يشكل قرار تشاد والسنغال إنهاء الوجود العسكري الفرنسي على أراضيهما منعطفًا حاسمًا في العلاقات بين فرنسا والدول الإفريقية، ويعكس تغيرات عميقة في موقف العديد من بلدان القارة التي باتت ترفض منطق الهيمنة الاستعمارية، ما يزيد من عزلة باريس على الصعيد الإفريقي.
وعلى الرغم من أن باريس لطالما بررت وجودها العسكري بمهمة ما تسميه “حماية الأمن الإقليمي ومكافحة الإرهاب”، إلا أن هذه العلاقة لم تكن متوازنة، بل مشوهة وذات أبعاد خطيرة، فقد رافق هذا الوجود تهميش واضح للسيادة الوطنية للدول الإفريقية واستغلال لمواردها الطبيعية.
شهدت العقود الأخيرة تصاعد الأصوات المعارضة للوجود الفرنسي، ما انعكس في التحولات السياسية العميقة التي تعيشها القارة. وبينما تبرر فرنسا تدخلها العسكري في منطقة الساحل بمواجهة الإرهاب، أثبتت التجارب فشل عملياتها العسكرية في تحقيق الاستقرار المنشود، بل أدت إلى زيادة الهجمات الإرهابية وتفاقم الأوضاع الأمنية مع تصاعد مشاعر الغضب بين الشعوب الإفريقية، مما دفع العديد من دول المنطقة إلى تقليص أو إنهاء التعاون العسكري مع باريس.
ومع تراجع النفوذ الفرنسي، برزت قوى دولية مثل روسيا والصين التي تقدم نماذج مختلفة للتعاون مع الدول الإفريقية، مع ملاحظة أن هذه النماذج قد لا تقدم هي الأخرى حلولا قائمة على الشراكة الحقيقية وعدم التدخل في الشؤون الداخلية، لكنها –في كل الأحوال- أقل سوءًا من النموذج الفرنسي.
ازدادت حدة المظاهرات الشعبية المناهضة للوجود الفرنسي في دول مثل النيجر ومالي، ما دفع الحكومات الإفريقية للاستجابة لضغوط شعوبها. وتعكس هذه التحركات الشعبية حالة من السخط على الهيمنة الفرنسية والدعوة إلى استقلالية أكبر في القرارات السياسية والعسكرية، وهو ما يزيد من عزلة باريس في القارة السمراء.
باريس تتكبّد خسارة استراتيجية
إن إنهاء الوجود العسكري الفرنسي في تشاد والسنغال يمثل خسارة استراتيجية كبيرة لفرنسا، خاصة أن هذا الوجود كان أداة مهمة لتعزيز نفوذها الإقليمي. كما أن فرنسا تعتمد بشكل كبير على نهب الموارد الطبيعية في القارة الإفريقية، مثل الطاقة والمعادن، وقد يزيد هذا القرار من صعوبة الحفاظ على هذه الامتيازات في المستقبل.
يشكل إنهاء الاعتماد الإفريقي على فرنسا فرصة لإعادة صياغة العلاقات الدولية للقارة. فقد أصبحت الدول الإفريقية أكثر قدرة على البحث عن شركاء جدد يقدمون حلولًا تتماشى مع احتياجاتها التنموية. كما أن هذه التحولات قد تعزز التعاون الإقليمي داخل القارة، مما يمكنها من مواجهة التحديات المشتركة وتحقيق الأمن والاستقرار.
إعادة النظر في العلاقة مع فرنسا تتيح للدول الإفريقية فرصة أكبر للاستثمار في قدراتها الدفاعية والاقتصادية، مما يقلل من الحاجة للاعتماد على قوى خارجية. ويمكن أن تتحول هذه الخطوات إلى فرصة استراتيجية لتعزيز التنمية المستدامة، مما يساهم في بناء قارة أكثر استقلالية وثراء.
ويمثل قرار تشاد والسنغال بإنهاء الوجود العسكري الفرنسي نقطة تحول حاسمة في العلاقات الإفريقية الفرنسية. فهو ليس فقط مؤشرًا على تراجع النفوذ الفرنسي في القارة، بل يعكس أيضًا نزعة إفريقية متزايدة نحو تحقيق استقلالية سياسية وعسكرية. هذا التحول يضع باريس أمام تحديات كبيرة، تتطلب منها مواجهة حقيقتها وإعادة تقييم استراتيجياتها في واحدة من أهم القارات من الناحية الاقتصادية والجيوسياسية.