إعادة إعمار غزّة.. من أين البدء وإلى أين المنتهى؟

منذ الجلاء التاريخي عام 2005م، لجيش الاحتلال عن قطاع غزّة، لم يتوقف العدوان الصهيوني ولم يهدأ، وإنما ظل يغير تكتيكاته بحسب المخططات والظروف، وبحسب المعطيات الداخلية والإقليمية والدولية، حيث ظلّ الوضع يتأرجح بين الابتزاز والاستفزاز، بين التحرّش والاعتداء، بين القصف والقتل والتدمير.

وفي كل الأحوال والحالات، ظلّ عود المقاومة الفلسطينية عصيا على المعتدين، يزداد مع كل عدوان صلابة ويكبر، ويزداد معه زخم القضية وهيمنتها على المشهد العالمي بكل ما تحمله من تفاصيل وأدبيات، أفضت إلى بعث الروح من جديد في عروق الضمير الإنساني، وتحولّت إلى قضية رأي عام عالمي.

فالعدوان الصهيوني الهمجي الأخير، كان كافيا لإسقاط آخر ما تبقى من أوراق التوت التي ظلّ النظام العالمي، أو بالأحرى الأمريكي يستتر براحتها، ويستظل بثأدها من نار المعارضة والانتقاد، فقد شهد العالم في زمن الصوت والصورة والنقل الحيّ، مأساة غزة كما لم يُرَ مثلها من قبل أبدا، في بشاعتها وفي صلفها وفي جنونها، حتى لكأنها القيامة قد قامت.

إلا أنه ورغم ما تكبد القطاع من فظائع وجرائم، وما صار عليه من مشهد أبوكاليبتيكي رهيب، من هندسة الصهاينة بقيادة “نتن-ياهو” وأعوانه من مجرمي الإنسانية والحرب، لم يجرؤ أحد ولم يرتفع صوت واحد من الغرب لمطالبة الكيان الصهيوني بتعويض الضحايا، أو لحمله على دفع فاتورة إعادة الإعمار، على الأقل من باب الأخلاق، أو من باب بسط سلطان العدالة والقانون باسم المجموعة الدولية.

الغريب أن القوة العظمى، الولايات المتحدة الأمريكية صاحبة حق النقض، ومن خلال حركية رئيسها “ترامب”، سارعت إلى الأخذ بيد المجرم المضرّجة بدماء الأبرياء، ودعته إلى البيت الأبيض حتى لا يشعر بالإحباط ولا بالخزي والعار، ليتحول الرئيس الأمريكي بعدها إلى ناطق رسمي باسم الكيان، ومدافع مستميت عن جرائمه وصلفه وطغيانه.

لم يدرك “ترامب” لجهله، وهو يعرض مبادرته الغبية الحقيرة، بأن سكان غزة والفلسطينيين على وجه العموم، ومنذ اليوم الاول الذي وضع الغزاة أقدامهم البائسة على أرض فلسطين المقدسة، لم يكن همّهم السعي وراء حياة أفضل للأشخاص والعائلات، وإنما إيمانهم الأكبر يكمن في مدى تمسكهم بقضيتهم الوطنية، وقد أثبتوا ذلك من خلال تضحياتهم السخية بالنفس والنفيس على مدى أجيال وعقود.

من السهل على “ترامب” أو غيره، أن يقلل من متانة الروابط القومية التي تشد الفلسطيني إلى أرضه ووطنه، لكن الواقع والميدان سيفرضان عليه تغيير مواقفه وقناعاته وحتى خطته، فالشعب الذي لا يزال يحتفل بحزن عميق بيوم النكبة والأرض والنكسة، ولا يزال يحمل مفاتيح العودة ويلوح بها في كل موسم ومكان، لن يكون من السهل الهين اقتلاعه من جذوره.

صحيح بأن زمن الخيانة والخنوع قد أرخى سدوله، لكن ليس في غزّة ولا في فلسطين ولا في أي شبر من أرض الأكارم الشرفاء. ثم أن الأنظمة العربية ليست كلها في شكل المخزن المغربي ولا في ثوب نظام “ابو ظبي”، وهما –لحدّ الساعة- أخبث ما يحكم بلاد العرب، وهما لحسن الحظ وعلاوة على بعدهما عن ساحة المواجهة والصدام، لا يملكان من المصداقية والثقة ما يمكنهما من دعم خطة “ترامب” والكيان الصهيوني، وإلا لكانا قد باعا الجمل وما حمل.

لقد اعتبرت الأنظمة العربية القضية الوطنية الفلسطينية فوق كل القضايا، فحتى وإن تنازل عنها بعضهم لسبب أو لآخر، فإن الشعوب لا تزال تؤمن بها وتقدسها، فلا مجال للعبث بأوراقها مهما كانت الذرائع والظروف.

فقد يكون “ترامب” قد نجح في تحييد الكيان الصهيوني من المواجهة في الظروف الراهنة، لكنه أبدا لن يتمكن من تمييع القضية بإخراج الفلسطينيين من غزة، ونقل القطاع إلى الملكية الأمريكية “على المدى الطويل”. ذلك أن الأمر لا بد له من توفر عاملين أساسيين، وإلا فلا سبيل إلى تحقيقه، وهما؛

  • رضى الشعب الفلسطيني ببيع وطنه… وهذه لن تتحقق ولوفي الاحلام، فالأرض المسقية بالدماء الزكية لا يمكن أن تباع أو تشترى.
  • ضمان تعاون الأنظمة العربية كلها، خاصة تلك التي تحكم دول الطوق والتي خلفها مباشرة… وهذه كذلك مستحيلة التحقيق، لسبب بسيط وهو أن الشارع سينفجر غضبا ورفضا، وسيقوض جانباً مهما من الشرعية السياسية الأساسية للحكومات العربية.

ناهيك عن رفض شرفاء العالم وأحرار الدنيا، الذين سيرفضون حتما مثل هذا السلوك المتغطرس في الاعتداء على سيادة الدول وقهر الشعوب.

وبالتالي، تسقط أمريكا ولن تسقط غزّة، وعليه يمكن التأكيد ولو قبل الأوان، على سقوط ورقة “ترامب” في الماء، وموت مشروعه “الاستيطاني” قبل ميلاده.. وأما ما رافق ويرافق كل هذه الجلبة الدعائية، فلن يكون سوى شكلا من أشكال الحماية الأمريكية لقادة الاجرام الصهاينة، وذلك بتمييع القضية وتحويل الأنظار وتخفيف الضغط ليس إلا، لكنه أبدا لن يكون قادرا على تصفية القضية ولا على تسويتها بمزاجه.

مصطفى بن مرابط - الجزائر

مصطفى بن مرابط - الجزائر

كاتب في الأيام نيوز

اقرأ أيضا

آخر الأخبار
إحباط محاولة إدخال 30 قنطارًا من الكيف عبر الحدود مع المغرب الجزائريون في رمضان.. حين يتحوّل العمل التطوعي إلى عادة مُتجذرة في المجتمع شراكة أمنية وتنموية بين الجزائر وتونس لخدمة المناطق الحدودية غزة تحت القصف الصهيوني.. عظّم الله أجركم فيما تبقّى من إنسانيتكم أيها...! في محاولة لتخفيف التوتر.. وزير الخارجية الفرنسي يتودد للجزائر رقم أعمال "جيتكس" للنسيج والجلود يرتفع بـ15 بالمائة في 2024 اليونيسف: المشاهد والتقارير القادمة من غزة تفوق حدود الرعب القضاء الفرنسي يرفض تسليم بوشوارب للجزائر.. هل تتصاعد الأزمة؟ وزير الداخلية التونسي يزور مديرية إنتاج السندات والوثائق المؤمنة بالحميز انتشار "الجراد الصحراوي" يُهدّد 14 ولاية.. وهذه المناطق المعنية الجزائر تُروّج لمنتجاتها الغذائية في صالون لندن الدولي من الهاغاناه إلى "الجيش الإسرائيلي".. قرنٌ من التآمر على فلسطين! تقييم جهود البحث والإنقاذ البحري.. نحو استجابة أكثر فاعلية الجزائر تُندّد بجرائم الاحتلال في غزة وتدين صمت مجلس الأمن تراجع طفيف في أسعار النفط وسط احتمالات إنهاء الحرب بأوكرانيا نضال دبلوماسي لكسر العزلة.. الحقيقة الصحراوية تتحدّى التزييف المغربي خطوة نحو الاكتفاء الذاتي.. قطع غيار جزائرية في قلب صناعة السيارات فرنسا تفقد صوابها.. الجزائر تُحطم شراهة النفوذ البائد! نحو إعداد مشروع لتعديل أو استكمال القانون الأساسي لموظفي قطاع التربية الجزائر تدحض الادعاءات الفرنسية بشأن ترحيل رعاياها وتكشف تجاوزات باريس