“اغتيال الصحافيين”.. تاريخ صهيوني متكرّر لسياسات كاتم الصوت

ضمن خطته الدموية التي ينفذها على مدار الساعة في قطاع غزة الفلسطيني، والمتمثلة في “طمس الحقيقة”، قتل الاحتلال الصهيوني منذ انطلاق العدوان الغاشم ضد القطاع 87 صحافيا، وهو رقم تخطى حصيلة القتلى الصحافيين في الحرب الكورية (1950-1953) وكذلك في حرب فيتنام (1955-1975) وحتى الحرب العالمية الثانية (1939-1945) التي راح ضحيتها عشرات الملايين، ما يجعل العدوان الصهيوني في شهره الثالث يوصف بأنه الأكثر دموية في التاريخ المعاصر، فالأرقام تشير إلى حقيقة مرعبة مفادها أن ما من يوم ينتهي إلا وتنتهي معه حياة صحافي واحد – على الأقل – بنيران الاحتلال في فلسطين ولبنان.

=== أعدّ الملف: منير بن دادي وسهام سعدية سوماتي ===

يوم الثلاثاء الفارط، اتهم المكتب الإعلامي الحكومي بغزة الجيش الصهيوني بأنه “تعمّد” اغتيال 87 صحافيا خلال العدوان على القطاع، في محاولة لطمس الحقيقة، كذلك، طالب البيان كل الاتحادات والمنظمات والكيانات الصحافية والإعلامية الدولية والعالمية والإقليمية والعربية بإدانة جرائم الاحتلال بحق الصحافيين الفلسطينيين والضغط عليه من أجل الإفراج عن الصحافيين المعتقلين الذين يتعرضون للتحقيق والتعذيب والضغط النفسي.

وقال المكتب، في بيان نشره عبره منصة تلغرام: إن “جيش الاحتلال الصهيوني تعمّد اغتيال 87 صحافياً وصحفيّةً خلال العدوان الوحشي على قطاع غزة بهدف اغتيال الرواية الفلسطينية ومحاولة لطمس الحقيقة، ومنع وصول المعلومات والأخبار إلى الرأي العام الإقليمي والعالمي”.

وبالمقابل، ووفقا لمؤسسة “منتدى الحرية” (مقرها واشنطن وتدافع عن حرية الصحافة) فقد لقي 69 صحافيا حتفهم طيلة 6 سنوات من الحرب العالمية الثانية التي أودت بحياة عشرات الملايين من البشر، وحصدت الحرب خلال الاحتلال الأمريكي لفيتنام، الذي استمر قرابة 20 عاما، أرواح 63 صحافيا.

كما فقد 17 صحافياً حياتهم في الحرب الكورية التي استمرت 3 سنوات، أما لجنة حماية الصحافيين، ومقرها نيويورك، فقد أشارت إلى مقتل 17 صحافيا خلال العملية العسكرية الروسية في أكرانيا منذ فيفري2022.

من جهتها، نشرت صحيفة “الغارديان” تقريرا أعدته هارييت شيرويد، قالت فيه إن الإعلام الدولي الممنوع من دخول غزة ومصر يبحث دائما عن طرق للتحايل على هذا المنع، وقد بات يعتمد على المصادر الفلسطينية ومنصات التواصل الاجتماعي، فقد تم إغلاق معبر “إيرز” الذي تسيطر عليه سلطة الكيان منذ 7 أكتوبر، كما تم منع الصحافيين من المرور عبر معبر رفح.

وقالت الكاتبة إن الصحافيين الدوليين الذين يتابعون (الحرب) الصهيونية على غزة، يشعرون بالإحباط الشديد من منعهم دخول القطاع، ما حرمهم من تقديم صورة شاملة عن (الحرب) من الميدان، وما تركته من آثار على المنطقة.

وبالفعل، فقد اتجه الاحتلال الصهيوني ـ منذ لحظة بدء عدوانه المتواصل على قطاع غزة وكذلك لبنان ـ إلى استهداف الصحافيين بالقتل المتعمد، إلى جانب تسجيل عدد كبير من حالات الاعتقال والتضييق والمنع والرقابة المشددة في صفوف كل من يحمل أبسط أداة لنقل الحقيقة، رغم اعتبار الاستهداف المتعمد للصحافيين والمدنيين جريمة حرب بموجب القانون الإنساني الدولي.

وفي هذا الشأن، كانت منظمة مراسلون بلا حدود قد أعلنت، مطلع نوفمبر المنصرم، أنها تقدمت بطلب لدى المحكمة الجنائية الدولية للتحقيق في جرائم الحرب المرتكبة ضد الصحافيين خلال العنف الصهيوني في فلسطين.

وفي معرض استهداف القوات الصهيونية الصحافيين والمؤسسات الإعلامية، تم تدمير مكاتب صحيفة “الأيام” وإذاعة غزة ووكالة شهاب للأنباء، ووكالة معا الفلسطينية، ومكتب قناة “برس تي في” وقناة العالم الإيرانيتين، ومكتب الوكالة الفرنسية كليا أو جزئيا، إلى جانب حظر بث قناة الميادين اللبنانية.

وللتذكير، فإن الكيان الصهيوني منع ـ خلال العدوان على غزة (2008- 2009) ـ الصحافة الدولية من الوصول إلى القطاع حتى قرار وقف إطلاق النار بعد ثلاثة أسابيع من المواجهات. وفي عامي 2012 و2014 تم السماح للصحافيين الدوليين بالعبور إلى غزة من معبر «إيرز» الذي تتحكم فيه سلطة الكيان.

أصبحت المكان الأكثر خطورة بالنسبة إلى مهنة المتاعب..

العدوان الصهيوني يقتل 87 صحافيا في غزة منذ 7 أكتوبر فقط!

رغم آلة الموت الصهيونية التي تترصد حياتهم وحياة أسرهم، ومع انعدام أدنى مقومات الحياة من ماء وكهرباء وغذاء ودواء، يحاول الصحافيون الذين تمكّنوا من البقاء في غزة نقل الأخبار ووصف ما يحدث من حولهم في ظروف قاسية محفوفة بالمخاطر والصعاب. ومع استشهاد 87 صحافيا منذ بداية العدوان، أصبح قطاع غزة المكان الأكثر خطورة بالنسبة إلى مهنة الصحافة.

“كم على غزة أن تعدّ من ليالي الرعب والموت؟ كم عليها أن تعدّ من أيام الفقد والغياب والوجع؟ كم عليها أن تعدّ من ساعات الجوع والعطش والبرد والمرض والنزوح والغربة؟ كم عليها أن تعدّ من راحلين وباكين ومكلومين كي تسقط لعنة الحساب وتختفي قسوة الأرقام”.

هذا ما كتبته الصحافية الفلسطينية “علا عطا الله” على موقع التواصل الاجتماعي «إكس» (تويتر سابقا)، قبل أن تستشهد في غارة صهيونية استهدفت ــ فجر السبت الماضي ـــ منزل أحد أقاربها، الذي نزحت إليه مع عدد من أفراد عائلتها حيث لقي الجميع حتفهم في حيّ الدرج، شرقيّ مدينة غزة.

وفي فجر السبت ذاته، استشهدت الصحافية دعاء الجبور وزوجها وأولادها إثر قصف منزلهم، وقال نائب نقيب الصحافيين الفلسطينيين، عمر نزال، إن الجبور عملت في «شبكة عيون الإعلام» المحلية، أما عطا الله فقد عملت مع عدد من وسائل الإعلام العربية والدولية، وقد عدد الصحافيات الشهيدات في غزة إلى 9 منذ السابع من أكتوبر الماضي.

ولا شك أن رئيس اتحاد الصحافيين الفلسطينيين، ناصر أبو بكر، سيتحدث عن مأساة الشهيدتين “الجبور” و”عطا الله” خلال الجولة الأوروبية التي يقوم بها لتنبيه الرأي العام الدولي إلى الوضع المأساوي الذي يعيشه الصحافيون في غزة والضفة الغربية.

وكان أبو بكر تحدث، في باريس، عن أهمية عمل زملائه الصحافيين في إطلاع العالم على الوضع في قطاع غزة، ووصف الجحيم الذي يعيشون فيه والخطر الذي يعرضون له أنفسهم من أجل التغلب على الحصار الإعلامي الذي تفرضه سلطة الكيان عليهم وهي ترتكب جريمتها المعلوماتية في غزة.

إنهم ينتظرون الموت..

ونقل الموقع الفرنسي “ميديا بارت” في تقرير بقلم يونس ابزوز، عن ناصر أبو بكر قوله بأن “غزة كان بها قبل السابع من أكتوبر 200 صحافي، واليوم لا يوجد أي منهم تقريبا”، وقال المراسل المصور معتز عزايزة، الذي يوثق كل يوم على إنستغرام الحياة المروعة للمدنيين المحاصرين في غزة “إنه يتعرض للتهديد بانتظام بالقتل والاعتقال، يستقبل مكالمات ورسائل مجهولة المصدر”، تماما كما يتعرض الصحافيون الفلسطينيون العاملون في الضفة الغربية للتهديد من قبل المستوطنين وأفراد قوات الأمن الصهيونية.

ويعتقد الصحافيون في فلسطين – بحسب ناصر أبو بكر- أن عملهم ضروري لإبقاء العالم مطلعا على الوضع الإنساني في غزة، رغم العقبات التي لا تعد ولا تحصى، حيث ليس لديهم ماء ولا كهرباء، واتصالهم بالإنترنت محدود للغاية، وأشار إلى أنه عندما يتواصل معهم يقولون له “ما زلنا على قيد الحياة”.

وأضاف: “إنهم ينتظرون الموت ويتساءلون من سيكون التالي، لكنهم يصرّون على مواصلة عملهم، فمن ذا غيرهم سيوثق الجرائم الجماعية والتطهير العرقي الذي يعيشه شعبنا؟ (إسرائيل) تريد قتل الصحافيين لأنهم يشهدون على جرائمها”.

وفي مواجهة هذه الأزمة المزدوجة – الإنسانية والإعلامية – حثّ ناصر أبو بكر فرنسا على بذل كل ما في وسعها من أجل احترام مبادئ حقوق الإنسان وتطبيقها في فلسطين، وأرسل صرخة استغاثة للشعب الفرنسي، قائلا “إنها حرب ضد الفلسطينيين وضد الإنسانية وضد حقوق الإنسان وضد القانون الدولي”.

وقال دومينيك برادالي، رئيس الاتحاد الدولي للصحافيين، وهو ينصت بذهول لمعلومات عن الثمن الذي يدفعه الصحافيون الفلسطينيون، “أنا أدافع عن حقوق الصحافيين منذ أكثر من 50 عاما، ولم يسبق لي أن رأيت (دولة) تقتل هذا العدد الكبير من المراسلين في مثل هذا الوقت القصير”.

ورغم الأوامر الدولية بحماية الصحافيين أثناء ممارستهم مهنتهم، أعلن الجيش الصهيوني لوكالة “رويترز” ووكالة الصحافة الفرنسية أنه لا يستطيع ضمان سلامة صحافييهما العاملين في قطاع غزة، وعلق برادالي على ذلك بالقول: “لم نشهد قط (دولة) تتهرب من التزامها بحماية الصحافيين كما تفعل (إسرائيل) الآن”، وأضاف “في مناطق الحرب، يمكن ارتكاب انتهاكات ضد الصحافيين بين الحين والآخر، أما في غزة فهي ممنهجة”.

كتبوا رسائل وداع لمّا استيأسوا النجاة..

الصحافيّون يقدّمون أرواحهم ثمنا لتوثيق جرائم العدوان في غزة

انتهت مرحلة المخاطرة سعيا إلى نقل الصورة وبدأت مرحلة محاولة النجاة”

بهذه الكلمات خاطب الصحافي الغزي، معتز عزايزة، متابعيه البالغ عددهم أكثر من 15 مليوناً، في منشور لا يشبه منشوراته السابقة منذ بداية العدوان غزة في السابع من أكتوبر الماضي.

أصبح الشاب البالغ من العمر 24 عاما، خلال أسابيع قليلة بفضل هاتفه المحمول ولغته الإنكليزية السلسة، صوت أهل غزة الحرّ والمستقل، الذي يصل إلى جميع أنحاء العالم، ناقلا معاناة أبناء بلده بتفاصيلها.

وفي المنشور ذاته، قال المصور الصحافي عزايزة: “القضية الآن قضية حياة أو موت. لقد نقلتُ بما فيه الكفاية. وأشهد الله أن ذلك كان لوجهه وخدمة لوطني”، معبرا عن يأسه عقب دخول العدوان مرحلة جديدة أعلن فيها الجيش الصهيوني عن توسيع عمليته البرية “لتشمل كل جزء من غزة”.

ومعتز هو واحد من مجموعة صغيرة من الصحافيين والمؤثرين الفلسطينيين الناشطين عبر مواقع التواصل الاجتماعي، الذين لا يزالون داخل قطاع غزة، مسخّرين كامل وقتهم لتوثيق العدوان ونقل وقائع حياتهم تحت الحصار والقصف بشكل يومي.

أخبرنا أيها الجيش الصهيوني: إلى أين نذهب؟

من بين هؤلاء، صانعة الأفلام بيسان عودة (25 عاما)، التي قالت عبر إنستغرام، في لهجة يشوبها الأسى وتشبه تلك التي استخدمها معتز، إنها “فقدت أملها بالنجاة بشكل كامل”، وأضافت “عكس ما كنت أتوقعه في البداية، فالآن أنا متأكدة أنني سأموت خلال الأسابيع أو الأيام القليلة القادمة”.

يتابع بيسان 3 ملايين شخصا عبر إنستغرام، وتحظى منشوراتها بعشرات الآلاف من التعليقات وتفاعل واسع من جميع أنحاء العالم، إذ تنقل لهم يومياتها التي تتضمن تفاصيل يومياتها في غزة، كما تتحدث عن رحلة الفرار من مكان إلى آخر، والنوم تحت الخيام في ظل ظروف جوية قاسية.

بيسان تجري أيضا مقابلات مع أطفال ونساء وتشارك قصصا إنسانية لجميع أطياف المجتمع الغزي. وفي بعض منشوراتها، تكون دموعها حاضرة إذ تتحدث عن فقدان الآمال والأحلام و”كل شيء عملت من أجله”.

وتظهر منشورات بيسان الأخيرة علامات الإرهاق على وجهها، إذ تقول إنها نزحت إلى جنوبي غزة كما طالبهم الجيش الصهيوني، لكنها الآن تسأل: “من المفروض أن تكون هذه منطقة آمنة، إلى أين نذهب؟ هل أُخبر العالم بأسره أنكم تدفعوننا خارج غزة لكي تحتلوها؟ أخبرنا أيها الجيش الصهيوني أين نذهب؟”.

إلى آخر نَفَس.. سنبقى ننقل لكم الصورة

وهكذا، أمسى متابعو هؤلاء الصحافيين غير معنيين فقط بالتطورات في غزة بل تجاوز الأمر ذلك ليصل إلى الاهتمام بحالة الصحافيين وصحتهم النفسية والجسدية، وهل ما زالوا على قيد الحياة أم لا، وفي حال غيابهم عن الفضاء الإلكتروني لساعات معدودة، ينتاب الخوف المتابعين الذين يسارعون بكتابة تعليقات يعربون فيها عن مدى قلقهم.

ويواجه الصحافيون مخاطرة شديدة أثناء ممارسة عملهم في غزة، فمنذ بداية العدوان، استشهد عشرات الصحافيين. وخلال الأيام الماضية، شهدت مواقع التواصل الاجتماعي في غزة موجة من الرسائل المشابهة من قبل بعض المؤثرين الذين حملوا على عاتقهم مسؤولية إخبار العالم بما يحدث، رغم معاناتهم الشخصية من خسائر ومآسٍ، وفي ظل ظروف تقنية معقدة وانقطاع متواصل لخطوط الهاتف والإنترنت والكهرباء في القطاع.

الشاب العشريني إسماعيل جود، الذي يقوم، بدوره، بتوثيق العدوان، شارك “رسالته الأخيرة” قائلا: “الوجوه أصبحت شاحبة والأمل انقطع، أدينا الأمانة تجاه وطننا وسنبقى إلى آخر نَفَس ننقل لكم الصورة..”.

أما بعض الصحافيين فقد شاركوا صورا ومقاطع فيديو للتحذيرات والتسجيلات التي وصلتهم من الجيش الصهيوني، مطالبة إياهم بإخلاء منازلهم والنزوح جنوبا.

الناشطة الفلسطينية عفاف أحمد، شاركت عبر إنستغرام رسالة مسجلة من الجيش الصهيوني يُعلَن فيها بصوت آلي مجموعة من الأرقام، التي تشير إلى مناطق معينة داخل القطاع على سكانها الخروج منها، وأضافت: “في غزة مصيرك هو أن تموت في المنزل تحت قنابلهم، أو تموت وأنت تهرب من قنابلهم، أو تموت جوعًا في الخارج”.

حسابات صحافيي غزة عبر مواقع التواصل الاجتماعي غالبًا ما تتيح منشورات تشير إلى وفاة زميل صحافي أو مصور، فهذه هند خضري الصحافية المستقلة (تبلغ من العمر 28 عامًا) نعت في وقت سابق صديقها الصحافي المصور، منتصر صواف، الذي استشهد في غارة جوية صهيونية: “كان لزاما علينا، لكوننا زملاءه، أن نكتب النبأ العاجل الخاص بمقتله. كنا نبكي ونحن نكتب خبر مقتله. لقد قمنا بتغطية أنباء مقتل ذوينا منذ اليوم الأول”، وفي صفحة هند، تظهر صورة شخصية لها وهي تقول: “قد تكون هذه الأخيرة”.

ومع غياب الصحافيين الأجانب في القطاع، يعتمد رواد مواقع التواصل الاجتماعي على أصوات محلية لنقل الصورة، كما تستخدم معظم وسائل الإعلام العالمية المحتوى الموجود على صفحاتهم.

خلال استلامه جائزة “ألبرت لندرس” الرفيعة..

 الإعلامي البلجيكي “ويلسون فاش” يشيد بصحافيي غزّة ويؤكد احترافيّتهم العالية

كرّم “ويلسون فاش” – الصحافي البلجيكي المستقلّ – من خلال رسالة له الصحافيّين الذين يغطّون، تحت نيران العدوان الصهيوني، مأساة أهل غزة، ويُجارون الأحداث بحِرَفية ويتقصّون سُبل النجاة حيث الموت يترصدهم في كل مكان.

يهتمّ فاش بتغطية الأحداث الميدانية وقضايا المدنيّين والمواضيع المتعلّقة بالحروب، حيث أنجز تغطيات صحافية في فلسطين المحتلّة، وفي العراق خلال الهجوم على تنظيم “داعش” الإرهابي في مدينة الموصل عام 2016، وفي أفغانستان خلال انسحاب الاحتلال الأمريكي وسيطرة “طالبان” مُجدَّداً على الحُكم في أوت 2021، كما أنجز عدّة تغطيات ميدانية في أوكرانيا منذ بدء العملية الروسية في فيفري 2022.

في نوفمبر الماضي، حاز فاش البالغ 31 عاماً “جائزة ألبرت لندرس”، التي تُعدّ أبرز جائزة في الصحافة الفرنكوفونية، في دورتها الخامسة والثمانين، ضمن فئة أفضل مُراسل لعام 2023 في الصحافة المكتوبة، عن تقارير أنجزها في أفغانستان وفلسطين المحتلّة وأوكرانيا، ونُشرت في صحف فرنسية وبلجيكية.

وخلال استلامه الجائزة – وهو أوّل صحافي بلجيكي فاز بها منذ تأسيسها قبل واحد وتسعين عاماً – أشاد فاش بالصحافيّين في غزّة، قائلاً إنّهم “يُقدّمون عملاً لا يُقدَّر بثمن في ظروف مستحيلة”، كما أهدى الجائزة إليهم.

وفي 2019، حاز “جائزة المُراسل الشاب” في فرع الصحافة المكتوبة – إحدى جوائز “بايو كالفادوس” الفرنسية التي تُمنح لمُراسلي ومصوّري الحروب – عن تقرير حمل عنوان “غزّة: سنة سوداء”.

وهذا نص الرسالة، بترجمة الشاعرة الجزائرية عنفوان فؤاد:

“بما أنّ هذه هي بالفعل حربكم الخامسة. قد يشكّ البعض وكأنّكم تعوّدتم على ذلك، ولكن، سرعان ما فهمتم، منذ بداية القصف، أنّها لن تكون كسابقاتها. صباحاً، عندما تذهبون إلى تغطية الأخبار، لستم واثقين من كونكم ستعودون إلى منازلكم، وحتّى إن نجوتُم واستطعتم العودة إلى بيوتكم، ربّما لن تجدوا عائلاتكم هناك. زملاؤكم يسقطون الواحدَ تلو الآخر، فتدركون أنّ كلّ ما يحدث ليس مجرّد صدفة، وتسألون أنفسكم إذا ما كنتم مستهدَفين.

عندما تصوّرون المصابين في المستشفى، أو الطوابير أمام المخابز، أو الجثث المدفونة في مقبرة جماعية، تتعرّفون على بعض الوجوه. نحن، خلف شاشاتنا، نشاهد الجثث. أمّا أنتم فترون صديقاً، أو ابنة عم، أو جاراً لكم. نحن، خلف شاشاتنا، نشاهد الأنقاض والغبار. أمّا أنتم، فترون المدرسة التي درستم فيها والمستشفى حيثُ وُلد أطفالكم.

كلَّ يوم، تُوثّقون مغيب وجودكم الفعلي، ولأنّكم فلسطينيون، عرب، مسلمون، يُقال عنكم إنّكم “بروباغنديون”، مروّجون للدعاية، وربّما إرهابيون أيضاً. الأشخاص الذين ليست لديهم أية أخلاق يشكّكون في أخلاقكم. ولكنّنا نراكُم على حقيقتكم، صحافيّين يقومون بعملٍ لا يقدَّرُ بثمن في ظروف صعبة ومستحيلة”.

المطلوب “تحيين المعطيات” باستمرار..

خبر استشهاد الصحافي “عبد الكريم عودة” جاء تصدّيقا لملف “الأيام نيوز” !

كان من المفترض أن يصدر هذا التقرير اليوم الخميس بينما عدد الشهداء الصحافيين الذين قتلتهم آلة الإجرام الصهيونية، خلال قصفها المستمر على قطاع غزة منذ 7 أكتوبر الماضي، قد وصل إلى 86 شهيدا، لكن، قُبيل إرسال التقرير في صيغته النهائية بلحظات قليلة جرى تحيين الرقم من خلال عملية حسابية (86 + 1 = 87)، وهذا التعديل سببه استهداف صحفي كان يشتغل في غزة لنقل حقيقة الوضع هناك..!

محرّر “الأيام نيوز”، اضطر ـ في اللحظة الأخيرة ـ قبل تسليم التقرير لرئاسة التحرير، إلى معالجة خبر ورد من المكتب الإعلامي الحكومي في غزة – في بيان مقتضب عبر منصة تلغرام – يفيد باستشهاد “الصحافي عبد الكريم عودة جراء القصف الصهيوني على قطاع غزة”، دون أن يشير البيان إلى مكان القصف.

وهكذا، تم تعديل الأرقام في الفقرات السابقة من التقرير فبدل كتابة 86 شهيدا، تم اعتماد الرقم الجديد 87، مع العلم أن المكتب كان قد نشر يوم الإثنين أسماء الصحافيين الذين استشهدوا خلال العدوان، وكان عددهم 86 والذين كان آخرهم الصحافي محمد أبو سمرة، الذي استشهد يوم الأحد باستهداف صهيوني.

بلينكن يؤيد على وجوب “حماية الصحافيين”

من جهته، قال وزير الخارجية الأمريكي، أنتوني بلينكن، في رده على رسالة لوكالة “فرانس برس” حول مصير الصحافيين في غزة، إنه يؤيد الحماية “التي لا لبس فيها” للصحافيين في مناطق النزاع.

وكانت وكالة “فرانس برس” ووسائل إعلام دولية أخرى وجهت رسالة مشتركة إلى بلينكن، نهاية أكتوبر، تطلب منه المساعدة في حماية الصحافيين الذين قضى عدد منهم وأصيب عدد آخر منذ بداية العدوان على غزة.

وأكد، في الرسالة التي أرسلها يوم الثلاثاء، أن الولايات المتحدة “ستواصل التأكيد للكيان ولكل الدول ضرورة حماية الصحافيين”، مضيفًا أن واشنطن “تدافع بشكل لا لبس فيه عن حماية الصحافيين في النزاعات المسلحة”.

كما أرسل مئات النواب الفرنسيين، معظمهم من اليسار، رسالة إلى رئيسة الوزراء إليزابيت بورن، يوم الإثنين، طالبوها من خلالها “ببذل قصارى الجهود” للسماح “بإجلاء صحافيين في وكالة فرانس برس عالقين في قطاع غزة”.

المدير العام للمكتب الإعلامي الحكومي في غزة إسماعيل الثوابتة لـ”الأيام نيوز”:

جيش الاحتلال تعمّد اغتيال ما يزيد عن 87 صحافيا في عدوانه على غزة”

أبرز المدير العام لمكتب الإعلام الحكومي في قطاع غزة، إسماعيل الثوابتة، بأن (جيش) الاحتلال الإسرائيلي تعمّد اغتيال ما يزيد عن 87 صحافيا وصحافية، خلال عدوانه الهمجي والهستيري على قطاع غزة، في محاولةٍ منه لاغتيال الرواية الفلسطينية وطمس حقيقة الأحداث الجارية في القطاع، ومنع وصول المعلومات والأخبار كما هي إلى الرأي العام الإقليمي والعالمي، ومحاولة منه لترهيب الصحافيين في الميدان وإجبارهم على السكوت والصمت وثنيهم عن أداء مهمتهم في توثيق الحقيقة، إلا أن هذه المحاولات لم تجد لها طريقا، أمام ثبات وصمود الصحافيين الفلسطينيين الذين ساهموا وبشكلٍ غير مسبوق وبكل شجاعة وجرأة وبطولة في كشف وفضح ما يرتكبه الاحتلال الصهيوني من جرائم ومجازر وحشية بحق الأبرياء والمدنيين الآمنين في بيوتهم في قطاع غزة.

وفي هذا الصدد، أوضح الثوابتة، في تصريح لـ “الأيام نيوز”، أن (جيش) الاحتلال الإسرائيلي وفي إطار مساعيه الرامية إلى طمس الحقيقة، قام خلال عدوانه الجائر والمتواصل على قطاع غزة منذ تاريخ السابع أكتوبر الماضي، باعتقال 6 صحافيين ممّن عُرفت هوياتهم حتى الآن، في خرقٍ واضح وفاضح لكل القوانين والمواثيق الدولية التي تمنح الصحافيين الحصانة القانونية خلال تغطية الأحداث الميدانية.

في السياق ذاته، وجّه المدير العام لمكتب الإعلام الحكومي في قطاع غزة “تحية إجلال وإكبار وتقدير إلى الصحافيين والإعلاميين والنشطاء، الذين نجحوا بشكل كبير في تصدير الرواية الفلسطينية، وكسروا رواية الاحتلال، وفضحوا جرائمه ضد المدنيين والأطفال والنساء، وبات العالم كله يعرف الحقيقة التي سعى الكيان الصهيوني جاهدا لإحفائها، لكن دون جدوى”.

هذا، وندّد الثوابتة بأشد العبارات بجرائم الاحتلال بحق الصحافيين والصحافيات الفلسطينيين من خلال اغتيالهم أو اعتقالهم أو استهدافهم وإصابتهم، داعيا ومُطالبا الاتحادات والمنظمات الصحافية والإعلامية حول العالم، إلى “إدانة جرائم الاحتلال الإسرائيلي بحق الصحافيين الفلسطينيين، والضغط عليه للإفراج عن الصحافيين المعتقلين الذين يتعرضون للتحقيق والتعذيب والضغط النفسي داخل سجون ومعتقلات الاحتلال”.

الناطق الإعلامي باسم حركة حماس جهاد طه لـ “الأيام نيوز”:

“استهداف الصحافيين تعدّ صارخ على المواثيق الدولية”

قال الناطق الإعلامي باسم حركة حماس، جهاد طه، إن الاستهداف الصهيوني الممنهج لوسائل الإعلام وللصحافيين الذين يعملون على نقل الأحداث والوقائع منذ بدء العدوان الوحشي المتواصل على قطاع غزة، أصبح أمرا واضحا وجليا للمجتمع الدولي،  بطريقة لا يُمكن إحفاؤها بأي شكلٍ من الأشكال. وبطبيعة الحال، هذا الاستهداف يخالف القانون الدولي ويخالف كل الأعراف والمواثيق الدولية التي كفلتها الشرائع الدولية لمهنية الإعلام في العالم، وبالتالي يجب أن تكون هناك حماية، وأن يكون هناك صون لرسالة الإعلام التي يؤديها ويحملها أي صحافي وأي وسيلة إعلامية في قطاع غزة.

وفي هذا الصدد، أوضح الأستاذ طه، في تصريح لـ “الأيام نيوز”، بأنه منذ السابع من أكتوبر الماضي، استشهد ما يزيد عن  86 صحافيا فلسطينيا تابعين للعديد من وسائل الإعلام المحلية والدولية، نتيجة قصف (جيش) الاحتلال الإسرائيلي لمنازل الصحافيين ومقار عملهم، كان آخرهم الشهيد الصحافي عبد الكريم عودة، الذي ارتقى أمس بنيران (جيش) الاحتلال النازي. وإن كان هذا الأمر يُبرهن على شيء، فإنما يُبرهن على أن الاحتلال الصهيوني يحاول اليوم أن يشطب وأن يمحو أي رواية لأي وسيلة إعلامية تنتقد الرواية والسردية الإسرائيلية للوقائع والأحداث الدائرة في القطاع، وتفضح وتكشف حجم الجرائم والمجازر الدامية التي يتمادى (جيش) الاحتلال في ارتكابها جهارا نهارا بحق الأبرياء والعزل في قطاع غزة.

في السياق ذاته، أشار الناطق الإعلامي باسم حركة حماس إلى أن استهداف الاحتلال الصهيوني المتعمّد لصوت الحقيقة في غزة لم يقتصر فقط على الصحافيين، إنما أيضا يُركز (جيش) الاحتلال الإسرائيلي وبشكلٍ ممنهج على استهداف عائلات الصحافيين وقصف منازلهم كما حصل قبل يومين مع صحافي الجزيرة “أنس الشريف” الذي تم قصف منزله واستشهاد والده، وهناك أيضا العديد من الصحافيين الذين تم استهداف عائلاتهم، على غرار عائلة مراسل “الجزيرة” ومدير مكتبها في غزة وائل الدحدوح، حيث استشهدت زوجته وابنه وابنته وحفيده بعد استهداف منزل نزحوا إليه في وسط قطاع غزة، بالإضافة إلى العديد من الصحافيين الآخرين الذين أصروا على تأدية  الرسالة الإعلامية الصحيحة ونقل الحقيقة كما هي إلى المجتمع الدولي، من خلال تغطية جرائم الاحتلال البشعة وحرب الإبادة التي يرتكبها ضد الشعب الفلسطيني في قطاع غزة على مدار الساعة.

وفي ختام حديثه لـ “الأيام نيوز”، أكّد الناطق الإعلامي باسم حركة حماس، جهاد طه، على ضرورة أن يكون هناك تحرك دولي عاجل على مستوى المؤسسات الإعلامية المهنية كافة للتضامن مع الصحافيين الفلسطينيين أولا، ولإدانة الاحتلال والعمل على محاسبة قادته على جرائم الحرب التي تم ارتكابها بحق الصحافيين أو بحق وسائل الإعلام بهدف إسكات صوت الحقيقية في قطاع غزة.

رئيس الاتحاد الوطني للصحافيين والإعلاميين الجزائريين قديري مصباح:

“استهداف الصحافيين جريمة حرب والاحتلال لن يفلح في تكميم الأفواه”

أكّد رئيس الاتحاد الوطني للصحافيين والإعلاميين الجزائريين، قديري مصباح، أن استهداف الاحتلال الصهيوني الصحافيين وعائلاتهم ومقار عملهم في قطاع غزة جريمة لن تطمس بأي شكلٍ من الأشكال حقيقة ما يرتكبه (جيش) الاحتلال من مجازر وانتهاكات بالجملة بحق الإنسانية وبحق الشعب الفلسطيني في غزة، متجاوزا بذلك قواعد القانون الدولي والإنساني، واتفاقية جنيف الرابعة التي نصت على حماية الصحافيين.

وفي هذا الشأن، أوضح الأستاذ قديري، في تصريح لـ “الأيام نيوز”، أن هناك العديد من الصحافيين الفلسطينيين الذين يتعرضون إلى تهديدات مباشرة وحملات تحريضية من قبل عدة صفحات تابعة للكيان الصهيوني عبر مختلف منصات التواصل الاجتماعي، كما حدث لصحافيين من غزة وآخرين في الضفة الغربية، حيث تم رصد عدد من المنشورات العبرية التي تحرض وتطالب بتصفيتهم واصفة إيّاهم بالمخربين والإرهابيين؛ ومن هنا، بات لِزاما على الأمم المتحدة وبشكلٍ خاص”اليونسكو” أن تعمل بجديّةٍ تامة على توفير وضمان حمايةٍ دولية للصحافيين الفلسطينيين من القتل والاستهداف الممنهجَين من قبل (جيش) الاحتلال، والحفاظ على حقوقهم وعلى إمكانية حصولهم على خدمات الإنترنت وغيرها من وسائل الاتصال المختلفة، حتى يتمكنوا من أداء مهاهم الصحافية وإيصال رسالتهم الإعلامية ونقل حقيقة ما يجري من أحداث ووقائع في القطاع للعالم بأسره.

في السياق ذاته، أشار المتحدث إلى ضرورة كشف وتسجيل ورصد كل الانتهاكات والاعتداءات الجسيمة والجرائم التي يرتكبها الاحتلال الصهيوني السافر ضد الصحافيين في القطاع، من قتل واعتقال وتدمير ممنهج للمؤسسات الصحافية الفلسطينية ولمنازل عشرات الصحافيين بشكل مُتعمّد، في محاولة يائسة وبائسة من الكيان الصهيوني لإسكات صوت الحق وتغييب الرواية الفلسطينية التي تنقل مجازر الاحتلال واستهدافه الهستيري والوحشي للأبرياء والمدنيين العزل في غزة، بما فيهم الأطفال والنساء والشيوخ.

وأردف قائلا: “إن تمادي الاحتلال في محاولاته البائسة لإسكات صوت الحق الفلسطيني وصل به إلى الذهاب بعيدا في وقاحته ودناءته، حتى يتجرأ على إبلاغ وكالات الأنباء العالمية كذبا بأنه لا يستطيع ضمان سلامة صحافييهم العاملين في قطاع غزة، الأمر الذي يُعدّ تعديا صارخا على قواعد القانون الدولي والإنساني واتفاقية جنيف الرابعة التي نصّت على حماية الصحافيين، وانتهاكا واضحا لنص قرار مجلس الأمن رقم (2222)، الذي يؤكد على ضرورة حماية مهنيي الصحافة والأفراد المرتبطين بهم باعتبارهم مدنيين”.

وختاما، جدّد رئيس الاتحاد الوطني للصحافيين والإعلاميين الجزائريين، قديري مصباح، تأكيده على أن الاستهداف الممنهج للصحافيين والمؤسسات الإعلامية من قبل (جيش) الاحتلال في قطاع غزة، هو محاولة مخزية من الكيان الصهيوني لإسكات صوت الإعلام الذي ينقل وبشفافية مطلقة واحترافية متناهية حقيقة ما يحدث على أرض الواقع في غزة، من حرب إبادة جماعية ومجازر يَندى لها الجبين أغلب ضحاياها أطفال ونساء، منوّها في السياق ذاته، بضرورة ملاحقة الاحتلال الصهيوني على ما ارتكبه من جرائم بحق الصحافيين الفلسطينيين وتقديمه للمحاكم الدولية، حتى لا تمرّ كل هذه الجرائم التي ترقى إلى جرائم حرب بحق الصحافيين بلا محاسبة وبلا عقاب.

اعتداءات غير قانونية وغير أخلاقية وغير مبرّرة..

الاحتلال ينفّذ أكبر جريمة بحق الصّحافيين في التاريخ الحديث والمعاصر

بقلم: إخلاص طمليه – باحثة اجتماعية فلسطينية

بعد تلقّيه عدّة تهديدات من ضبّاط الاحتلال، استهدفت قوّات الاحتلال أول أمس منزل الصّحافي أنس الشّريف في مخيم جباليا، ليفقد والده بهذا القصف المتعمّد، تلقّى أنس صدمة شديدة حين علم باستشهاد والده في القصف، ليصرخ بحرقة: “بدّي أشوفه آخر مرة” قبل أن يَعِد بأن “يواصل تغطية جرائم الاحتلال الإسرائيلي في حقّ الفلسطينيين في غزة”. وأردف قائلا “الاحتلال لا يريد للصّورة أن تخرج وسنمضي في التّغطية رغم الحصار”.

يتناول المقال التّالي رصدا استقصائيا للانتهاكات الإسرائيلية بحقّ الصّحافيين بغزّة منذ اندلاع الحرب الدّموية التي شنَّها الاحتلال الإسرائيلي على قطاع غزّة في 7 أكتوبر الماضي، ويسلّط الضّوء على الارتفاع الملحوظ في هذه الانتهاكات من قبل الاحتلال الإسرائيلي كما ونوعا.

اتّهامات وتهديدات

استشهاد والد أنس الشّريف ليس الانتهاك الوحيد بحقّ الصّحافيين خلال عدوان الاحتلال، حيث يتلقّى الكثير من الصّحافيين الغزّيين الذين ينقلون واقع جرائم الاحتلال البشعة تهديدات مستمرّة من ضبّاط إسرائيليين لوقف تغطية (الحرب) الإسرائيلية على قطاع غزّة. ومن الواضح أنّ ما تمارسه قوّات الاحتلال الإسرائيلي وما تقوم به من اعتداءات على الصّحافة، بما فيها جرائم القتل العمد وتهديد السّلامة الشّخصية للصّحافيين، والاعتداء عليهم بالضّرب واحتجازهم، وتكسير معدّاتهم أو مصادرتها، هي جزء من حملة منظّمة لإخفاء جرائم الحرب بحقّ العزّل والمدنيين عن باقي أرجاء العالم، وللتّغطية على ما تقترفه من جرائم بحقّ المدنيين.

وفي تصريح سابق في بداية الحرب الجارية لوزير الإعلام لدى دولة الاحتلال الإسرائيلي، شلومو كارهي، وبّخَ وسائل إعلام دولية، من بينها “نيويورك تايمز” و”سي إن إن” ووكالة “أسوشيتد برس” و”رويترز” على ما سمّاه “تواطؤ” مراسلي هذه الوسائل مع المقاومة الفلسطينية. واتّهم الوزير الإسرائيلي وسائل الإعلام المذكورة بتوظيف مراسلين كانوا على علم مسبق بمعلومات عن هجوم “طوفان الأقصى”، الذي شنّته حماس في 7 أكتوبر الماضي.

وقال كارهي: “قد نما إلى علمنا أنّ بعض الأفراد داخل مؤسّستكم، بما في ذلك المصوّرون وغيرهم، كان لديهم معرفة مسبقة بهذه الأعمال المروّعة، وربما حافظوا على علاقة مثيرة للقلق مع الجناة”. واتّهم الوزير المصوّرين الصّحافيين بالوصول إلى حدود “إسرائيل” إلى جانب إرهابيي حماس، وتوثيق مقتل مدنيين إسرائيليين، وإعدام جنود من دون محاكمة وعمليات اختطاف في غزّة”، مطالبا بـ”الرّد على هذا الموقف المزعج”.

وصرّحت النّائب في البرلمان الأوروبي “مارجريت أوكن” تقول: “من الواضح جدا أنّ الصّحافيين في غزّة يعاقبون بسبب تأديتهم لعملهم، وهذا أحد الانتهاكات الإسرائيلية الوحشية ضدّ وسائل الإعلام والصّحافيين، وهو جزء من الانتهاكات المتعلّقة بسياسة الفصل العنصري والاحتلال ضدّ الفلسطينيين بشكل عام”.

شهداء الحقيقة

يبقى الصّحافيون الفلسطينيون يواصلون عملهم في هذه الظّروف الصّعبة، التي تجعلهم في كثير من المرات من ناقلين للحدث إلى الحدث نفسه!

يعيش الصّحافيون الفلسطينيون خطر الموت كلّ يوم، خاصة خلال فترات العدوان، وهو لا يشكّل بالنّسبة إلى الكثيرين منهم هاجسا إنّما قد يكون دافعا لهم، لأنّ جهاد القلم  جزاؤه الشّهادة بإذن الله. يثبت الاحتلال من جديد أنّ استهداف الصّحافيين هو منهج وسياسية مستمرّة لديه، وأنّ هذه السّياسة لا تقف عند حدّ الاعتداء بالضّرب والاعتقال، وإنّما تصل إلى القتل، حيث وصل عدد الشّهداء الصّحافيين إلى 87 صحفيا شهيدا بحسب المكتب الإعلامي الحكومي بغزة منذ انطلاق الحرب الدّموية التي شنَّها الاحتلال في 7 أكتوبر الماضي، وهو رقم غير مسبوق في جميع الحروب العالمية في العصر الحديث، كما يتجاوز عدد الشّهداء الصّحافيين في الضّفة الغربية وقطاع غزّة منذ انتفاضة الأقصى عام 2000 حتى نهاية عام 2022 الذي وصل إلى 55 صحفيا شهيدا.

ومنذ اليوم الأول للعدوان الإسرائيلي، كشف الصّحافيون والمراسلون الصّحافيون الموجودون داخل قطاع غزّة وخارجها زيف السّردية الإسرائيلية للحرب، عبر محاولاتهم المستمرّة لكشف جرائم الإبادة العِرقية التي تقوم بها قوّات الاحتلال، والتّحقيق في التّناقضات والاتهامات التي تطال الفلسطينيين، فاستطاعوا إثبات كذب الرّواية الإسرائيلية حول قتل الرّضع الإسرائيليين وحرقهم، وكشفوا زيف ادعاءات الاحتلال بشأن قصف فصائل المقاومة للمستشفى المعمداني، وغيرها من الادعاءات الإسرائيلية التي لا أساس لها من الصّحة. وبدلا من إيقاف الاحتلال جرائمَه بعد فضحها يقوم بمهاجمة الصّحافيين بدرجة غير مسبوقة من التّعمد الواضح لقتل الصّحافيين وترويعهم سعيا وراء طمس الحقائق التي لا تغطّى بغربال.

كما امتدّت اعتداءات الاحتلال على الصّحافيين لتقصف عائلاتهم الآمنين في بيوتهم، في نوع من الابتزاز اللّا أخلاقي للصّحافيين. وهو ما عبَّر عنه الصّحافي وائل الدحدوح، مدير مكتب الجزيرة في غزّة، بعبارته: “بينتقموا منّا في الولاد”. والذي تلقّى نبأ استشهاد زوجته وأبنائه وعدد من أفراد عائلته في غارة جوية إسرائيلية، إثر قصف الاحتلال منزلهم في مخيم النصيرات وسط غزّة، وهو المنزل الذي لجأوا إليه بعد قصف حيّهم وعقب دعوة قوات الاحتلال الإسرائيلية للمدنيين إلى التّحرك باتجاه جنوب قطاع غزة. هذه الجريمة كانت متعمدة باعتراف محرّر الشّؤون الفلسطينية في القناة 13 الإسرائيلية، تسفي يحزقيلي، الذي قال: “إنّ عائلة مراسل قناة الجزيرة في قطاع غزّة وائل الدّحدوح كانت هدفا لقصف جيش الاحتلال، مؤكّدا أنّ قوّات الجيش تعرف ما تضربه بالضّبط. ”

كما اتّسعت قائمة الصّحافيين الذين استهدفوا في منازلهم لتشمل – على سبيل المثال لا الحصر – استهداف منزل محمد أبو حطب، مراسل قناة فلسطين، ليستشهد مع 11 فردا من أسرته. واستهداف الصّحافي في “وكالة وفا” محمد أبو حصيرة ليستشهد مع أكثر من أربعين فردا من أفراد عائلته.

وخلال نقله خبر استشهاد زميله محمد أبو حطب، قال مراسل قناة فلسطين: “إنّنا ضحايا على الهواء مباشرة، شهداء مع فارق التّوقيت فقط، نحن نمضي واحدا تلو الآخر.. لا حماية دوليّة، ولا حصانة لأي شيء هذه الدّروع والقبّعات التي نرتديها هي شعارات لا تحمينا على الإطلاق”، قال هذا وهو يخلع درع وخوذة الصحافي ويلقي بهما على الأرض. كما نشرت الصحافية بلستيا العقّاد على حسابها بموقع إنستغرام صورة لدرع وخوذة الصّحافة وعلّقت قائلة: “اعتدت دائما ارتداء درع وخوذة الصّحافة، لكن مؤخرا توقّفت عن ارتدائهما، لا أشعر بالأمان في غزّة، وخاصّة وأنا أرتدي درع وخوذة الصّحافة، أتمنّى أن ينتهي الكابوس قريبا وألاّ نفقد المزيد من الصّحافيين”.

لا تمثّل الاعتداءات الصّهيونية على رجال الإعلام في فلسطين المحتلّة أحداثا منعزلة، بل هي ممارسات إجرامية تتكرّر كل يوم، وفق ما توثّقه المؤسّسات المحلية المستقلّة التي تعنى برصد الخروقات المرتكبة في حقّ الصّحافيين، مما يحوّل حياة الصّحافيين الفلسطينيين وعائلاتهم إلى قصص مؤلمة يضطرّ زملاؤهم لتغطيتها على الهواء، في دليل واضح على الاستخفاف بالقانون الإنساني الدّولي، بما في ذلك “اتفاقية جنيف الرابعة بشأن حماية المدنيين في زمن الحرب للعام 1949.

الصهاينة.. عين على الصّحافة المأجورة ورصاصة في قلب الأقلام والأصوات المغدورة

بقلم: الدكتور هشام بوبكر – باحث أكاديمي وخبير اجتماعي

بعد ما غمر طوفان الأقصى، في 07 أكتوبر المنقضي، شواطئ “إسرائيل” واصطاد أبطاله جنودها وأسروا الكثير منهم، سقط القناع عن أسطورة الرّعب وفزّاعة القوّة الإقليمية التي تمتلكها “إسرائيل”، وتلاشت عن الصّهيونية فكرة العبقرية البشرية وأنّها مصدر الحكمة السّياسية والعسكرية والإنسانية، فباتت كلّها تضخيم وتهويل لصورة الصّهاينة اليهود، وأوهام زائفة أثّرت على نفوس بعض حكّام الغرب والعرب قبل الشّعوب والجماهير.

فقد كسرت الأحداث الأخيرة شوكة النّشاط الصّهيوني في مجال الصّحافة والإعلام، الذي كان يعمل على استغلال وتطويع وسائل الإعلام بكلّ أنواعها وأساليبها، لتوجيه الرّأي العام العالمي نحو مصلحة اليهود الصّهاينة وإلى تحقيق مآربهم وأهدافهم العقائدية الاستغلالية والاستعمارية والانتقامية المقيتة، فالإعلام والصّحافة – في نظرهم – من أهمّ الوسائل التي يجب الاعتماد عليها للسّيطرة على العالم وإقامة إمبراطوريتهم المزعومة.

لكنّ أبطال الأقصى ومريدوه هزّوا كيان الصّهاينة بإعلامهم البسيط المتواضع؛ إعلام الهاتف الذّكي والكاميرا الصّغيرة والاحترافية العالية للإعلام العسكري للمقاومة الفلسطينية، فزعزعوا نفوسهم وقضوا مضاجعهم وأوجعوا قلوبهم بصور ومشاهد الانتصار المدوّي  على قوّتهم العسكرية المتطوّرة وعلى جيوشهم المدجّجة بمختلف الأسلحة الحديثة وبتقنيات وأساليب الحماية الجديدة والمبتكرة ، التي يبثّها إعلام المقاومة الفلسطينية عبر وسائل التّواصل الاجتماعي وقنوات الاتصال غير الرّسمية، فقد أرعب الصّهاينة ثبات صوت المقاومة  الإعلامي الذي يصدح بالحقّ وبأخبار الانتصار المتوالي والمتتالي.

كما أبهر العمل الصّحافي المقاوم والإعلام المدني المتمرّس في غزّة العالم برمّته، في نشر مظاهر التّكافل والتّعاون والتّضامن وحبّ الوطن والحفاظ على الهوية الدّينية والثّقافية والتّضحية لأجلهما بالنّفس والنّفيس.. إلخ، فبالرّغم من القتل والجرح والمرض والحاجة والفقر والفاقة وانتشار الأمراض والأوبئة، لم نسمع لا عن سرقة ولا اختلاس واغتصاب ولا تعدّ على الممتلكات، بل تنقل وتسوّق لنا الأنباء والأخبار عن السّلوكيات الحضارية المتحضّرة كحسن المعاملة مع الغريب قبل القريب، والتّسامح والتّعاطف والتّعاون ونكران الذّات النّابع عن الايمان الصّادق بثوابت الدّين الاسلامي الحنيف.. إلخ.

وقد أخاف الصّهاينة، بل أرعبهم، ثبات الصّحافيين والإعلاميين على نقل الحقائق ونشر الوقائع والأحداث رغم قنابلهم وتفجيراتهم وتدميرهم وإبادتهم، فيجدونهم دائما في الواجهة الأمامية يبثّون للعالم صورا ومشاهد مروّعة عن الإبادة الجماعية للشّعب الفلسطيني في قطاع غزّة، التي تجاوزت حدود العقل البشري والمنطق العسكري الحربي، وتعدّت بكثير ما يصطلح عليه بالإنسانية، فأين هي منظّمات حقوق الإنسان؟ وأين هي الحماية الدّولية للأطفال وللأبرياء العزّل؟ وأين هي العدالة والمساواة؟ وأين هي الدّيمقراطية التي تغنّت بها الأنظمة الغربية؟ وأين وأين وأين؟!

كما لم تسلم من بطش اليهود الصّهاينة حرمة الصّحافيين والإعلاميين في غزّة، فلم يقتصر الاعتداء عليهم في الميدان فقط على القتل والتّنكيل، بل تعدّى إلى قصف واستهداف مقرّاتهم وعائلاتهم ومنازلهم وممتلكاتهم عمدا، فحسب بعض التّقارير الصّحافية استشهد منذ اندلاع حرب الإبادة الشّاملة التي شنّتها القوّات الصّهيونية على شعب غزّة ما يقارب 87 صحفيا وعاملا في مجال الإعلام؛ كما أضحت وسائل الإعلام العبرية تحرّض على أسر وسجن بل قتل الصّحافيين بذكر أسمائهم وألقابهم، فتعتبر هذه الفترة من الزّمن – حسب ذات التّقارير الصّحافية – الأكثر دموية في تاريخ الصّحافة والصّحافيين، فأين هي المنظّمات والهيئات العالمية التي تدافع عن الصّحافي وعن حرية الصّحافة وعن الحقّ في الممارسة الحرّة للتّعبير عن الرّأي عبر وسائل الإعلام المختلفة؟ أين هي القوانين والدّساتير الدّولية التي تنصّ على حرية الصّحافة وتحمي العمل الصّحافي والصّحافيين؟

أمّا الصّحافة المأجورة التي فضحها “طوفان الأقصى” وفضحتها المقاومة الفلسطينية وصلابة وثبات وصبر الشّعب الغزّي الأبي- دون ذكر أسمائها وتحديد أماكنها أو الإشارة إلى أبواقها- فسياستها معروفة وتوجّهاتها مكشوفة وآرائها المسمومة أصبحت معروفة ومعلومة للعامّة قبل الخاصة، تريد أن تغدق على شبابنا ومجتمعاتنا جام غضب الصّهاينة المفسدين وحقد الصّليبيين وفكر المجوسين والملحدين، فهي تعرف جيدا وتحاول جاهدا مخاطبة عقول الغافلين من العرب والمسلمين، وتسعى لشلّ فكرهم وعقولهم وتعمل على إعادة تشكيل فهمهم وتصوّرهم للعالم وفق ما يناسب الخطط والسّياسات الصّهيونية بدعوى السّلام العالمي المنشود.

رحم الله الصّحافيين والإعلاميين اللّذين استشهدوا في ميدان الشّرف، وضحّوا بحياتهم مقابل نقلهم للحقيقة وفي سبيل تأدية مهامهم النّبيلة، وتحية إجلال وإكبار للشّرفاء الذين لم تنحنِ أقلامهم وعدساتهم للخوف وللتّهديدات ولا للإغراءات والمزايدات، وتصدّوا إلى الزّيف الإعلامي الصّهيوني ووجّهوا أقلامهم وأصواتهم وجهة صحيحة، ووقفوا أمام مخربي هذه المهنة النّبيلة؛ فهي أمانة رجال الصّحافة والإعلام الشّرفاء.

صراع الرّواية..

الحقيقة أقوى من أن تغتالها “إسرائيل”

بقلم: سليمان بشارات – مدير مؤسسة يبوس للدراسات – رام الله

شكّل إنشاء المشروع الصّهيوني على الأراضي الفلسطينية المحتلّة نواة لمبدأ الإحلال للشّعب الأصلي، واستبداله بالمفهوم الاستيطاني البديل؛ وقد حمل معه العديد من المبرّرات لصياغة هوّية تنطلق على أساس تحريف التّاريخ، وإعادة صياغة الهوية المكانية، وإنتاج المضامين الرّافعة له، انطلاقا من معتقدات دينية توراتية تارة، أو أبعاد سياسية وتهويديه أو أبعادٍ إستراتيجية تلاقت مع داعمه الأساس المتمثّل في الاستعمار الغربي، في الوقت ذاته.

في المقابل، رفض الفلسطينيون هذا المشروع الاستيطاني التهويدي، منطلقين من محدّدين؛ الأول الارتباط الوجداني بالأرض، موطنه الذي ورثه عن أجداده. والثّاني رفضه القبول بمن يحاول أن يسرق منه هذا الحق من خلال تحوير الحقائق، وتزويرها وفقا لمنظوره الدّيني والسّياسي، مما أسّس وساهم في تشكيل الحالة النّضالية الفلسطينية بأدواتها ومنهجياتها ومحطاتها.

مثّل الإعلام، أحد أهم الأدوات التي منحت الفلسطيني القدرة على مواجهة الرّواية الإسرائيلية القائمة على مبدأ تزييف الواقع والحقائق، عبر محطّات تاريخية شهدت تحوّلات ميدانية، بجانب التحوّلات في شكل وطبيعة الأدوات الإعلامية ومضامينها، ابتداء بعصر الإعلام التّقليدي وصولا للإعلام الرّقمي.

خضع الإعلام الفلسطيني في مواجهة الدّعاية الإسرائيلية لكثير من المحطّات والتّجارب، إضافة لتقسيمات في المفاهيم النّابعة من واقع فلسطيني لم يتشكّل ككتلة واحدة، حتى في مواجهته مع الاحتلال، مما أفرز مضامين إعلامية تعبّر عن نجاحات في محطات، وإخفاقات في محطّات أخرى، واتّسم بعضها الآخر بمحاولات التّطوير والتّجريب الاجتهادي من منطلق الواجب الوطني والانتماء.

لكنّ السؤال الذي يطرح في ظلّ الحرب على غزّة، ما الدّوافع الإسرائيلية وراء اغتيال واستهداف الصحفيين أو عائلاتهم؟

تنطلق الإجابة على السّؤال السّابق مع زيادة الوعي بأهميّة وسائل الإعلام كأداة تعمل بشكل مواز بين استنهاض حالة الوعي الدّاخلي للمجتمعات تجاه القضايا المحورية التي تمسّها من جانب، وما تمثّله من أداة لتفنيد الادّعاءات التي تغذّيها القوى الاستعمارية لتثبيت نفوذها في الأراضي التي تحتلّها من جانب آخر، خصوصا وأنّ تشكيل اتجاهات الرّأي العام وهندسة الجمهور تمثّل ساحة مهمّة في تراكمية عملية التحرّر، وهو ما ينطبق على ما يقوم به الاحتلال الإسرائيلي الآن بشكل مواز لما يجري من حرب ميدانية، مع العلم أنّ المشروع الصّهيوني، ومنذ بداياته الأولى، حاول تفكيك المجتمع الفلسطيني داخليا عبر سياسات متعدّدة، تمثّل جزء منها في عمليات التّرحيل القسري (الترانسفير)، وأخرى بعملية تغييب الوعي الوطني للقبول بالاحتلال كواقع عبر محاولة محو ثقافي، أو تغيير للهوية المكانية أو السكانية ليسهل تسويق الأفكار التي تقوم عليها الحركة الصهيونية.

فقد حاولت الحركة الصهيونية، التي تربعت على عرش الإمبراطورية الإعلامية في العالم، أن تمسح وجود الهوية العربية الإسلامية الفلسطينية ، ليتم استبدالها بهوية قومية يهودية، إلا أنها لم تستطع أن تحقق هذا الهدف، بل إن الفلسطينيين كانت لديهم القدرة على حماية الحق الوجودي لهم وارتباطهم بهذه الأرض وهذه هي الحقيقة التي رسخها الإعلام الفلسطيني باختلاف محطاته، ومضامينه.

ويمكن تفسير عملية الاستهداف الممنهجة للصّحافيين الفلسطينيين في قطاع غزّة، خلال هذه الحرب، ضمن مجموعة من الأهداف الإسرائيلية التي يتمثل أولها في محاولة تغييب صورة الجرائم التي تحدثها الآلة العسكرية الإسرائيلية والتي ذهب ضحيتها ما يزيد عن 18 ألف شهيد، وما يزيد عن 40 ألف جريح وقرابة 6 آلاف مفقود، فيما دمرت ما يزيد عن 40 ألفا من البيوت والمساكن في القطاع، إلى جانب تدمير ممنهج للقطاع الصحي والتعليمي والمساجد والكنائس.

هذا الكشف في حجم الجريمة الإسرائيلية لعب دورا هاما في إعادة تأطير الرّأي العام الشّعبي والدّولي، الذي حاول قادة الاحتلال في بداية الحرب استعطافهم وتحشيدهم لتبرير ما يمكن أن ينفذ بهذه الحرب، وهو شبيه بذات السّياسة الأمريكية التي ارتكزت عليها في غالبيتها حروبها في منطقة الشّرق الأوسط.

ثاني الأهداف التي سعت إليها “إسرائيل” من عمليات استهداف الصّحافيين، محاولة تثبيت وحدانية المضمون والخطاب الإعلامي، فالكيان الإسرائيلي اعتاد أنّه هو من يصنع الرّواية والمضمون ويقدمه للعالم وفقا لما يخدم مصالحه الاستعمارية. واليوم، الصحفيون في الميدان ينقلون حقيقة وواقعا يكذّب الرّواية الإسرائيلية، بل بالعكس يكشف الادّعاءات والكذب؛ فمنذ اليوم الأول، حاول قادة الاحتلال إلصاق اتهامات بالمقاومة الفلسطينية بقتل النساء والأطفال، لرفع الغطاء الإنساني عنها وشريعتها التي أقرّتها كافة القوانين، والهدف الأساس من هذه الادعاءات شيطنة العمل النّضالي الفلسطيني وربطه بالصّورة الذّهنية التي عايشها الغرب من التّيارات الجهادية التي يعتبر جزء منها من صنيعة المخابرات الغربية، أو ذات التوجهات الفكرية المنحرفة، علها – بذلك – تكسب تأييدا دوليا لهذه الحرب، أو مبرّرا لكلّ الجرائم التي تنفّذها بغزّة، إلاّ أنّ هذا الشّيء لم يستطع أن يسيطر عليه الكيان الصهيوني في ظلّ حرب إبادة جماعية ينفّذها، وكان للصّحافيين في الميدان دورا كبيرا في تفنيد هذه الرّواية وكشف زيف الادعاء.

ثالث الأهداف يأتي في إطار تطبيق مبدأ “عقيدة الصّدمة” التي ينتهجها الاحتلال في عملياته العسكرية أو مواجهة النّضال الفلسطيني، إذ إنّ استهداف الصّحافيين يمكن أن يخلق حالة خوف عريض في باقي القطاعات المجتمعية، وهو ما يمكن أن يمهّد الطّريق أمام قدرت الآلة العسكرية الإسرائيلية في تحقيق الأهداف التي وضعت للحرب ، وفي مقدّمتها الضّغط على المواطنين في قطاع غزّة للهجرة، وهو ما قد يتناغم مع الحرب النّفسية التي انتهجها الاحتلال منذ بداية الحرب.

إذا ، نحن نتحدّث عن عملية استهداف مبرمج، ودليل ذلك أنّ الاحتلال إن لم يتمكّن من الوصول للصّحافيين، كان يلجأ لاستهداف عائلاتهم علّه يحقّق الأهداف السّابقة بطريقة غير مباشرة. إلاّ أنّ الوعي لدى الصّحافيين كان قادرا على كسر هذه الإستراتيجية الإسرائيلية انطلاقا من المسؤولية المجتمعية والوطنية، التي يتمتّع بها الصّحافيون الفلسطينيون، هذا من جانب. ومن جانب آخر، كان لوسائل التّواصل الاجتماعي ومنصّاتها المختلفة دورا أيضا في تعزيز مفهوم المواطن المراسل، بحيث تحوّل جزء كبير من المواطنين لناقلي للحقيقة في ظلّ جرائم الاحتلال وممارساته اليوميّة تجاه المدنيين على مدار أيّام الحرب.

الأيام نيوز - الجزائر

الأيام نيوز - الجزائر

اقرأ أيضا

آخر الأخبار
في دهاليز سلطة محكومة بقبضة الدم والفساد.. عين الكاميرا تطارد نتنياهو عزلة جوية وهزائم متتالية في الميدان.. "إسرائيل" تخسر السماء والأرض "مكسب تاريخي لا رجعة فيه".. الشعب الصحراوي يدشّن مرحلة جديدة في نضاله ضمن مقاربة تحديث أنظمة الدفع الالكتروني.. إلى أين وصلت الجزائر في مسار التحوّل الرقمي؟ صاحب مقولة: "ميهمّش خليهم يضربوا".. وداعا يا أيقونة الشجاعة والثبات الفلسطيني قوجيل: "نعتز بصوت الحق الذي يصدح به دبلوماسيونا" عطاف: الجزائر تسعى إلى إقامة شراكة متوازنة مع الاتحاد الأوروبي تبون يتسلّم أوراق اعتماد 4 سفراء جدد لدى الجزائر ملف الفساد بمطار قسنطينة.. الوزيرين الأسبقين بدوي وبوضياف أمام المحكمة العليا 56 شهيدا بالقطاع.. حزب الله يشن "أكبر هجوم" صاروخي على حيفا وباء الملاريا والدفتيريا.. إرسال كميات معتبرة من اللقاحات إلى الولايات الجنوبية “سوناطراك” تشارك في منتدى سانت بطرسبرغ الدولي للغاز منطقة اللبونة جنوب لبنان.. اشتباكات عنيفة بين مقاتلي حزب الله وقوة صهيونية مجمع “إيفيكو” الإيطالي يعرض مشروعا لتصنيع السيارات النفعية بالجزائر تعاون جزائري إيطالي في مجال البحوث والحفريات الأثرية محروقات.. توقيع مذكرة تفاهم بين وكالة النفط وشركة قطرية تعليم عالي.. فتح الترشيحات لنيل درجة أستاذ استشفائي مميز وأستاذ مميز غارات "إسرائيلية" جديدة على ضاحية بيروت الجنوبية الأغواط.. حجز أزيد من 5 قناطر لحوم مجمدة منتهية الصلاحية مخيمي البريج والنصيرات.. 25 شهيدا في قصف الاحتلال الصهيوني وسط غزة