لم تكن كلمة الوزير عطّاف أمام مجلس الأمن، والعالم أجمع، مجرد خطاب عابر للتعبير عن حالة نفسية قلقة عارضة، وإنما كانت مرافعة قانونية متكاملة ووقفة دبلوماسية مسؤولة، ووثيقة سياسية شاملة ورسالة أخلاقية سامية.. جاءت متّزنة متوازنة، حيث أضاءت زوايا الظل في ملف القضية، وأماطت اللثام عن الوجه المشوّه للحقيقة، وأعادت ترتيب الأوراق والأولويات، وصحّحت المعاني والمصطلحات، وسَمَّت الأشياء بما يجب أن تتسمى؛ فالاحتلال احتلال، والعدوان عدوان، والجريمة جريمة.. والجاني هو العدوان الصهيوني والضحية هو الشعب الفلسطيني.
“باسم الله الرحمن الرحيم”.. في تذكير صريح بالمرجعية الروحية المقدسة للأمة الجزائرية، والتأكيد عليها، وهي العبارة الاستهلالية السامية التي كان للرئيس هواري بومدين الفضل الأول في اسماعها للعالم من منبر الجمعية العامة للأمم المتحدة، بعدما كان العرب من قبله يخجلون حتى من إلقاء خطاباتهم باللغة العربية. وهي العبارة الدلالية التي يعمل الصهاينة ومخابرهم الإعلامية الدعائية على تدنيسها من خلال ربطها بالإرهاب والخطابات المتطرفة، وبالتالي التحضير والتحريض لفرض عقوبات على كل من يستفتح بها خطابه في المحافل الرسمية الدولية.
“..شكرا السيد الرئيس.. إن هذا الوفد كلّه امتنان وعرفان لكم، على مبادرتكم بتنظيم هذه الجلسة الخاصة لمجلس الأمن”.. لباقة ولياقة واعتراف أهل الفضل لبقايا أهل القيم والمبادرة، في عالم منحاز للقوى الغربية ذات النزعة الاستعمارية، حيث يهيمن المدّ الأمريكي ويتمدد الحقد الصهيوني، حتى أصبح من الصعب بمكان، معارضة الغطرسة والصلف والطغيان.
“..في ظرف استثنائي نتج عنه طمس وتشويه المعطيات الأساسية للقضية الفلسطينية، موضوع مداولاتنا في هذا اليوم، وما كان لهذا أن يحدث لولا تلاقي ظاهرتين اثنتين، ساهمت كل واحدة منهما في تفاقم مفعول الأخرى؛ ويتعلق الأمر بالتهميش شبه الكلي لهذه القضية وتنامي التقليل من شأنها على الصعيد الدولي، هذا من جهة. ومن جهة أخرى، التسامح غير المبرر مع الاحتلال الإسرائيلي، ومنحه حصانة مطلقة غير مقيدة، وغير مشروطة، بدون وجه حق”.. في إشارة إلى الحملة الغربية المائلة كل الميل لصفّ الصهاينة، وهجماتها العنصرية الشرسة على المقاومة الفلسطينية المشروعة، والتي لا تقل إجراما عن الهجمات العسكرية الدموية لجيش العدوان الصهيوني، وهي الحملة التي تدخل ضمن مخطط غربي إستراتيجي طويل الأمد، يهدف إلى تصفية القضية ومحوها تماما من خارطة الوجود. بدءًا بإهمالها من خلال شراء الصمت الدولي، وحمله على التغاضي حيال الجرائم الصهيونية اليومية المرتكبة بحق المدنيين العزل، والتقليل من شأن دمويتها ووحشيتها، وتقديمها على أساس أنها مجرد مناوشات قد تحدث في أي مكان من العالم، وإخراجها من دائرة الصراع الوجودي ضمن قضايا تصفية الاستعمار، ثم التشجيع المتواصل والمستمر لثقافة الهرولة العربية والتطبيع الميداني سياسيا واقتصاديا وثقافيا واجتماعيا، وتقديم الدول الممانعة على أنها متعصبة ومتطرفة.. حتى يتحول السرطان الصهيوني من ورم خبيث يتهدد الوجود الفلسطيني والعربي الإسلامي في المنطقة، إلى مجرد ورم حميد يمكن التعايش والتعامل معه.
“..فحديثنا عن تهميش القضية الفلسطينية يعني أن هذه القضية قد اختفت كليا من على سلم أولويات المجموعة الدولية، التي تنكرت لمسؤولياتها وتنصلت من قراراتها ووعودها بإقامة دولة فلسطينية مستقلة على حدود عام 1967 وعاصمتها القدس الشريف.. ويعني أن هذه القضية لم تحظ بأي مبادرة جدية للسلام منذ تسعينيات القرن الماضي، التي شكلت نقطة انطلاق مرحلةِ عُقم الجهود الدبلوماسية الدولية، لقرابة ثلاثة عقود من الزمن.. ويعني أن هذه القضية أضحت مؤخرا رهينة وهمٍ في غاية الخطورة، وهو وهمُ البحث عن السلام والأمن والاستقرار في الشرق الأوسط، على أنقاضِ الحقوق الشرعية للشعب الفلسطيني، وحطامِ دولته الوطنية..”.. تعمّد الخطاب تجاوز ما اصطلح عليه “اتفاق أوسلو”، ولم يشر إليه صراحة، لأن الجزائر عادة ما تتعفف عن الخوض في المحطات الخائبة والصفقات الخاسرة والتسويات الماكرة، على اعتبار أن “أوسلو” كانت فخا صهيونيا أكبر منه تسوية سياسية على الأرض، بدليل أنها استطاعت طمر القضية بعدما ورثتها شعلة ملتهبة عقب الانتفاضة الشعبية الأولى.. فقد أدرك الفلسطينيون بعدها، وأثناء الانتفاضة الثانية بأنهم كانوا يفاوضون طرفا خبيثا لا يحفظ إلا ولا ذمة، ولا يحترم عهدا ولا كلمة.. كانوا يفاوضون من أجل الخرافة والسراب، وهذا الذي حذّرت منه الجزائر مرارا، وتؤكد على ضرورة احترام الشعب الفلسطيني في خياراته كلها، خاصة ما تعلّق منها بحقه في الأرض والوطن، وهو الحق الشرعي المطلق غير القابل للتصرف.
“..وحين ننتقد الحصانة الممنوحة للاحتلال الإسرائيلي، فإننا نُذَكِّرُ بأن هذه الحصانة لم تُخَلِّفْ إلا مزيدا من الاحتلالِ والضمِّ للأراضي الفلسطينية بالقوة، والسيطرة على أزيد من 78٪ من مساحة الضفة الغربية وحدها، موجهةً بهذا ضربةً غير محسوبة العواقب لمشروع الدولتين كإطارٍ لحلٍ سلمي، عادلٍ، ودائم للصراع العربي-الإسرائيلي. وإننا نُذَكِّرُ بأن هذه الحصانة لم تُنْتِجْ إلا مزيدا من السياسات العنصرية المفروضة والمرفوضة في مدينة القدس المحتلة، التي يُرادُ تغيير الوضع القانوني والتاريخي القائم بها عبر المشروع الكبير لتهويدها غصبا وعنوةً. وإننا نُذَكِّرُ بأن هذه الحصانة لم تُوَلِّدْ إلاَّ مزيداً من تقتيلِ وتهجيرِ عشرات الآلاف من الفلسطينيين وتدميرِ بُناهم التحتية، ومجمعاتهم السكنية، ومنشآتهم الحيوية خلال العقدين الماضيين. وإننا نُذَكِّرُ أخيرا بأن هذه الحصانة ساهمت في ظهور حوكمات إسرائيلية فريدة من نوعها، تتسابق الأطراف فيها على التطرف والتجبر، وتتنافس في إطارها على التمادي في التوسع الاستيطاني وهضم حقوق الشعب الفلسطيني ونسف مشروع الدولة الوطنية الفلسطينية..”.. يعود الخطاب بمستمعيه إلى أصل الصراع وأصول القضية، ذلك أن الصهاينة قد منحوا أنفسهم حق التصرف في الأرض وفي الدم وفي الأرواح؛ تسطو “إسرائيل” وتنهب كيف ما شاءت من الأراضي الفلسطينية المحمية بحكم القانون الدولي والاتفاقات الثنائية، ثم تنتهك الحرمات للشعب الفلسطيني، ثم تعتقل وتقتل وتعبث كما يحلو لها في منأى عن أي نوع من المساءلة والعقاب، فهي بالنهاية تحت دعم الفيتو الثلاثي؛ الأمريكي الفرنسي والبريطاني.. أو فيتو العار الذي صار سلاحا بيد المجرمين الصهاينة يتطاولون به وبشكل مستفز، على كل الأعراف والقوانين والقرارات الدولية الداعية إلى تسوية عادلة ومرضية لجميع الأطراف المنتفعة والمتضررة من تجاوزات الوضع الراهن.
“..وها نحن اليوم أمام حَلَقةٍ إضافية فضيعة من مسلسل الاحتلال الإسرائيلي، حَلَقةٌ لم يشهد لها تاريخ المنطقة مثيلا في الدموية والخراب والدمار، نظير ما خلَّفته من حصيلةٍ مفجعة في حق شعب أعزل، في حق شعب مظلوم، وفي حق شعب مغدور ومحروم من أبسط سُبُلِ العيش والبقاء، شعبٌ سدت الآفاق في وجهه وأطفئ فيه آخر بصيص من الأمل..”.. ليس من باب الإثارة ولا من باب الاستعطاف العقيم، وإنما من باب التذكير بحجم المأساة وواقع الجحيم الذي يعيشه الشعب الفلسطيني، والتحذير من تداعيات الجريمة المرتكبة أمام أعين العالم، والتي سيكون لها تبعات كارثية مستقبلا، فمن زرع العنف والإرهاب، عليه أن يستعد لجني مُرَّ المحاصيل، فإن لم يكن اليوم فهو مؤجل لتدفع ثمنه الأجيال القادمة، والتي لن تكون بالضرورة مسؤولة عما سيحدث لها.
“..إننا اليوم أمام موقف واضح وجلي لا يقبل اللُّبس أو التأويل: فالشعب الفلسطيني يتم تخييره بين الخضوع والركوع للأمر الواقع والتنازل عن أرضه وعن حقوقه الوطنية المشروعة، وبين الإبادة الجماعية والتصفية العرقية على درب التصفية النهائية للمشروع الوطني الفلسطيني..”.. وإن كان ظاهر الكلم استجداء للضمير الإنساني بوضعه أمام الصورة الحقيقية للوضع العام، إلا المستتر من القصد هو التحذير من مغبة التمادي في هذا الطيش والجنون، والذي ليس عدوانا على الشعب الفلسطيني في حد ذاته فقط، وإنما هم تعد صارخ بحق القيم والأخلاق الإنسانية برمتها.
“..السيد الرئيس، إن هذه التطورات تضع منظومتنا الأممية بما تقوم عليه من قيم ومبادئ أمام امتحان مفصلي لتغليب “منطق القانون” على “منطق القوة”، ولإعلاء “منطق المساواة” على “منطق الكيل بمكيالين”، ولتكريس “أَوَّلِية الاحتكام للضوابط القانونية الملزمة” على “منطق اللامحاسبة، واللامساءلة، واللامعاقبة” لَمَّا يتعلق الأمر بالاحتلال الاستيطاني الإسرائيلي.. في هذا الإطار، وعلى المدى القريب العاجل، يُنتظر من مجلسكم هذا، أولا؛ فك الحصار الجائر المفروض على قطاع غزة، حيث أنه يشكل لوحده جريمة حرب وجريمة ضد الإنسانية مكتملة الأركان. ثانياً؛ وقف القصف العشوائي الذي راح ضحيته آلاف الأرواح البريئة، والذي يشكل بدوره جرائم حرب وجرائم إبادة.ثالثاً؛ وقف تهجير السكان الذي يرقى إلى جريمة أخرى، وهي جريمة التصفية العرقية.رابعاً؛ السماح بإغاثة أهل غزة دون قيد أو شرط، وهو أقل ما يمكن المطالبة به والاستجابة له من طرف مجلسكم هذا..”.. بعد سرد مفصَّل لمواطن الاخلال بالقيم والأخلاق الانسانية، والاختلال الواضح في التعامل مع صلف الكيان الصهيوني وتماديه في الظلم والعدوان، ومدى تأثير كل ذلك على العلاقات الدولية وعلى ثقة المجتمع الدولي في مؤسساته الأممية.. منحت الوثيقة الجزائرية المجلس الأممي الحلول اللازمة لكل وضع، والأجوبة المفصلة لكل سؤال، والدواء الشافي لكل معضلة، من دون لف ولا دوران، كما أورد ذلك الوزير في كلمته.
“..أما على أمد آخر، وهو أمد الحل السياسي المستقبلي، فإننا ندعو مجلس الأمن إلى إدراك حقيقة دامغة لا يمكن اللف والدوران حولها، وهي:ما مِنْ أمنٍ مستدام يُبْنَى على الإجرام والظلم والقهر.. وما مِنْ أمنٍ مستدام يُبْنَى على التهميش والإقصاء والتمييز.. وما مِنْ أمنٍ مستدام يُبْنَى في الشرق الأوسط دون حل عادل ودائم للقضية الفلسطينية وفق مراجع الشرعية الدولية، الشرعية الدولية التي وُضِعَتْ أركانُها، وحُدِّدَ فحواها تحت قبة بيت الإنسانية هذا، وفي هذا المكان بالذات..”.. لا أعتقد – من مقامي هذا- بأن أحدا قد سبق ووصف هيئة الأمم المتحدة ببيت الإنسانية.. وإنه لوصف كريم من لدن وفد كريم لهيئة لا تزال لم تعرف بعد كرمها وكرامتها، فهي تتنازل مع كل أزمة عن جزء من دورها الواجب في حل المشكلات والخلافات الدولية لصالح القوى المتغطرسة، والتي تحاول جعل هذه الهيئة طيعة مطواعة في تمرير ما تشاء من قرارات، ولو كانت على حساب الأمن والسلم والاستقرار في العالم.. وما الوضع في أفغانستان، وفي العراق، وفي سوريا، وفي ليبيا، وفي اليمن، وقبلهم الوضع في الصومال.. إلا شواهد شؤم على ما تسببت فيه الغطرسة الأمريكية باسم الشرعية الدولية.
“..أيرضى مجلسكم بالتراجع عن سبعٍ وثمانينَ قراراً تم اعتمادها منذ بداية هذا الصراع، لمجرد أن القوة القائمة بالاحتلال اختارت عدم الالتزام بها…؟ أيرضى مجلسكم بأن تظل قراراته حبيسةَ هذه القاعة، لا لشيء إلاّ لأن المحتل نصَّب نفسه فوق أي محاسبة أو مساءلة…؟ أيرضى مجلسكم بأن تُنتهك جميع قراراته حول قضية فلسطين، لا لشيء إلاَّ لأن المحتل يريد شرعيةً على المقاس تَنْطَبِقُ عليه دون سواه…؟”.. صيغ استفهامية بلاغية غائرة المعنى ثقيلة التأثيرعند أهل اللغة، تجمع بين الرجاء والتمني، وبين التنبيه والتحذير، وبين الحجة والدليل، بثها الوزير في خطابه لإثارة الاستغراب لدى المُخَاطَب، وهو مجلس الأمن برئيسه وأعضائه، ومن ورائهم الضمير العالمي الغافل أو المسْتَغْفَلَ حتى يسترد روحه ويستعيد أنفاسه، وينفض غبار الاستكانة والرضوخ للشيطان، وأن يُحَكِّمَ العقل الإنساني والقانون الدولي والأعراف الاجتماعية والمواثيق الأممية، في هذه القضية السياسية جدا، والإيديولوجية جدا، والأخلاقية جدا جدا، وقد وضع القرائن كلها والشواهد، أمام أعين الجميع وقرّبها، لألَّا يترك لأحد مهربا ولا مفرا من تحمل المسؤولية التاريخية العابرة للحدود والاجيال.
“لا شك أننا في ظرف تاريخي يؤكد على المسؤولية الخاصة الملقاة على عاتق مجلس الأمن، وإليه يعود تحمل أعباء هذه المسؤولية كاملةً غير مبتورة. وشكرا السيد الرئيس..”.. في تذكير أخير صريح ومسؤول، بالمسؤولية الأخلاقية والسياسية والقانونية لمجلس الأمن الدولي، حيال القضية الفلسطينية التي ترفض الموت والنسيان، بل، إنها تحولت إلى قضية إنسانية قسّمت المجتمع الدولي نصفين؛ مجتمع عادل مؤمن بالقيم والأخلاق، متشبث بالفطرة البشرية السوية، متمسك بالمبادئ الرفيعة للعدل والحرية والسلام.. ومجتمع متغطرس منحرف، يشيع الرذائل ويتبنى الشذوذ ويدعم الكيان الصهيوني، يحارب الفطرة السليمة ولا يرى في العالم سوى مرتعا لممارسة ابتذاله وصلفه وغطرسته الوحشية غير المتناهية.
هكذا هي الجزائر، وهذا هو موقفها.. خطاب يشعّ عزّة وكرامة ويلمع أنفة وسيادة، وفوق كل ذلك لا يخشى في الحق لومة لائم.. من غير تهريج عابر ولا تهييج سافر ولا شعبوية عمياء، يتناول المأساة الأكثر تعقيدا من بين المآسي الإنسانية كلها، ويمسك المشرط والمبضع والمشرح كجراح متمرس دؤوب، ويمضي بحثا بين التلافيف والثنايا المتداخلة عن موضع العلة ومصدر الألم، ثم يصف الدواء الملائم لكل وجع.. وهذا هو صوت الحكمة الذي لا بد وأن يسود ويعلو.