“إسرائيل” تستغل الصمت الدولي والمقاومة تعيد تشكيل معادلات الإقليم

لطالما كانت الحروب عاملًا رئيسيًا في إحداث تحولات سياسية وأمنية كبرى. فبالرغم مما تُخلّفه من تداعيات كارثية على المستويين البشري والمادي، فإنها غالبًا ما ترسم ملامح مرحلة تاريخية جديدة. وفي سياق الحرب الفلسطينية–الصهيونية الممتدة لعقود، شكّلت أحداث 7 أكتوبر 2023 نقطة تحول فارقة، إذ تميّزت بكونها واحدة من أكثر الهجمات المفاجئة تأثيرًا في تاريخ الصراع، سواء من حيث مستوى التخطيط والتنظيم داخل صفوف المقاومة، أو من حيث التداعيات المستمرة حتى اليوم، وفي مقدمتها الرد الصهيوني العنيف.

يمكن تحليل تداعيات حرب 7 أكتوبر على المشهد الإقليمي من خلال عدة أبعاد رئيسية برزت بعد الحرب، أبرزها: التحولات السياسية والأمنية في المنطقة، تغيّر إدراك صنّاع القرار للقضية الفلسطينية، والاتكال على الحلول القانونية والأممية رغم عجزها.

التحولات السياسية والأمنية في المنطقة
التحولات على المستوى الإقليمي ترتبط ارتباطًا وثيقًا بالاستراتيجية الصهيونية التوسعية. فبغضّ النظر عن مستقبل سوريا بعد سقوط النظام في دمشق وقيام نظام جديد برئاسة أحمد الشرع (المعروف بالجولاني سابقًا)، أو تغيّر موقف حزب الله من المواجهة المباشرة، فإن التحول الإقليمي الأكثر تأثيرًا يتمثل في التوسع الصهيوني داخل المساحات الجغرافية لكل من لبنان وسوريا. هذا التوسع يعيد رسم المشهد الإقليمي، مؤكدًا أن الحرب تتجاوز غزة، وأن التهديد لا يقتصر على الفلسطينيين وحدهم، بل يشمل المنطقة بأسرها.

لطالما كان ضمان أمن المستعمِر يرتبط بتهديد الطرف الآخر وإلغاء وجوده، سواءً عبر الإبادة والقتل، أو التهجير والطرد، أو من خلال التغلغل والانتشار والسيطرة على مساحات جغرافية جديدة. إعادة رسم الخريطة التوسعية للكيان الصهيوني تُفاقم الأزمة وتكشف استغلاله للفرصة التي قدّمها الصمت الدولي، ليس فقط بهدف القضاء على المقاومة كما يُروّج، أو لاستعادة الأسرى، أو “الدفاع عن النفس”، بل في إطار سيناريو أوسع بكثير.

فالكيان، من منظور عقيدته الأمنية، يعتبر المناطق المجاورة له مجالًا حيويًا طبيعيًا، يرى من حقه التوسع فيها، مستغلًّا الصمت العربي والدعم الأمريكي. وهذا يجعله يرى اللحظة الحالية كفرصة سانحة لإعادة تشكيل خريطة نفوذه، وتحويل المنطقة إلى شبكة من الحلفاء المطبّعين، في مقابل خصوم يتم الاستيلاء على أراضيهم وإخضاعهم. فكل من سوريا ولبنان لم يُطبّعا مع الكيان، وبالتالي يظلّان في نظره تهديدًا ينبغي تحييده.

تغيّر إدراك صنّاع القرار للقضية الفلسطينية
كشفت الحرب عن التحولات الحقيقية التي أفرزها مسار التطبيع والتوجه البراغماتي البحت، إذ أعادت العديد من الدول النظر في مواقفها تجاه القضية الفلسطينية، وأصبحت تتبنى نهجًا حياديًّا، حتى إن مستوى تعليقاتها واهتمامها لم يختلف كثيرًا عن مواقف دول مثل البرازيل أو الهند – وهما دولتان بعيدتان جغرافيًّا وفكريًّا وأيديولوجيًّا عن الصراع. وقد برز من خلال ذلك تحوّل في الإدراك السياسي لبعض الأنظمة تجاه طبيعة الصراع، بين من تبنّى مقاربات أكثر براغماتية، ومن واصل الرهان على مسارات التطبيع والوساطات الدبلوماسية.

لكن في ظل كل هذه الوساطات والحلول السلمية والتنازلات المتكررة، لم تُحلّ القضية، ولم يتغيّر أي شيء، بل استمر التوسع الاستيطاني الصهيوني، والاعتقالات، والحصار المفروض على غزة. فلماذا لا يزال هذا الخيار مطروحًا ومتاحًا رغم فشله في تحقيق أي نتائج ملموسة؟

لقد كانت الذريعة التي قامت عليها اتفاقيات إبراهيم للتطبيع هي إيجاد حل أفضل للقضية الفلسطينية، غير أن الحرب جاءت لتكشف أن الهدف الحقيقي كان تحقيق مصالح مشتركة، وإقامة تحالفات مبنية على المكاسب المادية والاستراتيجية. ورغم غياب أي نتائج ملموسة لهذا التطبيع حتى الآن، ووجود سبب كافٍ لقطع العلاقات – وهو استمرار الجرائم الصهيونية وكسر الأساس الذي قام عليه الاتفاق – فإن الدول العربية المطبّعة لم تتخذ أي خطوة جادة في هذا الاتجاه.

هذا الواقع يعكس تغيّرًا جذريًّا في أولويات بعض الدول، حيث لم تعد مصالحها قائمة على الهوية العربية والإسلامية، ولا على مبدأ النضال والدفاع عن حقوق الشعوب المستعمَرة، بل أصبحت محكومة باعتبارات سياسية واقتصادية بحتة، بعيدًا عن أي التزامات قيمية أو أخلاقية.

لقد تراجعت القضية الفلسطينية من موقعها كأولوية أولى إلى مرتبة ثانوية، ولم يعد الصراع مع الكيان الصهيوني يُنظر إليه باعتباره التهديد الأساسي. ويتجلى هذا التحول بوضوح في إدراك صنّاع القرار، إذ باتوا يعتبرون الكيان الصهيوني شريكًا استراتيجيًّا، مستفيدين من الدعم الأمريكي، في ظل سعي بعض الدول إلى الاصطفاف مع القطب المهيمن. ويأتي هذا التحول في تجاهل تام لحقيقة أن “إسرائيل” ليست شريكًا موثوقًا، وأن الصراع معها ليس مجرد أزمة عابرة يمكن تسويتها بسهولة، فكما توسّعت على حساب الأراضي اللبنانية والسورية، يظل التهديد قائمًا على جميع الدول العربية دون استثناء.

الاتكال على الحلول القانونية والأممية رغم عجزها
كل دول المنطقة تناشد المجتمع الدولي، وتطلب من الهيئات القانونية والحقوقية التوسط لحل القضية وإرساء السلم، وتنتظر من الولايات المتحدة تقديم حل سلمي، في حين أن الأمم المتحدة عاجزة، والولايات المتحدة منخرطة في الحرب كأحد الأطراف الداعمة للكيان الصهيوني. واقع عجز الأمم المتحدة والقانون الدولي عن حل القضية ليس بالأمر الجديد، لكن ما بعد 7 أكتوبر جاء ليؤكده مجددًا، حيث لم يكن للرفض الأممي، ولا للاجتماعات الطارئة، ولا حتى للقضايا المرفوعة أمام محكمة العدل الدولية ضد مجرمي الحرب في الكيان، أي أثر في الحد من وتيرة المجازر أو في تقديم المساعدات الإنسانية الأساسية للفلسطينيين.

ساهمت تداعيات ما بعد 7 أكتوبر في تعميق الفجوة بين القانون الدولي والواقع السياسي، وإثبات أن المنظور الواقعي هو المفسر الوحيد للمشهد الدولي. فما بين اجتماعات وقمم جامعة الدول العربية والعدوان الصهيوني، يكمن الفرق بين النظري والعملي؛ إذ تكتفي هذه القمم بعقد اجتماعات جانبية لمناقشة تداعيات الحرب والتهجير على أمن الدول وحدودها، بدلًا من التركيز على مصلحة الفلسطينيين وأمنهم الإنساني.

بينما يعمل الكيان الصهيوني على تصعيد وتيرة الهجمات من ناحية، وتوسيع نطاق تغلغله ليشمل لبنان وسوريا من ناحية أخرى، انتقل الأمر من مجرد “دفاع” وفقًا لادعاءاته إلى اعتداء وتغلغل في دول ذات سيادة معترف بها دوليًّا، بينها فلسطين، التي تُعدّ دولة معترفًا بها أمميًّا، مما يُسلط الضوء على تناقض السياسات الدولية التي تعترف بها من جهة، لكنها تعجز عن حمايتها من العدوان والاحتلال من جهة أخرى.

يمكن وصف هذا الموقف بأنه رغبة في تقاسم المسؤولية مع المجتمع الدولي، ونقل القضية من إطارها الإقليمي الضيق إلى ساحة الاهتمام الدولي، وذلك لتجنّب تحمّل المسؤولية بشكل منفرد.

في ظل هذه التحولات، تتجلّى مفارقة كبيرة: وهي مواصلة “إسرائيل” لارتكابها أقسى المجازر من ناحية، وفرض وقائع جديدة على الأرض من خلال التوسع العسكري والاستيطاني، وتبقى المواقف العربية والدولية محكومة بحسابات المصالح المادية، والتوازنات السياسية من وجهة نظرهم. لكن أثبتت تداعيات حرب 7 أكتوبر أن القضية الفلسطينية لم تعد تمثل محورًا رئيسيًّا في أولويات بعض الدول، بل أصبحت رهينة لمعادلات القوى والتحالفات المتغيرة. ومع استمرار العجز الأممي وتنامي النفوذ الصهيوني، وقع الإقليم ككل في حالة من الغموض والتوجّس، حيث يزداد التهديد المباشر، ليس فقط للفلسطينيين، بل للدول العربية كافة، في ظل استراتيجيات توسعية لا تعترف بالحدود أو الشرعيات الدولية.

شروق مستور - باحثة في العلاقات الدولية، كلية الحقوق والعلوم السياسية (جامعة جيجل)

شروق مستور - باحثة في العلاقات الدولية، كلية الحقوق والعلوم السياسية (جامعة جيجل)

اقرأ أيضا

آخر الأخبار
اللغة الأمازيغية.. دعم متزايد لإصدارات في مختلف المجالات الثقافية عرقاب.. الجزائر تُشجع التحول نحو نموذج طاقوي مستدام ومتكامل في إفريقيا موانئ.. معالجة أزيد من 31 مليون طن من البضائع خلال الثلاثي الأول من 2025 "لا تذهب للعراق" وسم جزائري يثير الجدل.. ما القصة؟ الحماية المدنية تطلق حملة للوقاية من حرائق المحاصيل الزراعية الجزائر وأذربيجان تجددان التزامهما بتعزيز التشاور السياسي والتنسيق الدولي انطلاق فعاليات الاجتماع الثاني لمنتدى مراكز البحث التطوير والابتكار للبلدان المنتجة للنفط الجزائر تقترح تصنيف الأضرحة النوميدية ضمن التراث العالمي ابتداء من 2026 أسعار النفط تُعاود الارتفاع رغم المخاوف الاقتصادية إنتاج وفير للبطاطا في مستغانم يُبشّر بانخفاض محسوس في الأسعار هل رفضت الجزائر المشاركة في مناورات "الأسد الإفريقي"؟ التوتر يسيطر على المغرب.. هل يكون اليوم العالمي للشغل بداية الثورة ضد المخزن؟ نشرة جوية خاصة.. رياح ورعود وزوابع رملية في هذه الولايات الجزائر تواصل استقبال بواخر الأضاحي استعدادًا لعيد الأضحى وزير التجارة: "البيانات الاقتصادية أداة أساسية لضبط السياسة التجارية الوطنية" برنارد ليفي في مرمى انتقادات المجتمع المدني.. "أيدٍ ملطخة بدماء الأبرياء" من التعاون الاقتصادي إلى الأمن الإقليمي..  ما الذي حققته زيارة فيدان إلى الجزائر؟ وزير الخارجية التركي: "نسعى لرفع التبادل التجاري مع الجزائر إلى 10 مليار دولار" وزير البريد: "الجزائر تعزز دراسات الجيل الخامس لتعميق التحول الرقمي والأمن السيبراني" وزير الصناعة يشدد على إدماج المواد الأولية المحلية لتعزيز السيادة الصناعية