شهدت الدبلوماسية الفرنسية في الآونة الأخيرة تراجعًا واضحًا، فقد تآكلت قوتها الناعمة وتقلّصت تأثيراتها على الساحة الدولية إلى المستوى الأدنى، حتى في المناطق التي كانت تُعتبر معاقل تقليدية لنفوذها. وبرز هذا التراجع بشكل أكثر جلاءً مع إلغاء المؤتمر السنوي للسفراء في باريس، الذي كان يُعقد بانتظام منذ عام 1993، مع نهاية شهر أوت وبداية سبتمبر. ومع توالي العثرات الداخلية والخارجية، بدأت التساؤلات تزداد بين الفرنسيين: هل أصبحت بلادهم مجرد دولة عادية تفقد هيبتها تدريجيًا؟ وكيف ساهمت الأزمات المتتالية في اهتزاز مكانتها العالمية؟
أصبحت فرنسا تواجه تعثرات متزايدة أفقدتها القدرة على الحفاظ على نفوذها وسط المنافسة الشرسة من القوى العالمية الصاعدة. وهذا الضعف سرعان ما دفع البلاد إلى اتخاذ خطوات مثيرة للجدل، مثل التحالف مع أنظمة غارقة في الفساد مثل:”المخزن” المغربي، في محاولة لضمان استمرار حضورها الدولي، ولو كان ذلك على حساب سمعتها ومكانتها التي كانت تحظى بها على الساحة العالمية.
منذ تأسيس الجمهورية الخامسة في فرنسا عام 1958، والتي شهدت تعزيزًا كبيرًا لدور رئيس الجمهورية في النص الدستوري، استقر عرف غير مكتوب يتعلق بإدارة الشؤون الخارجية. ووفقًا لهذا العرف، أصبحت الملفات المتعلقة بالعلاقات الدولية تُدار بشكل مباشر من قبل رئيس الجمهورية وفريقه، في ظل تنسيق محدود أو غيابه التام مع وزارة الشؤون الخارجية، التي تغيّر اسمها لاحقًا إلى وزارة أوروبا والشؤون الخارجية.
هذا النظام أصبح جزءًا أساسيًا من النظام السياسي الفرنسي، حيث يتمتع رئيس الجمهورية بتفويض كبير في السياسة الخارجية، ما يجعله المسؤول الأول عن صياغة وتنفيذ استراتيجيات البلاد الدولية. وبذلك، تعكس السياسة الخارجية الفرنسية بشكل مباشر توجهات وأولويات رئيس الجمهورية، بينما تكتفي وزارة أوروبا والشؤون الخارجية بدور تنفيذي، دون أن يكون لها تأثير حقيقي في اتخاذ القرارات الكبرى.
هذا التوزيع في السلطة أدى إلى ديناميات معقدة في السياسة الخارجية الفرنسية، حيث يهيمن الرئيس وفريقه على صناعة القرار، بينما تضاءل تأثير الوزارة التي كانت فيما مضى ركيزة أساسية في رسم السياسات الخارجية. ويطرح هذا التوازن غير المستقر تساؤلات حول كيفية إدارة السياسة الخارجية بفعالية، خاصة مع التحديات العالمية المتزايدة وتغييرات القيادة.
بمرور الوقت، اقتصر دور الوزارة على تنفيذ قرارات الرئاسة، دون أن تتمكن من اتخاذ أي مبادرات. وحتى عند تقديم دراسات واقتراحات، كانت غالبًا ما تتجاهلها الرئاسة. ونتيجة لذلك، تكوّن داخل قصر الإليزيه فريق دبلوماسي موازٍ يتألف من مستشارين متخصصين في مختلف المناطق الجغرافية. وعلى الرغم من أن معظمهم جاءوا من خلفيات مهنية تعود إلى الوزارة نفسها، فإن الشعور العام بين موظفي الوزارة كان مزيجًا من الإحباط والغضب، إذ أدركوا أن دورهم اقتصر على التمثيل البروتوكولي.
بينما شهدت فترات حكم فرانسوا ميتران وجاك شيراك وحتى نيكولا ساركوزي وإيمانويل ماكرون، غياب “رجل الدولة” الذي يمكنه أن يقود السياسة الخارجية بمهارة. في الحكومة الأخيرة، تم تعيين ستيفان سيغورنيه وزيرًا للخارجية، لكنه رغم افتقاره إلى مهارات لغوية وكفاءة في استخدام اللغة، يفتقد أيضًا المعرفة العميقة في الشؤون الخارجية. ولدى سؤاله عن مدى معرفته بعمل وزارته، كانت إجابته ببساطة: “سبق لي أن سافرت إلى الخارج مرارًا”.
الدبلوماسية الفرنسية تفقد بوصلة العالم
وخلال السنوات الأخيرة، واجهت الدبلوماسية الفرنسية أزمة حقيقية، بعد أن تعرّضت لعديد الاخفاقات والانتكاسات المتتالية مع تآكل قوّتها الناعمة وتراجع نفوذها في العالم على أصعدة عدّة. ولم يعد يخفى على أحد، فشل الدبلوماسية الفرنسية وتراجعها على المستوى الدولي، وهذه المرّة من عقر دارها – بشهادة إعلام البلاد – الذي يعترف بهذا التراجع، خاصّة بعد إلغاء المؤتمر السنوي للسفراء في باريس بعد أن كان ينظّم سنويا منذ سنة 1993.
ونشرت إذاعة فرنسا الدولية مقالًا بعنوان “الدبلوماسية: فرنسا تفقد بوصلة العالم”، تطرّق بوضوح إلى الأزمة الحقيقية التي تواجه الدبلوماسية الفرنسية، مؤكّدًا أن باريس فقدت قدرتها على تحديد اتجاه واضح واستراتيجي في العالم، لاسيما بعد إلغاء المؤتمر السنوي للسفراء. ومع تزايد الشكوك حول كفاءة الدبلوماسية الفرنسية وارتفاع مستوى المحسوبية، يتّضح أن فرنسا لم تعد تمتلك القيادة الدبلوماسية اللازمة للحفاظ على مكانتها على الساحة الدولية.
وأضاف المقال أن “هذا الإخفاق لا يؤثّر فقط على علاقات فرنسا الخارجية، بل حتى على قدرتها على التأثير في القضايا الدولية الكبرى”، وأشار المصدر ذاته إلى أن “إلغاء مؤتمر السفراء بباريس يعكس عدم قدرة فرنسا على تقديم رؤية واضحة للمستقبل”، ما يؤكّد أن الدبلوماسية الفرنسية لم تعد قادرة على التكيّف مع التحدّيات الجديدة في عالم سريع التغيّر.
توتّر العلاقة بين ماكرون والسلك الدبلوماسي
ينتظر نحو 20 سفيرًا لقاءً رسميًا مع ماكرون، يستغرق حوالي 10 دقائق، ليتمكّنوا من تقديم أوراق اعتمادهم والبدء في ممارسة مهامهم، لكن ازدحام جدول أعمال ماكرون بسبب تشكيل الحكومة الجديدة حال دون ذلك. وفي هذا الشأن، ذكرت صحيفة “Journal du Dimanche» أن عددًا من السفراء الأجانب في باريس أبدوا استياءهم من عدم تمكّنهم من لقاء الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون منذ أربعة أشهر لتقديم أوراق اعتمادهم وبدء مهامهم الرسمية.
وبحسب ما أفادت به الصحيفة استنادًا إلى مصادر متعدّدة، فإن الدبلوماسيين يعبّرون عن تذمّرهم من “التقاعس التام” لوزارة الخارجية الفرنسية، والذي زاد سوءًا بعد خسارة حزب الرئيس في الانتخابات الأوروبية. وأوضحت الصحيفة أن العلاقة المتوتّرة بين ماكرون والسلك الدبلوماسي تعزّزت أيضًا بغياب المؤتمر السنوي للسفراء، والذي لم يُعقد لأوّل مرّة منذ 30 عامًا في نهاية الصيف، وكانت الألعاب الباراولمبية هي العذر الرسمي لهذا الإلغاء.
من جهته، أعرب السفير الفرنسي السابق لدى روسيا، جان دي غلينياستي، عن رأيه أن الدبلوماسية الفرنسية تمرّ بحالة من الارتباك، مشيرًا إلى أن السبب الرئيس لذلك هو غياب توجّهات واضحة من الرئيس، وأضاف: “باستثناء قضايا دعم أوكرانيا والمناخ، يبدو أننا نسير مع التيّار”.
ماكرون لا يحرّك ساكنًا
وفي ظل هذا الوضع، أصبحت فرنسا تراقب بصمت الاضطرابات العالمية من حولها، دون أن يُسمع لها صوت، بل والأدهى من ذلك، لم يعد أحد ينتظر منها أي تحرك أو موقف. فـ”إيمانويل ماكرون”، بحسب شهادة الدبلوماسي الفرنسي السابق إرواندافو، الذي شغل مناصب رفيعة، منها مهام في الرئاسة الفرنسية ومستشارًا لعدد من الشخصيات، قد قضى على السياسة الخارجية الفرنسية.
وفي هذا السياق، أقر بيار شانيولو، رئيس مركز أبحاث فرنسي، بأن فرنسا باتت معزولة دوليًا، غير قادرة على أن تكون قوة رائدة تجمع الأوروبيين حولها، أو أن تؤثر في مجلس الأمن الدولي لتمرير قرارات. كما أن نفوذها في الجمعية العامة للأمم المتحدة انهار بشكل منطقي، نتيجة فقدان دعم حلفائها التقليديين من الدول الإفريقية الناطقة بالفرنسية والدول العربية.
في مقال نُشر في صحيفة “لوموند”، أشار شانيولو إلى أن ماكرون يفتقر إلى أي علاقات مميزة مع رؤساء الدول، كما تلاشى الثنائي الفرنسي-الألماني الذي كان يلعب دورًا بارزًا في السياسة الأوروبية. وأضاف أن نفوذ فرنسا الدولي تقلص إلى حدود ضيقة، فلم يعد لها تأثير كبير على المستوى العالمي.
وأوضح أن ما نشهده اليوم هو تراجع مزدوج لنفوذ فرنسا السياسي ولرصيد التعاطف معها، مشيرًا إلى ضرورة إعادة بناء هذا الرصيد قبل الحديث عن استعادة النفوذ السياسي على الساحة الدولية.
وتابع رئيس مركز الأبحاث الفرنسي، قائلًا: “لم يعد الوقت وقت الحديث عن انحدار فرنسا، بل عن هبوطها إلى مرتبة دنيا، وربما اختفائها بالكامل من ساحة القضايا العالمية الكبرى، ولقد تبيّن مجدّدًا، إثر الهجوم الذي شنّته حركة حماس في السابع أكتوبر على “إسرائيل”، إقصاء فرنسا عن الشرق الأوسط. لم يعد بلدنا يلعب أيّ دور ملموس في المساعي الرامية للخروج من الأزمة لأنه لم يعد يعتبر نفسه معنيًا بالنشاط في هذا الملف، وذلك منذ سنوات عدّة.
بدءاً بالبلاغات التي تعرب عن الأسف والتعاطف – يقول بيار شانيولو – مرورًا بالإدارة المهنية البحتة لشؤون الرعايا الفرنسيين في محنتهم ومعاناتهم، عبر “مركز الأزمات” في وزارة الخارجية، إلى الموافقة على المبادرات الدبلوماسية الصغرى الآتية من الآخرين: ذاك هو، في نهاية المطاف، دور قوة أوروبية وسطى لم تعد تقبض على ناصية القضايا العالمية على الإطلاق.
كيف تكرّست القطيعة؟
انتهت قصّة هزيمة فرنسا في أهمّ معسكراتها في منطقة الساحل الإفريقي، بإعلان الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون شهر فيفري من العام الماضي 2023 سحب القوّات الفرنسية من مالي، لتنتهي بذلك عملية “برخان” التي انطلقت قبل نحو عقد من الزمن، بطلب من حكومة مالي الانتقالية وقتها حين اجتاح “المسلحون” جنوب البلاد، ولم تفوّت فرنسا الفرصة وقتها ودفعت بالآلاف من قوّاتها إلى بلدان الساحل، غير أن التدخُّل العسكري الفرنسي الذي نجح في البداية، وأعاد زمام الأمور كما أرادت فرنسا، لم يُثمر بعد أشهر على نجاحه إلا الفشل الذريع.
ففي النهاية، سقطت مالي أكثر فأكثر في مستنقع الإرهاب، وتحوّلت الأزمة من صراع على الحكم إلى حرب أهلية عِرقية بعدما زادت أعداد الجماعات المتمرّدة الناقمة على السلطة، ليحصد ماكرون النُصيب الأوفر من الغضب من المسؤولين والجماهير على حدٍّ سواء، خاصّة بعدما قصفت طائراته حفل زفاف، وقتلت 19 مدنيا في حادثة أدانتها الأمم المتّحدة، وفاقمت الغضب الشعبي الداخلي ضدّ باريس.
لعبت فرنسا لعبة متخبّطة وبراغماتية ساهمت في زيادة الغضب ضدّها في مالي، حيث رفضت أيّ دعوة للحوار بين الأطراف المتناحرة في مالي، مع ترحيبها باستيلاء المجلس العسكري على السلطة في تشاد، رغم رفض المعارضة السياسية والمسلّحة لهذا الأمر، ودعوتها للرئيس الفرنسي إلى الحياد.
ولم يكن دافع ماكرون الرئيس من تجاهل الديمقراطية والدستور سوى حماية المصالح الفرنسية في دول الساحل الإفريقي ولو على حساب تلك الشعوب التي كانت يومًا ما ضمن المستعمرات الفرنسية، ثمّ أصبحت اليوم تضخّ 50 بالمائة من احتياطاتها الأجنبية إلى باريس، لتُمثِّل بذلك 14 دولة إفريقية مُستقلّة على الورق، لكنها تتعرّض لاستعمار مالي خفي، لا تستطيع الفِكاك منه تمامًا حتّى اليوم، في الوقت الذي بدأت فيه دول عدّة في غرب إفريقيا محاولة السيطرة بشكل أكبر على عُملتها المالية الإفريقية، مع التخطيط لنقل بعض احتياطاتها بعيدًا عن فرنسا.
وبعد مرور تسع سنوات من الوجود العسكري الفرنسي في مالي، لم يحقق جيش فرانسوا هولاند ثم إيمانويل ماكرون أيًّا من أهدافه المعلنة، فلا هو حقّق السلام المزعوم، ولا هو منع تمدّد تنظيمي الدولة والقاعدة في مساحات شاسعة من الوسط والجنوب، وعلى طول الحدود مع النيجر وبوركينا فاسو، ليكون المكسب الحقيقي الوحيد لفرنسا هو إحكام سيطرتها أكثر فأكثر على مقدّرات البلاد.
غير أن هذا الوضع بدأ يتغير مع قرار الماليين خلع عباءة الهيمنة الفرنسية، بإعلان فسخ جميع الاتفاقيات الدفاعية التي كانت تربط البلد بفرنسا، مما أشعل شرارة النهاية التدريجية لنفوذ باريس في المنطقة. وفي رد فعل سريع، استخدمت فرنسا نفوذها للضغط على المجلس العسكري، متهمة إياه بالتقاعس والمماطلة في وضع جدول زمني للعودة إلى الحكم المدني.
دفع ذلك فرنسا إلى توظيف تأثيرها على المجموعة الاقتصادية لدول غرب إفريقيا “إيكواس”، التي فرضت سلسلة من العقوبات الاقتصادية الصارمة على مالي، بما في ذلك إغلاق الحدود مع الدول الأعضاء، تجميد الأرصدة المالية، منع التحويلات البنكية، وسحب الدبلوماسيين.
إلى جانب ذلك، تم إلغاء جميع أشكال التعاون، خاصة على المستوى المالي، مع الإبقاء على استثناء وحيد في هذه العقوبات السارية حتى اليوم، وهو السماح بإدخال الأدوية والمواد الغذائية الضرورية.
استفادت النخبة في مالي من الغضب المتصاعد ضدّ فرنسا بسبب وجودها العسكري، لطردها من البلاد بذريعة الاحتلال والفشل مباشرة بعد انقلاب 2020، حيث اتهم قادة الانقلاب فرنسا بالتدخل في شؤون بلادهم، ليطلبوا بعد ذلك المساعدة الأمنية من روسيا، وفي الوقت نفسه، ضغط قادة الجيش المالي على الأمم المتحدة لإنهاء مهمة بعثة حفظ السلام الموجودة في البلاد.
عقد الوجود الفرنسي في إفريقيا انقطع
خسرت فرنسا معركة النفوذ في إفريقيا لأسباب جوهري عدة، أبرزها صعود منافسين جدد مثل الصين وكذلك روسيا التي كانت قد فقدت نفوذها في القارة السمراء بعد انهيار الاتحاد السوفيتي عام 1991، ولكنها عادت إلى الساحة بعد ثلاثة عقود، مستفيدة من الفراغ الذي خلفه الانسحاب الفرنسي من مالي.
غير أن عودة موسكو اتسمت بالطابع الأمني، على عكس المقاربة الشاملة التي تتبناها الجزائر، والتي تظل ثابتة بغض النظر عن طبيعة القيادة الحاكمة، ثم إن هذا التحول في مالي أثار مخاوف لدى دول أخرى كانت تعتمد بشكل كبير على التعاون مع باريس، وبدأت هذه المخاوف تتجسد بعد فشل العمليات العسكرية الفرنسية في دول مجاورة مثل بوركينا فاسو وجمهورية الكونغو الديمقراطية.
الصور التي أظهرت متظاهرين يرفعون علم روسيا بعد انقلاب بوركينا فاسو كانت دليلاً واضحاً على أن نفوذ فرنسا في المنطقة بدأ بالتراجع تدريجياً، وأنها تفقد حلفاءها واحداً تلو الآخر. ورغم محاولات الرئيس إيمانويل ماكرون تغيير النهج الفرنسي في القارة السمراء بعيداً عن التدخل العسكري المباشر، إلا أن هذا التدخل كان في الواقع بوابة فتحت المجال لدول أخرى، مثل روسيا، لتعزيز حضورها في مناطق النفوذ الفرنسي التقليدية، كما حدث في مالي وجمهورية إفريقيا الوسطى.
اليوم، لم تعد فرنسا تتحكم في المشهد الإفريقي كما كانت في السابق؛ إذ باتت تواجه منافسين شرسين في كل مكان، بينما تتآكل أوراق نفوذها التقليدية ويبتعد عنها حلفاؤها. في الوقت نفسه، تنشغل باريس بمعاركها السياسية الداخلية حول قضايا مثل الهجرة والحجاب، مما يعكس تحوّلاً عميقاً في أولوياتها. ولذلك، وبغض النظر عن التصريحات الدبلوماسية أو التحركات الرامية لاستعادة نفوذها، تدرك فرنسا أن عهد هيمنتها الإفريقية قد ولى، وربما حان الوقت للاعتراف بأن عصرها الذهبي في القارة قد انتهى.
فرنسا المتخاصمة مع نفسها..
انعكاس الداخلي على الخارجي
أفاد المحامي والناشط الحقوقي الجزائري، محمد آدم المقراني، بأن “الدبلوماسية الفرنسية تواجه تراجعًا ملحوظًا في السنوات الأخيرة، وهو ما أثار قلقًا واسعًا بين المراقبين داخل فرنسا وخارجها”. وهذا التراجع، حسب المقراني، يتجلى من خلال مجموعة من العوامل الداخلية والخارجية التي تسهم في تقليص تأثير فرنسا على الساحة الدولية.
وأوضح المقراني أن أبرز هذه العوامل هو الإصلاحات التي أقرها الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون على وزارة الخارجية. فقد قرر ماكرون إلغاء النظام التقليدي الذي كان يربط كبار الدبلوماسيين بالوزارة طوال مسيرتهم المهنية، وهو نظام كان يضمن استقرارهم ويعزز خبراتهم. وقد أدت هذه التغييرات إلى توترات كبيرة بين الدبلوماسيين، الذين يعتبرون أن هذه الإصلاحات تشكل تهديدًا لخبراتهم المتراكمة على مدى العقود الماضية، وقد تؤدي إلى تعيينات مبنية على المحاباة بدلاً من الكفاءة.
وأضاف المقراني في تصريح لـ”الأيام نيوز” أن “الدبلوماسية الفرنسية تواجه أيضًا تحديات كبيرة في القارة الإفريقية، التي كانت تعتبر معقلًا للنفوذ الفرنسي لفترة طويلة. فقد تضاءلت مكانة فرنسا في القارة مع تصاعد نفوذ قوى عالمية أخرى مثل الصين وروسيا”. وأشار إلى أن “التغييرات السياسية في دول كانت تعتمد على العلاقات التاريخية مع فرنسا، مثل مالي وبوركينا فاسو، التي بدأت في إعادة توجيه سياساتها الخارجية نحو شركاء جدد، قد وضعت فرنسا في موقف صعب”.
كما فسر المقراني هذا الانكماش في النفوذ بالتغيرات الجيوسياسية في منطقة الساحل الإفريقي، حيث بدأت الأنظمة العسكرية الجديدة في انتقاد فرنسا علنًا والتوجه نحو شركاء آخرين لتحقيق مصالحها الاقتصادية والسياسية. وهذه التغيرات تعكس تحولات في علاقات القوة العالمية وتزيد من تعقيد المشهد الدبلوماسي الفرنسي.
على الصعيد الداخلي، أشار الدكتور زاوي إلى أن “الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون يواجه ضغوطًا سياسية واقتصادية متزايدة، وهو ما كان له تأثير كبير على سياسته الخارجية”. فعلى سبيل المثال، أثار إصلاح نظام التقاعد موجة واسعة من الاحتجاجات دفعت الحكومة إلى اتخاذ موقف دفاعي، مما أضعف قدرتها على إدارة الأزمات الدولية بفعالية. وبذلك، باتت الضغوط والتحديات الجسيمة التي تواجهها الحكومة الفرنسية في محاولة تحقيق توازن بين القضايا الداخلية والتحولات الدولية تشكل حالة من التعثر المستمر.
علاوة على ذلك، أوضح المقراني أن “فرنسا تواجه صعوبة في التكيف مع التحولات العالمية في مجالات حيوية مثل التغير المناخي والطاقة، والتي أصبحت تشكل قضايا ذات أهمية متزايدة على الساحة الدولية”. ويعكس هذا الوضع ضعف قدرة فرنسا على الاستجابة بشكل سريع وفعّال للتحديات العالمية الحديثة التي تتطلب استراتيجيات متكاملة ومبتكرة.
كما أشار المقراني إلى أن “باريس تواجه تحديات كبيرة في الحفاظ على ما يُعرف بـ’القوة الناعمة’، التي تقوم على التأثير من خلال الثقافة والتعليم والدبلوماسية العامة”. وأوضح أن “هذه القوة، التي كانت تقليديًا حجر الزاوية في الدبلوماسية الفرنسية، تشهد تراجعًا ملحوظًا بسبب المنافسة القوية من قوى أخرى مثل الولايات المتحدة والصين، اللتين توسعان نفوذهما الثقافي والتعليمي بشكل كبير على الصعيد العالمي”. وأضاف أن الاحتجاجات السياسية والاجتماعية الداخلية قد أثرت سلبًا على صورة فرنسا في الخارج، مما جعلها تبدو أقل جاذبية بالنسبة على العديد من الدول والشعوب.
وأكد المقراني أن “الإصلاحات التي يسعى ماكرون لإدخالها على الدبلوماسية الفرنسية تأتي في فترة حرجة تشهد فيها الساحة الدولية تزايدًا في التحديات مثل تغير المناخ والأزمات الإنسانية والسياسية”. وأضاف أن هذه الإصلاحات قد تهدف إلى تحديث النظام الدبلوماسي الفرنسي ليتلاءم بشكل أفضل مع هذه التحديات، لكن المشكلة الأساسية تكمن في فقدان الثقة بين الدبلوماسيين والإدارة الفرنسية. ويعتقد العديد من المراقبين أن هذه التغييرات قد تؤدي إلى تراجع الخبرات وإضعاف النفوذ الفرنسي على المستوى العالمي.
وفي ختام حديثه لـ”الأيام نيوز”، أكد محمد آدم المقراني أن “الدبلوماسية الفرنسية تمر بمرحلة تحول صعبة، حيث تواجه تحديات داخلية وخارجية قد تهدد بتقليص دورها التقليدي على الساحة الدولية”. وأوضح أن “استعادة فرنسا لمكانتها تعتمد بشكل كبير على قدرتها على إدارة هذه التحولات بفعالية وإيجاد استراتيجيات جديدة لتعزيز تأثيرها العالمي، خاصة في ظل التغيرات الجيوسياسية والاقتصادية السريعة”.
ماذا عن أسباب تراجع الدبلوماسية الفرنسية؟..
فرنسا تحت الصفر
سلّط الدكتور رابح زاوي، الباحث الجزائري المتخصص في الشؤون الأمنية والاستراتيجية، الضوء على التراجع الملحوظ في الدبلوماسية الفرنسية خلال السنوات الأخيرة، وهو ما أثار قلقًا واسعًا بين الفرنسيين بشأن مكانة بلادهم على الساحة الدولية، إذ اتضح أن فرنسا فقدت جزءًا كبيرًا من قوتها الناعمة، وتقلص نفوذها في معاقلها التقليدية، مما جعلها تبدو دولة عادية تفقد هيبتها تدريجياً.
ووفقًا للدكتور زاوي، يعود تراجع الدبلوماسية الفرنسية إلى عوامل رئيسية عدة. من أبرزها التغيرات الجيوسياسية الكبيرة التي طرأت في العقدين الماضيين، مثل صعود قوى جديدة مثل الصين والهند، وزيادة نفوذ روسيا، مما ساهم في إعادة تشكيل النظام الدولي. وهذه التحولات جعلت من الصعب على فرنسا أن تحافظ على نفوذها السابق، وهي التي كانت تعتبر قوة عظمى تقليدية.
وأشار الدكتور زاوي في حديثه لـ”الأيام نيوز” إلى أن “فرنسا تشهد تراجعاً كبيراً في قوتها الناعمة، التي تشمل الثقافة والتعليم والقيم الديمقراطية، وهي أدوات حيوية في الدبلوماسية”. فقد تراجعت اللغة الفرنسية في العديد من الدول وواجهت الثقافة الفرنسية تحديات من ثقافات أخرى. كما أن الأحداث السياسية والاجتماعية الداخلية، مثل حركات الاحتجاج، أثرت سلباً على صورة فرنسا في الخارج.
على الصعيد الداخلي، أوضح الدكتور زاوي أن “الدبلوماسية الفرنسية تأثرت بشكل كبير بالصراعات السياسية والأزمات الاقتصادية وزيادة الشعبوية، مما أدى إلى تراجع الثقة في قدرة الحكومة الفرنسية على اتخاذ قرارات دبلوماسية قوية”. وقد تجلى هذا التأثير أيضًا في إلغاء المؤتمر السنوي للسفراء في باريس، الذي كان يُعقد سنويا منذ عام 1993، وهو ما يعكس عدم الاستقرار في السياسة الخارجية وضعف التنسيق بين المؤسسات.
وأضاف الخبير أن “المؤتمر السنوي للسفراء في باريس كان حدثاً بارزاً في الدبلوماسية الفرنسية، حيث كان يجمع ممثلين عن الحكومة الفرنسية والسفراء من جميع أنحاء العالم لمناقشة السياسات الخارجية والتحديات العالمية. ويمثل إلغاء هذا المؤتمر، الذي كان يُعقد بانتظام منذ عام 1993، علامة فارقة في تاريخ الدبلوماسية الفرنسية ويعكس التغييرات الجذرية التي تواجهها البلاد على المستوى الدولي”.
وأشار الدكتور زاوي إلى أن “أهمية المؤتمر تكمن في كونه منصة للتواصل بين الدبلوماسيين وصانعي القرار، مما يعزز تبادل الأفكار والتوجهات حول السياسة الخارجية. كان يُعتبر فرصة لتوجيه السفراء وتعريفهم بالأولويات السياسية والاقتصادية لفرنسا، ويساهم في تعزيز الهوية الفرنسية على الساحة الدولية من خلال إظهار التزام فرنسا بالدبلوماسية النشطة والتفاعل مع القضايا العالمية”.
ومن أسباب إلغاء المؤتمر، ذكر الدكتور زاوي أن “فرنسا تواجه تحديات داخلية متعددة، بما في ذلك الأزمات الاقتصادية والاجتماعية، مما دفع الحكومة إلى إعادة تقييم أولوياتها والتركيز أكثر على القضايا المحلية بدلاً من الدبلوماسية الدولية”. وأوضح أن “التراجع في النفوذ الفرنسي على الساحة الدولية قد يكون ناتجاً عن اعتقاد الحكومة بأن المؤتمر لم يعد يحقق الفائدة المرجوة في ظل فقدان القوة الناعمة وظهور قوى جديدة، بالإضافة إلى التحول نحو استراتيجيات دبلوماسية جديدة مثل التركيز على اللقاءات الثنائية واستخدام القنوات الرقمية”.
أما بالنسبة إلى الآثار المترتبة على إلغاء المؤتمر، أفاد الدكتور زاوي أن “فقدان التنسيق بين الدبلوماسيين وصانعي القرار قد يؤدي إلى نقص في الفهم المشترك للأولويات السياسية، مما يؤثر سلباً على فعالية السياسة الخارجية. وقد يُنظر إلى هذا القرار على أنه تآكل في الهيبة الفرنسية على الصعيد العالمي، مما يعكس تراجعاً في التزام فرنسا بالقضايا الدولية ويؤثر على علاقاتها مع الدول الأخرى. كما أن السفراء الذين كانوا يعتمدون على هذا المؤتمر لتوجيههم وتحديثهم حول السياسة الخارجية قد يجدون أنفسهم في وضع غير مستقر، مما يؤثر على أدائهم وفعالية مهامهم”.
واختتم الدكتور زاوي حديثه بالتأكيد على أن “تراجع النفوذ الفرنسي يؤثر أيضاً على الاقتصاد من خلال انخفاض الاستثمارات الأجنبية وضعف القدرة على التفاوض في الصفقات التجارية، كما أن تراجع السياحة نتيجة لتدهور الصورة العامة يؤثر سلباً على الاقتصاد”. ودعا الخبير فرنسا إلى “إعادة بناء قوتها الناعمة من خلال تعزيز التعليم باللغة الفرنسية ودعم الثقافة الفرنسية في الخارج، بالإضافة إلى زيادة التعاون الأكاديمي والثقافي مع الدول الأخرى”.
وشدّد على ضرورة “إعادة تقييم شراكاتها الدولية وبناء شراكات استراتيجية مع دول ذات قيم مشابهة لتعزيز موقفها على الساحة الدولية”، مشيراً إلى أن “فرنسا يجب أن تكون قادرة على التكيف مع التغيرات الجيوسياسية من خلال تطوير استراتيجيات تتماشى مع الواقع العالمي المتغير”.
وفي ختام حديثه لـ”الأيام نيوز”، أكد الدكتور رابح زاوي أن “تراجع الدبلوماسية الفرنسية هو ظاهرة معقدة تتطلب تحليلًا دقيقًا وفهمًا عميقًا للأسباب والآثار”، مشدداً على ضرورة أن “تتخذ فرنسا خطوات فعّالة لاستعادة مكانتها على الساحة الدولية من خلال تعزيز قوتها الناعمة، بناء شراكات استراتيجية، والتكيف مع التغيرات الجيوسياسية”.
خرق مستمر للشرعية والمبادئ..
فرنسا وأسرار الدبلوماسية المظلمة
اعتبر الدكتور أبو الفضل محمد بهلولي، أستاذ العلوم السياسية والعلاقات الدولية، أن “انحراف الدبلوماسية الفرنسية عن المبادئ والأعراف الدولية يعود إلى تدخل البعثات الدبلوماسية الفرنسية، خاصة في إفريقيا، في الشؤون الداخلية للدول. وهذا التصرف يتناقض مع ميثاق الأمم المتحدة ومبادئ القانون الدولي والتعاون بين الدول”.
وفي تصريح لـ”الأيام نيوز”، أشار الدكتور بهلولي إلى أن “فرنسا تعد من أكثر الدول تمثيلًا من خلال بعثاتها الدبلوماسية على مستوى الدول والمنظمات الدولية. ومع ذلك، أصبح بعض السفراء الفرنسيين يعقدون لقاءات غير شفافة مع فاعلين في المجتمع المدني والأحزاب السياسية، مما أدى إلى احتجاجات من بعض الدول أو قطع العلاقات أو اعتبارهم أشخاصًا غير مرغوب فيهم”.
وأضاف الدكتور بهلولي أن هناك تراجعًا في مساهمة باريس في بناء القانون الدولي والاتفاقيات الأممية، حيث لم يكن لفرنسا دور بارز في لجنة القانون الدولي التابعة للأمم المتحدة، أو في المشاورات الرسمية للاتفاقيات الدولية. ولفت إلى أن الدبلوماسية الفرنسية غالبًا ما تخرق القانون الدولي والشرعية الدولية، مستشهداً بموقف فرنسا المنحاز للمخزن في ملف الصحراء الغربية.
كما أبرز الخبير نقص الموثوقية التي تعاني منها الدبلوماسية الفرنسية، مشيرًا إلى أنها تعمل بخبث. وأوضح أن “رغم تصنيف الأمم المتحدة لإقليم الصحراء الغربية ضمن الأقاليم الخاضعة لتصفية الاستعمار، فإن الدبلوماسية الفرنسية خالفت القرار الأممي، ورأي محكمة العدل الدولية، ولوائح الاتحاد الإفريقي”.
الخسائر أكثر من المكاسب..
ماكرون يغامر بتاريخ فرنسا في إفريقيا
بقلم: محمد حسنة الطالب – كاتب وصحفي من الصحراء الغربية
يحاول ماكرون في آخر عهدة له، وبعد نجاته من صعود اليمين المتطرّف، أن يستعيد بعضًا من شعبيته من خلال اللعب على الحبلين بين المغرب والجزائر، وذلك بإحياء السياسة الفرنسية القديمة في منطقة شمال غرب إفريقيا، خاصةً في جنوب الصحراء، آملًا أن تسهم هذه الخطوة في ترميم صورة فرنسا التي بدأت تتشظى منذ دخوله إلى قصر الإيليزيه في 14 ماي 2017.
ولكن الاستعمار -كما هو معلوم- وبوصفه تلميذًا غبيًا لا ينفكّ عن تكرار أخطائه، لأنه وببساطة مغرور ومتكبّر ويستخف دائمًا بمستعمراته وبحقوق الشعوب المستضعفة، كلما تعلّق الأمر بمصالحه ونزواته الاستعمارية التي غالبًا ما تخلط الحق بالباطل، وعلى مثل هذه التصرفات والمواقف، نشأ قادة ورؤساء الدول الغربية المارقة دون استثناء.
وما لم يستنبطه ماكرون من التاريخ الاستعماري لبلده، وما لحق بها على يد المقاومة الجزائرية الباسلة التي دفعت مليونًا ونصف المليون من الشهداء من أجل الاستقلال عن فرنسا، ولكي تكون الجزائر سيدة قرارها، جعل ماكرون اليوم يدفع الثمن ويلوذ مسرعًا إلى ماضي فرنسا الملطخ بالعار، عسى أن يجد فيه مخرجًا يمكّنه من فك طلاسم حاضر تعيس وربما مستقبل يبدو مشوشًا وخطيرًا -حسب التوقع- حيث أصبح يتربص بالدولة الفرنسية أكثر من أي وقت مضى.
ولكن حنين ماكرون إلى ذلك الماضي بأسلوبه المتعجرف والمغرور الذي يستغبي الشعوب، لن يؤدي في الأخير إلا إلى الوقوع في مطبّات الماضي المحتشم نفسها، وزيادة الطين بلّة بتشويه ما تبقى من سمعة فرنسا “القيم والحريات” الزائفة، وفقدان نفوذها الاستعماري الذي أصبح مرفوضًا، على الأقل من طرف الأفارقة، وبدأ فعلًا في التلاشي من أهم قلاعها الكبيرة في شمال إفريقيا وجنوب الصحراء، وقد يتوسّع إلى أبعد من ذلك.
والغريب في الأمر أن ماكرون ربما ما يزال يعتقد أن ما يجري في حدائق بلده الخلفية بالقارة السمراء هو مجرد زوبعة في فنجان، ويمكن تداركه متى وكيف شاء استنادًا إلى “عظمة فرنسا التي يتخيلها” وإلى عضويتها الدائمة في مجلس الأمن الدولي، التي أصبحت على المحك بسبب المطالب المتزايدة والهادفة إلى إصلاح منظمة الأمم المتحدة برمتها. وبالتالي، يبدو أن ماكرون يغامر ببلده في ظل المتغيرات العالمية المتسارعة حاليًا ومستقبليًا.
هكذا أعمت غريزة الطمع والتوسع بصيرة الغرب إلى أن أصبح يغرد خارج واقع القيم والمثل الإنسانية العالية بكل وضوح، معتمدًا في هذا التوجه على ماضٍ تجاوزه الزمن، وعلى حاضر كشف زيف شعاراته وخسّة نواياه المبيّتة، وتعاليه المفضوح على مواثيق وقرارات الشرعية الدولية التي لا يعتدّ بها إلا حين يتعلّق الأمر بمصالحه والتحضير لعدوان مشبوه.
إذن، صورة فرنسا اليوم تبدو مشوّهة كما هو الحال بالنسبة إلى غالبية الدول الغربية، والسبب هو جنوح هذه الدول إلى التفكير في المصالح والامتيازات قبل قراءة الواقع ومعرفة تداعياته الخطيرة على المدى المتوسط والبعيد. وتلك هي نقطة ضعف هذا الغرب المغرور، الذي وضع كل بيضه في سلة التكنولوجيا، وخاصة في مجالها العسكري، ظنًا منه أن ذلك كافٍ ليكون عاملًا للحسم على الأرض وكسب الرهان وبسط النفوذ، والوصول في آخر المطاف إلى مكامن الامتيازات الحقيقية وموطن المصالح الاستراتيجية الكبرى.
وما دامت دول القارة السمراء شمال غرب الصحراء الكبرى وجنوبها ذات الطبيعة البكر تشكّل اليوم محطّ أطماع، وبؤرة صراع مرير على النفوذ بين كل من أمريكا والصين وروسيا، فإن أثر فرنسا في هذه المناطق يبدو آخذًا في التلاشي شيئًا فشيئًا. والسبب يعود إلى سياساتها الاستعمارية الفاشلة التي حولت مستعمراتها الإفريقية منذ زمن بعيد إلى دول وظيفية فاشلة، لا حقّ لرؤسائها ولا لحكوماتها في تطويرها لتكون بلدانا مستقلة تخدم شعوبها بما يتواءم مع آمالها وطموحاتها في الرقي والازدهار.
بل ولا حقّ لهذه الشعوب حتى في تأمين مصيرها بنفسها – إن دعت الضرورة – ومثل هذه الهيمنة الاستعمارية المطلقة تتنافى دون شك مع طبيعة الديمقراطية الكاذبة التي ينادي بها الغرب، والخالية من مضمونها الحقيقي الذي يعني بكل وضوح “حكم الشعب”.
وبالتالي، فإن موقف ماكرون بخصوص تأييده للمقترح المغربي الرامي إلى تكريس خيار الحكم الذاتي في إطار السيادة المغربية المزعومة على الصحراء الغربية، يُعتبر خطوة غير موفقة لعدم انسجامه مع قيم الديمقراطية ومرامي وأهداف قرارات ومواثيق الشرعية الدولية الصادرة بخصوص قضية الصحراء الغربية، بوصفها مسألة تصفية استعمار.
ومهما تطابق موقف ماكرون هذا مع السياسة الاستعمارية الفرنسية وتاريخها الأسود، إلا أن ذلك لن يُحسن من صورة فرنسا اليوم، بل ستكون له انعكاساته السلبية – دون شك – عليها وعلى مصالحها في العديد من دول إفريقيا التي ذاقت مرارة الهيمنة الفرنسية. وقد يكون الضرر أكبر من ذلك إن تعلق الأمر بالمعاملات واتفاقات الشراكة التي يمكن أن تربط فرنسا بالاتحاد الإفريقي.
أما عن تأثير موقف ماكرون هذا، الذي اتخذه بخصوص القضية الصحراوية، مجاملةً للرباط من جهة، ومحاولة من جهة أخرى للإبقاء عليها ليجعلها إحدى قلاعه الاستعمارية، التي بدت تسقط في يد “إسرائيل” دون تردد ومن ورائها أمريكا، فإن تأثير ذلك القرار يكاد يكون معدومًا. ذلك لأن الاستعمار الفرنسي والاحتلالين المغربي و”الإسرائيلي” وجهان لعملة واحدة مزوّرة، لا يُعتدّ بقيمتهما الزائفة المتعارضة بكل وضوح مع ما تقرّه مواثيق وقرارات الشرعية الدولية.
ورغم أن الشرعية الدولية قد تبدو متجاوزة في العالم اليوم، إلا أنها حتمية التفعيل عاجلًا أم آجلًا وستفرض نفسها لا محالة اليوم أو غدًا، بالنظر إلى ما يسود في العالم من مظالم وتجاوزات وجنوح سافر إلى قانون الغاب. والدليل واضح في ما تقوم به “إسرائيل” في قطاع غزة من همجية يندى لها الجبين، هذا فضلًا عما تعاني منه بعض الدول العظمى المناوئة للهيمنة الأمريكية المطلقة وسياستها الرعناء المتمثلة في فرض العقوبات على كل من يعاندها أو يقف في وجهها المتهور الذي أزعج المسالمين وحول حياتهم إلى جحيم.
في خضم هذا الواقع المتلاطم، ترى روسيا والصين ومن يسير في فلكهما اليوم ضد أمريكا ضرورة وضع حدّ لهذا التغوّل الغربي المشؤوم الذي عاث في العالم ظلمًا وقهرًا وفسادًا أمنيًا، سياسيًا، اجتماعيًا واقتصاديًا، دون مبرر سوى تحقيق الأهواء والأجندات الجهنمية الخاصة بأمريكا قبل غيرها. وعليه، لم يعد مقبولًا اليوم قبل الغد العيش في عالم يفتقد إلى العدالة والمساواة، وإلى استتباب الأمن وفرض الاستقرار، عالم لا تحكمه الشرعية، ولا يؤثر فيه قانون، ولا تُحترم فيه إرادة الشعوب، ولا تُحمى فيه حقوق الإنسان، ولا يُكفل لكل ذي حقّ حقه.
وبناءً على ما سبق ذكره من معطيات، يمكننا أن نؤكد – وأكثر من أي وقت مضى – لكل المظلومين والمضطهدين، أنه لن يضيع حق وراءه مطالب. فالإصرار والثبات هما سر النجاح، والتهاون والخذلان هما أسباب الفشل. وهذا ما يجب أن يعيه أصحاب القضايا العادلة، التي يراها المتخاذلون شائكة. فالظالم يطارد السراب، وموته محتوم في آخر المطاف، والمظلوم هو من يرى ظلمة دون حقه، وسيصل إليه دون شك ما دام يؤمن ببزوغ الفجر.
حول الدور الفرنسي في قضية الصحراء الغربية..
إليكم هذا المثال الصارخ عن ازدواجية المعايير؟
بقلم: لحسن بولسان – كاتب وصحفي من الصحراء الغربية
بعد مرور 25 عامًا على وقف إطلاق النار في الصحراء الغربية، يواجه الشعب الصحراوي واقعًا صعبًا يتمثل في استمرار الاحتلال المغربي وفشل الأمم المتحدة في تحقيق حل عادل. هذا النزاع المستمر يعكس عجز المجتمع الدولي عن فرض القانون على أرض الواقع، وتبني مواقف مزدوجة تخدم مصالح القوى الكبرى على حساب حقوق الشعوب. لقد أظهرت الأمم المتحدة فشلها التام في حل القضية الصحراوية، حيث لم تستطع تنظيم الاستفتاء الذي وعدت به منذ عقود، رغم أن الشعب الصحراوي لم يتوقف عن المطالبة بحقه المشروع في تقرير المصير.
منذ وقف إطلاق النار، اتبعت جبهة البوليساريو سياسة تعتمد على الصدق والرغبة في السلام، والتزمت بجميع المبادرات الأممية والدبلوماسية. لكن في المقابل، تعنت المغرب واستمر في عرقلة أي حل سلمي، معتمدًا على دعم قوى دولية، أبرزها فرنسا، التي وقفت في مجلس الأمن لمنع أي قرار يضغط على المغرب للالتزام بالقانون الدولي.
الدور الفرنسي في هذا النزاع يُعد مثالًا صارخًا على ازدواجية المعايير. فرنسا، التي تدعي حماية حقوق الإنسان عالميًا، دعمت المغرب في مواصلة احتلاله للصحراء الغربية، معطلةً قرارات الأمم المتحدة، مما يبرز أن مصالحها الاقتصادية والجيوسياسية تتفوق على مبادئ العدالة الدولية. دعم فرنسا للمغرب، من خلال حق النقض (الفيتو)، جعل الحل السلمي بعيد المنال وأدى إلى إطالة معاناة الشعب الصحراوي.
المغرب، من خلال رفضه المستمر لإجراء استفتاء تقرير المصير، أثبت أن هدفه هو فرض واقع الاحتلال كأمر واقع، دون اعتبار لإرادة الشعب الصحراوي. وبدلًا من الانخراط في حل سلمي ودائم، واصل المغرب سياسة استغلال الموارد ونهب الأرض، معتمدًا على دعم قوى كبرى لتعطيل أي جهود لحل النزاع بشكل عادل.
على مدى نصف قرن، قدم الشعب الصحراوي تضحيات جسيمة في سبيل حريته واستقلاله، من المقاومة المسلحة التي استشهد فيها الآلاف دفاعًا عن الأرض، إلى القمع والاعتقالات التي واجهها المدنيون في المناطق المحتلة. وفي مخيمات اللاجئين، صمد الصحراويون لعقود رغم الظروف القاسية والحرمان، مؤكدين على أن الهوية الوطنية لا يمكن طمسها. تحملوا الفقر والظروف الاقتصادية الصعبة، وتمسكوا بتعليم أبنائهم وحماية ثقافتهم من محاولات الاحتلال المغربي لطمسها. وعلى الصعيد السياسي، استمرت جبهة البوليساريو في قيادة النضال الدبلوماسي وتحقيق الاعتراف الدولي، لتبقى كل هذه التضحيات شهادة على إرادة لا تنكسر ونضال لا يتوقف حتى نيل الحرية الكاملة.
لم تقتصر التضحيات الصحراوية على المجال العسكري أو اللجوء، بل شملت أيضًا التضحيات في مجالات التعليم والثقافة والهوية. فقد تحمّل الصحراويون صعوبات تعليم أبنائهم في ظروف قاسية، مؤمنين بأن المعرفة هي سلاح المستقبل. كما حافظوا على تراثهم الثقافي وهويتهم الوطنية رغم محاولات الاحتلال طمسها. هذه المقاومة الثقافية كانت جزءًا لا يتجزأ من نضالهم، فالأجيال الجديدة التي تربت في اللجوء أو تحت الاحتلال تمسكت أكثر بهويتها الصحراوية، وواصلت الكفاح الذي بدأه آباؤهم.
وفي ظل هذا الدعم الدولي للاحتلال، يجب على الصحراويين أن يدركوا أن الحقوق لا تُهدى، بل تُنتزع بالقوة والإرادة. إن التجربة الفلسطينية، وما يحدث اليوم في غزة، يُظهر بوضوح زيف الشعارات التي ترفعها القوى الدولية حول القانون الدولي وحقوق الإنسان. ما يعانيه الفلسطينيون من قمع واحتلال يكشف الوجه الحقيقي للنظام الدولي الذي يتغاضى عن الجرائم عندما تتعارض مع مصالحه. ولذلك، يجب على الشعب الصحراوي أن يستفيد من هذه التجارب، ويفهم أن طريق الحرية والاستقلال لا يأتي عبر انتظار دعم من قوى متواطئة، بل عبر استمرار النضال وتقديم التضحيات.
الشعب الصحراوي، رغم كل التحديات، لم يتراجع. نصف قرن من النضال والصمود أظهر أن إرادة الشعوب لا يمكن كسرها. الصمود الصحراوي هو رمز عالمي للتمسك بالحقوق، وسيستمر النضال حتى نيل الحرية والاستقلال الكامل. الأجيال الصحراوية الجديدة تدرك أن النضال يجب أن يتواصل، وأن الحل لا يكمن في انتظار تدخلات دولية، بل في إرادة الشعب نفسه واستعداده لانتزاع حقوقه مهما كانت التضحيات.
الأمم المتحدة، بنظامها الدولي الحالي، أثبتت أنها غير قادرة على فرض القانون عندما تتعارض مصالح الدول الكبرى. فشلها في حل قضية الصحراء الغربية هو جزء من فشل أوسع في حماية حقوق الشعوب المضطهدة، كما يظهر في فلسطين وغزة. إذا كان المجتمع الدولي عاجزًا عن فرض القانون، فعلى الشعب الصحراوي أن يعتمد على نفسه وعلى قوته في تحقيق العدالة.
ماذا عن إرث الإمبراطورية؟..
فرنسا خارج اللعبة
بقلم: الدكتور مسلم بابا عربي – باحث جزائري في العلوم السياسية والعلاقات الدولية
على الرغم من الهزيمة التي لحقت بفرنسا إبان الحرب العالمية الثانية على يد ألمانيا النازية، إلا أن حضورها الدولي في عالم ما بعد الحرب كإحدى القوى الكبرى في السياسة الدولية استمر لفترة معتبرة، مرتكزًا على إرثها الاستعماري ونفوذها الثقافي وكذلك قوتها الاقتصادية. هذا الوضع عرف بعض التغيير خلال العقد الأخير من خلال تراجع دور الدبلوماسية الفرنسية على مختلف الأصعدة، مما يطرح العديد من الأسئلة حول أسباب هذا التراجع عما بقي من إرث “فرنسا الإمبراطورية”.
ارتكز الحضور الفرنسي في الساحة الدولية بشكل كبير على إرث المرحلة الاستعمارية. فرغم خروج فرنسا عسكريًا وسياسيًا من أغلب مستعمراتها السابقة في إفريقيا وآسيا والأمريكيتين، إلا أن نفوذها الثقافي والسياسي والعسكري استمر في معظم تلك المستعمرات، سواء عبر التدخلات المباشرة بتدبير الانقلابات، أو من خلال دعم النخب السياسية الموالية لها، أو عبر الحضور الاقتصادي من خلال شركاتها واستثماراتها الكبرى. كما اعتُبرت المنظمة الفرنكوفونية أحد الأذرع الأساسية للهيمنة الثقافية التي أدارت من خلالها فرنسا حضورها المستمر في مستعمراتها السابقة.
من المهم أيضًا النظر إلى الأدوات الاقتصادية التي وظفها “الكيدورسي” لتكون أحد الوسائل الفعالة في تحقيق أهداف السياسة الخارجية الفرنسية. فقد تجاوزت المساعدات الإنمائية الفرنسية سقف العشرة مليارات يورو سنة 2018، وهي أحد أشكال القوة الاقتصادية الناعمة، دون التقليل من أهمية مكانة فرنسا في منظومة الأمم المتحدة حيث تعتبر أحد الأعضاء الدائمين في مجلس الأمن المتمتعين بحق النقض، ما أهّلها لأن تكون طرفًا وازنًا في صناعة الكثير من القرارات الدولية، وكذلك دورها الأساسي في محيطها الأوروبي المباشر لكونها أحد الأقطاب الفاعلة في مؤسسات الاتحاد الأوروبي.
بشكل عام، ارتكز الحضور الدولي للدبلوماسية الفرنسية خلال العقود الماضية على أربع مقومات أساسية:
الأولى مكانتها التاريخية ودورها في النظام الدولي، خصوصًا دورها في صياغة قواعد المنظومة الدولية ما بعد الحرب العالمية الثانية.
ثانيًا، مؤسساتها الوطنية القوية وهيئات الخبراء وكبار الموظفين الذين يوفرون قاعدة بيانات هامة ويشكلون قوة تفكير هائلة تطرح دائمًا بدائل وتحاليل لصانع القرار.
ثالثًا، التمثيل الفاعل والقوي في مختلف المؤسسات العالمية والإقليمية، سواء العضوية الدائمة في مجلس الأمن أو دورها القيادي داخل الاتحاد الأوروبي.
رابعًا، امتلاك مقومات القوة الصلبة (القوة العسكرية، خصوصًا السلاح النووي) والقوة الناعمة المتمثلة في اللغة والثقافة الفرنسية.
يمكن تقدير حجم تراجع الحضور الفرنسي في الساحة الدولية خلال الفترة الماضية من خلال قياس تضاؤل تأثيرها في الملفات السياسية الكبرى في العالم، خصوصًا على صعيد الحرب الروسية الأوكرانية التي تعتبر مقياسًا مهمًا لحضور الدبلوماسية الفرنسية، حيث شكّل الوضع الأزموي في القارة الأوروبية فرصة لتقدير حجم التأثير الفرنسي، إذ كانت فرنسا حتى وقت قريب متزعمة لما عُرف بتوجه الاستقلال الاستراتيجي الأوروبي، الداعي للخروج من المظلة الأمريكية والبحث عن صناعة أمن أوروبي مستقل عن الرؤية الأمريكية.
منذ بداية الأزمة الأوكرانية، انتهجت السياسة الخارجية الفرنسية منحى مختلفًا عن موقف معظم دول أوروبا الغربية وكذلك موقف الولايات المتحدة الأمريكية، حيث قدر الرئيس ماكرون أن السبب الحقيقي للأزمة هو تغييب روسيا عن أي دور أو إطار مقبول للأمن الأوروبي. ومن ثم، تصور ماكرون أن الحل يكمن في إعادة النظر في الأمن الأوروبي بإيجاد دور مناسب لروسيا فيه، وسعى للعب دور الوسيط بين طرفي الصراع لإيجاد حل سلمي للأزمة، بعيدًا عن الموقف الأمريكي الذي اتجه مباشرة لدعم أوكرانيا سياسيًا وعسكريًا.
ولم يكن الفشل الفرنسي في الوصول إلى حل للأزمة الأوكرانية وحده المؤشر على حقيقة ضعف وتراجع تأثير فرنسا في مسرح الأحداث الدولية، بل كان من اللافت أيضًا للمتابعين في السنوات الأخيرة فقدان القوة الاستعمارية السابقة لمناطق نفوذها التقليدية، في إفريقيا على وجه التحديد. إذ بعد موجة التحولات السياسية التي أطاحت بحلفائها في مالي والنيجر وبوركينافاسو، جاء الدور أيضًا على السنغال وتشاد -المستعمرات السابقة- التي شهدت تغييرًا في قياداتها التاريخية التي عرفت بالولاء التام لباريس.
لم تحقق السياسة الخارجية الفرنسية في موضوع مكافحة الإرهاب في منطقة الساحل الإفريقي أهدافها المرجوة، حيث منيت حملتها العسكرية “برخان” التي استمرت منذ سنة 2013 حتى إعلان ماكرون نهايتها في سنة 2022 بفشل ذريع، تجلى في انسحاب معظم القوات الفرنسية من المنطقة دون تحقيق النتائج المنتظرة. كذلك الأمر بالنسبة إلى تراجع دور الدبلوماسية الفرنسية في مسار التسوية السلمية في المنطقة العربية، وضعف دورها الوسيط الذي من المفروض أن يسهم في استتباب السلام في منطقة الصراع الفلسطيني – الإسرائيلي.
على الصعيد الأوروبي، لم تعد الثنائية الألمانية الفرنسية تشكل القطب الأساسي الذي تدور حوله سياسات الاتحاد الأوروبي. فمنذ أزمة خروج بريطانيا، تعيش المنظومة الأوروبية حالة من التصدع يعززها صعود قوى اليمين المتطرف في مختلف الدول الأوروبية، ما يهدد مشاريع تعزيز التكامل الأوروبي بشكل جدي.
إن عوامل تراجع نفوذ فرنسا في المسرح الدولي ترتبط بعوامل عديدة، أهمها تلك المتصلة بدور ومكانة الرئيس الفرنسي. فقد درجت التقاليد الدستورية في فرنسا على إسناد ملف السياسة الخارجية لشخص رئيس الجمهورية، وهي سمة الأنظمة الرئاسية، لكنها في فرنسا أكثر وضوحًا في الحالة الفرنسية حيث ترتبط توجهات تلك السياسة مباشرة بمواقف الرئيس الذي يتمتع من خلال دستور الجمهورية الخامسة بصلاحيات واسعة في مجال تحديد أولويات الدبلوماسية الفرنسية.
وتبدو العوامل الشخصية لصانع السياسة الخارجية مؤثرة في الحالة الفرنسية. فمنذ فترة ولاية فرنسوا هولاند (2012-2017) ثم ولاية الرئيس الحالي منذ 2017، لا تشكل نزعة الحضور والتأثير في السياسة الخارجية عناصر مهمة في التكوين السياسي للرئيسين، على عكس المراحل السياسية السابقة التي كان فيها لشخصية شارل ديغول أو فرانسوا ميتران، أو حتى جاك شيراك ثقل سياسي معتبر وقدرة كبيرة على المناورة في العلاقات الدولية.
تشير الأرقام الاقتصادية أيضًا إلى تباطؤ ملحوظ في الاقتصاد الفرنسي وتراجع كبير لمعدلات النمو الاقتصادي، حيث أوردت الحكومة الفرنسية رقم 0.3 في المائة معدلا للنمو سنة 2023 (البنك المركزي الفرنسي)، صاحبه تقلص لحصة الشركات الفرنسية في مختلف الأسواق التقليدية لصالح منافسين جدد، وهو أمر انعكس على قدرة الحكومة الفرنسية على حشد الموارد اللازمة للاستمرار في انتهاج سياسة خارجية فعالة ومؤثرة.
ما من شك أن الاتجاهات الكبرى لثورة المعلومات والثورة التكنولوجية الهائلة قد شكلت أيضًا أسبابًا مهمة لبروز لاعبين كبار على الساحة الدولية لم تواكب فرنسا نسقهم في المنافسة، خصوصًا في ظل مجتمع داخلي مأزوم منشغل بمشاكل الهوية والاندماج، يهدده النزعة الشعبوية وخطابات الكراهية التي يبثها اليمين المتطرف ذو الحضور المتصاعد في الانتخابات الفرنسية.
وهكذا فإن الدبلوماسية الفرنسية بات تعيش مراحل خطيرة من التراجع والانكفاء، وعلى صناع القرار في مستعمراتها السابقة الكف عن النظر إليها على أنها قوة مهينة، لم تعد حقيقة موجودة إلا في أذهان بعض النخبة المستلبة الغارقة في سجون الماضي الاستعماري.