مع استمرار لعبة شدّ الحبل بين واشنطن وطهران، تشهد المنطقة تطورات متسارعة تعكس تشابك المصالح الإقليمية والدولية، فمنذ انسحاب الإدارة الأمريكية، خلال العهدة الأولى للرئيس دونالد ترامب، من الاتفاق النووي عام 2018، دخلت العلاقات بين البلدين في مرحلة جديدة من التصعيد السياسي والعسكري، إذ تبنّت الولايات المتحدة سياسة “الضغوط القصوى” لكبح الطموحات النووية الإيرانية، فيما ردّت طهران بتعزيز قدراتها الدفاعية وتوسيع نطاق تحالفاتها الدولية، ما جعل المواجهة بين الطرفين تأخذ أبعادًا أكثر تعقيدًا.
ورغم تعاقب الإدارات الأمريكية، فإن التوجّه العام في واشنطن ظلّ متسمًا بالحزم تجاه طهران، سواء عبر فرض المزيد من العقوبات الاقتصادية أو من خلال التهديد بالخيار العسكري، فيما تؤكد إيران أنها لن ترضخ لأي تفاوض تحت الإكراه، معتبرةً أن العقوبات لن تؤدي إلا إلى تعزيز قدرتها على التكيّف والالتفاف عليها. وفي الوقت الذي تسعى فيه واشنطن إلى احتواء النفوذ الإيراني في الشرق الأوسط، خاصةً في العراق وسوريا ولبنان، تعمل طهران على تعزيز وجودها الإقليمي من خلال دعم حلفائها وترسيخ استراتيجيتها الدفاعية، الأمر الذي يجعل المواجهة بين الطرفين تمتد إلى ساحات متعددة، تشمل الدبلوماسية والعقوبات وحتى الاستعدادات العسكرية، خصوصًا أن (إسرائيل) باتت تدفع نحو مزيد من التصعيد، لولا أن التحركات الدبلوماسية الأخيرة تشير إلى تغيّر طفيف في استراتيجيتها، حيث أصبحت أكثر انخراطًا في الجهود السياسية، بالتوازي مع إبقاء الخيار العسكري مطروحًا. وبينما يتعقّد المشهد السياسي والعسكري، يبقى التساؤل الرئيسي: إلى أين تتجه هذه الأزمة؟ هل ستشهد المنطقة تصعيدًا غير مسبوق يؤدي إلى مواجهة مباشرة، أم أن الجهود الدبلوماسية ستنجح في تهدئة الأوضاع وتجنّب صدام كارثي؟
هذا التقرير يسلّط الضوء على آخر المستجدات في الصراع الأمريكي-الإيراني، وانعكاساته على توازن القوى في الشرق الأوسط، في ظل استمرار لعبة الشدّ والجذب بين الطرفين.
في ظل تصاعد التوتر بين واشنطن وطهران، تتسارع الأحداث بين التصريحات النارية والتحركات العسكرية، بينما تسعى كل من واشنطن وطهران إلى تعزيز مواقفهما في مواجهة الضغوط المتزايدة. وبينما تواصل الإدارة الأمريكية سياسة “الضغوط القصوى” لكبح الطموحات النووية الإيرانية، تؤكد طهران رفضها لأي تفاوض تحت الإكراه، مستندةً إلى تعزيز قدراتها الدفاعية وتوسيع تحالفاتها الدولية. وفي تقرير “إضاءات” لعدد هذا اليوم من “الأيام نيوز”، نستعرض آخر التطورات السياسية والعسكرية بين الطرفين، وانعكاساتها على مستقبل المنطقة، في ظل موازين القوى المتغيرة والصراع المستمر بين التصعيد الدبلوماسي والخيارات العسكرية.
وفي هذا السياق، أكد رئيس مجلس الشورى الإيراني، محمد باقر قاليباف، أمس الأحد، أن طهران لن تنتظر إشارات من واشنطن، بل ستواصل إحباط العقوبات المفروضة عليها من خلال تعزيز قدراتها الداخلية وتوسيع تحالفاتها الخارجية. واعتبر قاليباف أن سياسة الرئيس الأمريكي دونالد ترامب تجاه الدول الأخرى تُظهر بوضوح أن دعواته للحوار ليست سوى غطاء لخداع إيران ونزع سلاحها، في محاولة لانتزاع تنازلات غير مبررة.
وشدد المسؤول الإيراني على أن بلاده ترفض أي شكل من أشكال التفاوض القسري الذي يُفرض تحت التهديد والضغط، مؤكداً أن “المفاوضات التي تهدف إلى فرض تنازلات لن تؤدي إلا إلى إذلال الشعب الإيراني دون أي رفع حقيقي للعقوبات”. جاءت هذه التصريحات في أعقاب تهديدات جديدة أطلقها البيت الأبيض، حيث صرّح المتحدث باسم مجلس الأمن القومي الأمريكي، برايان هيوز، بأن الولايات المتحدة مستعدة للتعامل مع إيران إما عبر القوة العسكرية أو من خلال التوصل إلى اتفاق، وهو ما أكده ترامب في مقابلة مع قناة “فوكس بيزنس”، حين شدد على أن بلاده تأمل أن تضع إيران مصالح شعبها فوق ما وصفه بالإرهاب.
خياران لا ثالث لهما
وفي هذا السياق، كشف ترامب يوم الجمعة الماضي عن أنه بعث برسالة مباشرة إلى المرشد الأعلى الإيراني، آية الله علي خامنئي، يعرض فيها خيارين لا ثالث لهما: إما الدخول في مفاوضات حول البرنامج النووي الإيراني أو مواجهة عمل عسكري أمريكي محتمل. ورداً على ذلك، صرّح خامنئي، في خطاب رسمي نقلته وسائل الإعلام الإيرانية، بأن عرض واشنطن للتفاوض لا يهدف إلى إيجاد حلول للقضايا العالقة، بل يسعى إلى فرض إرادة أمريكية على إيران. وأضاف أن إصرار بعض القوى العظمى على التفاوض لا ينبع من نوايا حسنة، بل يأتي في إطار سعيها لممارسة الهيمنة وفرض توقعاتها على الآخرين.
وأوضح خامنئي في خطابه أن إيران لن تسمح بأن تكون المفاوضات وسيلة لإخضاعها، مشدداً على أن القضية لا تقتصر فقط على الملف النووي، بل تمتد إلى قضايا أخرى، مثل برنامجها الصاروخي، الذي أعلنت طهران مراراً أنها لن تقبل بوضعه تحت أي قيود. كما أكد الرئيس الإيراني، مسعود بزشكيان، أن إيران قادرة على تجاوز جميع العقبات والتحديات، مشيراً إلى أن أي قوة خارجية لا يمكنها كبح إرادة الشعب الإيراني طالما كان موحداً في موقفه. ودعا بزشكيان إلى تعزيز التكاتف الوطني لمواجهة الضغوط الخارجية، محذراً من أن واشنطن تعول على الخلافات الداخلية لتحقيق أهدافها.
من جانبه، صرّح وزير الخارجية الإيراني، عباس عراقجي، بأن إيران ترفض الدخول في أي مفاوضات مباشرة مع الولايات المتحدة طالما استمرت سياسة “الضغوط القصوى” التي ينتهجها ترامب. وأكد عراقجي أن الدبلوماسية يجب أن تقوم على أساس الاحترام المتبادل وليس على سياسة الإملاءات. وبالرغم من هذه التصريحات الحازمة، نفت بعثة إيران في الأمم المتحدة تلقيها أي رسالة رسمية من الرئيس الأمريكي بشأن التفاوض حول الملف النووي.
إفلاس إيران
وفي سياق متصل، أثارت تصريحات وزير الخزانة الأمريكي، سكوت بيسنت، استياءً كبيراً في طهران، بعدما أعلن أن بلاده ستعمل على “إفلاس إيران مجدداً” عبر فرض مزيد من العقوبات الاقتصادية. ووصف المتحدث باسم الخارجية الإيرانية، إسماعيل بقائي، هذه التصريحات بأنها دليل واضح على استمرار العداء الأمريكي تجاه الشعب الإيراني. وأضاف أن محاولات واشنطن لتجويع الإيرانيين وإضعاف اقتصادهم تُعد جرائم ضد الإنسانية وانتهاكاً صارخاً للقانون الدولي. وأكد بقائي أن الشعب الإيراني لن يخضع لأي ضغوط اقتصادية غير قانونية، وسيواصل الصمود والمقاومة في وجه هذه التحديات.
وتأتي هذه التوترات في وقت يستمر فيه الجدل حول مستقبل الاتفاق النووي الإيراني. فقد سبق أن أعلن ترامب استعداده للتوصل إلى اتفاق جديد مع طهران، لكنه عاد ليشدد على سياسة “الضغوط القصوى” الهادفة إلى عزل إيران عن الاقتصاد العالمي وتقويض صادراتها النفطية. وخلال فترة ولايته الأولى بين عامي 2017 و2021، انسحب ترامب من الاتفاق النووي المبرم عام 2015، الذي كان يهدف إلى فرض قيود صارمة على البرنامج النووي الإيراني مقابل تخفيف العقوبات الاقتصادية.
“إسرائيل” تفقد البوصلة
في ظل التطورات المتسارعة، يبدو أن (إسرائيل) أعادت النظر في استراتيجيتها تجاه الملف النووي الإيراني، منتقلة من نهج التهديد العسكري إلى دعم المسار الدبلوماسي بحذر. ووفقًا للمحلل السياسي الإسرائيلي إيتمار آيخنر، فإن (تل أبيب)، التي عارضت بشدة أي اتفاق نووي مع طهران في السابق، باتت الآن أكثر ميلًا إلى تبني الحلول الدبلوماسية، شرط أن تضمن منع إيران من امتلاك أسلحة نووية.
وكانت (إسرائيل) قد قدمت في السنوات الماضية ما وصفه رئيس وزرائها مجرم الحرب بنيامين نتنياهو بـ “الأرشيف النووي الإيراني”، معتبرةً أنه دليل على انتهاكات طهران للاتفاق النووي، مما ساهم في انسحاب الولايات المتحدة منه عام 2018. وعلى الرغم من تفضيلها التاريخي للخيار العسكري، دفع بدء محادثات غير مباشرة بين واشنطن وطهران، عبر وسيط سويسري، (إسرائيل) إلى إعادة تقييم موقفها.
ووفقًا لتقرير نشرته صحيفة “واشنطن بوست”، وضعت (تل أبيب) سابقًا خططًا لهجوم مشترك مع الولايات المتحدة يستهدف المنشآت النووية الإيرانية، خاصة بعد الهجوم الذي وقع في أكتوبر الماضي. إلا أن مخاوفها بالإضافة إلى التطورات الأخيرة دفعتها إلى منح الفرصة للمسار الدبلوماسي، دون التخلي عن التهديد بالخيار العسكري تمامًا.
رغم هذا التحول النسبي في النهج الصهيوني، لا تزال (تل أبيب) تُبقي خيار الضربة العسكرية مطروحًا، حيث أجرت مؤخرًا مناورات جوية مشتركة مع الولايات المتحدة، شملت طائرات مقاتلة صهيونية وقاذفات أمريكية، في رسالة واضحة لطهران بأن الخيار العسكري لا يزال قائمًا.
حزام الأمن-2025
في المقابل، حذّر وزير الخارجية الإيراني عباس عراقجي من أن أي هجوم يستهدف المنشآت النووية الإيرانية سيؤدي إلى إشعال المنطقة بأكملها، مؤكدًا أن بلاده سترد بحزم على أي اعتداء. ففي خطوة تعكس تعزيز التعاون الدفاعي بين طهران وحلفائها، تستعد إيران، إلى جانب الصين وروسيا، لإجراء مناورات بحرية مشتركة في المحيط الهندي خلال شهر مارس الجاري.
ووفقًا لوكالة “شينخوا” الصينية، ستحمل التدريبات اسم “حزام الأمن-2025″، وستُجرى بالقرب من ميناء تشابهار بجنوب شرق إيران، بمشاركة مدمّرة وسفينة إمداد من الأسطول الصيني. وأعلنت وزارة الدفاع الصينية، أمس الأحد، أن هذه المناورات ستشمل تدريبات على استهداف أهداف بحرية، والتعامل مع الأضرار، وعمليات البحث والإنقاذ المشتركة، وذلك بهدف تعزيز التعاون العسكري والثقة المتبادلة بين الدول المشاركة.
من جهتها، أفادت وكالات أنباء إيرانية بأن التدريبات ستنطلق غدًا الثلاثاء، بمشاركة سفن تابعة للقوات البحرية لكل من “الجيش” الإيراني والحرس الثوري، إلى جانب القوات البحرية الروسية والصينية. ووفقاً لخبير صيني، ستساعد هذه المناورة في حماية الأمن في المنطقة الاستراتيجية المهمة لنقل الطاقة، بحسب صحيفة غلوبال تايمز الصينية. وستشمل التدريبات ضرب أهداف بحرية، وعمليات صعود وتفتيش، وسيطرة على الأضرار، بالإضافة إلى عمليات البحث والإنقاذ المشتركة، وفقاً لبيان الوزارة. وتهدف هذه المناورة إلى تعزيز الثقة العسكرية المتبادلة والتعاون العملي بين القوات المشاركة من الدول الثلاث، بحسب البيان.
في تطور قد يزيد من تعقيد المشهد الإقليمي، أجرى “الجيش” الصهيوني محاكاة لعملية إنزال بري داخل إيران، ضمن تدريبات مكثفة في جبل الشيخ السوري، الذي يتميز بتضاريس مشابهة لتلك الموجودة في إيران. ووفقًا للتقارير العسكرية الصهيونية، هدفت هذه التدريبات إلى اختبار جاهزية القوات الصهيونية لأي تصعيد محتمل ضد طهران، خصوصًا في ظل الحديث المتزايد عن احتمال تنفيذ ضربات على منشآتها النووية. وأكد مسؤولون عسكريون إسرائيليون أن الفرصة الحالية تُعد الأنسب لتوجيه ضربة استباقية، محذرين من أن أي تأخير قد يزيد من تعقيد الوضع الأمني.
وفي المقابل، تؤكد إيران أنها لن تقف مكتوفة الأيدي أمام أي تهديد عسكري، إذ صرّح مجتبي فردوسي، مدير دراسات شؤون غرب آسيا وشمال إفريقيا في وزارة الخارجية الإيرانية، بأن بلاده لن تتردد في الرد على أي اعتداء. وقال فردوسي، خلال مقابلة تلفزيونية: “أي تهديد يستهدف منشآتنا النووية أو مواقعنا الاستراتيجية سيُواجه برد ساحق. جميع القواعد العسكرية الأمريكية في المنطقة، وكذلك المفاعل النووي الصهيوني، ستكون في مرمى صواريخنا بعيدة المدى”. وأضاف أن إيران تمتلك قدرات دفاعية متطورة تمكّنها من الرد بفعالية على أي مغامرة عسكرية صهيونية.
ضغوط مكثفة عبر العراق
وبينما تتصاعد التوترات العسكرية بين إيران والكيان، تستمر الولايات المتحدة في فرض ضغوط اقتصادية وسياسية خانقة على طهران، ليس فقط عبر العقوبات المباشرة، بل أيضًا من خلال التضييق على الدول التي تعتمد على التعاون الاقتصادي مع إيران. ففي خطوة جديدة ضمن سياسة “الضغوط القصوى”، أعلنت وزارة الخارجية الأمريكية عدم تجديد الإعفاء الذي كان يسمح للعراق بدفع ثمن وارداته من الكهرباء الإيرانية، ما يزيد من التحديات الاقتصادية لطهران.
وأوضح متحدث باسم الخارجية الأمريكية أن القرار يهدف إلى منع إيران من الحصول على أي شكل من أشكال الإغاثة الاقتصادية أو المالية، مؤكدًا أن واشنطن لن تسمح لطهران بامتلاك سلاح نووي، وستواصل فرض أقصى الضغوطات عليها لإجبارها على التخلي عن سياساتها في المنطقة.
من جانبه، وصف مستشار رئيس الوزراء العراقي للشؤون الخارجية، فرهاد علاء الدين، القرار الأمريكي بأنه يمثل “تحديات تشغيلية مؤقتة”، مؤكدًا التزام بغداد بتحقيق الاكتفاء الذاتي من الطاقة. كما شدد المسؤولون الأمريكيون على ضرورة تسريع الحكومة العراقية لخططها في تقليل الاعتماد على إيران، إذ أوضح متحدث الخارجية الأمريكية أن واردات الكهرباء الإيرانية تمثل 4% فقط من إجمالي استهلاك العراق، مما يعني أن تأثير القرار سيكون محدودًا، وفقًا للرؤية الأمريكية.
لكن القرار لم يقتصر على كونه أداة للضغط على إيران فقط، بل استُخدم أيضًا للضغط على الحكومة العراقية للسماح باستئناف صادرات النفط من إقليم كردستان عبر تركيا، وهي خطوة تسعى واشنطن من خلالها إلى زيادة الإمدادات في الأسواق العالمية، مما يساهم في كبح أسعار النفط، في الوقت الذي تعمل فيه على تقييد صادرات النفط الإيرانية.
ورغم هذا التصعيد، حرصت الولايات المتحدة على التأكيد على دعمها لجهود العراق في تطوير قطاع الطاقة، حيث أشارت وزارة الخارجية الأمريكية إلى أن هذه الخطوة توفر فرصًا للشركات الأمريكية للمساهمة في تعزيز إنتاج الكهرباء وتحسين شبكات الطاقة وربط العراق كهربائيًا بشركاء موثوقين.
في ظل هذه التطورات، بات المشهد أكثر تعقيدًا، إذ تتشابك التهديدات العسكرية مع الضغوط الاقتصادية في معادلة إقليمية غير مستقرة. فبينما توحي (إسرائيل) بأنها بصدد التحضير لتوجيه ضربة عسكرية ضد إيران، تواصل واشنطن تضييق الخناق على طهران من خلال العقوبات والسياسات الاقتصادية، ما يفتح الباب أمام تصعيد غير مسبوق قد يغير موازين القوى في المنطقة. فهل تتجه الأمور نحو مواجهة مباشرة، أم أن الخيارات الدبلوماسية لا تزال قائمة؟