في موقف بدا – للمراقبين – مدويا، أعلنت موظفة يهودية رفيعة المستوى في إدارة الرئيس الأمريكي جو بايدن، استقالتها من منصبها يوم الأربعاء الماضي، معبّرة عن احتجاجها على الدعم الكارثي والمستمر من قبل إدارة واشنطن للحرب الصهيونية على قطاع غزة. وفي سياق متصل، ألقت الشرطة الأمريكية القبض على الدكتورة تيفاني ويلوبي هيرارد، الأستاذة بجامعة كاليفورنيا، على خلفية انضمامها إلى الاعتصام الطلابي المؤيّد لفلسطين في الحرم الجامعي، فيما أفاد المؤرخ الإسرائيلي إيلان بابيه بأنه خضع للاستجواب لمدة ساعتين من قبل مكتب التحقيقات الفيدرالي (إف.بي.آي) في مطار ديترويت ميتروبوليتان، بدعوى دعمه لحركة حماس.
وأضاف بابيه في منشور عبر حسابه في فيسبوك، أنّ عنصرين من مكتب التحقيقات الفيدرالي قاما باستجوابه واحتجزا هاتفه الشخصي خلال الاستجواب. وتابع أنه استغرب من الأسئلة التي وجّهت له مثل “هل تدعم حماس؟، هل تعتقد أنّ “إسرائيل” ارتكبت إبادة جماعية في غزة؟ ما هو الحل للصراع؟”، وقال المؤرخ الإسرائيلي إنّ أسئلة أخرى طرحت عليه بينها: من هم أصدقاؤه من العرب أو المسلمين في الولايات المتحدة؟ ومنذ متى يعرفهم؟ وما نوع العلاقة التي تربطه بهم؟
وأشار إلى أنّ العنصرين الأمنيين أجريا اتصالًا هاتفيا مطوّلا مع أشخاص يعتقد أنهم مسؤولون إسرائيليون، موضحا أنهما سمحا له بالمغادرة بعد نسخ كل المعلومات الموجودة في هاتفه.
وفي الثامن من مارس الماضي، صرح إيلان بابيه العضو في لجنة حقوق الإنسان الإسلامية (مقرها بريطانيا) بأنّ الهجمات الصهيونية على غزة قد تكون أحلك لحظة في التاريخ الفلسطيني، قائلا إنّ ما حدث سيسجّله التاريخ باعتباره بداية لنهاية المشروع الصهيوني.
وفي خطوة مفاجئة، أعلنت موظفة يهودية رفيعة المستوى بإدارة الرئيس الأمريكي جو بايدن استقالتها من منصبها يوم الأربعاء الفارط، بسبب ما وصفته بالدعم الكارثي والمستمر من قبله للحرب الصهيونية على قطاع غزة.
وفي مقال نشرته صحيفة واشنطن بوست، استشهدت ليلي غرينبرغ كول، المساعدة الخاصة لرئيس الأركان في وزارة الداخلية، بتربيتها اليهودية وعلاقتها بالكيان وروت كيف فرّت عائلتها من أوروبا إلى أمريكا هربا من الاضطهاد المعادي للسامية هناك.
وفي رسالة استقالتها، كتبت غرينبرغ كول – التي قامت بأول استقالة علنية ليهودي بسبب دعم بايدن للكيان – “لم يعد بإمكان ضميري الحي الاستمرار في تمثيل هذه الإدارة وسط دعم الرئيس بايدن الكارثي والمستمر للإبادة الجماعية في غزة”.
وفي مقابلة أجرتها مع الكاتبة ياسمين أبو طالب، قالت غرينبرغ كول إنّ الاستقالة كانت قرارا صعبا بسبب المجتمع الذي نشأت فيه، لكن القيم اليهودية التي تربت عليها دفعتها إلى اتخاذ هذا القرار.
“عار لأسلافنا”
وقالت غرينبرغ كول: “اليهودية هي أهم جزء من هويتي، وكل القيم التي نشأت عليها وكل تعليمي اليهودي هو الذي قادني إلى هذا القرار”. وأضافت إنّ “ما تفعله “إسرائيل” في غزة وفي الفلسطينيين في جميع أنحاء الأرض لا يمثّل اليهود وهو عار لأسلافنا”.
وتعليقا على منصبها في إدارة بايدن، قالت إنّ “الجميع هنا يفكّر في تحقيق الحلم الأمريكي والصعود إلى الأعلى، لكني سألت نفسي عدة مرات خلال الأشهر الثمانية الماضية: ما الفائدة من السلطة إذا كانت لا تستخدم لوقف الجرائم ضدّ الإنسانية؟”.
وفي وقت سابق من الأسبوع المنصرم، استقال رائد في الجيش الأمريكي يعمل في وكالة استخبارات الدفاع، وكتب في رسالة مفتوحة أنه شعر “بالعار والذنب بشكل لا يصدّق” عندما أيقن أنّ عمله ساهم في معاناة الفلسطينيين وقتلهم، كما استقال مسؤول سياسي من وزارة التعليم في جانفي الماضي وموظف في وزارة الخارجية عمل على نقل أسلحة إلى دول أجنبية في أكتوبر الماضي.
اعتقال أستاذة بجامعة كاليفورنيا
من جانب آخر، ألقت الشرطة الأمريكية القبض على الدكتورة تيفاني ويلوبي هيرارد، الأستاذة بجامعة كاليفورنيا لانضمامها إلى الاعتصام الطلابي المناصر لفلسطين في الحرم الجامعي.
وأظهر مقطع فيديو انتشر على منصات التواصل الاجتماعي، لحظة اقتحام الشرطة الأمريكية مكان اعتصام الطلاب في حرم جامعة كاليفورنيا واعتقالها عددا من المشاركين، وكان من بين المعتقلين الدكتورة تيفاني الأستاذة المشاركة في قسم الدراسات العالمية والدولية في جامعة كاليفورنيا، والتي تم طرحها أرضا وتقييد يديها من الخلف.
ووثّق مقطع آخر، تصريحات الدكتورة تيفاني وهي في طريقها إلى مقر الشرطة عندما سألتها قناة تلفزيونية عما إذا كانت قلقة بشأن إمكانية تعريض وظيفتها للخطر، فأجابت “لا يمكن أن تكون لدينا سياسة خارجية للإبادة الجماعية في دولة ديمقراطية”، وأضافت إنّ “هؤلاء الشباب هم الذين يتعيّن عليهم النضال من أجل هذه القرارات الفظيعة التي يتخذها ضباط الشرطة هنا اليوم. ما الوظيفة التي سأحصل عليها إذا لم يكن للطلاب مستقبل؟!”.
أستاذة فوق العادة
والدكتورة تيفاني ويلوبي هيرارد، هي أستاذة مشاركة في قسم الدراسات العالمية والدولية في جامعة كاليفورنيا، إيرفين (UCI)، انتقلت مؤخرًا إلى دورها في الدراسات العالمية والدولية بعد 16 عامًا في قسم الدراسات الأمريكية الإفريقية في كلية العلوم الإنسانية بالمؤسسة نفسها.
والدكتورة تيفاني ويلوبي أستاذة فوق العادة في كرسي ألبرت لوثولي للأبحاث بجامعة جنوب إفريقيا، وأيضا مؤلفة كتاب “نفايات البشرة البيضاء: مؤسسة كارنيجي والمنطق العنصري للضعف الأبيض”.
وباعتبارها عالمة اجتماع إنسانية ومنظرة سياسية مقارنة، تمتد اهتمامات ويلوبي هيرارد إلى عدة مجالات وتخصصات بما في ذلك الدراسات الإفريقية والدولية والنسوية والعلوم السياسية والإنسانية.
تم نشر أبحاث لها في مجلات متنوعة مثل “إيفنت” و”ثيوري” (Theory) و(Event) عن وظيفة العرق والاستعباد في الهوية الوطنية والتي لها آثار مهمة على نظريات المواطنة والهجرة والديمقراطية والعدالة.
وحصلت ويلوبي هيرارد على عدة جوائز أكاديمية أبرزها جائزة مجلس الشيوخ الأكاديمي المتميز للإرشاد، ومجلس الشيوخ الأكاديمي بجامعة كاليفورنيا (إيرفين) وجائزة التميّز في تعزيز البحوث الجامعية لعامي 2011، و2015، عن برنامج فرص الأبحاث الجامعية، قسم التعليم الجامعي.
كما مُنحت في أفريل 2010، جائزة لوسيوس باركر لأفضل ورقة بحثية في السياسة العنصرية والإثنية، جمعية العلوم السياسية في الغرب الأوسط عن “إعادة التفكير في الهيب هوب من خلال سياسة الارتقاء: الثقافة والسياسة وتقسيم الثروة العرقية”.
الفصل عقوبة التضامن
ومنذ بداية حرب الإبادة الصهيونية على غزة، تم فصل أكاديميين أمريكيين عدة أو وقفهم عن العمل والتحقيق معهم في جامعات خاصة وحكومية، بسبب خطابهم المؤيد لفلسطين والمناهض للكيان.
ولا يوجد إحصاء رسمي لعدد العاملين الأكاديميين الذين فقدوا وظائفهم أو واجهوا التعليق بسبب دعمهم لفلسطين، لكن من المحتمل أن يكون عشرات الأكاديميين في جميع الولايات المتحدة قيد التحقيق، ومن المتوقع أن تنتهي عقود العديد منهم بهدوء دون تجديد.
وتتنوع تخصصات هؤلاء الأساتذة بين السياسة وعلم الاجتماع والأدب الياباني والصحة العامة ودراسات أمريكا اللاتينية ومنطقة البحر الكاريبي ودراسات الشرق الأوسط وإفريقيا والرياضيات والتعليم وغيرها. وتحدّث موقع إنترسبت (The Intercept) مع أكثر من 10 أساتذة، سواء كانوا مساعدين أو ثابتين، والذين تعرضت وظائفهم للخطر بسبب خطابهم المؤيد لفلسطين.
ومن بين الأساتذة الذين تحدث إليهم الموقع، كانوا جميعًا تحت التحقيق منذ 7 أكتوبر 2023، إذ تم إغلاق بعض التحقيقات دون العثور على أي مخالفات وواجه العديد منهم درجات متفاوتة من الإيقاف، وفقد أربعة من الأساتذة وظائفهم أو يتوقعون فقدانها الأسبوع المقبل عندما ينتهي الفصل الدراسي دون تجديد عقودهم.
وقالت أنيتا ليفي، كبيرة مسؤولي البرامج في الرابطة الأمريكية لأساتذة الجامعات: “الجزء الأكبر من تحقيقاتنا، وحتى قضايانا، تتعلق بانتهاكات الإجراءات القانونية الواجبة المتعلقة بعدم إعادة التعيين والفصل ومنح المنصب وما إلى ذلك”.
ووفق ليفي، فإنّ الرابطة التي تدافع عن حقوق أعضاء هيئة التدريس والحرية الأكاديمية، فتحت حاليا 5 قضايا في الأشهر الأخيرة تتعلق بالخطاب المؤيد للفلسطينيين. وقالت: “عندما نحصل على 5 أو 6 حالات في فترة شهرين، حيث يكون هناك تعليق يتعلق بمنشورات وسائل التواصل الاجتماعي بسبب الحرب في غزة، فهذا أمر غير عادي. من بين الحالات التي فتحناها، لم يكن أي منها يتعلق بالخطاب المؤيد للكيان. وجميعهم كانوا داعمين للقضية الفلسطينية”.
وأضافت ليفي أنّ المؤسسات تقوم بعزل المعارضين السياسيين وتحجب رواتبهم بدعوى “حماية الشعب اليهودي”، مدعومة بهجمات الجمهوريين المتزايدة على التعليم العالي. ويعد محمد عبده الأستاذ الزائر في دراسات الشرق الأوسط وجنوب آسيا وإفريقيا في جامعة كولومبيا من ضحايا العنصرية ضد المسلمين والعرب وتحديدا الفلسطينيين بعد حرب غزة.
وأعلنت رئيسة الجامعة نعمت مينوش شفيق خلال جلسة استماع في الكونغرس الشهر الماضي أنّ الجامعة قطعت علاقاتها مع عبده بدعوى معاداة السامية في الحرم الجامعي. وقال عبده إنه تعرض للتشويه بسبب كلمات كتبها على فيسبوك يوم 11 أكتوبر 2023، والتي تم إخراجها بشكل كبير من سياقها وتصويره أنه معاد للسامية ومؤيد لحماس.
ومن جهته، قال داني شو: “لقد طُردت بعد 18 عامًا من العمل كأستاذ لدراسات أمريكا اللاتينية ومنطقة البحر الكاريبي في كلية جون جاي للعدالة الجنائية (تابعة لجامعة مدينة نيويورك العامة)”.
وكتب زملاء شو في قسم الاقتصاد برسالتهم المفتوحة: “إن عدم إعادة تعيين داني شو هو إجراء غير مقبول. داني شو هو عضو مهم في قسمه ويقوم بالتدريس في جون جاي منذ عام 2007. البروفيسور شو هو مدرّس ممتاز وقد حصل على جائزة التدريس المتميز”. وأنهت جامعة مدينة نيويورك علاقتها مع ليزا هوفمان كورودا الباحثة في الأدب الياباني بكلية هانتر بسبب خطابه المتعلق بالحرب الصهيونية على غزة.
إحدى الطالبات أبلغت رئيس قسمها عن العديد من منشورات كورودا المؤيدة لفلسطين على وسائل التواصل الاجتماعي. وأشارت ليزا إلى أنه لا يوجد في المنشورات معاداة للسامية. وقالت: “الشيء الوحيد الذي فعلته هو انتقاد سلطة الكيان بسبب احتلالها الوحشي لفلسطين المستمر منذ 75 عاما، وانتقاد الأمريكيين لتواطؤهم أو صمتهم في هذه الإبادة الجماعية”.
كما عوقب الناشط والباحث أمين حسين بسبب دعوته إلى تحرير فلسطين لسنوات عديدة، لكن تم فصله من منصبه المساعد في جامعة نيويورك فقط في جانفي من هذا العام. وفي المقابل، فإنّ الخطاب المؤيد للكيان يؤدي إلى عواقب أقل وفي إحدى الحالات، منحت جامعة ولاية أريزونا زميل أبحاث ما بعد الدكتوراه، جوناثان يودلمان، إجازة في انتظار نتيجة التحقيق” بعد انتشار مقطع فيديو لمظاهرة مؤيدة للكيان.
ذاكرة حرب فيتنام
ومنذ 17 أفريل الماضي، تشهد جامعات أمريكا مواجهات بين الطلاب وأعضاء هيئات التدريس من جهة وشرطة مكافحة الشغب التي تقوم بإخلاء معسكرات الطلاب واعتقال الآلاف كما حدث في جامعات كولومبيا، وإيموري، ونيويورك، وأوستن في تكساس، وكلية مدينة نيويورك، وكلية إيمرسون، وغيرها.
ووفق مراقبين، فإنّ العنف الوحشي الذي تمارسه الشرطة الأمريكية ضد الطلاب في الجامعات مؤخرا لم تشهده البلاد منذ حركة الحرم الجامعي ضد حرب فيتنام، وهذا ما تبرّره السلطات هذه المرة بادعاءات حول “سلامة الطلاب”، مدعومة بمزيج من “معاداة الصهيونية والسامية”.