في ظل الصراعات السياسية والعسكرية التي شهدها العالم، باتت “المرتزقة” المقاتلة والمسلحة، أمراً واقعاً في عصرنا الحالي، ولم تعد عملاً مخالفاً لقواعد الحروب أو الاتفاقات الدولية التي تهتم بقواعد الحرب، بل باتت الدول تُعلن عن مرتزقتها المتحاربين في بلدان مختلفة. وبعكس ما يظنه البعض، فإن الارتزاق ظاهرة قديمة عٌرفت على مدى العصور الماضية، إذ استخدمت الإمبراطورية البيزنطية في القرن الرابع عشر الميلادي المرتزقة لمساعدتها على القتال ضدّ الأتراك.
وخلال القرن الماضي، استخدمتهم المخابرات المركزية الأمريكية والشركات الأمنية الخاصة في حرب فيتنام. وتستخدم حالياً دول غربية المرتزقة لحماية مصالحها الاقتصادية والنفطية في إفريقيا وآسيا، ومن نماذج ذلك الشركات الأمنية في أفغانستان والعراق، حيث برزت قضية المرتزقة على السطح بشكل ملحوظ خلال السنوات الأخيرة خاصة في العراق.
فحديثاً، ظهر مفهوم عمل المرتزقة بالحروب بقوة عقب الاحتلال الأمريكي للعراق، متمثلاً بـ(بلاك ووتر) التي ضمت جنسيات مختلفة، لتقليل خسائر الجيش الأمريكي، وتبعتها شركات أخرى، لأنها تعفي الدول من المسؤولية”، أين عملت فيه نحو 60 شركة أمنية جميعها تعتمد على المرتزقة ويتقاضى أفرادها –الذين يتمتعون بالحصانة- رواتب عالية. وسنتحدث في عدد اليوم من “الأيام نيوز”، عن شركة “بلاك ووتر”، التي تورطت في جرائم قتل بحق مدنيين عراقيين إبان الاحتلال الأمريكي للعراق.
من هي “بلاك ووتر”؟
بلاك ووتر شركة أمريكية للخدمات الأمنية والعسكرية الخاصة، تقدم خدمات أمنية تعاقدية للحكومة الفدرالية الأمريكية والعديد من الدول الأخرى، وكذلك المؤسسات الخاصة والحكومية داخل أمريكا وخارجها، بعد موافقة حكومة الولايات المتحدة. وغيّرت اسمها إلى “إكس إي سيرفيسز” (Xe Services) بسبب ما لحقها من فضائح بعد الاحتلال الأمريكي للعراق.
وعادت في عام 2011، وغيرت اسمها مرة أخرى إلى “أكاديمي” (Academi) بعدما استحوذت عليها مجموعة شركات منافسة، ثم ضمت لمجموعة “كونستليس القابضة” (Constellis Holdings).
التأسيس
تأسست شركة أكاديمي (وكان اسمها بلاك ووتر) عام 1997 بولاية كارولينا الشمالية في الولايات المتحدة الأمريكية، وأنشأها إريك برانس، الذي كان ضابطا في مشاة البحرية الأمريكية “المارينز”. وبدأت تقديم خدماتها بصفتها شركة للأمن الخاص، وذلك من خلال توفير خدمات أمنية عسكرية خاصة للعديد من المؤسسات والمنظمات الأمريكية وغير الأمريكية، سواء داخل أمريكا أو خارجها.
بعد سنة من تأسيسها، اشترى إريك برانس سنة 1998 مساحة أرضية شاسعة تقارب 28 كيلومترا مربعا على الحدود بين ولايتي كارولينا الشمالية وفيرجينيا، وبنى فيها منشأة خاصة للتدريب تابعة لشركته، واتخذها مقرا رئيسيا لها، وأطلق عليها اسم “بلاك ووتر”، والتي تعني “المياه السوداء”، ويقال إنه استوحى الاسم من المياه العكرة التي كانت محيطة بمنشأة التدريب. وافتتحت المنشأة التدريبية رسميا في 15 ماي/أيار عام 1998، وكانت حينئذ تضم بحيرة اصطناعية وميادين رماية ومضمار قيادة في مقاطعتي كامدن وكوريتوك، وتعتبر أكبر منشأة للتدريب في البلاد.
المقر
يوجد المقر الرئيسي لشركة بلاك ووتر “أكاديمي” في ولاية كارولاينا الشمالية بالولايات المتحدة الأمريكية.
الموارد
تعتمد شركة “أكاديمي” في نشاطها على مرتزقة من المتقاعدين العسكريين والقوات الخاصة، الذين يقدر عددهم بنحو 21 ألف عنصر، يتقاضون أجورا عالية نظير خدماتهم. وإضافة إلى ذلك لديها أسطول لطائرات مروحية ومدفعية ووحدة محمولة جوا خاصة بالتجسس، كما تمتلك أكبر موقع للرماية في الولايات المتحدة الأمريكية.
أبرز المحطات
بعد سنتين من التأسيس، حصلت الشركة على أول عقد عمل لها مع الحكومة الأمريكية، في أكتوبر/تشرين الأول عام 2000، وذلك بعد محاولة تفجير حاملة الطائرات الأمريكية “يو إس إس كول” (USS Cole) قبالة السواحل اليمنية. وقدمت بلاك ووتر في بدايتها، خدمات أمنية للعديد من المنظمات الأمريكية، مثل وكالة الاستخبارات المركزية الأمريكية “سي آي إيه” (CIA)، كما كانت واحدة من بين عدة شركات أمنية خاصة وظفت بعد الغزو الأمريكي لأفغانستان.
وكانت “أكاديمي” ضمن أكثر من 60 شركة أمنية خاصة تعاقدت معها الحكومة أثناء الغزو الأمريكي للعراق سنة 2003، من أجل حراسة المسؤولين والمنشآت، وتدريب الجيش والشرطة العراقية بعد الإطاحة بنظام صدام حسين. وكان أول عقد عمل لها في العراق في صيف 2003، حينما فازت بصفقة بلغت قيمتها 21 مليون دولار من أجل توفير الأمن والحراسة للحاكم العسكري الأمريكي في العراق آنذاك بول بريمر.
في السنة نفسها تلّقت “أكاديمي” عقود عمل من وزارة الأمن الداخلي الأمريكية وبعض المؤسسات الخاصة، في أعقاب إعصار كاترينا الذي ضرب أمريكا، لحماية المرافق الحكومية ومؤسسات القطاع الخاص، كشركات الاتصالات والبتروكيميائيات وشركات التأمين. وجنت الشركة من وراء هذه العقود أكثر من مليار دولار أمريكي، وكانت تتألف حينها من 9 أقسام وشركة أخرى تابعة لها تسمى “بلاك ووتر فيهاكلز” (Blackwater Vehicles).
وفي يوليوز/جويلية عام 2004، حصلت أكاديمي على صفقة بقيمة 488 مليون دولار من وزارة الخارجية الأمريكية، مقابل تقديم خدمات الأمن والحماية في العراق وأفغانستان والبوسنة وإسرائيل لمدة عامين، جنبا إلى جنب مع شركتي “داين كورب” الدولية و”تريبل كانوبي”، وذلك بموجب العقد الشامل لـ”خدمات الحماية الشخصية العالمية” (WPPS) التابع لمكتب الأمن الدبلوماسي الأمريكي.
وفي ماي/أيار عام 2006، منحت وزارة الخارجية الأمريكية لشركة “أكاديمي” وشركتي “داين كورب” الدولية و”تريبل كانوبي”، عقدا للأمن الدبلوماسي في العراق، وشملت مسؤوليات شركة “أكاديمي”، بموجب هذا العقد، حماية سفارة الولايات المتحدة في العراق.
وفي خريف عام 2006، حصلت “بلاك ووتر” على منشأة تدريب أخرى في جبل كارول إلينوي، غرب شيكاغو، وأطلقت عليه اسم مركز تدريب التأثير، يقدم خدمات لوكالات إنفاذ القانون على مستوى الغرب الأوسط لأمريكا.
حاولت الشركة بناء منشأة قرب مقاطعة سان دييغو بكاليفورنيا، لكنها قوبلت بالرفض من طرف السكان المحليين والحكومة مخافة زيادة حرائق الغابات، نظرا لقرب المنشأة المقترحة من غابة كليفلاند الوطنية، إضافة إلى سوء سمعتها بعد الفضائح التي ارتكبتها في العراق وأفغانستان وباكستان. وفي السابع من مارس/أذار 2008، سحبت “أكاديمي” طلبها لإنشاء منشأة تدريب في مقاطعة سان دييغو.
من “بلاك ووتر” إلى “إكس سيرفيسز“
في فيفري/شباط 2009، أعلنت شركة “بلاك ووتر” عن تغيير اسمها إلى “إكس سيرفيسز”، بعد الفضائح التي لحقتها بسبب تجاوزاتها وممارساتها اللاإنسانية، وانتهاكاتها لحقوق المدنيين العراقيين إبان الاحتلال الأمريكي للعراق، وركزت عملها على الجوانب اللوجستية والطيران والتدريب، بدلا من عملياتها الأمنية.
وبعد شهر تقريبا في الثاني من مارس/آذار 2009، أعلنت الشركة عن مجموعة من التغييرات في هيكلها وتركيبتها الإدارية، منها استقالة إريك برنس من منصب الرئيس التنفيذي واحتفاظه بمنصب رئيس مجلس الإدارة، لكنه لم يعد يشارك في الاجتماعات اليومية.
من “إكس سيرفيسز” إلى “أكاديمي“
في عام 2010، اشترت مجموعة “يو إس تي سي هولدنغ” (USTC Holdings)، شركة “إكس سيرفيسز”، ولم يعلن عن مبلغ الصفقة، لكن صحيفة واشنطن بوست قالت حينها إن المبلغ وصل 200 مليون دولار. وغيّرت الشركة اسمها بشكل رسمي عام 2011، إلى شركة “أكاديمي”، وتخلت عن مؤسسها إريك برنس وأنهت دوره داخل هياكلها، في حين ضم مجلس إدارة أكاديمي الجديد مجموعة من الشخصيات السياسية والعسكرية ورجال الأعمال.
وفي عام 2014، اندمجت شركتا “تربل” و”أكاديمي” مع الشركات الأخرى التي كانت جزءا من “مجموعة الأبراج” (Constellis Group) وأصبحت تحت ظلها.
مجزرة النسور
أقدم مجموعة من مرتزقة شركة “أكاديمي” (بلاك ووتر) في 16 سبتمبر/أيلول 2007، على قتل 17 مواطنا عراقيا وجرح عشرات آخرين في ساحة النسور، بالعاصمة العراقية بغداد، وأدين 4 عناصر من أعضائها بأحكام سجنية تراوحت بين المؤبد و30 سنة.
وقد حدثت هذه المذبحة بعدما أطلق عناصر “بلاك ووتر” النار على سيارة كانت تسير أمامهم، وهم يرافقون موكبا لمسؤولين من وزارة الخارجية الأمريكية في طريقهم إلى اجتماع في غرب بغداد مع مسؤولي الوكالة الأمريكية للتنمية الدولية، وكان على متن السيارة رجل وزوجته وابنهما الصغير ذو التسع سنوات.
بعد هذه المجزرة، ألغت الحكومة العراقية ترخيص شركة “بلاك ووتر” للعمل في العراق في 17 سبتمبر/أيلول عام 2007. وحاولت الحكومة الأمريكية بعد ذلك إعادة الترخيص للشركة بالعمل في العراق في أفريل/نيسان عام 2008، لكن المسؤولين العراقيين أعلنوا في أوائل عام 2009 رفضهم تمديد هذا الترخيص.
العفو عن مجرمي النسور
أصدر الرئيس الأمريكي السابق دونالد ترامب، في 22 ديسمبر/كانون الأول عام 2020، عفوا عن عناصر “بلاك ووتر” الأربعة المتورطين في مذبحة ساحة النسور عام 2007، وهم نيكولاس سلاتن الذي أدين بتهمة القتل العمد والمحكوم عليه بالسجن مدى الحياة، بالإضافة إلى بول سلو وإيفان ليبرتي وداستن هيرد الذين أدينوا بتهمة القتل الخطأ وحكم عليهم بـ 30 سنة سجنا نافذة (قضوا منها جميعا ما بين 12 و15 عاما في السجن)، وقد خلف هذا العفو استياء كبيرا لدى العراقيين.
وعلق خبراء حقوق الإنسان لدى الأمم المتحدة حينها على هذا العفو الذي أصدره دونالد ترامب بالقول إنه “ينتهك التزامات واشنطن بموجب القانون الدولي، ويقوّض بشكل أوسع القانون الإنساني وحقوق الإنسان على المستوى العالمي”.
من جانبه، صرح ترامب بعد هذا العفو قائلا “إن هؤلاء المحاربين القدامى كانوا يعملون في العراق في عام 2007 كموظفين أمنيين مسؤولين عن تأمين سلامة مسؤولي الولايات المتحدة”.
وتعتبر شركة “أكاديمي” واحدة من بين المئات من الشركات الأمنية والعسكرية الخاصة التي تنشط على مستوى العالم، والتي تستغل الأزمات السياسية والأمنية في العديد من الدول لجني أرباح تقدر بمليارات الدولارات مقابل خدماتها الأمنية والعسكرية. وبعض الأنشطة التي تمارسها هذه الشركات منافية للقوانين الدولية، وتندرج في تنفيذ أجندات دول ومنظمات وأجهزة استخباراتية غالبا ما يكون هدفها هو زعزعة أمن واستقرار دول ومناطق خدمة لمصالحها الخاصة.
نشاطها في اليمن
ويتركز نشاط بلاك ووتر باسمها الجديد حاليا في اليمن، حيث كشفت تقارير إعلامية بينها صحيفة نيويورك تايمز، قبل ثلاث سنوات، أن توقيع مؤسسها برنس، على عقود مع الإمارات والسعودية للقتال في اليمن إلى جانب التحالف العربي. وبلغ عدد من جندتهم الشركة في 2015، نحو 1500 مرتزق من كولومبيا وجنوب إفريقيا والمكسيك وبنما والسلفادور وتشيلي، قتل بعضهم في المعارك خاصة بتعز.