الأديبة السورية “ملك أبيض العيسى”.. هذا ما قالته أوّل مُترجمة للأدب الجزائري المكتوب بالفرنسية (الجزء الأول)

من الأوائل الذين ترجموا الأدب الجزائري المكتوب بالفرنسية إلى اللغة العربيّة، بل أوّل من فتح باب تعريب وترجمة هذا الأدب، هي الأديبة السورية الدكتورة “ملك أبيض العيسى” زوجة الشاعر الكبير “سليمان العيسى” الذي تغنّى كثيرا بالثورة الجزائريّة وأصدر ديوانا عنها بعنوان “صلاة لأرض الثورة”.

ويُذكر أنّ وزارة الثقافة السورية كانت تُصدر، خلال ستينيات القرن الماضي، “سلسلة الأدب الجزائري”، وكلّ ما نعلمه أنّ العدد الخامس من هذه السلسلة، الصادر عام 1962، كان حول عملين مسرحيين للأديب “كاتب ياسين”، هما: الجثّة المُطوّقة، الأجداد يزدادون ضراوة، من ترجمة الأديبة الدكتورة “ملك أبيض”.. ونشير أنّ بعض المصادر كتبت اسم الأديبة السورية: “ملكة أبيض”، ونحن اخترنا كتابته: “ملك أبيض” تبعًا لما كُتِب في غلاف كتابها ضمن “سلسلة الأدب الجزائري”.

“يسعدني – أنا وزوجي الشاعر سليمان العيسى- أن نكون من الأوائل الذين عملوا في تعريب ذلك الأدب (الأدب المكتوب باللغة الفرنسية). فقد ترجمنا ديوان (الشقاء في خطر) لمالك حداد، ورواية (نجمة) ومسرحيتَي: (الجثة المطوقة)، (الأجداد يزدادون ضراوة) لكاتب ياسين”.

من المُجدي أن نتعرّف على ظروف ودوافع ترجمة الأديبة السورية الدكتورة “ملك أبيض” لبعضٍ من أعمال الأدباء الجزائريين الذين كتبوا بالفرنسية، مثل: مالك حداد، كاتب ياسين.. وقد نشرت الأديبة السورية مقالا في مجلة “المعرفة” بعنوان “الأدب الجزائري المكتوب باللغة الفرنسية”، ومن المُهمّ أن يطلّع عليه القارئ الجزائري والعربي، لذلك تعيد جريدة “الأيام نيوز” نشره لأنّه يمثّل إضاءة أخرى لقراءة أدبنا الجزائري بفكر مشرقي..

قرن الأدب الثوري العربي

يُعدّ القرن العشرون في الوطن العربي قرنَ الأدب الثوري بامتياز، ذلك أنّه شهد حركات المقاومة، مقاومة التسلّط العثماني أولا، ثم الصراع مع الاستعمار الأوروبي بجميع أشكاله فيما بعد، ومواجهة الاستيطان الصهيوني وما ارتبط به من عمليات إبادة للشعب العربي الفلسطيني، واحتلال لأراضٍ عربية مجاورة.

وخلال هذا الصراع، وهذه المواجهة كانت الكلمة المخلصة الواعية تثير الشعور، وتفتح الوعي، وتدفع إلى مواصلة النضال. لقد شهدنا ذلك في المشرق العربي في كتابات شعراء وأدباء أفذاذ من أمثال: الشاعر القروي، الأخطل الصغير، حافظ إبراهيم، عمر أبو ريشة، سليمان العيسى، صدقي إسماعيل، هاني الراهب، حيدر حيدر … كما شهدنا في المغرب العربي الأدبَ المكتوب باللغة الفرنسية لشعراء وروائيين كبار أمثال: كاتب ياسين، مالك حداد، محمد ديب، مولود فرعون، مولود معمري.. وذلك من خلال ترجمته إلى اللغة العربية.

“مالك حداد” يتحدّث عن المعجزة الجزائرية

ويسعدني أنا وزوجي الشاعر “سليمان العيسى” أن نكون من الأوائل الذين عملوا في تعريب ذلك الأدب، فقد ترجمنا ديوان “الشقاء في خطر” لـ “مالك حداد”، ورواية “نجمة”، ومسرحيتي: “الجثة المُطوَّقة”، و”الاجداد يزدادون ضراوة” لـ “كاتب ياسين”.

في تقديمي لديوان “سليمان العيسى”، الذي عنوانه “صلاة لأرض الثورة”، ذكرتُ أنّ وراء اتّخاذ القرار ببدء هذه الترجمة كانت زيارة الروائي والشاعر الجزائري “مالك حداد” عام 1961 إلى سورية لاطلاع الأشقاء السوريين على أوضاع الثورة الجزائرية وحاجتها إلى دعمهم المادي والمعنوي، قلت:

لقد التقى “مالك حداد” أبناء الإقليم الشمالي في “دمشق” و”حلب”، وتحدّث إليهم عن المعجزة الجزائرية، وعن دور الأدباء الشبّان فيها. فكان إخوانه، وجلّهم لا يجيد الفرنسية، يصغون إليه بكل جوارحهم.. كانوا يقرؤون كلماته في عبارات وجهه، ويقاطعونه بالتَّصفيق والهتاف، فلا يملك إلّا أن تخضلّ عيناه بالدموع، ويعلِّق قائلا: “إنّ مأساتي تتجلّى لي الآن بشكل أعمق. إني أقف بينكم عييًّا لا أعرف كيف نتفاهم”. (عييًّا: من العي وهو العجز عن التعبير بالكلام).

الفرنسية.. اللغة المنفى!

لقد ذاق ابن قسنطينة التشرُّدَ والغربة منذ كان طفلا.. ولكن غربته هذه تهون إذا ما قِيست بغربته الثانية.. بمنفاه الثاني كما يسمِّيه إنّه اللغة الفرنسية، وسيلته الوحيدة للتّعبير عن نفسه.. عن كل ما يضطرم في صدره من حبٍّ لبلده وثورة وغضب لاحتلاله.

إنَّ “مالك حداد” ورفاقه: كاتب ياسين، محمد ديب، مولود فرعون، مولود معمري.. الناطقين بالفرنسية، يعيشون في منفى هذه اللغة، ويشاء القدر أن يحملوا مسؤولية التعبير عن الأمّ الجزائر وآمالها وثورتها التي لم تهدأ منذ وطئت قدم الاستعمار البغيض هذه الأرض الطيِّبَة. لقد عملت فرنسا بكل ما أوتيت من وسائل على أن تقتلع الجذور العربية من أرض الجزائر.. وتزوِّر فيها حتى التراب.  وبدأت باللغة.. شنّتها حربا ضروسًا على اللغة العربية، فحرَّمتها على كل شفة ولسان، وفرضت اللغة الفرنسية فرضًا على كل جزائري.

“مالك حداد” يتحدث باسم غرباء العربية

ويعتذر “مالك” لصديقه: لا تلمني يا صديقي إذا لم يطربك نشيدي. لقد شاء لي الاستعمار أن أحمل اللَّكنة في لساني.. أن أكون معقود اللسان… لو كنت أعرف الغناء لتكلَّمت العربية. ثم يقرأ من ديوان صغير كان يحمله أبياتًا مؤثِّرة تتحدَّث عن معنى خسرانه اللغةَ العربية:

أبي يا أبي

لماذا حرمتني تلك الموسيقى المنسوجة من لحمي

ودمي؟

أُنظر إلي

إلى ابنك..

ابنك الذي يُلقَّن أن يقول في لغة غريبة

تلك الكلمات الحلوة التي كان يعرفها

عندما كان راعيا ….

يا إلهي!

ما أشدّ وطأة الظلام في عيني هذه الليلة

أماه.. يا مّه!

هل يمكن أن يكون اسمك ma mère؟

لقد فقدتُ برنسي، وبندقيتي، وقلمي..

لقد حملتُ اسما أشدَّ زيفًا من مظهري.

ويهزّ ابن أنطاكية (الشاعر سليمان العيسى زوج الكاتبة) رأسه ويُطرق في ألمٍ عميق، لقد فرّ هو الآخر من منفى اللغة التركية.. لقد اجتاز الحدود وهو فتى صغير. واجتاز معها، داره وبستانه وأهله …

إنّ “مالك” يتحدث باسم غرباء العربية.. باسمهم جميعا.. أيكون غريبا بعد ذلك أن ينطلق “سليمان العيسى” من هذا اللقاء الخاطف فيكتب مجموعته الجديدة “صلاة لأرض الثورة”، في خمسة عشر يوما فقط؟

أدبٌ ملتزم بالجراح والمآسي

أمّا أنا (الكاتبة ملك أبيض) فقد انطلقتُ من هذا اللقاء إلى ترجمة الديوان الصغير الذي أهدانا إيّاه “مالك حداد” وهو بعنوان “الشقاء في خطر”، وكانت تلك بداية عملي في ترجمة نصوص من الأدب الجزائري إلى اللغة العربية. لقد شدّني إلى هذا الأدب أنّه أدب ملتزم.

يقول “مالك حداد” في “الشقاء في خطر”: “نحن ملتزمون… قد يشغل غيرَنا عبثُ الحياة، وقد يُفلسف بعضَهم القلقُ والسأم.. أمّا نحن أبناء الشعب الجزائري الذين فتحنا عيوننا يوم 8 ماي 1945 على مأساة شعبنا – فلم نستطع أن نحذو حذوهم، لقد اخترنا طريق الثورة الذي اختاره شعبنا.. الثورة على الجيش المحتلّ الذي يركلنا بأقدامه، ويُلقي بآبائنا وأشقّائنا صرعى أمام أعيننا.. الثورة على “المعمِّرين” الذين سلبونا أرضنا، واستثمروا كرومنا وبرتقالنا… الثورة على المرتزقة مديري المعامل والورش الذين يُعمِلون فينا سياطهم ويعطوننا بالمقابل أجرًا لا يسدّ الأفواه الجائعة التي نَعولها..”.

لقد اهتمّ الأدباء الجزائريون بأوضاع شعبهم فوقفوا عندها، وانطلقوا باحثين مُنقِّبين، يُمعنون النّظر في كل جرح، وينصتون إلى كل زفرة. وعادوا بذاكرتهم إلى الوراء.. إلى أيام طفولتهم التّعيسة.. إلى شقاء آبائهم وأجدادهم، فاكتملت الصورة لديهم.. صورة الوطن الطّعين.. صورة الشعب الأبيّ الذي تملأ صدره الآمال، ويشطّ به الطريق إليها. إنّ هؤلاء الأدباء مع الإنسانية المعذَّبة كلها، ولكنهم يبدؤون من عذابهم الخاص.

من يفرض سيادة الغزلان؟

يتحدّث “مالك حداد” عن فرنسي كهل يعمل في صنع الأحذية حتى ساعة متأخرة من الليل. وخلال ذلك يداري جوعه بكِسرة من الخبز المدهون بالجبن، وهو يدقّ مسمارا في الحذاء.. إنّ الشعب الفرنسي هو هذا الكهل المجهد… وإذا ما فُهِم التاريخ على هذا النحو، فلن يكون هناك تصفية حسابات… يقول “مالك حداد” في ذلك مخاطبا الشاعر الجزائري: “لا تفضح فرنسا بأغانيك.. ولكن افضح أولئك الفرنسيين الذين لم يحترموا مواطنهم الكهل الكادح، والكتّاب الفرنسيين الأحرار الذين دافعوا عنه وعنك!

إنّ الاستعمار وحربه الوحشية ليسا غير (مرض عصبي) فُرض علينا فرضا.. وأنت أيّها الشاعر لست إلّا الفارس المخاطر الذي يطارد وعلَ الشمال البليد المتوحش ويطرده من الغاب… ليفرض سيادة الغزلان “.

سنبلة واحدة تكفي لتغنّي حقول القمح

أنت يا صديقي الشاعر إنسان في خدمة البشر.. أنت أكبر من أن تكون طائفيا، متحزبا ضيق الأفق.. الشاعر أكبر من أن يتحزّب.. إنه يحلِّق فوق وطنه كنسمة من نسمات التحرير. أمّا كيف اندلعت الثورة في الجزائر، فـ “مالك حداد” يصف بلغة شاعرية جميلة:

وذات يوم أطلّ 8 أيّار (ماي)

أيحتاج الإنسان أن يدفع هذا الثمن كله لكي يفهم؟

لقد شاهدتُ عيونَ رفاقي تقدح بالغضب..

شاهدت عيون رفاقي تبلِّلها الدموع.

رفاقي.. ناسجي العلم الوطني الكبير

علم الجزائر

وها هو ذا ينتصب الآن كالريح القوية

شامخًا.. واسعًا.. كالتاريخ

آهٍ!

يجب أن تكون لدينا فضائل النّحل

لنستحقّ العسل

ولنغنّي.. أيها الرفاق

الموت والأسطورة ينهمران على وطني كالمطر…

إنّ سنبلة واحدة تكفي لتغنّي حقول القمح

ولحظة واحدة تكفي ليهبط الليل

وتكفي لحظة أيضا.. ليولد النهار

هكذا أعلِنت الثورة، والتحق الثّوار بالجبل يقارعون المستعمر. يقول “مالك”:

إنهم يمضون في الأسطورة

والأسطورة تفتح لهم ذراعيها

والآن لقد تجسَّدوا روحا كبيرة

لقد أصبحوا وطني

لن أرى بعد اليوم رفيقي الجزّار

ولا رفيقي معلِّم القرية

إنِّي استميحهم عذرا

لبقائي بعدهم على قيد الحياة

إنِّي أشدّ يُتمًا من ليلة بلا قمر

هذه مقتطفات من الديوان الصغير الذي نقلناه إلى أبناء اللغة العربية.. وهو بمثابة بيان لهذا الأدب.

محمد ياسين رحمة - الجزائر

محمد ياسين رحمة - الجزائر

اقرأ أيضا