأخلاق

“اقرأ” به نزلتْ، ففاض سناؤُها — عطراً على الهضبات والآفاق

ولِليلةِ القدْر العظيمةِ فضلُها — عن ألفِ شهر بالهدى الدفَّاق

فيها الملائكُ والأمينُ تنزَّلوا — حتى مطالعِ فجرِها الألاق

في العامِ يأتي مرةً لكنه — فاق الشهورَ به على الإطلاق

شهرُ العبادةِ والتلاوةِ والتُّقَى — شهرُ الزكاةِ، وطيبِ الإنفاق

لا يا أمير الشِّعر ما ولَّى — الذي آثاره في أعمقِ الأعماق

نورٌ من اللهِ الكريمِ وحكمةٌ — علويةُ الإيقاعِ والإشراق

فالنفسُ بالصوم الزكي تطهرتْ — مِن مأثم ومَجانةٍ وشقاقِ

لا يا أميرَ الشعر ليس بمسلمٍ — مَن صامَ في رمضانَ صومَ نفاقِ

فإذا انتهتْ أيامُه بصيامِها — نادى وصفَّق هاتها يا ساقي

الله غفار الذنوب جميعها — إنْ كان ثَمّ من الذنوبِ بواقي

عجبًا!! أيَضْلَع في المعاصِي آثمٌ — لينالَ مغفرةً.. بلا استحقاقِ؟

أنسيتَ يومَ الهولِ يومَ حسابِه — حينَ التفاف الساقِ فوقَ الساقِ؟

وأرى أن أستاذنا الشاعر “جابر قميحة” قد تعامل بقسوة مع أمير الشعراء، وفهم قصيدة “شوقي” فهما ظاهريا سطحيا، فشوقي لم يرفض رمضان، ولم يضعه في سياق غير مناسب، كل ما فعله أنه بالغ في التعبير عن فرحه بالعيد وما فيه من انطلاق وإقبال على المتع والشهوات، كما أنه لم يذكر ضمير التكلم فيه بل استخدم ضمير الغيبة! إنه لم يقصد التغزل بالخمر بل وصف حال البعض من شاربي الخمر الذين ينتظرون انتهاء رمضان لكي يعودوا إلى شربهم. والشعراء في كل واد يهيمون، ويقولون ما لا يفعلون، ولشوقي أشعار في رمضان تجلّه وتوقّره، غير هذه القصيدة القافية المشكلة! وهو القائل في كتابه النثري (أسواق الذهب): “الصوم حرمان مشروع، وتأديب بالجوع، وخشوع لله وخضوع، لكل فريضة حكمة، وهذا الحكم ظاهره العذاب وباطنه الرحمة يستثير الشفقة ويحض على الصدقة، يكسر الكبر، ويعلم الصبر، ويسن خلال البر، حتى إذا جاع من ألف الشبع، وحرم المترف أسباب المنع، عرف الحرمان كيف يقع، وكيف ألمه إذا لذع!”.

ندوة “تجليات رمضان في شعر عبد المجيد فرغلي”

قام قسم الأدب والنقد بكلية الدراسات الإسلامية والعربية للبنات بمدينة السادات بجامعة الأزهر، بالتعاون مع مدرسة شباب النقد الأدبي، والمستشار “عماد فرغلي”، بعقد ندوة دولية عن هذه المناسبة الإسلامية في شعر رحّالة الشعر العربي، باعتباره من أكثر الشعراء العرب نظما فيها، وقد جاء في تصدير الأستاذ الدكتور “صابر عبد الدايم” للكتاب الجامع لمقالاتها وأبحاثها، والمنشور سنة 2021: “ومما يسعدني حقًّا أن تسهم (مدرسة شباب النقد الأدبي بجامعة الأزهر) – التي أشرف برعايتها وتوجيهها، والتي يقوم بتنسيق جهودها الحبيب الدكتور صبري أبو حسين – تسهم بست قراءات لهذا الشعر الطيب شكلاً ومضمونًا، للأحبة الأزهريين الأصلاء، أبناء رابطة الأدب الإسلامي العالمية:

– أ. د. صبري فوزي أبو حسين، أستاذ الأدب والنقد بكلية الدراسات الإسلامية والعربية للبنات بمدينة السادات، عن بحثه: (من سيميائيات الشعر الرمضاني في نتاج الأستاذ عبد المجيد فرغلي).

– أ. د. ياسر السيد البنا، أستاذ الأدب والنقد المساعد بكلية الدراسات الإسلامية والعربية بقنا في بحثه: (المعادل الموضوعي بين الاستهلال ومطلع الهلال درس في مطالع قصائد الشيخ عبد المجيد فرغلي الرمضانية).

– د. عبد الرحمن فوزي فايد، مدرس الأدب والنقد بكلية اللغة العربية بالمنوفية عن بحثه: (موكب هلال الصوم للأستاذ عبد المجيد فرغلي رؤية نقدية).

– د. محمود جلال ناصر، مدرس الأدب والنقد بكلية اللغة العربية بإيتاي، عن بحثه: (قراءة في جماليات استقبال وتوديع رمضان في شعر عبد المجيد فرغلي، قصيدة في وداع الصوم أنموذجًا).

– د. محمود فؤاد أحمد محمد، مدرس الأدب والنقد بكلية اللغة العربية بجرجا عن بحثه: (تجليات رمضان في شعر الشيخ عبد المجيد فرغلي).

– د. عبد الله محمد أديب القاوقجي، مدرس الأدب والنقد بكلية اللغة العربية بالمنوفية عن بحثه: (نفحات شهر رمضان في شعر الأستاذ عبد المجيد فرغلي).

كما تعجبني تلك القراءات الحداثية للتجارب الرمضانية من قبل أساتذة مغاربة فضلاء، هم:

– الأستاذ محمد الماطري صميدة، رئيس تحرير جريدة الأنوار التونسية، عن مقاله: (في ظلال شعر عبد المجيد فرغلي الرمضاني).

– الدكتور فاطمة الزهرة ناضر، من جامعة حسيبة بن بوعلي بالشلف بالجزائر، عن بحثها: (بدر من جغرافية المكان إلى هيكلة صرح الوطن في قصيدة: أضواء من التاريخ في ذكرى معركة بدر للشاعر عبد المجيد فرغلي).

– الدكتور معمر عفاس، من جامعة حسيبة بن بوعلي بالشلف بالجزائر، عن بحثه: (لحظات مع قصيدة في وداع شهر الصوم).

وقد قلت في بحثي بهذه الندوة: يسجل كل قارئي شعر (شيخنا عبد المجيد) خلال هذه الدورات العلمية الخاصة بنتاج شيخنا -رحمه الله – من جامعين محققين، ودارسين باحثين أن شيخنا الشاعر من أغزر الشعراء العرب في النصف الثاني من القرن العشرين، ومن أطولهم نَفَسًا شعريًّا في إخراج القصائد المطولة؛ إذ يبلغ مجمل إبداعه ما يبلغ ثلث مليون بيت أو يزيد، ودواوين تتجاوز الأربعين ديوانًا، منها المطبوع ومنها المخطوط، وبعض قصائده تصل إلى المئتين والثلاثمائة من الأبيات الشعرية! وإن هذه الكثرة الإبداعية لدالة على شاعر متمكن أمكن من موهبته، تلك الموهبة السخيّة التي تطيعه في كل زمان ومكان، وفي كل حال ومقام، كما أنها كثرة دالة على هيمنة الشعر على شيخنا ليل نهار، صباح مساء، في معظم سنّي عمره؛ إذ ظل يبدع الشعر منذ سن الثانية والعشرين من عمره تقريبًا حتى آخر أنفاسه رحمه الله، يبدعه في مجال نصرة قضايا أمتنا الإسلامية، وقوميتنا العربية، وهويتنا المصرية بثبات وأصالة ورصانة وجهارة في مجالي التشكيل والرؤية…

ولعل في تتبع مراحل حياة الشعرية ما يعطينا دلائل على هذه الحقيقة الكبرى في شخصيته؛ فقد مر إبداعه بأطوار عديدة متدرجة، عبّرت عنها بجلاء آثاره الشعرية، التي منها آثار مخطوطة، كان يمارس فيه طريقته الخاصة في التعديل والتطوير والتكثير والتفنين، على النحو الذي نعرفه، عن شعراء الصنعة الأوسيين الزُّهَيرِيين الجاهليين، عبيد فنهم، في حديثهم عن طريقتهم في الإبداع. ومن هنا تظهر سيميائية المبدع، إذ عندما يذكر اسمه على أي عمل شعري يعرف أنه صادر عن ريفي صعيدي مصري عربي مسلم، معلم، محافظ، وداعية يحيا بشاعريته لسان ذاته، ولسان بيئته، ولسان وطنه، ولسان قوميته، ولسان أمته، ولسان دينه، رحمه الله تعالى؛ فقد استمر شيخنا مع إبداع الشعر الكلاسيكي الدعوي المجاهد المؤرخ ماضي أمته وواقعها، ستين سنة أو يزيد، في كل ملتقى ومحفل ومجمع وحادثة ومناسبة.

وإن لشهر رمضان خصوصيات على بقية الشهور؛ فهو شهر مفضل إلهيًّا ونبويًّا واجتماعيًّا، تتغير فيه الحياة، وتتطور فيه الأحياء، زمان معروف بالذكر والذكرى، وقد تنوعت مشاعر المسلمين حوله قُبيل مقدمه شوقًا، وحين قدومه استقبالاً وفرحًا، وخلال فيوضاته هيامًا وانشراحًا، وعبادة وسلوكًا، وقُرَيب انتهائه حزنًا على انتهاء أكثره، وبعد رحيله توديعًا، ثم تشوقًا ثانيًا… ومن ثم كثرت التجارب حول هذا الشعر الكريم، الممثلة في الأشعار الإيجابية الخيِّرة الهادفة المُنيرة الشادية، المصوِّرة هذا الشهر قديمًا وحديثًا ومعاصرًا، والتي تناولت وصف هذه المشاعر استقبالاً له، وانفعالاً به، وتوديعًا له! وقد ندرت الأشعار السلبية تجاه هذه النفحة الإلهية السنوية الكريمة، وكان أصحابها في حالة شاذة خاصة!

ولا ريب في أن القراءة الكلية في مجمل نتاج الأستاذ “عبد المجيد فرغلي” لتقدم دليلاً على انفعال شيخنا المحافظ الملتزم بجل مناسبات الإسلام وشعائره الكبرى وأحداثه الفذة، ومن أبرزها مناسبة شهر رمضان الكريمة المباركة، التي هي من أيام الله المعدودات المكرورة سنويًّا، والتي لها أثر على الكون كله إنسانًا، ومكانًا وزمانًا؛ فلرحّالة الشعر العربي نتاج شعري غزير، متنوع في تناوله مناسبة شهر رمضان، رحل فيها ومعها روحيًّا وقلبيًّا ونفسيًّا وعقليًّا واجتماعيًّا رحلات طيبة دالة؛ إذ نظم فيها وحولها عشرين قصيدة، هذه التجارب الرمضانية منشورة في دواوين مخطوطة ومطبوعة، هي: دموع وأنداء، تائب على الباب، من نبع القرآن، في رحاب الرضوان، صرخة ذبيح، أصداء وأضواء، وتكرر نشر القصيدة في غير ديوان؛ فقد ضم ديوان (تائب على الباب) إحدى عشرة قصيدة، هي في موكب الرؤية، في موكب هلال الصوم، هلال الإخاء، عودة إلى الله، أضواء من التاريخ في معركة بدر، بعشرهن في الشهر اعتكاف، ليلة القدر، أريد إكرامًا لعاقبتي، في وداع شهر الصوم، اليوم عيد الفطر، بسمة العيد، بيت السماء. بينما ضم ديوان (من نبع القرآن) ست قصائد هي: هلال الصوم، في موكب استطلاع هلال رمضان، درس من مأدبة رمضان، إليها دعاني القرب، ليلة القدر، في خاطر الليل. وهذه التجارب الرمضانية الممثلة لموقف شيخنا “فرغلي” – رحمه الله – من شهر رمضان في كل أحواله الروحية والفكرية والاجتماعية والتاريخية زمانًا ومكانًا.

ودلالة هذه التجارب تتبدّى في عتبة عنوانها، كما تتبدّى في مناسباتها؛ إذ تجد العنوان واضحًا مباشرًا غالبًا، فمن خلال العنوانات يمكننا تصنيف هذه التجارب موضوعيًّا إلى:

– شعبانيات استقبالية: كما في قصائد: (نداء في ليلة النصف من شعبان، بيت السماء، عودوا إلى قبلة أبيكم إبراهيم، حمائم وغصون)، وهي ليست في المضمون الرمضاني مباشرة، لكنها دالة على انفعال الشاعر – رحمه الله – بمناسبات الإسلام والمسلمين، على مدار العام الهجري كله، انفعل بما قبيل رمضان، وانفعل برمضان، وانفعل بما بعد رمضان!

– استهلاليات رمضانية: قصائد مستطلعة للهلال الشريف فرحة به، كما في التجارب الأربع: (في موكب الرؤية، هلال الإخاء، في موكب هلال الصوم، في موكب استطلاع رمضان).

– مناسك رمضانية خاصة: حيث ليلة القدر، وسنة الاعتكاف، والمدارسة العلمية، وعبادتا القيام والمناجاة، كما في التجارب الخمس: (ليلة القدر، بعشرهن في الشهر اعتكاف، درس من مأدبة الصوم، في خاطر الليل من وحي شهر رمضان، أضواء من التاريخ: في ذكرى معركة بدر).

– وداعيات: كما تجربة (في وداع شهر الصوم).

– عيديات: كما في التجارب الثلاث: (عيد الفطر، بسمة العيد، بؤس في يوم عيد).

– ذاتيات: كما في التجارب الثلاث: (أريد يا رب إكرامًا لعاقبتي، عودة إلى الله، إليها دعاني القرب).

– اجتماعيات: في تجربة (لقاء في رحاب الرضوان).

– وطنيات: كما في تجربة (معجزة العبور).

وهذا التنوع الفكري في الشعر الرمضاني لدى شيخنا الشاعر راجع إلى أنه معلم وداعية ومصلح، وإلى أنه عاش تجربة رمضان عيشة حقة روحيًّا وثقافيًّا واجتماعيًّا وأدبيًّا. وحقًّا كما يقول شيخنا:

رمضان مائدة التقى في بره — وطعامها ذكر معظم شانِ

جمع الأحبة في خوان محبة — وأمدهم بغذائه الرباني

من كل موضوع تناول عرضه — فذ ضليع الفكر في الأذهان

من عالم أو واعظ أو شاعر — ومحاضر سلس العبارة حانِ

يحنو بموعظة تبدد ظلمة — وتبث نبع النور للظمآن

فلشهر رمضان فيوضات وانفتاحات كثيرة ومتنوعة، تظهر على من يتعامل معه بإيجابية وانسجام، كشيخنا، فينطلق معه ذاتًا، وينطلق معه زمانًا، وينطلق معه تاريخًا، وينطلق معه شعائر ومشاعر، وينطلق منه إلى أمّته، مناجيًا ومفكرًا ومحللاً وداعيًا مصلحًا، منيرًا عن عبدة، وعن حياة وعن أحياء، وعن صلة سامية بالله تعالى الخالق..

وبقراءة المناسبة التي أبدِعت فيها القصائد، أو التاريخ أو ما كُتب حولها من ملاحظات نلحظ مدى تنوع التجارب، ومدى حضور شاعرنا بها في مجتمعه؛ ففي هذا النتاج شعر حضر خارج العقلية العربية؛ إذ نجد قصيدة (عيد الفطر) قد تمّت ترجمتها إلى اللغة الفرنسية من الباحثة التونسية “سارة معتوق”.

وقد نُظمت في مدة عمرية طويلة، بلغت سبعًا وثلاثين سنة، منذ سنة 1962م إلى سنة 1999م؛ مما يدل على خضرمة شاعرنا وخبرته بهذا الشهر الكريم، وكيفية الإبداع في التعبير عن مضامينه وشعائره ومشاعره.

وتدل مناسبة بعض القصائد على عمد شاعرنا إلى معاودة النظر فيها، وتطويرها، هي:

– قصيدة (هلال الإخاء) وردت بصياغة أوجز في عدد أبياتها، التي بلغت 38 بيتًا، تحت عنوان (عودة إلى الله)، وبهذا الإيجاز نُشرت في المجلة العربية السعودية، في العدد (140)، الصادرة في رمضان 1409هـ، الموافق شهر إبريل 1989م، كما نُشرت مؤرخة بـ: 4/7/1982م، في أخبار الأدب المصرية.

– قصيدة (أضواء من التاريخ، في معركة بدر الكبرى)، لها صياغتان إحداها في مخطوط تحت عنوان (في ذكرى موقعة بدر)، والأخرى مكتوبة على الكمبيوتر وقام الشاعر بتشكيلها بخط يده..

– قصيدة (ليلة القدر) لها صياغتان: ترجع أولاهما إلى 17/7/1982 الموافق 27 من رمضان 1402هـ بالمجلد الرابع من أعماله الكاملة (أصداء وأضواء)، ولها عنوان آخر: (ليلة القدر خير من ألف شهر)، والثانية في 1/4/1992م، في ديوان (دموع وأنداء)، وعدد أبياتها (112) بيتًا.

وهذه التجارب تحتاج قراءة تحليلية في ضوء المنهج النفسي، لتبيّن طرائق الإبداع ومعالمه عند شاعرنا من خلال تتبع المسودات العديدة المخطوطة لكل قصيدة، والفارق بين كل مسودة شكلا ومضمونًا، وزمانًا ومكانًا، وحالة عاطفية. وأعتقد أن لرحّالة الشعر العربي تجارب كثيرة جدًّا تعين على إنجاز مثل هذه الدراسة..

وهذا الصنيع الفني دال على مذهب الشاعر الإبداعي أولاً، ودال على حرص الشاعر على الحضور بشعره في جُلِّ مناسبات شهر رمضان وأحداثه.

والظاهرة البادية في هذه التجارب هي تعانق الذات مع المناسبة فرحًا بالاستقبال للشهر أو لقدومه، أو تضرّعًا في روحانياته، أو حزنًا لرحيله، أو حزنًا لبؤس شخصي حدث له بسبب اغترابه عن وطنه في تجربة وحيدة! فلم يقف شاعرنَا عند حدود المناسبة بل إن انطلق هادرًا بشاعريته في كل معنى ومرمى سواء أكان خاصًّا بالمناسبة أو خاصًّا بوطنه، أو خاصًّا بأمّته أو خاصًّا بذاته! فكانت المناسبة مُفجّر إبداعٍ وسبب تحريك للشاعرية! ومن ثم خلت هذه التجارب من علائم الضعف المعهودة عن شعر المناسبات السطحي التقليدي، الذي تتحكم فيه المناسبة في الشاعر، ولا يستطيع أن ينطلق منه إلى أجواء عليا! إنها تجارب تمثل ما قاله شيخنا في ختام قصيدته (نداء في ليلة النصف من شعبان):

دعوة من قلب شاعر — صاغها من لحن أطيار السماء

وتظهر الذات في مطلع قصيدة (ليلة القدر):

لي فيك ما قدر الرحمان لي وطرُ — وبي رجاء لعفو الله ينتظرُ

ويقول من القصيدة ذاتها:

لي في سجلك نور أستضيء به — من ظلمة ليس في آفاقها قمرُ

حملته بيقين لا مراء به — وبين جنبي من القلب منبهر

قد ضم صالح أعمالي وما حملت — يداي إذ عنه حجب الغيب تنحسرُ

حروفه كلمات بالشذى عبقت — بروضة دوحها مخضوضر عطرُ

غرستها في رياض الخلد لي أثرًا — أرجو به وجه ربي وهو مدخر

وهذا ديدن شاعرنا في كل رمضانياته، يعلن عن هيامه واندماجه مع الشعيرة قلبًا وقالبًا، ولسانًا شاعرًا متأثرًا هادرًا آسرًا…

وبقراءة الكشّاف الفني للتجارب الرمضانية الفرغلية نجد أنها كلها جاءت في قالب القصيدة البيتي الخليلي موحد القافية، في اثنتين وعسرين قصيدة. وقد نظم شيخنا تجاربه هذه على نسق سبعة أبحر: (الكامل، البسيط، الطويل، المتقارب، الوافر، الخفيف، الرمل)، وتوزيعها مرتّبة من حيث الكم، هي:

– سبع قصائد على البسيط التام.

– ست قصائد على نسق الكامل، منها واحدة على الصورة المجزوءة منه.

–  أربع على نسق البحر الطويل.

– اثنتان على نسق البحر المتقارب التام.

– واحدة على نسق الخفيف التام، وواحدة على نسق الوافر التام، واحدة على الرمل التام.

وكلها أبحرٌ ذات إيقاعات مناسبة للشهر الكريم، ففخامته ورحابة الخواطر والرؤى فيه نجدها في إيقاع نسقي البحر الطويل والبحر البسيط، والحالة الاجتماعية الغنائية الإنشادية نجدها في إيقاع أبحر الكامل الوافر والمتقارب، والتنوع الفكري نجده في إيقاع البحر الخفيف، وبحر الرمل. ومن شأن كثرة هذه الأنساق الإيقاعية وتنوّعها أن تعطي مساحة للمبدع في أن يعبّر عن المعاني الكثيرة المنداحة التي يثيرها هذا الشهر في النفس المنفعلة به وفيه، مبدعة أو متلقية.

ويضاف إلى ذلك كمُّ القصائد فقد تنوّعت من حيث عدد أبياتها إلى:

– قصائد صُغرى في تجارب عشر تتراوح أبياتها بين أربعة وعشرين بيتًا وتسعة وأربعين بيتًا.

– قصائد وُسطى: في تجارب ثماني تتراوح أبياتها بين اثنين وخمسين بيتًا وتسعين بيتًا.

– قصائد مُطوّلة: في تجارب أربع، تزيد أبياتها على مائة بيت، هي: (ليلة القدر 112بيتًا)، (في موكب هلال رمضان 115بيتًا)، (في موكب استطلاع رمضان 180 بيتًا)، (لقاء في رحاب الرضوان 209 بيتا) وهي أكبر القصائد الرمضانية.

وغلبةُ القصائد الوسطى والمطولة، وغلبة الإيقاع التام، عند شاعرنا المخضرم الفحل يناسب كثرة المعاني والأشجان التي تثيرها مناسبة شهر رمضان المبارك، إنه كما يقول شاعرنا من مقدمة مطوّلته (لقاء في رحاب الرضوان):

نفحاتُ أنوارٍ من الرحمنِ — ودروسُ عِلْمٍ في الهدى الرباني

وكتابُ هَدْي قُدِّمت صفحاتُه — في خيرِ مائدةٍ من الإيمانِ

ولطائفٌ يُهديكها قصصٌ سرَى — بين القلوبِ مُخالطَ الوجدانِ

من كلِّ لونٍ من حديث مُمْتِعٍ — كمْ شاركتْ فيه هُواةُ بيانِ

صنَعَتْ مزيجًا من كريمِ ثقافةٍ — في الصومِ في التفسيرِ للقرآنِ

وبحكمةٍ مُزِجتْ بألوانِ الهُدَى — وبكلِّ ثوبٍ للفضيلةِ داني

ذُقنا حلاوتُه وتُقنا سمعَه — في كلِّ أُمسيَةٍ عظيمةِ شانِ

إنْ كانَ في مصرَ استمعنا قولَه — فلعلَّه أمسى بكلِّ مكانِ

هي فكرةٌ روحيةٌ قد سنَّها — علماءُ دينِ رسالةِ الديان

فالشعر الرمضاني منداح على كل الأفكار والرؤى والاتجاهات، وفيه متّسع أمام كل شاعر كي يصف ويصوّر وبعبّر عن عواطف شتى، ومشاعر متنوعة، لا سيما إذا كان المبدع معلّمًا وخطيبًا ومفكرًا واجتماعيًّا كشيخنا “فرغلي” رحمه الله!

إن النتاج الشعري الرمضاني مثالّ جيد لشعر القضية والرسالة الذي يوظف المبدع فيه شاعريته فيعلن عن زمانه ومكانه وإيدولوجيته، وحالة الحياة والأحياء حوله الآخر، وينصح القادة والرادة، مُعدّدًا الأدواء، ومقدّمًا العلاجات، في صوت شعري صاخب مجلجل، غير خافت ولا هامس، ولا منزوٍ ولا منغلق أو سائر في دروب المتاهات الحداثية، تلك التي أحدثت قطيعة شبه نهائية بين الإبداع والتلقي عن عمد أو جهل أو تجاهل حسب طبيعة المرسل ومن ثم ضاعت الرسالة، بل ماتت عند هؤلاء الموتورين المفتونين بكل شيء وافد، رغم ما فيه من سوءات مكشوفة للجميع.

ففي كل تجربة نجد هذه النزعة الرساليّة، يقول من تجربة (ليلة القدر) مناجيًا ربّه لأمّتنا:

يا صاحب العفو أنت المرتجى كنفًا — ومن بغيرك حصنًا سوف يستترُ

هيِّئ سبيلاً تُنادي فيه أمتنا — فإنها خيرُ مَنْ بالعرف تأتمرُ

بدِّدْ خلافاتِها جَمْعًا لقادتنا — على الطريق فما للحرب مُستعرُ

أنت النصير لها في كل معركة — فيها البغاة عليها ساقهم سعَرُ

واجمعْ صفوفَ بَنِيها ضدَّ قاهرِهم — فهمْ جُنودُك إنَّ البغي منقعرُ

واجمع على الحبِّ والإيمانِ رايتَهم — أمامَ جَورِ غُزاةٍ في الورى فجروا

وانصـر شعوباً على الإسلام قد بقيت — تناصر الحق لم يحلل بها خَوَرُ

شعوبك اليوم يا رباه واقعة — تحت الحصار وأنت الكهف والوزر

أرسل ملائكة يا رب تنفذهم — مما يعانون منك العون منتظر

فتلك هجمة بغي ضد أمتنا — لم ندر كيف بنا تمضـي وتنحدر

وانصـر بني القدس في أرض حجارتها — ثارت على البغي إذ أشبالها زأروا

وهاهم اليوم لا يألو مُفاوضهم — جهدًا أمام عُدَاةٍ ضَلَّ ما ائتمروا

إن لم يكن جنحوا للسلم واعترفوا — بالحق في الأرض فليعصف بهم حجر

ويدعو الشعوب إلى وقفة عملية في النصرة والمقاومة قائلاً في ختام القصيدة:

ويا شعوب الورى جدوا بوقفتكم — في نصـر شعب بنوه في الورى قهروا

ويا بني العرب والإسلام موقفكم — نعم الظهير لشعب سوف ينتصـر

يا إخوة الحق في أوطان أمتنا — عودوا إلى الله عنكم يُدفع الخطر

إن تنصـروا الله تنصـركم كتائبه — وأمة الله مكتوب لها الظَفَر

وبادٍ في هذا الختام الجهادي التحريضي مدى هيمنة النص القرآني على شاعرنا، متجاوزًا الندب والتفجّع إلى الموقف العملي الإيجابي المقاوم المحرر.

إن هذه الفرغليات الدعويّة نفثات خرجَت من صدر ملؤه هموم الأمّة التي تحالف أعداؤها عليها من الداخل والخارج، وحوصر فيها الإسلام حصارا محكما.. فالكلمة عند شيخنا “فرغلي” سلاح فاعل لتجلية الحق وفضح الباطل والقضاء على الخبل والخبال، والتيه والهيام، الذي ينتشر في وديان شتى. بغير غاية عليا أو هدف سام. إنه شاعر مصري عربي إسلامي محافظ، هادف، عاش في طريق الفحولة بخطى ثابتة، وانطلق من المنظور القرآني “إِلَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ وَذَكَرُوا اللَّهَ كَثِيرًا وَانتَصَرُوا مِن بَعْدِ مَا ظُلِمُوا وَسَيَعْلَمُ الَّذِينَ ظَلَمُوا أَيَّ مُنقَلَبٍ يَنقَلِبُونَ”، ومن قول الرسول ـ صلى الله عليه وسلم ـ لكعب بن مالك ـ رضي الله عنه ـ حين سأله: يا رسول الله ماذا ترى في الشعر؟ قال: “إن المؤمن يجاهد بسيفه ولسانه”.

إنه من الشعراء الرّساليِّين، إنه “شاعر رسالة ينطوي عليها، يشعر بها في داخله، كأنها سبب وجوده، ويعيها في إبداعه كأنها العلّة الأولى التي يصدر عنها هذا الإبداع. إن شيخنا فرغلي – رحمه الله – شاعر سار في رحاب شعراء الدعوة الإسلامية وفي ركبها سيرًا ثابتًا مستقرًّا، فدافع عن إسلامنا الحنيف بالقول الفصل والمنطق الجزل، بشعر علمي عملي خطابي، يجلو على الناس أنواره، ويطلع في سماء البيان شموسه وأقماره، ويدلّهم على ما فيه للإنسانية من خير وبر وسعادة ومجد وجمال وجلال وفضل وكمال ونصر وتمكين وعدل وإخوة ومواطنة ومساواة..”.

والحق أنه ما زال في هذا الشعر الرمضاني الذي يمكن أن يقال نقديًّا، وأن يكشف عنه تحليليًّا، لا سيما في القراءة له قراءة ثقافية تُعنى بالكشف عن الأنساق الثقافية المضمرة فيه، مع تصنيفه موضوعيًّا، وأسلوبيًّا حيث البنياتُ المهيمنةُ من تكرار إيقاعي ولغوي وتعبيري وتفكيري وتصويري، وتناصّ بأنواعه العديدة حيث التناص المباشر، والتناص الامتصاصي، والتناص الذاتي، والتناص العام والتناص الخاص! ولعلّي أحقق ذلك في قادم الوقفات مع مدوّنة الشعر الرمضاني كله تذوقا وتحليلا وتصنيفا واستنباطا!

الكاتبة سعاد 3
سعاد عبد القادر القصير (باحثة وكاتبة من لبنان)

أنا صايم ما حَدا يحكيني!

“وحوي يا وحوي اياحة

رحت يا شعبان اياحة

وحوينا الدّار جيت يا رمضان

وحوي يا وحوي اياحة…”

أشهر الأغنيات التي يردّدها الكبير والصّغير في رمضان، نزيّن الأجواء بالفوانيس، وننير الشّوارع، شهر الخير والبركة يأتي ويجلب معه الرّاحة والطّمأنينة. ننتظره من العام إلى العام، لنطهّر أرواحنا المبرقعة بأوساخ الحياة.

تركع الشّهور أمام عتبة رمضان، تسلّم له مفاتيح العودة إلى الواحد الأحد، تصفَّد الشّياطين، تغلَّق أبواب النّار وتُفتَح أبواب الجنّة، يقدّم لنا الله كلّ وسائل التّوبة وطلب المغفرة، ولكن! (وعلى راس السّطح) يبرّر البعض لنفسه أنّهم بشر، يوم لنا ويوم علينا، وكأنّ البعض يهدف إلى التّصادم مع أحكام الصّيام، ينتقي منها غلافًا يحمي به نفسه أمام النّاس. يصومون، والشّتائم تنقّط من بين أنيابهم كوحشٍ يريد أن ينقضّ على فريسته، (أنا صايم ما حدا يحكيني.. توت توت توت…)، ومن قال إن من أمامهم مُفطر؟ وهل يكون الصّيام بالتّقسيط صيامًا؟

الطّعام والشّراب، “ترند” الصّيام في العصر الحديث، حيث بدأ النّاس يفقدون قيمة الصّوم الحقيقيّة، وقد أُهدرت على بوّابات المقاهي قيمة رمضان الرّوحيّة، من العبادة إلى العباءة. حيث أصبحت المنافسة على القفطان الأجمل بديلًا عن الصّلاة والقيام وقراءة القرآن، إلّا من رحم ربّي.

وفي حديثٍ للرّسول الكريم، محمد (ص)، قال: “يأتي زمان على أمّتي القابض على دينه كالقابض على جمرة من النّار”. فهل حقًّا وصلنا إلى هذا الزّمان؟ ونحن نرى أمّة “لا إله إلا الله” قد انساقت إلى طريق مظهر الدّين، وأضاعت جوهره؟

كلّ شيء في الحياة له بوصلة خاصّة فيه، ترشدنا إلى الاتّجاهات التي من الممكن أن نسلكها في سبيل الوصول، فماذا عن بوصلة الدّين؟ هل من الممكن أن تقع فريسة التّعطيل؟

لا يمكن طبعًا، فالقرآن والسُّنن واضحة وصريحة ومحميّة، وإنّما نحن البشر، نحن الذين نحمل صفات الملائكة والشّياطين في نفوسنا، نسبّح باسم الله في شهر العبادة، ونجعل المسبحة على رأس رقصة الدّبكة احتفالًا بانتهاء القيود الدّينية، كما يعتبرونها، (ساعة إلك وساعة لله) غريب هذا المعتقد ونحن الذين من المفترض أنّنا تربّينا على العقيدة الدينيّة لتكوّن كياننا الإنساني.

وانطلاقًا من مقولة: “الدّين لله”، كلٌّ يُفتي وفق ما تسوّل له نفسه مختبئًا وراء جملة: “إنّ الله أعلم بالنّوايا”، وهل الرّوح ليست لله لنشوّهها؟ وهل النّاس ليسوا لله لنطعن بهم؟ وهل الأرض ليست لله لنحرقها؟ وهل الطّير ليس لله ليكون لعبة بيد المالّين؟ فأيّ دين يقصدون أنّه لله؟ ألسنا أنفسنا ومالنا وأولادنا وجيراننا وعلاقاتنا وكلّ ما يحيط بنا، ألسنا جميعًا ملك لله؟ أليس الدّين هو الحفاظ على ملك الله؟

أمّا عن أسعار المواد الغذائيّة التي تُضرب في ثلاثة خلال هذا الشّهر الفضيل فحدّث ولا حرج، أم أنّ الهدف منها إخراج الزّكاة مثلًا؟ سباق الجبابرة، تجّار الجوع، أو كما يقول عنهم النّاس: “تجّار فجّار” وكأنّهم من سلالة كفّار قريش، أو كأنّ الخضار مسقيّة حسنات مضافة!

يأتي رمضان من كلّ عام يطرق باب الرّوح، أن عودي إلى ربّك، بعد أن نعيث فيها فسادًا، نتوب وكم منّا يعود عن توبته، ونضع اللّوم على الشّياطين، تصفّد في رمضان، فنحن في هذا الشّهر الكريم ملائكة على هيئة بشر، وبعد أن تُفكّ القيود، نعود إلى البشر مع حذف الباء. والمشكلة الكبرى، أنّنا نكتشف أنّ بعض النّفوس شيطانة بذاتها، شياطين الجحيم مكبّلة، وشياطين الإنس فالتة تسرح وتمرح على موائد المؤمنين الأتقياء.

في قصيدة “إنّي خيّرتك فاختاري” لنزار قبّاني، يقول فيها:

لا توجد منطقة وسطى

ما بين الجنّة والنّار

بعيدًا عن أنّ القصيدة ذات هالة رومنسية عاطفية، بين جنّة الحبيب ونار الفراق، هي أنموذج أنّ الإنسان يسعى بطبعه إلى حياة النّعيم، جنّة الحبّ، جنّة المال، جنّة الرّاحة، جنّة الفرح، إمّا أبيض أو أسود، اللّون الرّماديّ لا مكان له بينهما، ولكن إن ضيّقنا المعنى لحقيقة الجنّة والنّار كما هي، النّعيم والجحيم كما وعدنا الله، خالدين فيها أبدا، لا برزخ بينهما، طبعا ومن دون شكّ جميعنا نختار أبديّة الجنّة، ولكن من يضمنها؟ هل نحن واثقون من حسن العبادة لنضمن مكافأتها؟

إنّ ما نراه اليوم من احتفالات شكليّة بالشّهر الكريم، وانتشار الأصنام الرّمزية للعبادة، والنّفاق عند كثيرين في تقمّص هالة الدّين، هذا فضلًا عن المسلسلات التي تركب قطار السّباق في أفضل الأشهر عند الله، كمٌّ من الفسق والفجور يجرّ المسلمين إلى الاستسلام بالسّاعات أمام الشّاشة الصّغيرة، وانتهاك حرمة الوقت، كلّ هذا يجعلنا خائفين ممّا ستؤول إليه الأمور في المستقبل؟ هل هذا هو رمضان الذي نريده لأبنائنا؟ أم أنّنا نريد رمضان الماضي، الأمانة، والمساجد بقلب طاهر، ولمّة العائلة على الفطور والدّعاء: “اللهم لك صمت، وبك آمنت”، إيمانًا خالصًا يمحو البقع السّوداء التي تكبر يومًا بعد يوم في قلب الأمّة.

عبد الوهاب برانية 3
د. عبد الوهَّاب برَّانِيَّة (جامعة الأزهر- مصر، معهد الوسطية وثقافة السلام – جيبوتي)

“رمضان” أول أستاذ عرفته

من قديمٍ عندما كنا صغارا — كان شهر الصوم يأتي في قُرَانَا
كان يأتي كل عام مثل ضيفٍ — جاء بالإسعاد كي يُهْنِي صِبانا
كم لهونا فيه صبيانا صغارا — ورجونا الشهر أن يبقى سنينا
وقضينا الليلَ أنضاءَ قيامٍ — في احتفاءٍ ما مللنا أو عيينا
ظل هذا الشهر يأتي كل عامٍ — نلتقيه دائما أو يلتقينا
ثم لا ندري فقد يأتي صيامٌ — يلتقينا في الثرى قد غيَّبونا
أنت لي يا شهرُ أستاذٌ قديرٌ — منذ فجر باكرٍ قد علَّمونا
أن شهر الصوم تدريبٌ عظيمٌ — فهْو سرٌّ يجتليه مَنْ بَرَانا
ليس فيه من رقيب أو بصير — غير عين الله ترنو محتوانا
كان كوب الماء يُطْفِي – في انفرادٍ — ظِمْئنا لولا ضميرٌ قد نهانا
ظل هذا الدرس نبراسا منيرا — نحتذيه في عديد من خطانا
أنت يا أستاذ شهرٌ للعطايا — ومجالٌ واسع تُثْري نَدَانا
فيك يا أستاذ أحلى ذكرياتي — مذ درجنا في صبانا لاعبينا
كنتُ أقضي فيك يومي معْ كتابٍ — يشرح الصدر ويهدي الحائرينا
والمسا فيك قيامٌ ثم لهوٌ — مستباحٌ من تفانين حِجَانَا
كانت الضُّحْكةُ في الأشداق غَمْرًا — ثم غابت بعد ذاكم عن رُبَانا
ما لها الضحكة غابت دون وعــيٍ — لم تعد تسري إلى عمق حشانا
هل زمان الضحك ولى يا صحابي — أم أنا خاصمته حتى قلانا؟
رمضاني منذ كنا في صبانا — غيره بعدُ فهل نحن سوانا؟
تنقضي الأيام ماضيها جميل — تعكس المرآةُ في صدقٍ رُؤَانا
سوف تبقى عندنا يا شهرُ دوما — أفضلَ الماضي وأستاذا حنونا
عَمَّ فيك النفعُ يا عَمَّ اليتامى — يا صديقا للبرايا أجمعينا
كم شهدت الناس في قريتنا قد — شمروا، طوبى لكل الذاكرينا
يسمعون الوعظ من شيخ جليل — نعم درس الشيخ نعم السامعونا
يرقبون العشر تأتي كي يكونوا — في رباط خاصم النوم الجفونا
لو ظللت العمر أحكي درس أمس — لاستفاض الحكيُ واستدعى الحنينا
لك مني يا حبيب القلب شوق — لا يغيب العمرَ دوما ما حيينا

مع الاعتذار عن تغيير الردف من الألف إلى الياء أو الواو.

بسيم عبد العظيم عبد القادر
د. بسيم عبد العظيم عبد القادر (شاعر وناقد أكاديمي، كلية الآداب ـ جامعة المنوفية، رئيس لجنة العلاقات العربية بالنقابة العامة لاتحاد كتاب مصر)

أحاديث من وحي رمضان

رمضان شهر عظيم خصّه الله تعالى بإنزال القرآن الكريم على خاتم المرسلين سيدنا محمد صلى الله عليه وسلم، يقول تعالى: “شَهْرُ رَمَضَانَ الَّذِي أُنزِلَ فِيهِ الْقُرْآنُ هُدًى لِّلنَّاسِ وَبَيِّنَاتٍ مِّنَ الْهُدَىٰ وَالْفُرْقَانِ”، ويكفيه ذلك شرفا، وهو شهر الجود والكرم فقد كان رسولنا الكريم جوادا وكان أجود ما يكون في رمضان حين يلقاه جبريل فيدارسه القرآن، فلَرسول الله أجود بالخير من الريح المرسلة.

ولرمضان ذكرياته في حياة كل مسلم، فهو شهر التقوى حيث جعل الله الغاية منه تحقيق التقوى فقال سبحانه وتعالى: “يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيَامُ كَمَا كُتِبَ عَلَى الَّذِينَ مِن قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ”، والتقوى كما عرّفها الإمام علي كرم الله وجهه هي “الخوف من الجليل والعمل بالتنزيل والرضى بالقليل والاستعداد ليوم الرحيل”، فنعم الثمرة للصيام التقوى التي بها تنصلح أحوال المجتمع الإسلامي.

ومن حكمة الله أن ينتقل رمضان بين الفصول، بين حر في الصيف وبرد في الشتاء، واعتدال فيما بينهما، وقد شاء الله أن أصوم رمضان في الفصول الأربعة فجرّبت مشقّة الصوم في الصيف حيث شدة الحر وطول مدة الصوم، والذهاب للمدرسة ثم للجامعة يوم كانت هناك مدرسة وجامعة والتزام بالحضور، وأداء للامتحان في شدة الحر حتى إنهم كانوا يرشّون لنا خيمة الامتحان بالمياه لتلطيف الجو علينا.

كما جرّبت مشقّة القيام من النوم لتناول وجبة السحور أيام كنا ننام قبل منتصف الليل لنستطيع الاستيقاظ للسحور وصلاة الفجر بالمسجد، ثم الراحة قليلا قبل الذهاب إلى المدرسة أو الجامعة، أما اليوم فإن الطلاب بالاتفاق مع إدارة الجامعة يحصلون على المحاضرات أثناء رمضان تخفيفا عليهم وعلى الأساتذة من مشقة الحضور، وقد ساعد على ذلك ما جربه العالم أثناء أزمة وباء كورونا حيث استمرأ الطلاب عدم حضور المحاضرات المباشرة مما يقلل من جدوى التعليم لافتقاد التواصل بين الأساتذة والطلاب.

كما صمتُ رمضان في مصر وفي المملكة العربية السعودية على اختلاف ما بينهما في العادات والتقاليد المتعلقة برمضان وعيد الفطر المبارك. ومما أذكره أننا بعد أن صلّينا العيد في “الأحساء” أنا وزوجي وولدي أحمد ومحمد وكانا في المرحلة الابتدائية، أردنا أن نتجوّل في شوارع “الأحساء” لنرى مظاهر العيد، فلم نجد ما تعوّدنا عليه في مصر من مظاهر البهجة والسرور للأطفال في العيد.

وقد تعوّدنا بعد ذلك أن ننزل لقضاء العيد في مصر أو نقضيه في العمرة وزيارة المدينة المنوّرة، وقد ظل ذلك لسنوات.

وقد قضيتُ عيد الفطر في المدينة المنوّرة بعد أن غادرت زوجي وأولادي إلى مصر فكتبتُ قصيدة بهذه المناسبة جعلت عنوانها “يا ليلة العيد” كتبت بالمدينة المنورة ليلة عيد الفطر المبارك 1428هـ، وكتب نصفها الأخير على الصفة في مسجد الرسول صلى الله عليه وسلم، بعد عصر يوم العيد أقول فيها:

يا ليلة العيــد أين الأهـــل والـــــــدار — يا ليتــهـــم معـــــنا للبيــــت عـــمــار

يا ليتهم معنـا نحظى بصحبتـــهــــــم — في حضرة المصطفى إذ نحـــن زوار

لم ننسهم بالدعا في المسجـــدين وفي — شهــر الصيــام، ففي البيتين أنـــــوار

وفي الصيام دعاء العبـــــد يقبـلــــــه — رب كريـــــم له في الصـــوم أســـرار

نرجو تفضله بالعتـــــــــق في كـــرم — عنا وعنكم، فلا تمسســــكم النــــــــار

أنتم أحبتنا يا طـيب معــــــــدنـــكــــم — من حبنا لكم أهل الهـــــوى غــــاروا

وكيف لا وصميم القلـــب منزلــــــكم — لولا محبتــــــكم لم تـعـــــمــر الـــدار

يا رب بارك لنا فيكم وفي وطــــــــن — يهفو فؤادي له والعـــقــل يحتــــــــار

لولا مشقة عيش فيه ما نزحــــــــت — منه العقول، ولا للأصعــب اختـاروا

لله هجرتنا في الأرض واســــعــــــة — نرجو رضاه، فهل في هجـــرنا عــار

ما دام في موطني قوم له حـــكمـــوا — إنا إلى ربنا منــــهـــــم لــفـــــــــــــرار

لم يرقبوا فيــــــــــه لا إلا ولا ذممـــا — فحسـبنــــــــا الله، إن الله قــــهـــــــــار

يا رب هيء لنا من أمـــــرنا رشــــدا — واهد العصاة ومن في موطني جـاروا

وهب لنا رحمة في هذه ولهـــــــــــم — يــــا رب إنك وهـــــــاب وغفـــــــــار

واحقن دماء جرت من أمتي هــــدرا — في كل فـــــج دماء القــــوم أنهـــــار

خـلــوا جهاد العدا فالذل لازمـــهــــم — قد جاءهم مــــن رسول الله إنـــــــــذار

إليك أشكو رسول الله شــــرذمـــــــة — والوا “يهود” فهــــم للكفر أصهـار

واستنصروا بالنصارى ضد إخوتهم — من هول خزيهم أهل الحجــــا حاروا

الله حذرهم من سوء صنعهــــــــــــم — يا بئس ما صنعوا، منهـــم إذا صـاروا

أين الأولى ركزوا أعلام عزتنـــــــا — في الخافقــــــــين، وجنـــد الله كـــــرار

هذا صلاح وذا سيف العلا قطـــــــز — بل أين خالــــد سيــف الله بتـــــــــار

أين الرشيد ومأمون ومعتصــــــــــم — أين الخلائف من للعرض قــــد ثــاروا

فمن لنا اليوم حيث العرض منتهــك — فأين معتصـــم، والجـيــــش جـــــــرار

وأين من هدموا الأصنام في ثقــــــة — من عزهم دخلـــت في الـدين أمصـــار

وأين من صلبوا لم يثنـهـــــم رهـــب — أو يلههم رغب، للجنـــة اختـــــــــاروا

خباب يا فارسا ما مثلـه أحـــــــــــــد — يا آل ياسر صبــــرا، فـــاز عمــــــــار

بل أين “حيدرة” صهر الرسول لــه — بين الصفــوف أهــــــازيـج وأشعــــار

مهما أعدد ليس العد يحصرهــــــــم — منهم مهـــاجـــــرة فـــازوا وأنـصــــار

يا من له خضعت منا الجبــــاه ويــا — رب العبـــــاد، أغـــفـــــار وقـهـــار

أكرم وفادتنا يا رب وامنحـنــــــــــا — أعلى الجنـــان بها حـــــــور وأنهـار

11

وما زلت أذكر من طقوس رمضان في قريتي منذ ما يزيد على نصف قرن “المسحراتي”، الذي كان يطوف بعد منتصف الليل على بيوت القرية ليوقظ الناس للسّحور ولم تكن الكهرباء قد دخلت القرية بعد، فكان يحمل مصباحا يرافقه به أحد أبنائه أو زوجه أو من يتبعونه من أطفال القرية، وكان ينادي على الناس بأسماء أبنائهم وقد يدقّ على الأبواب حتى يضمن استيقاظ أهل البيت، وهو يترنّم بالأهازيج التي تعظّم شهر الصيام، وحين ينتهي رمضان يمرّ في صبيحة يوم العيد ليجمع ما يجود به الناس من خيرات ومن كعك وبكويت ونقود أو حبوب وغيرها.

أما المسحراتي في الإذاعة فهذا شيء آخر كم استمتعنا به من شعر “فؤاد حداد” ولحن وأداء “سيد مكاوي”، وقد انتقل إلى التلفاز فكنا نشاهده بعد دخول الكهرباء إلى القرية.

وإنْ أنس فلا أنسى انتظارنا لمدفع الإفطار ونحن صغار حين ينطلق من الإذاعة عقب قرآن المغرب بصوت كبار القرّاء في مصر حيث كانت المساجد تذيع هذا القرآن في مكبّرات الصوت، فنفرح بانطلاق مدفع الإفطار، وعقب ذلك ينطلق مدفع الإفطار في كل مركز مراعاة لفروق التوقيت فنلهج بالدعاء فللصائم دعوة مستجابة عند فطره، ويقف الأطفال على الطريق بالتمر ليفطروا الصائمين العائدين إلى بيوتهم من الحقول، وما تزال بعض المحلات التجارية وصانعو الكنافة والقطائف يضعون مجسّما لمدفع الإفطار استعادة للذكريات الجميلة.

كما أذكر صلاة التراويح بمسجد القرية ودروس الشيخ في المسجد، ثم انتقلت إلى الحياة في المدينة وكانت الفرصة متاحة للتنقل بين المساجد لاختيار أندى الأصوات للاستمتاع بسماع القرآن في صلاة التراويح… وكنا نوقظ أطفالنا لمشاهدة المسحراتي كما كان آباؤنا يفعلون معنا ونحن صغار، وقد صرنا الآن نوقظ أحفادنا وقد ننزل بهم إلى الشارع لمشاهدة المسحراتي الذي يحيّيهم بأسمائهم وهم ينفحونه ما تيسّر من النقود تقديرا لجهده وتشجيعا له وتعويدا للأبناء والأحفاد على البذل والعطاء، وإنْ كان الزمن قد تغيّر فلم يعد الناس بحاجة إلى المسحراتي لسهرهم طوال الليل أمام الشاشات لمشاهدة المسلسلات التي تعرض في شهر رمضان على القنوات الفضائية المختلفة أو خلف شاشات الأجهزة على برامج التواصل الاجتماعي.

ولست أنسى المسلسلات الإذاعية القديمة التي ارتبطت برمضان مثل ألف ليلة وليلة للشاعر طاهر أبو فاشا، وإخراج محمد محمود شعبان، والتي كنا ننتظرها كل ليلة، وكذلك المسلسلات الدينية، سواء في الإذاعة أو التلفاز، مثل أحسن القصص للكاتب الإذاعي محمد علي ماهر، يرحم الله الجميع، وقد تغيّر الوضع الآن مما يثير الشجون.

وأما فوازير رمضان ومسابقاته فقد تنوّعت بين مسابقات دينية في إذاعة القرآن الكريم أو فوازير الغرض منها التسلية واللهو، وأذكر أن أستاذنا المرحوم الأستاذ الدكتور مصطفى الشكعة كان يرفع كل عام دعوى قضائية على التلفاز لمنع فوازير رمضان لما فيها من رقص وميوعة لا تتناسب مع شهر الصيام، فيتم تأجيل النظر فيها لما بعد رمضان.

كما أتذكر الصفحات الدينية في جريدة الأهرام حيث كانت تكتب الدكتورة عائشة عبد الرحمن “بنت الشاطئ”، وغيرها من كبار الكتاب مقالات دينية كنت أتابعها وأستمتع بأسلوبها الأدبي الراقي وما تتضمنه من معلومات قيمة، وكانت تجمع بعد ذلك في كتب.

ومما كنت أحرص على متابعته في الأهرام الكاتب الإسلامي أ. أحمد بهجت في عموده اليومي “صندوق الدنيا”، وكان ذا أسلوب أدبي ساحر وآسر.

كما لا زلت أذكر دعوة والدي ـ يرحمه الله ـ لزملائه في العمل كل عام لتناول الإفطار في بيتنا حيث كانت أمي ـ يرحمها الله ـ تتفنّن في إعداد مائدة رمضانية عامرة بأشهى الأطعمة وكذلك الحلويات كالكنافة والقطائف، التي ما تزال طقسا رمضانيا في مصر حتى اليوم.

وقد ورثت عن والدي هذه العادة في دعوة الأهل والأصدقاء في رمضان لتناول الإفطار، مما يزيد من أواصر المودة بين الأهل والأقارب، كما كنا وما زلنا نشارك أبناء القرية في إفطار رمضاني بالمسجد يقدم فيه كل منا ما يجود به من طعام أو من مال لتجهيز الطعام الذي يجتمع عليه أهل القرية غنيّهم وفقيرهم مما يُحدث نوعا من الألفة بين أبناء المجتمع.

ومنذ عشرة أعوام أو يزيد استطعنا أنْ نجتمع مع أبناء دفعتنا في الكلية على طعام الإفطار في رمضان وصلاة التراويح وقضاء سهرة رمضانية ممتعة نستعيد فيها ذكرياتنا معا أيام الكلية، ونتّصل خلال لقائنا بمَنْ تبقّى على قيد الحياة من أساتذتنا فنسلم عليهم فيسعدون بذلك أيّما سعادة، بارك الله فيمَنْ بقي من أساتذتنا ورحم الله مَنْ انتقلوا إلى جوار الله، فهم أصحاب أياد بيضاء علينا تذكر فتشكر، فقد علمونا العلم والأخلاق جميعا، وقد يصطحب بعضنا أبناءهم لتوطيد العلاقة بينهم وبين الزملاء من جهة وبين أبناء الزملاء من جهة أخرى، ويلقي كل منا كلمة بهذه المناسبة يتم بثها بثا مباشرا، لتكون ذكرى طيبة، ونترحّم على أساتذتنا من جهة وعلى زملائنا الذين رحلوا عن عالمنا من جهة أخرى، وقد كان لقاؤنا هذا العام يوم الاثنين العاشر من رمضان، ذكرى انتصار مصر على العدو الصهيوني عام 1393هـ الموافق للسادس من أكتوبر عام 1973م، أي منذ ما يزيد على نصف قرن.

وقد نقلنا هذه العادة معنا حين كنا في “الأحساء” على مدى أربعة عشر عاما حيث كنا نتبادل الدعوات الرمضانية على الإفطار مع أصدقائنا وزملائنا من المصريين وغير المصريين ممن تربطنا بهم علاقات قوية، أو ندعو مَنْ كانوا يقيمون دون عائلاتهم لنشعرهم بالدفء الأسري ونخفّف عنهم وطأة الوحدة في هذا الشهر الكريم، وكانت لصلاة التراويح في “الأحساء” نكهة لا تنسى حيث التنقل بين المساجد في التراويح حيث الأصوات الندية والتلاوة الجميلة، وكذلك في صلاة التهجّد، ومن هؤلاء القرّاء الشيخ الدكتور طارق الحواس وأخوه الشيخ محمد، والشيخ الدكتور فيصل بن سعود الحليبي.

ورمضان شهر الجهاد فكثير من انتصارات المسلمين تمّت في شهر رمضان مثل غزوة بدر الكبرى، التي وقعت في السابع عشر من رمضان من السنة الثانية للهجرة، وفتح مكة الذي وقع في العاشر من رمضان من السنة الثامنة للهجرة ومعركة القادسية التي كانت في رمضان في العام الخامس عشر للهجرة بقيادة سعد بن أبي وقاص، في عهد الخليفة الثاني عمر بن الخطاب رضي الله عنه، وانتصر فيها المسلمون على الفرس.

وفتح بلاد الأندلس، كان في رمضان سنة 92 هـ بقيادة طارق بن زياد. ومعركة الزلاقة، التي انتصر فيها المسلمون على النصارى وكانت في سنة 479هـ، بعد سقوط طليطلة، حيث استنجد ملوك الطوائف بأمير المرابطين يوسف بن تاشفين. وموقعة حطّين، وكانت في رمضان سنة 584 هـ، وانتصر فيها المسلمون بقيادة صلاح الدين الأيوبي على الصليبيين. ومعركة عين جالوت كانت في رمضان سنة 685 بقيادة السلطان عز الدين قطز، والقائد العسكري الظاهر بيبرس.

ثم حرب العاشر من رمضان 1393 هـ – السادس من أكتوبر 1973هم – وفيها تمكّنت القوات العربية المسلمة من الانتصار على القوات الصهيونية الغاصبة، فعبرَت الجيوش العربية قناة السويس وحطّمَت أسطورة “الجيش الإسرائيلي” الذي لا يقهر، وهدموا بحمد الله خط بارليف، وقد ذكّرنا مجاهدو غزة بهذه الحرب حين جددوا التاريخ في حرب السابع من أكتوبر عام 2023م، وحطموا كبرياء الكيان الصهيوني وكشفوا سوأته أمام العالم أجمع، كما كشفوا سوأة الدول الهمجية الصليبية وعلى رأسها أمريكا وألمانيا وفرنسا وبريطانيا وإيطاليا، الذين تداعى رؤساؤهم إلى الكيان الصهيوني وعقدوا مجلس حرب وفتحوا مخازن السلاح عندهم بلا قيد ولا شرط للقضاء على المقاومة الإسلامية في بقعة صغيرة هي “غزة العزة”، التي لقّنتهم درسا لن ينسوه، في حرب دارت على الهواء مباشرة مما جعل بعض دول العالم تفيق من ضلالات الإعلام الصهيوني مثل جنوب إفريقيا التي رفعت قضية على الكيان الصهيوني في محكمة العدل الدولية بتهمة الإبادة الجماعية، ورأينا الشعوب الغربية تفيق من غيبوبتها التي صنعتها آلة الدعاية الصهيونية فتتظاهر ضد الإبادة الجماعية في غزة، ونتمنى أن تستفيق الأمة العربية من سباتها العميق وتعي الدرس جيدا وقد صارت المعركة على المكشوف وصار العداء سافرا والابتزاز ممجوجا، فالدور علينا قُطرا قُطرا ولن ينجو منا أحد إلا إذا وعينا الدرس ووضعنا نصب أعيننا المثل القائل: “أكلت يوم أكل الثور الأبيض”.

والأدباء والشعراء لهم حكاياتهم مع هذا الشهر الفضيل، فهو شهر الأدب مثلما هو شهر العبادة والعمل، وقد جمع الشاعر الكبير “علي الجندي” ما ورد في التراث العربي عن رمضان في سِفر ممتع سمّاه “قرة العين في رمضان والعيدين”.

وكثير من الشعراء قديما وحديثا عرضوا لرمضان بما يليق به من التقدير وذكروا فضائله وعددوا مآثره، ولكن بعض الشعراء قديما وحديثا كذلك تبرّموا بهذا الشهر الكريم وضاقوا بالصيام ذرعا، مثل أبي نواس وابن الرومي وغيرهما قديما ومثل أحمد شوقي وغيره من الشعراء الظرفاء حديثا، ولعلهم ـ إن أحسنّا الظن ـ قالوا شعرهم على سبيل الفكاهة، وإن كان هذا لا يليق بحرمة الشهر الكريم ومنزلته العظمى في الإسلام.

يقول الشاعر ابن الرومي على سبيل الفكاهة:

شهـر الصيــــام مبــاركٌ — ما لم يكـن فـي شهر آبِ

خِفت العذاب فصمتــــه — فوقعتُ في نفس العذاب

وقد رد أمير الشعراء “أحمد شوقي” على منتقديه بعد قصيدته “رمضان ولى” والتي أثارت جدلا جميلا، يحسب لصالح العصر الذي قيلت فيه ويحسب لرجال الدين الذين عاشوه ويحسب للمثقفين الذين استطاعوا أن يقلّلوا من حدة “الغضب”.. إنه الزمن الجميل حقا كما نطلق عليه، وقد سمعت بنفسي من فضيلة الشيخ “محمد متولي الشعراوي” يرحمه الله أن أمير الشعراء قال لهم:

ألا تعرفون الآية التي تقول “وَالشُّعَرَاءُ يَتَّبِعُهُمُ الْغَاوُونَ أَلَمْ تَرَ أَنَّهُمْ فِي كُلِّ وَادٍ يَهِيمُونَ وَأَنَّهُمْ يَقُولُونَ مَا لَا يَفْعَلُونَ”، فالتمسوا له العذر.

يقول “شوقي”:

رَمَضانُ وَلّى هاتِها يا ساقي — مُشتاقَةً تَسعى إِلى مُشتاقِ

ما كانَ أَكثَرَهُ عَلى أُلّافِها — وَأَقَلَّهُ في طاعَةِ الخَلّاقِ

اللَهُ غَفّارُ الذُنوبِ جَميعِها — إِن كانَ ثَمَّ مِنَ الذُنوبِ بَواقي

بِالأَمسِ قَد كُنّا سَجينَي طاعَةٍ — وَاليَومَ مَنَّ العيدُ بِالإِطلاقِ

ضَحِكَت إِلَى مِنَ السُرورِ وَلَم تَزَل — بِنتُ الكُرومِ كَريمَةَ الأَعراقِ

هاتِ اِسقِنيها غَيرَ ذاتِ عَواقِبٍ — حَتّى نُراعَ لِصَيحَةِ الصَفّاقِ

صِرفاً مُسَلَّطَةَ الشُعاعِ كَأَنَّما — مِن وَجنَتَيكَ تُدارُ وَالأَحداقِ

حَمراءَ أَو صَفراءَ إِنَّ كَريمَها — كَالغيدِ كُلُّ مَليحَةٍ بِمَذاقِ

وَحَذارِ مِن دَمِها الزَكِى تُريقُهُ — يَكفيكَ يا قاسي دَمُ العُشّاقِ

فذهب البعض إلى أنَّ “شوقى” يقصد في قصيدته أنه صام رمضان وقام بواجباته الدينية وامتنع عن الخمرة، فلما ذهب رمضان عاد إليها مرة أخرى.

وقال بعضهم إنه لم يقصد التغزل بالخمرة بل وصف حال البعض من شاربي الخمر الذين ينتظرون انتهاء رمضان لكي يعودوا إلى شربهم.

بينما رأى البعض أنها قصيدة وطنية بل وأخلاقية أيضا، وما كان مطلعها الصادم إلا لعبة فنية من شاعر أراد أن يجذب قرّاءه إلى قصيدته وهو يحدّثهم عن الكأس التي اشتاق إلى شربها، قبل أن يتضح هدفه الحقيقي من القصيدة عندما يقول لساقيه:

وَطَني أَسِفتُ عَلَيكَ فى عيدِ المَلا — وَبَكَيتُ مِن وَجدٍ وَمِن إِشفاقِ

لا عيدَ لي حَتّى أَراكَ بِأُمَّةٍ — شَمّاءَ راوِيَةٍ مِنَ الأَخلاقِ

ذَهَبَ الكِرامُ الجامِعونَ لِأَمرِهِم — وَبَقيتُ فى خَلَفٍ بِغَيرِ خَلاقِ

ورأيت بَعضُهُمُ لِبَعضٍ خاذِلا — وَيُقالُ شَعبٌ في الحَضارَةِ راقي

وَإِذا أَرادَ اللَهُ إِشقاءَ القُرى — جَعَلَ الهُداةَ بِها دُعاةَ شِقاقِ

والمحبون رأوا فيها “آية” في الحب الصوفي، وطلب المعرفة اللّدنيّة والعشق الإلهي، وأنها على طريقة شعراء التصوف الكبار: ابن الفارض وابن عربي والحلاج والسهروردي والجيلي ورابعة العدوية، فالمعنى الواضح وضوح الشمس أنَّ شوقي يطلب إحضار هذه الخمر الإلهية، بعد أن انقضى شهر الصيام، هذه الخمر المشتاقة لصاحبها، وهي التي ألزمته جادة الطريق وسبيل الاستقامة، والبعض لجأ فى الرد على “شوقي” بأسلوب المعارضات ومن أشهر المعارضات لهذه القصيدة قصيدة “جابر قميحة”، يقول فيها:

رمضانُ ودَّع وهو في الآماق — يا ليته قد دام دون فــــــراقِ

ما كان أقصَرَه على أُلاَّفِه — أحبَّة فى طاعةِ الخــــلاق

زرع النفوسَ هدايةً ومحبة — فأتى الثمارَ أطايبَ الأخلاق

“اقرأ” به نزلتْ، ففاض سناؤُها — عطرًا على الهضبات والآفاق

ولِليلةِ القدْر العظيمةِ فضلُها — عن ألفِ شهر بالهدى الدفَّاق

فيها الملائكُ والأمينُ تنزَّلوا — حتى مطالعِ فجرِها الألاق

فى العامِ يأتي مرةً لكنّه — فاق الشهورَ به على الإطلاق

ويقول “شوقي” في كتابه النثري “أسواق الذهب” عن الصيام “الصَّوْمُ حِرْمَانٌ مشْرُوع، وتأديبٌ بالجوع، وخُشُوعٌ لله وخُضُوع، لكلِّ فريضةٍ حِكمة، وهذا الحُكْمُ ظاهرُه العذابُ وباطنُه الرحمة، يستثير الشفقة، ويحضُّ على الصَّدَقة؛ يكسِرُ الكِبْر، ويُعلِّمُ الصَّبر، ويَسُنُّ خلال البِر؛ حتى إذا جاع مَنْ ألِفَ الشِّبَع، وحُرِمَ المُتْرَفُ أسباب المُتَع، عَرَفَ الحِرْمَانَ كيف يقع، والجوعَ كيف ألمُهُ إذا لذع”.

ويقول الأديب “مصطفى صادق الرافعي” عن شهر رمضان المبارك وفلسفة الصيام في الجزء الثاني من كتاب “وحي القلم”، بأنه “مدرسة الثلاثين يوماً” التي وضع بها الله عز وجل الإنسانية كلها في حالة نفسية واحدة، عبر نظام علمي من أقوى وأبدع الأنظمة ألا وهو الصوم: “يضع الإنسانية كلها في حالة نفسية واحدة، تتلبس بها النفس في مشارق الأرض ومغاربها”.

ويستمر قائلا: “الحقيقة الإسلامية الكبرى التي شُرع الصيام لها هي استمرار الفكرة الإنسانية كي لا تتبدل النفس على تغير الحوادث، ومن معجزات القرآن الكريم أنه يدّخر في الألفاظ المعروفة في كل زمن حقائق غير معروفة لكل زمن فيجليها لوقتها حتى يضج الزمان العلمي في متاهته وحيرته”.

ويضيف: “المقصود من الصيام حبس النفس عن الشهوات وفطامها عن المألوفات وتعديل قوتها الشهوانية لتستعد لطلب ما فيه غاية سعادتها ونعيمها”.

ويقول عن فلسفة الصيام: “شهر هو أيام قلبية في الزمن، متى أشرفت على الدنيا قال الزمن لأهله: هذه أيام من أنفسكم لا من أيامي، ومن طبيعتكم لا من طبيعتي، فيقبل العالم كله على حالة نفسية بالغة السمو، يتعهد فيها النفس برياضتها على معالى الأمور ومكارم الأخلاق، ويفهم الحياة على وجه آخر غير وجهها الكالح، ويراها كأنما أجيعت من طعامها اليومي كما جاع هو، وكأنما أفرغت من خسائسها وشهواتها كما فرغ هو، وكأنما ألزمت معاني التقوى كما ألزمها هو، وما أجمل وأبدع أن تطهر الحياة فى العالم كله، ولو يومًا وحدًا، حاملة في يديها السبحة! فكيف بها على ذلك شهرًا من كل سنة؟”.

وعن فلسفة الصوم يقول “الرافعي” بأنه فقر إجباري يُراد به إشعار النفس الإنسانية بطريقة عملية واضحة كل الوضوح: أنَّ الحياة الصحيحة وراء الحياة لا فيها…

ولكاتب هذه السطور شعر كثير في رمضان، فقد كتبت في رمضان عام 1434هـ الموافق شهر يولية/ جويلية 2013م، قصيدة بعنوان “رمضان أدرك مصرنا”، دعوت فيها إلى لم الشمل ونبذ الخلاف والفرقة، وأن تسود روح التسامح بين أبناء مصر حفاظا عليها، قلت فيها:

أقبلت يا شهر الصيام ومصرنا — قد قسمت حزبين يا لخسارنــــا

قلبت لها ظهر المجن رجالهـــا — وتنازعوا السلطان يا لخرابنــا

رمضان شهر الخير أدرك أمة — طهر قلوب القوم من أدراننــا

سل السخائم من قلوب أوشكت — أن تفقد المشهور من أخلاقنــا

خلق التسامح كان يجمع بيننـا — كنا نجــود به على أعدائنـــــا

ما بالنا ضاع التسامـــح بيننــا — والحقد يهدم ما استقــر ببالنــا

ضاع الأمان وزلزلت آمالنــا — نحن الذين نضل عن آمالنـــا

لا يرتضي الرحمن فرقة أمة — وتنازعا للملك بين رجالنـــــا

يا قوم ثوبوا للرشاد فمصرنا — تهفو لرشد كان طـــوع بناننا

رباه أكرمنا ووحد شملنـــــــا — لتكون مصر منارة لزماننــــا

10

 

كما كتبتُ قصيدة بعنوان “أهلا رمضان” في غرة رمضان 1432هـ، الموافق أول أغسطس/ أوت 2011م، قلت فيها:

رمضان هل هلاله أهـلا بـــــه — بالحسن يبهرنا، ويأسر قلبنــا

فاض السرور به على من صامه — يضفي عليه البشر دوما والسنــا

أعمالنا في هذه الدنيا لنــا — إلا الصيــام فإنه لإلهنــا

يجزي به من صام إيمانا ومحــ — ــــتسبا لأجر الصوم عند مليكنــا

يغفر له ما قـــد تقدم إنــــــــــــه — رب رحيم، رب فاقبل صومنــــا

وامنح بلاد العرب أمنا دائمـــــا — واهد العصاة، بفيض عفوك عمنا

يا رب أنت إلهنا ورجاؤنــــــــا — فاغفر جميع ذنوبنا يا ربنــــــــــا

وكتبت في غرّة رمضان 1432هـ، مقطوعة بعنوان “رمضان”، قلت فيها:

رمضان يوافي بالحـب — وبأنــوار تغمـــر قلبــي

نفحات الله به فاضـت — بالجود وغفـران الذنب

والجنة فيه قد ازدانت — للصائم شوقــا في حب

باب الريان ينـــــــادينا — يفتح للصائـــم ويلبــــي

كل الأعمـــــال لنا إلا — صوم مقبــــول للـرب

يا رب تقبل وامنحنـا الـ — ـفردوس الأعلى يا ربي

وفي السابع والعشرين من شهر شعبان 1440هـ الموافق للثالث من مايـــــــو 2019م كتبت الشاعرة السعودية “عطاف سالم” تقول:

رمضان – يا ربِّي – تَجَلَّـى بيننـا — حَمداً إليكَ بِـهِ فـذا نِعـم الغِنَـى

أَذهِـبْ بِـهِ آلامَنـا وهُمومَـنـا — بَلِّلْ بِـهِ أكبادَنـا وَاسـقِ الدُّنـى

واغفـرْ بـهِ زَلاتِنـا وَذُنوبَـنـا — فذنوبُنـا تتـرى تقـضُّ المَأمَنـا

وارفعْ بـهِ دَرجَاتَنـا نحـوَ العُـلا — واختـمْ بـهِ أيّامَنـا نحـوَ الهَنـا

فكتبت معارضا لها:

رمضان أقبل يا إلهي بالمنى — وازداد فيه الخير وانهل السنا

فيه الملائك قد تجلتْ بالدعا — للصائمين، عساه يغفر ذنبنا

وبه يسود تراحم ومودة — وتعاطف وتقارب ما بيننا

نحيا بلا رفث ولا صخب ولا — جهل وإسراف يهدد أمننا

فيه المروءة والشهامة والندى — والبر بالأرحام ألف جمعنا

يا رب وفقنا لصوم كامل — نسمو به، يا رب تمم ديننا

ولي في مدح النبي صلى عليه وسلم والثناء عليه والدفاع عنه مقطوعة بعنوان: “صلى عليك الله” كتبتها في شوال عام 1433هـ الموافق سبتمبر 2012م، قلت فيها:

صلى عليك الله يا علم الهدى — وملائك الرحمـن ثم الناس

فلأنت شمس يا حبيبي أشرقـت — ولأنت يا هادي لنا النبــراس

خسئ الكفور وراح يهذي بالخنا — ما ضر مثلك ما يرى الأنجــاس

يا قوم ثوروا للنبي وقاطعـوا — إنتاجهم يا قوم ذاك أســاس

دولارهم هو دينهم، فلتضربوا — دولارهم، فلأنتم الحـراس

ومن الشعراء الذين اهتموا بالشعر في رمضان أخي وصديقي الشاعر الكبير د. جمال مرسي نائب رئيس لجنة العلاقات العربية باتحاد كتاب مصر، الذي آلى على نفسه منذ العام الماضي أنْ يكتب كل يوم من رمضان قصيدة وينشرها على صفحته، وهو مستمر هذا العام، نسأل الله له العون والسداد.

ومن شعره في استقبال رمضان قصيدته بعنوان: “رمضان يا أغلى الأحبة”:

ها قد أتى رمضانُ يرفلُ

في عباءتهِ الجديدةْ

ها قد أتى

والنورُ من قنديلِهِ الأزَليِّ يسطعُ

كي يضيءَ لنا دروبًا

قد تغشَّاها الظلامْ

ويميطَ عنها ما تكدَّسَ من رُكامْ

ويمدَّ أطواقَ النجاةِ إلى قلوبٍ قد تهاوَتْ

في غياباتِ الضلالةِ

منذ أعوامٍ بعيدهْ

ويصبَّ ماءً فوقَ هامِ الغافلينَ عن العبادةِ،

عن كتابِ اللهِ

عن ذكرِ المهيمنِ

مالكِ المُلكِ الذي خلقَ البرايا

واستوى

ها قد أتى

أتُرى ستسعفني إذا ما شئتُ إنصافًا

قصيدهْ؟!

ها قد أتانا بعد طولِ الانتظار

وفي مُحيَّاهٌ السَّنا

وقُلوبُنا بالشَّوقِ مُفعمَةٌ وبالآمالِ

أن تُمحى ذنوبٌ

طالما

جَثَمَتْ على كُلِّ القلوبِ

فأثقلتْهَا بالنَّدامَةِ والضَّنَى

ها قد أتى..

فاغفر أيا ربي لنا

رمضانُ كيف رأيتنا

من بعدِ عامٍ من غيابْ

أرأيتَنا نمشِي على أشواكِ غُربتِنَا

بأوطانٍ رَمَتْ أحلامَنا فِي قاعِ جُبٍّ

كي يعيشَ بِها لصوصُ المال

أهلُ الفنِّ

تُجَّارُ السِّلاحِ

الرَّاقصاتُ

وينقضي أَجَلُ الفقيرِ

الكادحِ

المحرومِ

مُنتظرًا قدومَكَ بالرخاءْ

أرأيتَنا في لَهْوِنَا

كالأمسِ

أُنسِينَا بشاراتُ السَّماءْ

ها قد أتيتَ

وغزةُ العذراءُ ما زالت تُعاني

بطشَ محتلٍ لعينْ

وبنو العروبةِ قد أصابهُمُ العَمَى

الصَّمتُ ألجمهم فخرُّوا سُجَّدًا

ما بينَ مُنبَطحٍ

تمادى

أو خَؤُونْ

أدمَتْ مآقِينَا دِمَاءٌ أُهرِقَتْ فَوقَ الثَّرى

ومَجاعةٌ أَودَتْ بأرواحِ الضَّحَايَا

فوقَ أرضٍ

ما لها ذنبٌ سِوى أنْ قالَ أهلوُهَا: كَفَى

للظُّلمِ لا

للقهرِ لا

لا، لن نعيشَ أَذِلَّةً

وبلادُنا فِي القيد يقتلها الأنين

والمسجد الأقصى يئن ويشتكي

من ذا يكفكف أدمع الأقصى الحزين

رمضانُ يا أغلى الأحبَّةِ:

كُن بخيرٍ يا صديقي

لا تنزعِجْ من عَالَمِي

لا تبكِ من هَمٍّ وضِيقِ

أَقبِلْ فَإِنَّا نفتحُ الأبوابَ لَكْ

ما أجمَلَكْ

فامحقْ بِطَلَّتِكَ الظَّلامْ

وانْشُر على الأرضِ المَحَبَّةَ والسَّلامْ

إنا نتوقُ إلى السَّلامْ

إنا نتوقُ إلى السَّلامْ

وتخصّص المجلات الإسلامية والأدبية في الوطن العربي أبوابا للشعر العربي، تتناول شعر المناسبات الإسلامية، ورمضان من المناسبات الكريمة، وأمامي الآن مجلة الأزهر العريقة عدد رمضان 1446هـ الموافق مارس 2025م الجزء التاسع السنة الثامنة والتسعون، وفيها باب دوحة الشعر التي يشرف عليها الشاعر والناقد أ.د. صابر عبد الدايم يونس، ويبدأ بقصيدة للشاعر المصري خالد سعد فيصل رائد واحة أمير الشعراء بعنوان: رمضان شهر الهدى والقرآن مطلعها:

مولاي جئتك طائعا وملبيا

فامنح بفضلك ثابت الإيمان

وفيها يقول:

رمضان يا شهرا به نزل الهدى

نورا فأنت عطية الرحمان

يا رب فامنح من رضاك بليلة

فيضا من الإحسان والرضوان

يا ليلة القدر القلوب تعلقت

بالذكر بالصلوات بالقرآن

ترنو إلى عفو الإله وستره

وصفاء نفس من هوى الشيطان

تدعوه حسنا للختام وجنة

ترجوه عتقا من لظى النيران

ويختمها بقوله:

أرجوك عفوا يا إلهي علني

أنجو من البأساء والخسران

أرجوك طهرا للنفوس فزكها

وامنن عليها سابغ الإحسان

والحديث عن رمضان شيّق وجميل ولا يكاد ينتهي ولنا معه عودة إن شاء الله في مقال قادم، وكل عام والأمة العربية والإسلامية بخير وأمن وأمان.

الله يديم لمَّة العِيلة

سمر توفيق الخطيب (كاتبة وباحثة فلسطينية – لبنان)

رمضان.. أيام معدودات

الله يديم “لمَّة العِيلة”

أيامًا معدودات من الكنوز والخير والبركة يُغدقها الله، سبحانه وتعالى، على عباده في شهر رمضان المبارك. فالصيام من أعظم العبادات، وهي ركن أساسي من أركان الإسلام الخمسة، فقد أمرنا الله، سبحانه وتعالى بالصيام: “أَيَّامًا مَّعْدُودَاتٍ فَمَن كَانَ مِنكُم مَّرِيضًا أَوْ عَلَىٰ سَفَرٍ فَعِدَّةٌ مِّنْ أَيَّامٍ أُخَرَ وَعَلَى الَّذِينَ يُطِيقُونَهُ فِدْيَةٌ طَعَامُ مِسْكِينٍ فَمَن تَطَوَّعَ خَيْرًا فَهُوَ خَيْرٌ لَّهُ وَأَن تَصُومُوا خَيْرٌ لَّكُمْ إِن كُنتُمْ تَعْلَمُونَ” (القرآن الكريم، البقرة: 184).

إنه أفضل الشهور، ولياليه أفضل الليالي، فهو شهر العبادات والطاعات؛ فيه نزل القرآن الكريم، وفيه ليلة القدر التي يتحرّاها المسلمون في العشر الأواخر من الشّهر الفضيل، يقول تعالى: “إِنَّا أَنزَلْنَاهُ فِي لَيْلَةِ الْقَدْرِ وَمَا أَدْرَاكَ مَا لَيْلَةُ الْقَدْرِ لَيْلَةُ الْقَدْرِ خَيْرٌ مِّنْ أَلْفِ شَهْرٍ تَنَزَّلُ الْمَلائِكَةُ وَالرُّوحُ فِيهَا بِإِذْنِ رَبِّهِم مِّن كُلِّ أَمْرٍ سَلامٌ هِيَ حَتَّى مَطْلَعِ الْفَجْرِ”(القرآن الكريم، القدر:1-4).

وقد استقبل سيدنا محمد، صلَّى الله عليه وسلم، في إحدى خطبه رمضان بقوله: “أيُّها النَّاس، إنَّه قد أقبل إليكم شهر الله بالبركة والرَّحمة والمغفرة – فهو شهر الله، لأنَّ الله تعالى أراد للمسلمين أن يتفرّغوا لعبادته، وأن يذوبوا في عبوديتهم له، وأن يطيعوه، وأن يرتفعوا إلى مواقع القرب لديه – شهر هو عند الله أفضل الشّهور، وأيّامه أفضل..”..

إنه شهر التّقوى كما يقول الله، سبحانه وتعالى: “يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيَامُ كَمَا كُتِبَ عَلَى الَّذِينَ مِن قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ” (القرآن، الكريم، البقرة: 183). وهو شهر غرس القيم السّامية والنّبيلة في نفس كل مسلم سواء أكان شابًا أم طفلًا، وشهر التّحلي بالقيم والأخلاق الحميدة التي بعث سيدنا محمد، صلَّى الله عليه وسلم، ليتمّمها، كما جاء في قوله: “إنما بعثت لأتمم مكارم الأخلاق”.

ومما لا شك فيه أن أيام رمضان لا تختلف بين الماضي والحاضر، فالاختلاف الوحيد هو في نفوس البشر على اختلاف الزّمان والمكان. فمنذ الأزل هناك المؤمن والتّقي وهناك المشرك والفاسق، لذلك على كلٍّ منّا أن يُعدّ العدة لهذا الشّهر المبارك ونهيئ أنفسنا لنحظى بالرّحمة الرّبانية التي اختص الله، سبحانه وتعالى، عباده المؤمنين في هذا الشّهر الكريم حيث يعمّ الكون الرّحمة وتصفو النّفوس وتشرق الدّنيا بقدومه.

وقد تفنّن الشّعراء العرب في التّرحيب بهذا الشّهر الكريم ووصف الهلال، فها هو الشاعر الصُّوفي الأندلسي “ابن الصباغ الجذامي” (1366 – 1451م) يشيد بالهلال:

هَذَا هِلالُ الصَّوْمِ مِنْ رَمَضَانِ — بِالأُفْقِ بَانَ فَلا تَكُنْ بِالوَانِي

وَافَاكَ ضَيْفًا فَالتَزِمْ تَعْظِيمَهُ — وَاجْعَلْ قِرَاهُ قِرَاءَةَ القُرْآنِ

صُمْهُ وَصُنْهُ وَاغْتَنِمْ أَيَّامَهُ — وَاجْبُرْ ذِمَا الضُّعَفَاءِ بِالإِحْسَانِ

كما يرحّب الشاعر الجزائري “محمد الأخضر السائحي” (1918 – 2005م) بهلال شهر رمضان، فيقول:

امْلأِ الدُّنْيَا شُعَاعًا — أَيُّهَا النُّورُ الحَبِيبْ

اسْكُبِ الأَنْوَارَ فِيهَا — مِنْ بَعِيدٍ وَقَرِيب

ذَكِّرِ النَّاسَ عُهُودًا — هِيَ مِنْ خَيْرِ العُهُودْ

يَوْمَ كَانَ الصَّوْمُ مَعْنًى — لِلتَّسَامِي وَالصُّعُودْ

يَنْشُرُ الرَّحْمَةَ فِي الأَرْ — ضِ عَلَى هَذَا الوُجُودْ

ويقول أمير الشعراء “أحمد شوقي” (1868 – 1932م) عن الصّوم في كتابه “أسواق الذّهب”: “الصّوم حرمان مشروع، وتأديب بالجوع، وخشوع لله وخضوع، لكل فريضة حكمة، وهذا الحكم ظاهره العذاب وباطنه الرّحمة، يستثير الشّفقة ويحض على الصّدقة، يكسر الكبر، ويعلم الصّبر، ويسن خلال البر، حتى إذا جاع من ألف الشّبع، وحرم المترف أسباب المنع، عرف الحرمان كيف يقع، وألم الجوع إذا لدغ”.

أما أنت أيها المتلقّي فعش فرح هذا الشهر، الذي هيأ له كل من شهر التّوريق “رجب”، وشهر التّفريع “شعبان”، وها هو شهر القطاف أهَلّ علينا؛ فكن جوادًا كريمًا مُحبًّا ومعطاءً. فهذا شهر الامتحان، حيث الصّيام والقيام وتنقية النّفس من كل الشّوائب، وليصُم سمعك ولسانك وبصرك حتى تستغفر لك الملائكة؛ اقهر بدنك بهذه الرّياضة الروحية، والجُمْ شهواتك؛ والأسمى والأنقى.. انتهز هذه الأيام الفضيلة والمباركة وكن إنسانًا؛ فهذا شهر لا يحتمل أن نقصّر فيه بحق الآخرين.

ولا بد من أن أحدثكم عن عاداتنا في أول يوم في رمضان، حقيقة هو يوم جميل جدًا من حيث الفكرة ولقاء الأحبّة، أما من حيث التّنفيذ فهو يوم شاق جدًا جدًا؛ إذ تجتمع العائلة من الأخوة والأخوات والأبناء والأحفاد، ويختلط الحابل بالنّابل. نهار شاق على بعض الأخوات من طبخ ونفخ، ومساء شاق على أخريات من جلي وتنظيف وترتيب؛ والكل عنده قناعة أنها عادة يجب ألّا تتغير! باستثناء من تطبخ وتنفخ وتجلي وتنظف… أي باستثنائهن…

صراحة أنا من مؤيّدي عدم تغيير هذه العادة، إلا أن هناك متضررات ممن يتعبن جدًا جدًا، ويبذلن الجهد في التّحضير لهذه المناسبة الكريمة، في حين أن الضّيوف الكرام يقرعون الباب وقت آذان المغرب، وحينها يأتي دور الكنّة كالعادة لتسأل: كيف أساعدكم؟ وغالبًا ما تخجل الحَماية أن تجرح مشاعرها وبالتالي تنزف مشاعر ابنها ضناها.. فلذة كبدها.

وهكذا يبقى الأمر على حاله، واقع مرير جدًا على النّساء المتعبات.. ومثل ما يُقال: “حيد عن ظهري بسيطة”.. وأهمّ ما في الأمر هو المحافظة على العادات والتّقاليد…

من ناحيتي، فإنني متأكدة أن كل شيء يمكن تغييره، فالذي اخترع العادات المتعبة يمكنه أن يخترع العادات الأسهل منها؛ إذ يمكنك أن تَسعد وتُسعد الآخرين دون أن تدعهم يبذلوا الجهد حتى يصلوا إلى غاية الإنهاك! بحيث يكون الاجتماع العائلي في مكان حيادي لا أحد يتعب، ولا أحد يتأفّف، ولا أحد يضجّ من هول ما رأى..

أنت عزيزي المتلقي، لن تفهمني أبدًا مهما حاولت. نعم، لن تفهمني أبدًا، لا يفهم كلامنا سوى متلقِّيَة مثلنا تعاني المعاناة نفسها… وخلص الكلام.

وفي كل الأحوال، أعاد الله علينا وعليكم هذا الشّهر بالخير واليمن والبركات وراحة البال.. ودمتم بألف خير، والله يديم الود والحب.. وللأمانة: الله يديم “لمّة العيلة”.

شعبان عبد الجيد
د. شعبان عبد الجيِّد (كاتب من مصر)

رمضان.. في عيون الشعراء!

رمضانُ أقبَلَ.. قم بنا يا صاحِ

نُحيِ القـــــلوبَ ببهجة الأرواحِ

بالحـــــمد لله الــــــذي رحَماتُه

عمَّت فضجَّ الكـــــونُ بالأفراح

*****

وما رمضانُ إلا صــــوتُ حادٍ

يقول لغافـــــــلِ الرُّكبان: هيَّا

فكم من مبكرٍ في القـوم صبحًا

مضى عنهم وفــــارقَـهم عَشيَّا

(لأبيات للكاتب)

منذ ثلاث سنوات، طلبَت مني إذاعة “صوت العرب” المصرية أن أشارك في برنامج “المِسَهَّراتي”، الذي تقرَّرَ أن يُذاع كلَّ ليلةٍ في رمضان؛ فكتبتُ له كلمات المقدمة:

مِسَهَّراتي وْلِيــــلاتي بَلِف وِبَدَوَّر — عن الحكاوي وْبَقلِّب في التاريخ صفحات

بَرسم بكِلْمة ونغم مَوَّالي وِبَصَوَّر — من الزمان اللي عَـــــــدَّى أجمل اللمحات

وساهمت في بعض حلقاته إعدادًا وتأليفًا، وكان من حَظِّي أن أكون ضيفَ أولاها متحدّثًا؛ واستقر رأيي على أن أقدّمها زجَلًا من تأليفي أيضًا، وأن تكون بمثابة إطلالةٍ مضيئة لعالم “المسحراتي”، كما رأيته طفلًا في شوارع القرية وعرفته قارئًا في صفحات الكتب:

كان فيـــــه مسحـــــراتي — فنَّــــــــان ومسهَّراتي

بالطبلة بيـــــناديــــــــــنا — وبْقولــــوا مْنــــقّراتي

***

ولُه تاريـــــخ طويــــــل — منـــــذ مئات السنـــين

وبِنحِـــــــــــــبُّهْ لِإِنُّـــــهْ — مِ النـــــاس الطيبــــين

***

وف شهر كل عــــــــام — هُــــــــوَّ شهر الصيام

بالليل ييجي يِصَـــــحِّي — أُمة خيــــــــــر الأنام

***

تِلقاه في كـــــل مَطرَح — فـــــي القرية والمدينة

عَلَــــم مشــــهور كإِنُّهْ — منارة فْ كــــــل مينا

***

في الشام وفي العـراق — وف مَصر والسودان

وف سوريا والجزائر — وف ليبــيا وف عُمان

***

بِيدُور عــــلى البيوت — وِيْدُور على القصور

وينادي كـــــــل ليلة: — “يا نايم السحــــــور”

***

وِيْلِف فـــي الشوارع — وِيْلِف في الحـــارات

وِمْعاه زَفِّـــــــة وِلاد — ومْعاه فــــرحةْ بنات

***

وموكِـــــــبه البسيط — بالطبلة والمــــــزمار

بِيْفَرَّح الصـــــــغار — وِيْصحصَح الكُــــبار

***

ويسلي السهرانـــين — ويْــنادي ع النايمين

وفي الضلمة بْفانوسه — بيهدي الحــيرانين

***

وفْ مصر من زمان — كان المسحـَّـراتي

بيدق ع البيبان — ويقول ويعيد ليـــــلاتي:

***

أيها النوام قوموا للفــــــــلاح — واذكروا الله الذي أجرى الرياح

إن جيش الليل قد ولَّى وراح — وتدانَى موكبُ الصبــــــح ولاح

اشربوا عجلَى فقد جاء الصباح

***

معشرَ الصُّــــــوام يا بشراكمُ — ربُّـــــكم بالصَّـــــوم قد هنَّاكمُ

وجوارَ البيت قــــــد أعطاكمُ — فافعلوا أفعالَ أرباب الصَّـلاح

اشربوا عجلَى فقد ولَّى الصباح

****

تسحَّروا رضي الله عنكم، كلُوا غفر الله لكم. كلوا مما في الأرض حلالًا طيبا، كلوا من الطيبات واعملوا صالحًا. كلوا من رزق ربكم واشكروا له، بلدة طيبةٌ وربٌّ غفور.

وفْ مَصرنا الجــــــديدة — لِسَّــه المِسحــراتي

فكرة وْتاريخ وواقــــــع — وبْنستناه ليـــــلاتي

***

وعمي سيد وصـــــوته — وكلام فــؤاد حَــدَّاد

أشـــــــــهر مِسحـراتي — بيغني فـــــي البلاد

***

وانا قلت على طـريقته — في اللحـــن والأداء

كلام بسيــــــــط ولكن — مِش قَـدُّه في السِّباق:

***

مِسَهَّراتي وْلِيــــلاتي بَلِف وِبَدَوَّر — عن الحكاوي وْبَقلِّب في التاريخ صفحات

بَرسم بكِلْمة ونغم مَوَّالي وِبَصَوَّر — من الزمان اللي عَـــــــدَّى أجمل اللمحات

وكل ليلة جميـــــــلة القلب بينوَّر — ويا ما شهر الصيام فيــــــه للأنام نفَحات!

لم أرتجل هذه الكلمات ارتجالًا، كما أنني لم أتكلَّفْها تكلُّفًا؛ كل ما حدث أنني احتشدت لكتابتها بقراءات ومراجعاتٍ في بعض ما عندي من كتب عن شهر رمضان، كان في مقدمتها كتاب “قُرَّةُ العَيْن في رمضانَ والعيدين”، للأستاذ “علي الجندي”، الشاعر البلاغي الدرعمي. اشتريته منذ أربعين سنةً بثمنٍ بخسٍ، جنيهين اثنين، ولم أكن فيه من الزاهدين.

وقد دعته العناية بموضوعه أن يجمع كلَّ ما يملكه من طاقةٍ لتأليفه، وهو كتابٌ يوشك أن يكون قد جمع فأوعَى، يقع في خمسمائة وخمسين صفحة، مقسَّمة على جزءين، لم يبالغ صاحبَه في وصفه بأنه غُنيةٌ لقارئه، بما ضمَّ من أشتات المعارف، عن توزيع فكره ووقته بين الكتب المختلفة، فكان هذا السِّفْرُ الذي يجد فيه مُطالِعُهُ ما لا يهيضه ولا يكدُّه من غذاءٍ شهيٍّ هنيءٍ مَريءٍ، يجمع أطرافًا شائقةً من اللغة والدين والتاريخ والأدب والشعر والحكمة والقصص والفكاهة وما إليها، مما يسيغ طعمه، ويستطيب مذاقه، ويخفّ على نفسه قبوله.

ومن الواضح أن الرجل قد بذل في هذا الكتاب جهدًا جهيدًا، وأنفق في الاستعداد له وقتًا طويلًا، بالقراءة الواسعة المتأنية، وتصفُّح المصادر والمراجع المتنوعة، وتصيُّد الأوابدَ والشواردَ الشائقة من مظانِّها المتعددة، مع الأناقة والتّحبير، في التعبير والتحرير. ولسوف أفيد منه هنا مرَّةً أخرى، وبخاصة فيما جمعه من طرائف الأدباء والشعراء في الشهر الكريم.

وفيما عدا دواوين بعض الشعراء، ثمة مرجعان آخران انتفعت بهما كثيرًا وأنا أخطُّ هذه السطور، أولهما، وهو الأسبق في النشر زمنًا، مقالٌ طويل ضافٍ عن “الشعر في رمضان”، للأستاذ “محمد عبد الغني حسن”، نشره في مجلة الهلال، (نوفمبر 1971)، والثاني كتاب “رمضانيات”، للأستاذ “مصطفى عبد الرحمن”، وهو كتابٌ صغير الحجم كبير النفع، وقد صدر في سلسلة اقرأ، (يونيو/ جوان 1984) وفيه فصلٌ ممتع عن “رمضان في الشعر العربي”.

رمضانُ في القرية

كان من حسن ما قدَّره الله لي أن أنشأ في قرية بسيطة يحتضنها النيل الطيب من جهة الغرب، عشت فيها طفولتي، ولا أزال أعيش فيها كهولتي، ولرمضان في القرية مذاقٌ مختلف عن المدينة، أجواءً وطقوسًا وعادات، ورغم تقلب الأيام وتحوّل الطبائع، وانحراف أكثر الناس عما كان عليه آباؤهم وأجدادهم، من سماحة الطبع وسذاجة العيش، لا يزالُ رمضان القرية، كما يقول الأستاذ “الزيات” في (وحي الرسالة): يحلّ من أهلها محل النور من العين والمهجة من القلب، تجسّمت في خواطرهم صورتُه، حتى جعلوه رجلًا له حياتُه وعمره وأجلُه.

يقضون صدر النهار في تصريف أمور العيش، ثم يجلسون على المصاطب في أشعة الأصيل الفاترة، يستمعون القصص أو الوعظ؛ حتى إذا تضيفت الشمس ومالت للغروب، جلسوا في الطريق أمام بيوتهم، فمدُّوا الموائد على الأرض، ودعَوا إليها عابري السبيل وطالبي الصدَقة؛ ثم لا يلبث الإخاء المحض أن يجعل الموائد المتعددة مائدةً واحدة، يصيب منها من يشاء ما يشاء!

أمَّا ليلُهم فاستماعٌ للقرآن، واستقبالٌ للإخوان، ومسامرةٌ مشتركةٌ ساذجةٌ تجمع أفنانًا شتَّى من شهِيِّ الحديث. وكلما انقضى نهارٌ من رمضان تغضَّنَ سِرارٌ وجوه القوم. حتى إذا لم يبق إلا رُبعُه الأخيرُ تمثَّلوه محتضَرًا يكابد غُصَص الموت، فندبوه في البيوت والمساجد، ورَثَوه على السطوح والمآذن، وبكَوه يوم (الجمعة اليتيمة) أحَرَّ بكاء.

فإذا كان المغرب الأخيرُ ولم يبق من رمضان إلا بقية رُوح، خامرهم الخوف من انطلاق الشياطين السجينة، فجلس الصبيانُ على أبواب الحجرات يكرّرون البسملة ويضربون حديدًا بحديد، ليحفظوا البيت من دخول شيطانٍ مَريد.

ذلك رمضان كما تُدركه الفِطرُ السليمة والقلوبُ المؤمنة. وهو وحده الباقي لفلاحِنا من غفلات العيش ولحظات السعادة. لكن وا أسفاه، لقد أفسَدَت الأزمةُ الخانقةُ رمضانَ القرية، كما أفسدَت المدَنِيَّةُ الفاسقةُ رمضان المدينة.

رمضان في مجلة الأزهر

منذ أكثر من أربعين سنة وأنا أتابع مجلة الأزهر، ولا أزال أحتفظ بعشراتٍ من أعدادها القيّمة في مكتبتي، وأعودُ إليها كل فترةٍ قارئًا ومستفيدًا، أجد في أبوابها المتنوعة زادًا روحيًّا ومعرفيًّا، ينتشلني من جوّ التفاهة التي كادت تأتي على كل ما هو جميلٌ ونقيٌّ في حياتنا. وفي كل رمضان تحرص المجلة على أن تخصّص باب الشعر والشعراء لأجمل القصائد التي نظمها الشعراء، قدامى ومحدثين ومعاصرين، حول هذا الشهر الكريم، وهي تصنع مجتمعةً ديوانًا ضخمًا ما أحوج قرّاء هذا الزمان الفقيرِ إليه.

تنزع هذه القصائد في مجملها منزعًا إيمانيًّا سوِيًّا، يبرز فضائل هذا الشهر ويُعلي من قيمته، ويصوّره كما أراده الله جلَّ شأنه، شهر عبادة وتقوى، أذكر منها قصيدة “في استقبال رمضان” للشاعر “السيد محمد الداودي”، (عدد رمضان 1405 هـ) يقول في بعض أبياتها:

أقبِــــــــل فَـديتُك ســــــاطعًا لَأْلاءَ — واملأ ربوع المشرقَين ضياءَ

واملأ قـــــلوب العالميــــــن محبَّةً — ومـــــــودَّةً ومسرَّةً وإخـــــاءَ

أقبلت بالنـــور السماويِّ الــــــذي — بهر الوجـودَ وعطَّر الأرجـاءَ

رمضــــان كم لك من يدٍ أسديتَها — ووهبتها للصائمين جــــــــزاءَ

مِنَنٌ يضيق الحصرُ عن تعـدادها — أيقظتَ فيــها الشعرَ والشعراءَ

إن هذا الشهرَ المكرَّمَ يهيئ للشعراء جوًّا من شعر الصفاء والنقاء، نجده في مثل قول “تميم بن المعز لدين الله الفاطمي”:

يا شهر مفترض الصوم الذي خلُصَت — فيه الضمائرُ والإخلاص للعمل

أرمضت يا رمضـــــان السـيــئات لنا — بشربنا للتُّقَى عَـــــلًّا على نهَلِ

فليت ظلَّك عــــــــنَّا غــــــــير منـتقلٍ — بصـــالح وخشوع غيـر منفَعَلِ

وليت شهرَك حَــــــــوْلٌ غـير منقطعٍ — صوم، وبِرٌّ، ونُسْكٌ فيه متصلِ

وَرِعون ومستَخِفُّون

وقد جرى كثيرٌ من شعرائنا على هذه السُّنَّة باستقبال شهر رمضان، وتهيئة النفوس له، والحفاوة به، وحسن تلقِّيه زائرًا كريمًا، وضيفًا عظيمًا. وها هو ذا “مصطفى صادق الرافعي”، صاحب (وَحْي القلم) يوجّه التحية إلى رمضان، مشتاقًا إلى لقائه فرِحًا بمَقدِمِه قائلًا:

فديتُك زئرًا فـــــي كلِّ عـــــــامِ — تُحَيَّا بالسلامـة والسلامِ

وتُقبِل كالغَمامِ يَفيضُ حــــــــينًا — ويبقَى بعدَه أثَــرُ الغَمامِ

وكم في الناسِ من كلِفٍ مَشوقٍ — إليك وكَم شَجِيٍّ مستهامِ

والشاعر “محمود جبر” يحسن استقبال رمضان بأبياتٍ يعبّر فيها عن مكابداته في ليل رمضان ونهاره، فهو يعفّ في نهاره عن لغو الحديث وإثمِه، ويُذيب ليلَه بالتبتّل والتهجّد قائلًا:

رمضانُ يا طُــــهرَ النـفوسِ — هُرِعـــتُ أستجديك رِفدَك

وأعِفُّ يــــومَكَ عن حـديثٍ — لا يـــطابـــق منك قصدَك

وأُذيب ليلَكَ فــــــــي التبتل — أبتغي الأنـــــــــوار عندك

أنت المفضَّل فــــي السماء — وبالكتاب خُصِصْتَ وحدَك

يا معبد المتهجــــــــــــدين — فـــــزعت أستهديك رشدك

يا قلبُ ذلك مَــــن تُــــحِبُّ — فسُق له يا قلبُ وجـــــــدَك

ومن طريف ما قرأتُه في ديوان الأستاذ “علي الجارم” أنه نزل ضيفًا في أحد الرمضانات ببعض أثرياء قومه، وكانوا بخلاء، فقال هذين البيتين:

أتى رمضـــانُ غيــرَ أن سَراتَنا — يَـــزيدونه صـــــــومًا تضيقُ به النفسُ

يَصومون صومَ المسلمين نهاره — وصومَ النصارَى حينما تغربُ الشمسُ

ولا أدري لماذا ذكَّرني هذا الموقف بالشاعر “محمد الأسمر”، وكان على فحولته شاعرًا، فيه بعض الاستخفاف والتظرُّف؛ نلمحه إشارةً في قوله:

رعَى الله شــهـر الصـــــومِ أمَّا نهارُه — فغافٍ وأمَّــــــــا ليلُه فهو ساهرُ

وحَيَّى رجــــالًا حين لاح هِــــــــلالُه — مشت بينهم مشْيَ النسيمِ البشائرُ

بِطانٌ إذا مــــا الشمسُ أرخت قناعَها — خِماصٌ إذا ما أقبلَت وهو سافرُ

خضوعًا لمن فوقَ السماوات عرشُهُ — ويعلم منهم مــــــا تُكِنُّ السَّـرائرُ

ونجده صراحةً في أبياتٍ نظمها، كما جاء في ديوانه، حينما أفطر في رمضان بسبب المرض:

يا رب صام الشهر من صامه — فمن لهذا العاجـــز المفـطرِ

يا رب لا عذَّبْتَني بالـــــــــذي — يفعلُ بــي أفـــــعالَه فـاغفِرِ

غفرانَك اللهم إنِّـــــي امْــــرُؤٌ — صُمتُ إلى العصرِ فلم أقدرِ

ولقد قلتُ في أمثال هذا الشاعر:

كثيرٌ ضلَّ عن سِـــــــرِّ الصيامِ — وفلسفةِ التهجُّـــــد والقيامِ

وصام صيامَ أهلِ الكهفِ شهرًا — ولكن كان ذلك في المَنامِ

ولعلَّ النمط الأول من الكلام هو ما ينحو نحوه أكثرُ الشعراء في منظوماتهم؛ بَيد أن هناك فريقًا آخر من الماجنين الذين تخفّفوا مما يفرضه هذا الشهر المعظَّم من أصول التأدُّب في الحديث عنه فريضةً وعبادة، ولـ “أبي نواس” وأمثاله في هذا الباب حماقاتٌ نذكر منها على سبيل الفكاهة قوله:

منع الصـــــومُ العـقارا — وذَوَى اللـهوُ فغارا

وبقينا في سجـون الصـ — ـوم لِلْهّمِّ أســـــارَى

غيــــــــــر أَنَّا سندارِي — فيه من ليس يُدارَى

نشرب الليل إلى الصبـ — ـح صِــغارًا وكِبارا

نتـــغنَّى مــــــا اشتهينا — هُ مِـن الشعر جهارا

فاسقني حتـــــى تراني — أحسب الديكَ حمارا

والخليفة “ابن المعتز” الذي يقول عن نفسِه:

ونهانا الصيامُ عن سَفَه الكأ — سِ فرُدَّت على السُّقاة المُداما

ـ يقول في استقبال العيد:

أهلًا بفِطرٍ قد أتاكَ هلالُه — فالآن فاغْدُ إلى المُدامِ وبَكِّرِ

وهذا البيت الأخير يستدعي إلى الخاطر قولَ “شوقي”، وهو مما يؤاخذ به ويلام عليه؛ مهما يكن رأي من التمسوا له الأعذار:

رَمَضانُ وَلّى هاتِها يا ســـاقي — مُشتاقَةً تَســــــعى إِلى مُشتاقِ

ما كانَ أَكثَــــــــرَهُ عَلى أُلّافِها — وَأَقَلَّهُ في طــــاعَةِ الخَـــــلّاقِ

اللَهُ غَفّارُ الذُنــــــــوبِ جَميعِها — إِن كانَ ثَمَّ مِنَ الذُنوبِ بَواقي

بِالأَمسِ قَد كُنّا سَجينَي طــاعَةٍ — وَاليَــــومَ مَنَّ العيدُ بِالإِطلاقِ

ويذهب الأستاذ “الزيات” إلى أن هؤلاء وأمثالهم يودِّعون في رمضان قيدًا ثقيلًا، غلَّهم عن شهوات الجسد ونزوات النفس؛ فهم يفرحون لوداعه فرح السجين إذا أُطلِقَ، والمحروم إذا نال. ومن هؤلاء أكثرُ الشعراء، وتمردهم على رمضان معروف، وابتهاجهم بشوال مأثور. ولعل أقدم شعرٍ سمعناه في التبرّم بشهر الصوم قول “الفرزدق” على قرب عهده بعصر النبوَّة:

إذا ما انقضَى عشرون يومًا تحركت — أراجيفُ بالشهر الذي أنا صائِمُه

وطـــــارت رقـــــــاعٌ بالمواعيد بيننا — لكي يلتقي مظـــــلومُ قومٍ وظالمُه

فإن شـــال شــــــــوَّالٌ نَشِلْ فـي أكفِّنا — كؤوسًا تعـادي العقلَ حين تسالمُه

ومنه قول “أبي نواس”، وقد ثار به الحقد حتى ليتمنّى قتل هذا الشهر الذي يؤرّقه، ويخشى فيه من حكم الناس عليه:

ألَا يا شهر كم تبــقى — مرِضـــنا ومللـناكا

إذا ما ذُكِـــــرَ الحمدُ — لشــــــوَّالٍ ذممناكا

فيا ليتك قـــــــد بِنْتَ — وما نطمع في ذاكا

ولو أمكنَ أن يُقـــتلَ — شـــــــــهرٌ لقتلناكا

وهو الذي قال متهكِّمًا، وهو من غريب الأبيات في التشبيهات:

نُبِّئْتُ أن فتاةً كنت أخطبُها — عُرقوبُها مثل شهر الصوم في الطولِ

نادرتان

وحكَوا، كما جاء في كتاب “الأغاني”، أن “أبا عيسى بن الرشيد”، نظمَ بيتين من القول الممقوت، قال فيهما:

دهــــــــانيَ شهرُ الصوم لا كان من شهرِ

ولا صُمتُ شـــــــهرًا بعده آخِـــــرَ الدهرِ

ولـــــــو كان يُعديني الإمـــــــــــامُ بقدرةٍ

على الشهرِ لاستعدَيت دهري على الشهرِ

فناله بعقب قولِه هذا الشعر صَرَعٌ، فكان يُصرَعُ في اليوم مرّاتٍ إلى أن مات، ولم يبلغ شهرًا آخر. وكأنما كان ينطق عن لسان القدَر، فأدركه شُؤْمُ دعائه.

ومن نوادر ما يُروى، ولعله كان في أول معرفة الناس بالإسلام، أن أعرابيًّا قدِم على ابن عمٍّ له في الحضَر، فأدركه شهر رمضان، فقيل له: يا أبا عمر، لقد أتى شهر رمضان!

قال: وما شهر رمضان؟

قالوا: الإمساك عن الطعام والشراب.

قال: أبالليل أم بالنهار؟

قالوا: بالنهار.

قال: أفيرضَون بدلًا من الشهر؟

قالو: لا.

قال: فإن لم أصُم فعلوا ماذا؟

قالوا: تُضرَبُ، وتُحبَس.

فصام أيَّامًا فلم يصبر، فارتحل عنهم وهو يقول:

يقول بنو عمي وقد زرتُ مِصرَهم — تهيَّأْ أبا عمرٍو لشهر صيامِ

فقلت لهم هـــاتوا جرابي ومِزودي — سلامٌ عليكم فاذهبوا بسلامِ

فبادرت أرضًا ليس فيـــها مسيطرٌ — عليَّ ولا منَّاعُ أكـلِ طَــعامِ

ابن الرومي ورمضان

يذهب الأستاذ “علي الجندي” إلى أن “ابن الرومي” هو الشاعر الذي أبدع في تصوير أيام الصوم في غير مقطوعة، بما رُزِقَه من دقة الوصف، والغوص على المعاني البعيدة، وتأليف الأخيلة البارعة، والقدرة على توليد الأفكار الدقيقة واستقصائها، ورهافة الحاسة الفنية المستوعبة، هذا إلى شغفه بالذمِّ والهجاء، والذهاب كلَّ مذهبٍ في التكم والسخرية؛ يقول، سامحه الله:

شهر الصيام وإن عظَّمت حرمته — شهرٌ طويلٌ ثقيل الظل والحركه

يمشي الهُوينَى فأمَّا حـــين يطلبنا — فــــــلا السُّلَيكُ يدانيه ولا السُّلَكه

و”ابن الرومي”، على حد قول الأستاذ “مصطفى عبد الرحمن”، يعلم أن هناك يوم الحساب، وأنه يومٌ طويلٌ على الكفار، ثقيل على الذين ضلّوا عن سبيل الله؛ ومع ذلك فهو سادرٌ في غيِّه، متبرِّمٌ بالشهر الذي فضَّله الله على كل الشهور:

إذا بَرَّكتَ في صـــــومٍ لقومٍ — دعوتَ لهم بتطويل العذابِ

وما التبريكُ في شَهرٍ طويلٍ — يُطاولُ يومُهُ يــومَ الحسابِ

فليت الليلَ فيــــه كان شهراً — ومرَّ نهارُهُ مَـــــرَّ السَّحابِ

فلا أهلاً بمانعِ كُلِّ خـــــــيرٍ — وأهـــلاً بالطـعام والشرابِ

ومع ذلك كله نحمد لأبي نواس وابن الرومي، ومن لفَّ لفهما وشاكلهما، أنهم كانوا، على الأرجح، يصومون رمضان، على ما يشعرون فيه من عنتٍ وضيقٍ وشدة. والله سبحانه وتعالى يقول: “إِنَّ الْحَسَنَاتِ يُذْهِبْنَ السَّيِّئَاتِ”؛ وفي الزهديات التي ختم بها أبو نواس حياته ما يؤكد هذا المعنى، وإن كان لا مجال لذكرها هنا؛ اللهم إلا نستشهد منها بقوله الذي ذاع على ألسنة المنشدين والخطباء، وكان شيخنا (إسماعيل أبو شادي) طيَّب الله ثراه، يتمثل به كثيرًا:

يا رَبِّ إِن عَظُمَت ذُنـــوبي كَثرَةً — فَلَقَد عَلِمتُ بِأَنَّ عَـفوَكَ أَعظَمُ

إِن كانَ لا يَرجــــوكَ إِلّا مُحسِنٌ — فَبِمَن يَلوذُ وَيَستَجيـــرُ المُجرِمُ

أَدعوكَ رَبِّ كَما أَمَرتَ تَضَرُّعاً — فَإِذا رَدَدتَ يَدي فَمَن ذا يَرحَمُ

ما لي إِلَيكَ وَسيلَةٌ إِلا الرَجــــــا — وَجَمــــيلُ عَفوِكَ ثُمَّ أَنّي مُسلِمُ

كما أنه ليس كل الشعراء كهذين الشاعرين؛ فإن منهم من كان يودّع رمضان باكيًا، لا يذكره إلا بالخير، ومنهم عبد الله بن علي لآل عبد القادر، الذي يقول:

خليلَيَّ: شهر الصومِ زُمَّت مطاياهُ — وسارت وفودُ العاشقين بمسراهُ

فقــوما بنا نبكي على حسن عهدِهِ — وما فاتنا مـــــنه، ونذكر حُسناهُ

وبعد…

وكما يرى الأستاذ “الزيات”، فإن رمضان شهرُ رياضةٍ وموسم استشفاء. نروض فيه أنفسَنا على الخير لتُمَرَّن عليه، ونعالجها به من الشرِّ لتبرأَ منه. وليس الغرض من هذه الرياضة وهذا الاستشفاء أن يُحدِثا أثرَهما الطيب في حياة المرء في شهرٍ بعينه، فإن ذلك يخالف حكمة الشارع من الصوم، ويناقض منطق الأشياء في الواقع..

وما أبعد المسلمَ عن الإسلامِ إذا كان يعتقد أن الصلاة لا تنهاه عن الفحشاء والمنكر إلا وهو في المسجد، وأن الصوم لا يعصمه من اللغو والأذى إلا وهو في رمضان، وأن الزكاةَ لا توجهه إلى المعروف والخير إلا هو في العيد.

أمَّا العيدُ وما قاله الشعراء والكُتَّابُ فيه، فله معنا شأنٌ آخر، قد نعرض له قريبًا بمشيئة الله، ولكن خلاصته (أن الذين لا يملكون قُوت يومهم لا وقت لديهم للعيد)!

شهر الخير والعطاء

هند سليمان أبو عزّ الدين (كاتبة وباحثة من لبنان)

شهر الخير والعطاء

صبر الانتظار، ونعمة الصّوم، وانتشار أجواء الفرح والعطاء هي خيرات كثيرة يحملها شهر رمضان المبارك الذي يُقبل كلّ عام بزينته وبهجته، ليُطهّر النّفوس والأبدان حاملًا معه الخير والبركة، فيملأ قلوب المسلمين بالتّقوى وألسنتهم بالدّعاء والاستغفار.

فشهر رمضان المبارك هو شهر الصّبر، وفيه أجر عظيم، قال تعالى: “قُلْ يَا عِبَادِ الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا رَبَّكُمْ لِلَّذِينَ أَحْسَنُوا فِي هَٰذِهِ الدُّنْيَا حَسَنَةٌ وَأَرْضُ اللَّهِ وَاسِعَةٌ ِنَّمَا يُوَفَّى الصَّابِرُونَ أَجْرَهُم بِغَيْرِ حِسَابٍ” (القرآن الكريم: الزمر:10). وهو شهر التّوبة والمغفرة، والجود والإحسان، يجتمع فيه أفراد العائلة حول مائدة الإفطار فرحين بصبرهم على الجوع والعطش، فيحمدون اللّه، سبحانه وتعالى، ويذكرون نعمه التي لا تُعدّ ولا تُحصى.

والصّوم في رمضان نعمة عظيمة، فهو يُخلّص الجسم من السّموم الضّارّة، ويُريح الجهاز الهضمي، كما أنّه يُهذّب الأخلاق، ويُعين النّفس على التحكّم في شهواتها، وهو دواء تصفو به القلوب، ويُدرك الإنسان فيه عجزه وضعفه وافتقاره إلى اللّه سبحانه وتعالى.

وفي هذا الشّهر الفضيل يصوم المسلم عن الطّعام والشّراب، وتصوم جوارحه عن المعاصي، فالعين لا تنظر إلى المحرّمات، واللّسان لا يتكلّم كلامًا فيه كذب أو غيبة أو نميمة، والأذن لا تُصغي إلى ما نهى عنه اللّه سبحانه وتعالى، واليد تصوم عن إيذاء النّاس، والرِّجل تصوم عن المشي إلى الفساد فوق الأرض، فشهر رمضان مدرسة يتعلّم فيها الإنسان كفّ جوارحه عن المحرّمات كما يتعلّم التّقوى والإخلاص والأخلاق الحميدة.

وفي رمضان تسمو القيم الإنسانيّة، ويتعزّز مبدأ التّكافل الاجتماعي، فيشعر الصّائم بمعاناة الفقراء الذين لا يملكون ما يسدّ رمقهم، وتتحرّك فيه مشاعر الرّحمة، فتكثر الصّدقات، ويتعاون المسلمون على فعل الخير، فيقدّمون طعام الإفطار إلى المحتاجين، وتنتشر الألفة والمحبّة بين أفراد المجتمع، وكم يشعر الإنسان بالسّعادة حين يُفرح قلب مسكين أو يمسح دمعة يتيم! وكم يفرح حين يتعاطف مع الآخرين ويُقدّم لهم العطاء دون مقابل!

وقد رحّب الشّعراء بهذا الشّهر الفضيل، ونظموا فيه قصائد كثيرة معبّرين عن فرحتهم وسرورهم بقدومه، وتنوّعت قصائدهم بين تبادل التّهاني والتّبريكات بحلول الشّهر المبارك، وبين إظهار مكانته الخاصّة في الإسلام والدّعوة إلى الاهتمام به والتّفاعل معه، كما تحدّث كثير منهم عن الأطعمة والأشربة المرتبطة بهذا الشّهر، فرمضان هو شهر الخير والعطاء، والصّبر فيه على الجوع والعطش يهون حين يذكر الإنسان الأجر والثّواب.

وما أجمل موعد الإفطار حين يجمع الأهل والأصحاب حول موائد الخير ناشرًا أجواء الفرح والبهجة والمودّة! فيتبادل الجيران أطباق الطّعام، وتساعد هذه العادات على توطيد أواصر القربى ونشر المحبّة والتّسامح بين النّاس كما أنّها تقوّي الرّوابط الاجتماعيّة حين تجمع أفراد المجتمع على طاعة اللّه عزّ وجلّ والامتثال لأوامره، وتدفعهم إلى التّعاون على البرّ والتّقوى، وتطهير القلوب من الحقد والحسد والعجب والرّياء.

فرمضان هو شهر الخير والبركة والإحسان، لذا يجب أن يقضي العبد فيه وقته في الطّاعة والعبادة، لأنّه فرصة يعود بها الإنسان إلى نفسه ليتوب ويُطهّر قلبه، ويذكر نِعم اللّه، سبحانه وتعالى، فالصّوم عبادة تعين على التّقوى وتملأ القلب بالإيمان، وفيه يقول الله سبحانه وتعالى: “يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيَامُ كَمَا كُتِبَ عَلَى الَّذِينَ مِن قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ” (القرآن الكريم، البقرة: 183).

وشهر رمضان له فضائل عظيمة، فهو الشّهر الذي أُنزل فيه القرآن، وقد قال تعالى: “شَهْرُ رَمَضَانَ الَّذِي أُنزِلَ فِيهِ الْقُرْآنُ هُدًى لِّلنَّاسِ وَبَيِّنَاتٍ مِّنَ الْهُدَىٰ وَالْفُرْقَانِ فَمَن شَهِدَ مِنكُمُ الشَّهْرَ فَلْيَصُمْهُ وَمَن كَانَ مَرِيضًا أَوْ عَلَىٰ سَفَرٍ فَعِدَّةٌ مِّنْ أَيَّامٍ أُخَرَ يُرِيدُ اللَّهُ بِكُمُ الْيُسْرَ وَلَا يُرِيدُ بِكُمُ الْعُسْرَ وَلِتُكْمِلُوا الْعِدَّةَ وَلِتُكَبِّرُوا اللَّهَ عَلَىٰ مَا هَدَاكُمْ وَلَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ” (القرآن الكريم، البقرة: 185).

وهو شهر الغفران، وفيه يقول رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم: (من صام رمضان إيمانًا واحتسابًا غفر الله له ما تقدّم من ذنبه، ومن قام رمضان إيمانًا واحتسابًا غفر الله له ما تقدّم من ذنبه، ومن قام ليلة القدر إيمانًا واحتسابًا غفر الله له ما تقدّم من ذنبه)، وهو شهر العتق من النّار، وقد قال النّبيّ محمّد صلّى الله عليه وسلّم: (إذا كان أوّل ليلة من رمضان صفدت الشّياطين ومردة الجن، وفتحت أبواب الجنّة فلم يغلق منها باب، وغلقت أبواب النّار فلم يفتح منها باب، وينادي مناد: يا باغي الخير أقبل، ويا باغي الشّر أقصر، ولله عتقاء من النّار وذلك في كلّ ليلة).

سلوى غيّة 3
سلوى غيّة (باحثة وناقدة – لبنان)

رمضان والإبداع.. هل يحيي الصّيامُ قلمَ الكاتب!؟

سأبدأ مقالتي اليوم ببعض الأسئلة التي تُحفّزنا على التّفكير: برأيكم، هل رمضان هو نفسه بين الأمس واليوم؟ هل يساعد رمضان في تحفيز الكتابة والإبداع؟ أم أنّ تأثير أجواء الصّيام قد يبطئ من وتيرة الإنتاج الأدبيّ؟ هذه التّساؤلات تدعونا للتأمّل في تأثير هذا الشهر الفضيل على حياتنا بشكل عام، وعلى الكتابة والإبداع بشكل خاص.

في هذا المقال، سأستعرض بعض التّغيرات التي طرأت على أجواء رمضان، وتأثير هذا الشهر الفضيل على الكتابة والإبداع الأدبيّ، وكيف أنّ الشهر الفضيل قد يكون حافزًا للبعض، بينما يُمثّل تحديًا للبعض الآخر.

يُعدّ شهر رمضان من الأشهر التي تتمتّع بمناخ روحيّ خاص، حيث يتفرّغ الصّائم للتقوى والعبادة، شهر رمضان هو شهر التقرّب إلى الله، شهر تعمّ فيه الروحانية… ويشعر الإنسان فيه بروحانية خاصّة تُحفّزه على التقرّب إلى الله، وتجعله أكثر اهتمامًا.

أعزائي القرّاء، أشعر برغبة قويّة لتغيير مسار الحديث قليلاً قبل أن أعود مجددًا إلى محور مقالتي، وأودّ منكم أن تمنحوني هذه اللحظة من التفكّر والتأمّل والتذكّر لنتابع سويًّا الطريق الذي اخترناه.

شهر رمضان هو شهر العبادة والتّقوى، شهر تتجدّد فيه الأرواح وتصفو فيه القلوب. إنّه الشهر الذي يعود فيه المرء إلى الله بكلّ صدق وإخلاص، ويجد فيه نفسه أقرب إلى خالقه من أيّ وقت آخر. في هذا الشهر، تتناغم الرّوح مع الإيمان، ويتسارع القلب نحو الطمأنينة والسّكينة.

خلال شهر رمضان، تُسعدني الجمعات والسّهرات الرّمضانيّة، وتعود الفرحة إلى قلبي حين أرى مائدة الإفطار تلمُّ حولها العائلة؛ حيث تكتسي البيوت بجوّ من الحميميّة العائليّة والدفء.

وتُريحني بشكل عام الّلمة العائليّة التي خفَّ توهّجها نوعًا ما مع مرور الزمان.

تُثير انتباهي الأجواء الرّمضانيّة بتنوّعها ونكهتها الخاصّة، حيث يلتفّ الجميع حول المائدة، وتُسهم هذه المائدة في علاج ما أفسده الزمان. كما تعتبر فرصة للمسامحة والمصالحة بين الأفراد أو تكون مساحة لشدّ أزر العائلة.

رمضان هو شهر مميّز، ليس فقط لأنّه شهر العبادة والتّقوى، بل لأنّه يعكس روحًا من السّلام والحبّ والمسامحة.

عذرًا أعزّائي، سأعود إلى موضوعنا، لكن للحظة شعرت بشعور جميل وخاص تجاه هذا الشهر وهدوء داخلي لا يوصف، فكان من الضروري أن أشارككم بعضًا من مشاعري تجاه هذا الشهر المبارك.

لا بُدّ لنا، عزيزي القارئ، أن نعترف سويًّا بالاختلاف الذي طرأ على هذا الشهر الفضيل بين الأمس واليوم. فقد كان رمضان في الماضي يشهد أجواء روحانيّة عميقة وحياة اجتماعيّة غنيّة، حيث كانت المساجد تكتظّ بالمصلّين، وكان النّاس يكثرون من العبادة والاعتكاف وقراءة القرآن. كما كانت اللمّة العائليّة حاضرة بقوّة، حيث تتجمّع العائلات حول المائدة ويلتقي الجيران في زيارات وديّة، ويعيش الجميع أجواء من التّعاون والمودّة.

أمّا في عصرنا الحالي، ومع تطوّر وسائل الحياة والأنماط العصريّة، تغيّرت بعض مظاهر رمضان سواء على مستوى الروحانيات أو العادات الاجتماعيّة، وأصبحت الأوقات أكثر انشغالًا بالتحضيرات الحديثة والتكنولوجيا، ممّا أثّر على طريقة قضاء الوقت في هذا الشهر الفضيل.

تغيّرت عادات الطعام، وزادت مظاهر الاستهلاك في رمضان، كما انشغل البعض عن العبادة بالصخب الاجتماعي أو الحياة الرقميّة.

ولكن، وعلى الرغم من هذه التغيّرات، يمكننا وإيّاكم أن نقول إنّه يبقى رمضان فرصة عظيمة للروحانيات والتّقوى، للصلاة والقيام بالواجبات الدينيّة. فمهما اختلفت تفاصيل الحياة، يظلّ رمضان شهرًا مختلفًا، يحمل في طيّاته فرصًا لا تُقدّر بثمن للتقرّب إلى الله وتجديد العهد مع النّفس، سواء في الماضي أو الحاضر.

عزيزي القارئ، إنّ الأجواء الرمضانية التي نعيشها في هذا الشهر لها تأثير كبير وعميق على الإنسان. ومن الطبيعي أن تترك هذه الأجواء بصماتها الواضحة على أسلوب حياة الفرد ونمط حياته اليوميّة. وبما أنّ الشّاعر أو الكاتب هو ابن بيئته، فإنّه يتأثّر حتمًا بهذه الأجواء، ممّا ينعكس على أفكاره وإبداعاته. فالروحانيّة التي تملأ الشهر المبارك تُحفّز على التّأمّل والتّفكير في نظري وقد تكون مصدر إلهام كبير للكلمات والقصائد التي تنبع من عمق هذه اللحظات المميّزة.

إنّ رمضان، بما يحمله من روحانية وهدوء، قد يكون مصدر إلهام قوي لبعض الكُتّاب الذين يجدون فيه فرصة للتأمّل والتّفكير العميق. لكن في الوقت ذاته، قد يشعر آخرون بصعوبة في التّركيز والإنتاج بسبب التّغيرات التي تطرأ على نمط حياتهم نتيجة للصيام، مثل قلّة الطاقة أو التّوقيت المتغيّر للراحة. لذا، تتباين الإجابة حسب الشخص والظروف المحيطة به.

فهناك العديد من الكُتّاب والشعراء الذين يجدون في هذا الشهر فرصة لتغيير نمط كتاباتهم، إذ تُعزّز الروحانية التي يختبرونها في رمضان إبداعهم. فهم يستطيعون تحويل التّحديات التي يواجهونها في هذا الشهر إلى فرص للإلهام والإبداع؛ فالصيام يمنحهم الفرصة للعزلة الذّهنيّة التي تتيح لهم فرصة أكبر للتّعبير عن أنفسهم، بعيدًا عن ضغوط الحياة اليوميّة واللقاءات الاجتماعيّة.

هذه العزلة قد تساهم في توفير الوقت اللازم للتأمّل العميق، ممّا ينعكس على أسلوب الكتابة ويجعلها أكثر صدقًا وعمقًا.

الكُتّاب والشعراء في رمضان قد يكتبون بشكل أكثر روحانيّة، فتتزايد كتاباتهم عن موضوعات مثل الإيمان، والتّضحيّة، والتّسليم، والزهد، ممّا يعكس تجربتهم الروحيّة.

وفي النّهاية، تصبح الكتابة وسيلة لهم للاتصال بالله، وتعبيرًا عن الفقر الروحيّ، والجوع النّفسي الذي قد يشعرون به، ممّا يجعل إبداعاتهم أكثر تأثّرًا وعاطفة.

فإنّ الهدوء الذي يسود أجواء شهر رمضان وحالة النّقاء الذّهني قد تؤثّر بشكل إيجابي على الإبداع الكتابيّ، فالكثير من الكتّاب يجدون في هذا الشهر فرصة للاستلهام والتّجديد، حيث تُتيح لهم الأجواء الهادئة الفرصة للتفكير العميق والتّعبير الإبداعي. فبالنسبة لبعض الكتّاب، يُعتبر رمضان فترة مثالية للكتابة بشكل أكثر تجرّدًا، بعيدًا عن ضغوط الحياة اليوميّة، ما يساهم في تحسين جودة أعمالهم الأدبيّة.

ومع ذلك، لكي نكون أكثر واقعية وبعيدين عن التّنظير، بما أنّني أكره التّنظير، أقول لكم أنّه لا يمكننا أن نحكم على جميع الكتّاب أو الشعراء بالمقياس نفسه. فبعضهم يواجه تحديّات خلال هذا الشهر المبارك، ربّما بسبب انشغالهم بالعبادة والصّلاة وقراءة القرآن، ممّا يقلّل من وقت الكتابة المتاح.

كما أنّ التّغييرات الروتينيّة التي تصاحب رمضان قد تؤدّي إلى شعور بالإرهاق أو التّشويش الفكري، ممّا يعوق عملية الكتابة. أيضًا، قد يسبّب الصّيام انخفاضًا في مستوى الطّاقة، ممّا يجعل البحث عن أفكار جديدة أمرًا صعبًا، ويضيف تحديّات أخرى أمام الكاتب في محاولته للموازنة بين متطلّبات الشهر الكريم والكتابة.

في الختام، علينا أن نعترف أنّه في كلّ شيء نجد تحدّيات وفرصًا، ولكلّ منّا قدرة على التّجاوب مع هذه الموجة. فمن جهة، يمنح الصّيام فرصة للتأمّل الدّاخلي والتّواصل مع الذات، ما يساعد الكاتب على إنتاج أعمال معمّقة تنبض بالروحانيّة والأحاسيس العميقة، وهذا طبيعي، ومن جهة أخرى، قد يواجه البعض تحديّات في التّوفيق بين الكتابة والعبادة، خصوصًا عندما تتداخل مشاغل الشهر الفضيل مع الإلهام الإبداعيّ، وأيضًا هذا طبيعيّ.

لكنَي في نهاية مقالتي، أعزائي، أقول لكم إنّني أجد في نفسي دائمًا روحًا خفيّة تسعى إلى تحدّي التحدّيات ومواجهتها في كلّ نواحي الحياة. فمثلًا، أرى في ذاتي من الأشخاص الذين يعتبرون الكتابة في هذا الشهر بمثابة قوّة دافعة لتجديد الإبداع وإحداث نقلة نوعيّة في أسلوب الكتابة، ولخلق توازن بين الروحانيّة والفكر الإبداعي.

لذلك أقول لكم قولي هذا: ابحثوا دائمًا في التحدّيات وحوّلوها إلى فرص؛ فالتحدّيات هي المحفّزات، ومن خلال مواجهتها نكتشف قوّتنا الداخليّة. فلتكن التحدّيات في مختلف النّواحي نقطة انطلاق نحو الإبداع والنّجاح، لأنّها لا تحمل إلّا الفرص لأولئك الذين يملكون الإرادة لتخطّيها والانتقال بها إلى آفاق جديدة.

عدوية موفق الدبس 3
عدوية موفق الدبس (باحثة وكاتبة سورية – لبنان)

ثلاثون ليلة من النور والذكرى

ها هي أجمل ثلاثين ليلة تهلُّ من جديد، فتضيء شوارع المدينة وكأنها عروسٌ تزدان بأبهى الحلل، وتتشابك الفوانيس من بناءٍ إلى آخر، تعكس نورها على الجدران، فتغدو المدينة لوحةً ساحرةً تنبض بالحياة. الهلال المتلألئ رُصِّع على الحائط، وأصوات الأذان تعلو، ممزوجةً بأناشيد رمضان التي تعمُّ الأحياء وتنساب إلى البيوت، فتملأ القلوب بطمأنينةٍ لا توصف.

حتى داخل البيوت، يتغيّر كل شيء. الشرفات تتوهّج بأنوارٍ خافتة، والبيوت تستقبل الشهر الكريم بروحانيةٍ خاصة، تمتزج فيها رائحة البخور بعطر التّمر والماء عند الإفطار. من نعومة أظافري وأنا أشعر بهذه الأجواء تأسر روحي، وها أنا اليوم، وقد بلغت السادسة والعشرين، ما زلت أترقّب رمضان بشوقٍ كأنه يأتي ليعيدني إلى طفولتي من جديد. لكن، لماذا كان كل شيءٍ أجمل عندما كنا صغارًا؟

ربما لأننا كنا نعيش كل شيءٍ ببراءة، دون أن نُدرك أن الصيام لم يكن مجرّد امتناعٍ عن الطعام والشراب، بل كان تدريبًا لعقولنا وقلوبنا على التأمّل. حين نجوع، نصبح أكثر وعيًا بالتفاصيل، بالأصوات من حولنا، بالرائحة التي تسبق الإفطار بلحظات، بكلمات الجَدّ وهو يروي قصصه. الجوع يجعلنا أكثر انتباهًا، أكثر قدرةً على التقاط الصور التي لا يراها غيرنا، وأكثر قدرةً على الكتابة عنها.

أتذكّر الآن كيف كنت أجلس بعد الإفطار، ممسكةً بدفتري الصغير، أدوّن فيه يومياتي الرمضانية، كيف كنت أشعر أن الكلمات تتدفق بسهولة أكبر وأنا في حالة انتظارٍ طويلة قبل المغرب، وكأن الجوع يحرّض مخيلتي على العمل، يجعلني أكثر اتصالًا بالأفكار والمشاعر. واليوم، وأنا أكبر، أجد أن الصيام ليس مجرد عبادة، بل هو حالة ذهنية تفتح أمامي أبواب الأدب والتأمل. فكم من كاتبٍ وجد في الحرمان من الطعام وقودًا لنصوصه؟ وكم من شاعرٍ وُلدت قصائده في لحظات الجوع؟

ربما لم يكن رمضان أجمل في الماضي، بل نحن كنا أكثر صفاءً، أكثر انفتاحًا على عوالمه الروحية والفكرية، وأكثر قدرةً على أن نكتب عنه، لا بأقلامنا فقط، بل بقلوبنا.

أتذكّر جيدًا كيف كان صيامنا صيام العصافير، كنا نصوم حتى يشتدَّ بنا الجوع، ثم نفطر دون شعورٍ بالذنب. لم يكن الأمر مجرّد التزامٍ بفرضٍ ديني، بل كان جزءًا من ثقافتنا، من لعبتنا الجماعية كأطفال. كان عيبًا أن نأكل في الشارع، ليس خوفًا من أحد، ولكن لأننا كنا نريد أن نشعر بأننا كبار، أقوياء، قادرين على التحمّل. كان الجوع صبرًا، والصبر بطولةً نفاخر بها أمام الآخرين.

وعلى مائدة الإفطار، كان جدّي يناديني، يُخرج من جيبه حفنةً من العملات النقدية ويضعها في يدي الصغيرة، مكافأةً على صبري طوال اليوم. كنتُ أشعر حينها وكأنني امتلكت الدنيا وما فيها! كنت أركض إلى أقرب دكانٍ، أشتري الحلوى والمكسّرات، وكأنها جائزةٌ عظيمةٌ انتظرتها طوال النهار.

لكن أين ذهب ذلك المعنى العميق للصيام؟ لماذا أصبح الأمر محصورًا في الحرمان من الطعام والشراب، دون أن يمتد ليشمل تهذيب النفس، والابتعاد عن الأذى، وعن القيل والقال؟ الصيام لم يكن يومًا مجرد امتناعٍ عن اللقمة، بل كان تربيةً للروح، وتعليمًا لنا كيف نشعر بمن لا يجدون ما نسرف فيه كل يوم.

كم أحنُّ إلى ليالي رمضان القديمة! إلى تلك الجلسات العائلية التي تبدأ بعد صلاة العشاء، حيث كنا نلتفّ حول جَدّي، نستمع إلى قصصه عن رمضان في زمنه، عن أيامٍ كان الناس فيها أكثر بساطة، وأكثر قُربًا من بعضهم البعض. كنا نحكي عن ألف ليلة وليلة، عن شهرزاد وشهريار، عن الحِكَم والعِبَر التي كنا نجدها في الحكايات. كان رمضان في تلك الأيام له طعمٌ مختلف، ليس فقط في موائده العامرة، بل في دفء العائلة، في الضحكات التي تملأ البيت، في الأحاديث التي لا تنتهي حتى السحور.

لكن الزمن يمضي، والصغار يكبرون، ومن كان كبيرًا يرحل. اليوم، أصبح رمضان أكثر هدوءًا، أقل ضجيجًا، لكنه لم يتغير. ما زال يحمل روحانياته، وشعائره، وكل ما فيه من راحةٍ جسديةٍ وروحية. التغيير لم يكن فيه، بل فينا نحن. نحن من نحدّد كيف نعيشه، كيف نجعل منه تجربةً تتجاوز الامتناع عن الطعام والشراب، إلى صيام القلوب عن الأذى، والألسنة عن الإساءة، والنفوس عن الجفاء.

رمضان ليس مجرد شهرٍ يمرُّ كل عام، بل فرصةٌ تُمنح لنا لنعود إلى ذواتنا، لنكتشف أرواحنا من جديد، لنغسل قلوبنا من أعباء الحياة، ونعيد ترتيب أولوياتنا. فليتنا نستعيد جوهره، ليتنا نصوم كما ينبغي، صيامًا يرقى بأخلاقنا قبل أن يكون حرمانًا لأجسادنا. عزيزي القارئ، كيف يمكن ربط هذا بالأدب وأن الجوع والصيام يحفّز على الكتابة؟

محمد ياسين رحمة - الجزائر

محمد ياسين رحمة - الجزائر

اقرأ أيضا

آخر الأخبار
اليونيسف: المشاهد والتقارير القادمة من غزة تفوق حدود الرعب القضاء الفرنسي يرفض تسليم بوشوارب للجزائر.. هل تتصاعد الأزمة؟ وزير الداخلية التونسي يزور مديرية إنتاج السندات والوثائق المؤمنة بالحميز انتشار "الجراد الصحراوي" يُهدّد 14 ولاية.. وهذه المناطق المعنية الجزائر تُروّج لمنتجاتها الغذائية في صالون لندن الدولي من الهاغاناه إلى "الجيش الإسرائيلي".. قرنٌ من التآمر على فلسطين! تقييم جهود البحث والإنقاذ البحري.. نحو استجابة أكثر فاعلية الجزائر تُندّد بجرائم الاحتلال في غزة وتدين صمت مجلس الأمن تراجع طفيف في أسعار النفط وسط احتمالات إنهاء الحرب بأوكرانيا نضال دبلوماسي لكسر العزلة.. الحقيقة الصحراوية تتحدّى التزييف المغربي خطوة نحو الاكتفاء الذاتي.. قطع غيار جزائرية في قلب صناعة السيارات فرنسا تفقد صوابها.. الجزائر تُحطم شراهة النفوذ البائد! نحو إعداد مشروع لتعديل أو استكمال القانون الأساسي لموظفي قطاع التربية الجزائر تدحض الادعاءات الفرنسية بشأن ترحيل رعاياها وتكشف تجاوزات باريس الجزائر تستنكر بشدة خرق الاحتلال لاتفاق وقف إطلاق النار في غزة الرئيس تبون يستقبل وزير الداخلية التونسي 15 سنة سجنا لمتّهم بالمضاربة غير المشروعة في البطاطا بداري: "الجامعة منخرطة بقوة في الأهداف التنموية للبلاد" التوقيع على اتفاقيات لتطوير الصناعة المحلية لقطع الغيار وزير الداخلية التونسي في الجزائر