شهد الحضور الجزائري خلال السنوات الأخيرة زخما كبيرا، كثمرة لخِطط استهدفت ترتيب أولوياتها الوطنية، ورسّخت مكانتها كفاعل أساسي في القضايا الإقليمية والدولية. فمن معارك التنمية وإعادة هيكلة الاقتصاد إلى استعادة الدور الدبلوماسي بكل ثقله التاريخي، أصبح للجزائر اليوم دورا مؤثرا، لا تكتفي بمتابعة الأحداث، بل تشارك في رسم السياسات وتحديد المواقف، مدافعة عن المبادئ التي ظلت جزءًا من هويتها الثورية.
فقد تمكنت السياسة التي انتهجها رئيس الجمهورية عبد المجيد تبون ، من بعث الأمل مرّة أخرى، وذلك بانتشال الداخل من وحل الفساد ومتاهة الضياع، وتطهير قنوات الاتصال والتواصل الرابطة بين مؤسسات الدولة وعموم المواطنين، وتنقيتها من دنس البيروقراطية والتعقيد والمحاباة، وغيرها من الأمراض التي أدّت إلى التأسيس لعلاقة مرضية بين الشعب والدولة، عشّشت وباضت وفرّخت، وهدّت كل أركان الثقة والاحترام.
لقد أعاد الرجل فعلا، وليس قولا فقط، للدولة هيبتها واحترامها، وذلك من خلال جملة المشاريع الاستراتيجية الاقتصادية الخلّاقة، والاجتماعية العملاقة، والتي سهر شخصيا على إنجازها في الآجال المحددة وبالمعايير المتفق عليها.
من شق الصحاري وتأسيس امبراطورية الصلب والحديد بغارا جبيلات، المشروع الضخم الذي حلم بإنجازه الرئيس الراحل “هواري بومدين”.. إلى محطات تحلية مياه البحر وكسب معركة الجفاف والعطش.. إلى فرش البساط الأخضر وبسطه في قلب الصحراء القاحلة، حرثا وفلحا وزراعة وإنتاجا.. إلى المدن الذكية وبعث مشروع “بوغزول” المدينة الحلم.. إلى مد الخطوط الحديدية عبر طول البلاد وعرضها، إلى ربط الطرق السيارة ببعضها.. إلى الملاعب الكروية والمنشآت الرياضية.. إلى الصرح الأعظم المسجد الجامع، ودرع حمى الأمة في دينها ومذهبها وتراثها الروحي المقدس.. إلى غيرها من المشاريع قيد التخطيط وقيد الإنجاز، يتحقق حلم الجزائر القوية في العالم، ويرتسم على رأس إفريقيا بكل جدارة واستحقاق قيادة وقدوة.
كل هذا الزخم الداخلي، لم يشغل الرئيس “تبون” عن بعث الجبهة الدبلوماسية الخارجية، وفتحه معركة إعادة الاعتبار للوزن الجزائري إقليميا، قاريا وعالميا. بدأها باختيار نخبة من الكفاءات الوطنية، جعل على رأسها الوزير أحمد عطاف الدبلوماسي المخضرم صاحب الهمّة العريقة واللغة الرقيقة والعبارة الدقيقة.. مرفوقا بالسفير عمار بن جامع الذي عين ليمثل الجزائر في الأمم المتحدة، فإذا به يتحول إلى مكسب ذا شأن عظيم بالنسبة لمجلس الأمن وللمؤسسات الأممية الأخرى، كلسان حزم وصوت عزم يزأر ولا يبالي ويجأر ولا يداري.. ضمير الإنسانية الناطق ولسانها الصادق، بكل أمانة لرسالة الجزائر، وبكل إخلاص للنزعة الثورية التي جبلت عليها.
من معركة كواليس القمة الإفريقية، والنصر المؤزر الذي تحقق على جبهتين؛ الفوز بمناصب رفيعة على مستوى الاتحاد الافريقي وهيئاته.. والتمكن من طرد الكيان الصهيوني، وتحجيم دور أنصاره داخل الاتحاد وإبعادهم عن مراكز صنع القرار الإفريقي.
ذلك أن الأفارقة قد أدركوا وبكل وضوح، بأن لا صوت يعدل صوت الجزائر في الدفاع عن حقوق المستضعفين في الأرض وإسماع صوتهم، ولا لسان أبلغ من لسان الجزائر في التعبير عن هموم القارة، وحمل رسالتها الإنسانية بكل عزم واستماتة وتصميم، أمام المؤسسات الدولية والهيئات الأممية المعنية.
إلى مجلس الأمن الدولي، ومعركة الصمود الخالدة التي قادتها الجزائر بقيادة وزير خارجيتها وممثلها لدى الأمم المتحدة، وبقية النواب والمكلفين بمهام لدى الهيئات والمؤسسات الأممية الأخرى، معركة ضد الغطرسة والصلف والظلم والطغيان.. ضد الاضطهاد والهمجية والوحشية والبربرية.. ضد الخضوع والخنوع والجبن والرهاب.. ضد الصهيونية العالمية وتوابعها في العواصم الغربية، والتي فضحت الأساليب غير القانونية المتبعة من قبل بعض الدول دائمة العضوية، في التغطية على جرائم الكيان الصهيوني، وحمايته في كل مرّة وتمليصه من ربق الحساب.
آخر حلقات هذه المعركة، دعوة الجزائر الأمم المتحدة إلى إنشاء لجنة تحقيق دولية، تعنى بالتحقيق في الجرائم الإنسانية التي نفذها الكيان الصهيوني بحق الشعب الفلسطيني، سواء بقطاع غزّة أثناء العدوان الهمجي، أو بالضفة الغربية والقدس وغيرها من الأراضي المحتلة، كما هو حاصل في هذه الأثناء، مع التشديد على تحديد المسؤوليات وتحميل المسؤولين على تلك الجرائم تبعات خرقهم الحق والقانون.
وطبعا، كان لممثل الجزائر، السفير عمار بن جامع، الدور المحوري في إبلاغ نظرائه في المجلس، ومن خلالهم الرأي العام العالمي، بفحوى الخطاب القاصم الذي أكّد فيه على أنه: “.. يجب تشكيل لجنة دولية لإجراء تحقيقات حول جميع الادعاءات المتعلقة بالوضع في الأراضي الفلسطينية المحتلة.. كل روح بريئة أزهقت تستحق إجراء تحقيق شفاف ومستقل..”.. مستطردا في ذات السياق، بأن أدنى ما تطالب به الجزائر، هو محاسبة مرتكبي الجرائم بحق الأبرياء في غزّة وفلسطين؛ “.. مهما كانوا، يجب أن يخضعوا للمساءلة..”.. ذلك أن الجزائر ظلت، ولا زالت وستبقى دوما خارج منطق ازدواجية المعايير.
مداخلة أشبه ما تكون بمرافعة قانونية ألقاها السفير عمار بن جامع، أمام أعضاء مجلس الأمن، خاطب من خلالها الضمير الإنساني والقانون الدولي والمواثيق الأممية، مستحضرا الأرقام الفظيعة والقرائن الشنيعة والشواهد المفزعة، حتى لا يدع أدنى مجال للمجتمع الدولي، بأن يتغاضى أو يتجاوز أو لا يلقي للأمر بالا.. كل ذلك، حتى لا يتجرأ مجرم آخر في المستقبل، وتحت أي غطاء وفي أي مكان، على ارتكاب جرائم ضد الإنسانية مثلما فعل الكيان الصهيوني، ثم يتملص من العقاب.
إن الجزائر التي بلغت هذا المستوى الرفيع في التعاطي مع المسائل والملفات الدولية المعقدة، وتحريرها مثل هذا الخطاب الوثيقة في لغته وفي مفرداته، في معانيه وفي مقاصده، في شموليته وفي دقته، في نصه وفي روحه، في شجاعته وفي وضوحه.. حري بها أن تتبوأ مقعدا دائما في مجلس الأمن الدولي، ليتسنى لها الدفاع بأكثر فاعلية عن حقوق المستضعفين في الأرض واسماع صوتهم بصورة دائمة ومتواصلة.