الأسرى الفلسطينيون.. صمود لا يعرف القيود

يواصل الأسرى الفلسطينيون صمودهم الأسطوري أمام آلة القمع الصهيونية، متحدّين شتى أساليب القهر والتنكيل التي يمارسها الاحتلال ضدهم. رغم التعذيب والعزل والحرمان، يثبت هؤلاء الأبطال في سجون الاحتلال أن إرادتهم لا تنكسر، وأن معركتهم ليست مجرد صراع من أجل البقاء، بل مواجهة مستمرة دفاعًا عن الكرامة والحرية.

يضع نادي الأسير الفلسطيني هذا الملف الخاص بين أيدي الرأي العام، مستندًا إلى التقارير الميدانية والشهادات الموثقة التي توثق واقع الأسرى داخل الزنازين المعزولة التي تغيب فيها شمس الحرية، حيث يخضعون لحملات قمع منظمة تهدف إلى إخضاعهم وكسر معنوياتهم. غير أن الاحتلال، رغم وحشيته، لم يتمكن من ترويضهم، فهم يواجهون سياط الجلادين بثبات يحطم كل القيود، مؤكدين أن الاحتلال، مهما بطش، لن ينتزع منهم روح النضال والتشبث بالأرض والهوية.

وفي هذا السياق، تفتح “الأيام نيوز” فضاءً لهذه القضية، مسلطة الضوء على معاناة الأسرى الفلسطينيين ونضالهم المستمر ضد آلة القمع الصهيونية، انطلاقًا من التزامها بنقل القضايا العادلة إلى الرأي العام.

وكما كانت الجزائر منارة للتحرر وملهمة لشعوب العالم في كفاحها العادل، تواصل “الأيام نيوز” وقوفها إلى جانب الأسرى الفلسطينيين، الذين يخوضون معركتهم خلف القضبان بإرادة لا تلين، مدركين أن القيد مهما ضاق، لا يمكنه أن يطفئ جذوة الحرية المتقدة في قلوبهم.

هذا الملف ليس مجرد كشف للانتهاكات الصهيونية، بل هو نداء في وجه الصمت الدولي، ودعوة لدعم أولئك الذين يسطرون ملحمة الصمود خلف الأسلاك الشائكة. فمعركة الأسرى ليست قضيتهم وحدهم، بل هي قضية فلسطين، وقضية فلسطين هي قضية الأمة بأسرها.

بن معمر الحاج عيسى 3
بن معمر الحاج عيسى

جرائم لا تسقط بالتقادم… صرخة أسير، فمتى يتحرك الضمير؟

الأسرى الفلسطينيون في السجون الإسرائيلية يمثلون رمزًا للمعاناة المستمرة تحت وطأة الاحتلال، خاصة بعد السابع من أكتوبر 2023، حيث تفاقمت الانتهاكات والممارسات العنصرية بشكل غير مسبوق. إن الوضع داخل السجون الإسرائيلية يعكس صورة قاتمة عن انتهاكات حقوق الإنسان، حيث يُحتجز أكثر من 5,300 أسير، بينهم 160 طفلًا و56 امرأة، في ظروف قاسية وغير إنسانية. بعد السابع من أكتوبر، زادت السلطات الإسرائيلية من قمع الأسرى، حيث تم توسيع نطاق سياسة الاعتقال الإداري بشكل كبير، مما أدى إلى اعتقال المئات دون توجيه تهم واضحة.

تُظهر التقارير أن الأسرى يتعرضون للتعذيب الجسدي والنفسي، ويُحتجزون في زنازين انفرادية لفترات طويلة، مما يؤدي إلى تفشي الأمراض النفسية. الشهادات الحية من الأسرى المحررين تعكس هذه المعاناة، حيث يقول أحدهم: “الأوضاع بعد السابع من أكتوبر كانت أسوأ بكثير. كنا نسمع صرخات الأسرى الآخرين، وكنا مُنعزلين تمامًا، وكان الطعام رديئًا جدًا.” إن هذه الظروف القاسية تتعارض بشكل واضح مع المعايير الدولية لحقوق الإنسان، التي تنص عليها اتفاقيات جنيف، والتي تضمن حقوق الأسرى وكرامتهم.

تتجاهل السلطات الإسرائيلية بشكل متعمد العديد من المعاهدات والاتفاقيات الدولية، مثل العهد الدولي الخاص بالحقوق المدنية والسياسية، الذي يضمن حقوق الأفراد في الاعتقال، بما في ذلك الحق في محاكمة عادلة وحقوق التواصل. ومع ذلك، فإن الصمت الرسمي من المجتمع الدولي حيال هذه الانتهاكات يُعتبر أحد أبرز مظاهر الفشل في حماية حقوق الإنسان. إن عدم اتخاذ إجراءات حقيقية ضد هذه الممارسات يساهم في استمرارها، ويعكس تواطؤًا ضمنيًا من الدول التي تدّعي دعم حقوق الإنسان.

إن حالات استشهاد الأسرى داخل السجون، التي بلغت حوالي 230 حالة منذ عام 2000، تُظهر مدى الإهمال الطبي الذي يتعرض له الأسرى، حيث تُعتبر هذه الحالات نتيجة مباشرة للإهمال والتعذيب. بعد السابع من أكتوبر، تم تسجيل حالات جديدة من الاستشهاد، مما أثار موجة من الاحتجاجات والمطالبات بإجراء تحقيقات مستقلة. إن هذه الانتهاكات لا تقتصر على الأفراد، بل تشمل أيضًا عائلات الأسرى التي تعاني من فقدان أحبائها، ومنعهم من التواصل معهم، مما يضاعف من معاناتهم.

إن الصمت الرسمي من قبل الحكومات والمنظمات الدولية يُعد بمثابة ضوء أخضر للاحتلال لمواصلة انتهاكاته. إن المجتمعات المدنية حول العالم مطالَبة بالتحرك، ورفع صوتها ضد هذه الانتهاكات، والتأكيد على ضرورة محاسبة الاحتلال. إن قضية الأسرى الفلسطينيين ليست مجرد قضية حقوق إنسان، بل هي قضية إنسانية بامتياز تستدعي تحرك المجتمع الدولي. إن استمرار الانتهاكات والممارسات العنصرية لن يؤدي إلا إلى تفاقم الأوضاع، مما يستدعي تحركًا عاجلًا لتحقيق العدالة والسلام.

الأسرى الفلسطينيون هم رمز للصمود والمقاومة، وقضيتهم تحتاج إلى صوت مسموع في جميع أنحاء العالم. إن الأمل في الحرية يبقى هو الدافع الأساسي لهم، وواجبنا هو دعمهم ومساندتهم في كفاحهم من أجل حقوقهم المشروعة.

حسن يافا 3
حسن يافا

قهوتك… تحبّها سادة؟

يوم السبت، الخامس والعشرون من سنة 2025، بتوقيت بيتونيا، وصل أوّل باص على متنه أسرى فلسطينيون من محكومي المؤبّدات في سجون “إسرائيل”، وهم الدفعة الأولى من ترتيبات اتفاق تبادل الأسرى بين حماس وجيش الاحتلال.

تسع مؤبّدات وعشر سنوات، قضى منها أشرف عائد 32 عامًا، وما إن ترجّل من الباص حتى لقفت جسده الأيادي المشتعلة، ورفعته فوق الأكتاف، وطافت به الميدان في عرس من الزغاريد والنشيد. هتفت الجموع، واشتعلت المشاعر، ونظرت إليه عيون الناس ساعية إلى أن تلتقي ولو لثانية ببريق عينيه. قهقه أشرف من أعماق قلبه وهو ينظر إلى هذا الشعب الذي لم ينسَه، ثم بخلسة نظر رأى عسكريًا يدفع الناس نحو الرصيف ويُصادر أعلام المقاومة… تذكّر… هذا سالم جعبة… ابن الحارة وصديق العمر.

صرخ أشرف بأعلى صوته: “سالم… سالم…”. استدار سالم نحوه وكأنّما أزعجه شكله وصوته، واستدار وهو يرفع كتفه ليعرض ما عليه من نجوم وتاج. وازداد النشيد… “حُطّ السيف جنب السيف، نحن رجال محمد ضيف”… واصل موج البشر زحفه حتى التقى بامرأة يشدّ على ساقها شاب كأنه نسخة عن الرجل الذي لا تزال تتشبّث به الأكتاف. توقف الطوفان وساد فجأة سكون كوني… سلّمته أذرع الرجال إلى الأرض… مشى نحوها… ناداها: “صابرين”. نظرت صابرين إليه وهي تحبس دمعة وفرحة… وصار حوار بينهما وهو يشدّ على يديها وينظر في عينيها فيه كلام 32 عامًا… دون أن ينطقا بكلمة واحدة.

ثم قالت: “هذا ابنك ثائر”. بدأ عناق وحب ودموع… وزغاريد وتهليل… وعاشت عاشت فلسطين…

وضع يده على عنقها، ويده الأخرى تشدّ على كتف ثائر وسألها: “كيف أنتِ يا صابرين؟ كيف أنتِ يا أم ثائر؟”. أجابت: “الحمد لله… الحمد لله على سلامتك”.

اعتُقل سنة 1993 بعد “معاهدة أوسلو”، كان عمره 22 عامًا، عريسًا جديدًا، وعروسه صابرين… حبّه الذي لم يعرف قبله، وطبعًا لم يعرف بعده، لأنّه ومنذ 32 عامًا لم يرَ امرأة غيرها، وحتى في أحلامه وأفكاره لم يعرف امرأة غير صابرين التي كانت حاملًا في شهرها الرابع عندما اعتقله الاحتلال. صابرين كانت تحبّه… مثلما تحبّ المرأة الياسمين… وفارسها على الحصان الأبيض… وكأس شاي مع خبز وزيت وزعتر… وصباح الخير… ومساء الخير… وتصبحين على خير!

اعتقلته “إسرائيل” بوشاية… هو ينتمي إلى ذلك الجيل الذي قاتل الاحتلال… القاضي حكم عليه بسبع مؤبّدات كي لا يرى الشمس مرة ثانية.

***

في الصباح سألته صابرين: “قهوتك تريدها سادة؟ صح؟”

“أريدها مع أم ثائر وثائر… أريدها فلسطينية”.

جلست أمام المرآة كي ترى نفسها… منذ 32 عامًا كانت وظيفة المرآة أن ترى فيها شعرها… تصفّفه بسرعة وتضمّه ذنب الفرس وتخبّئه خلف عنقها… كي لا يراه أحد… إلا أشرف… عشرات السنوات وهي تشدّ خطاها إلى المدرسة كي لا تحتاج هي وثائر إلى أيّ أحد…

نظرت اليوم إلى مفرق شعرها، رأت خطًّا أبيض على جناحيه… هل كبرت؟… هل لا زلت جميلة؟… هل يقف أشرف خلف هذا الكرسي… ويهزّ كتفي ويشدّ على كتفي… ويقول لي: “نعم نعم، أنت جميلة… أنت أجمل امرأة في الكون… اعملي لي فنجان قهوة”… وأقول له بصوت رافض: “أنت فقط تحبّ القهوة”… ويقول لي: “لا لا… أحبّ الأيادي التي تعمل القهوة…”.

وقالت في نفسها: “هل كبرت؟ هو لم يتغيّر، لا يزال كما هو، تشتعل في وجهه وعروقه الثورة… كيف جعلته 32 سنة في السجن يصير شبابًا لهذه الدرجة…”.

وفد من نادي الأسير الفلسطيني إلى القاهرة

أسرى الحرية في القاهرة.. صمود رغم الألم

وصل وفد من نادي الأسير الفلسطيني إلى القاهرة في زيارة دعم ومساندة للأسرى المحررين المبعدين، الذين يواجهون أوضاعًا صحية حرجة بعد سنوات من الأسر في سجون الاحتلال. وضم الوفد كلاً من عبد الله الزغاري، رئيس النادي، وأمجد النجار، مدير عام النادي، وهاني جعارة، أمين سر حركة فتح في شمال الخليل. جاءت هذه الزيارة ضمن جهود النادي المتواصلة للوقوف إلى جانب الأسرى المحررين وعائلاتهم، وتسليط الضوء على معاناتهم الصحية التي تفاقمت بفعل الإهمال الطبي الممنهج في سجون الاحتلال.

شملت الزيارة الأسرى المحررين: الشيخ عبد الرحمن حسن صلاح، معتصم رداد، إياد حريبات، ومنصور موقدة، الذين يخضعون حالياً للعلاج في مستشفى فلسطين بالقاهرة، في ظل مساعٍ حثيثة لتوفير الرعاية الطبية الملائمة لهم.

الأسرى المرضى.. معاناة مستمرة وإرادة لا تنكسر

الأسير معتصم رداد: اعتُقل بتاريخ 12/1/2006، وحُكم عليه بالسجن 20 عاماً. يعاني من سرطان الأمعاء، إضافة إلى نزيف حاد، هزال عام، صداع مستمر، ارتفاع ضغط الدم والكوليسترول، اضطرابات في نبضات القلب، ضيق في التنفس، حساسية في الأنف، والتهاب في المفاصل، ما يستدعي رعاية صحية مكثفة.

الأسير إياد حريبات: اعتُقل في 21/9/2002، وصدر بحقه حكم بالسجن المؤبد و20 عاماً إضافية. تعرض عام 2014 لحقنة يُشتبه في أنها ملوثة، مما أدى إلى انتشار بكتيري في جسده وإضعاف بنيته. كما تعرض عام 2017 للرشّ بغاز سام على يد قوات القمع، ما تسبب في إصابته بحروق. يُعاني من مرض عصبي يُسبب له رعشة وصعوبة في الحركة، إضافة إلى فقدان الذاكرة، وهو يخضع حالياً للعلاج في مستشفى فلسطين بالقاهرة.

الأسير منصور موقدة: اعتُقل عام 2002، وهو متزوج وأب لأربعة أبناء. خلال اعتقاله، أُصيب برصاص الاحتلال، ما تسبب في شلل بالأطراف السفلية وتهتك بالجهاز الهضمي، شمل المعدة والأمعاء والمثانة، وهو بحاجة إلى متابعة طبية دائمة.

الأسير الشيخ عبد الرحمن حسن صلاح: اعتُقل عام 2002 وأُفرج عنه في 2011 بعد قضاء 25 عاماً في الأسر. استُشهد نجله محمد عام 2003 أثناء اعتقاله لدى الاحتلال. يُعاني من ضعف شديد في النظر، فقدان الوزن، إضافة إلى أمراض السكري والضغط المزمنة، وقد تم إبلاغه بعدم توفر علاج لحالته الصحية.

تعكس معاناة هؤلاء الأسرى الوجه الحقيقي لسياسات الاحتلال العنصرية، حيث يُعاني الأسرى الفلسطينيون من إهمال طبي ممنهج يجعلهم عرضة لأمراض مزمنة وخطيرة، ما يستدعي تدخلاً دولياً عاجلاً لفك أسرهم وإنقاذ حياتهم من براثن الاحتلال.

عيسى قراقع 3
عيسى قراقع

عندما أصابتني الهستيريا!!

أنا المصاب بالهستيريا، المكبوت، المندفع، المنفعل، المجنون، القلق، لأني رأيت طفلًا عاد من السجن صامتًا، عذبوه وعرّوه وضربوه ومارسوا كل عاداتهم اللاأخلاقية معه، قتلوه صغيرًا قبل أن يرى حبات الشمس في الحياة، لا يذهب إلى مدرسة، منعزل، يبكي، خائف، متوجس، كأن هناك حربًا لا تزال تدور في أعماقه، لا يحب أن يرى أحدًا، ماذا جرى له؟ ماذا فعلوا به؟… هي هستيريا المحققين عندما يستجوبون الأطفال في ذلك الظلام وبلا رحمة.

أنا المصاب بالهستيريا، لأن عليَّ أن أرى وحدي، وأسمع وحدي، وأسأل الأسير: كم قضيتَ بالسجن؟ قال: عشر سنوات، وسألت أسيرًا آخر: كم قضيت بالسجن؟ قال: عشرون عامًا، وثالث قال: خمسة وعشرون عامًا. تطلعت إلى الأخير واستغربت أنه لا يزال يتكلم، له عينان مبللتان على شكل غيمة، حينها قلت: أين كنتُ وأين كنا؟… هي هستيريا الاختناق في سجون الاحتلال.

على حاجز قلنديا، حيث الزحمة والغبار والشحاذون والبائعون والشجار والصراخ، جنون الناس والمركبات وهي تحاول أن تدخل مدينة رام الله، يقف الجدار العنصري على يسارك مشبعًا بالرسومات والشعارات والخربشات الغاضبة، رأيت لوحة للأسير مروان البرغوثي يحرك يديه المقيدتين كأنه سيهدم الجدار، عينان حادتان ووجه يتطلع إلى القدس لإطفاء الجحيم… حينها قلت: هي هستيريا الوطن المسجون في أقفاص ورغوة المحروقين.

رأيت ابنتي الصغيرة حلا تكتب رسالة إلى خالها الأسير خالد الأزرق الذي يقضي خمسة وعشرين عامًا بالسجن، وتسألني: هل سيفرج عن خالي في الدفعة القادمة؟ نظرت إليها ولم أجب، استغربت الصغيرة حلا هامسة: الوزير لا يعرف… هي لم تدرك أني مصاب بهستيريا الأسئلة الصعبة وانخفاض الذاكرة.

على حاجز النفق العسكري، أوقفني الجنود، أخذوا أوراقي جميعها وقالوا لي: ممنوع أن تصل إلى مدينة الناصرة. حاولت أن أقول لهم: إني مصاب بهستيريا الجغرافيا والمدن الجميلة والبحر، ولي موعد مع المرحوم توفيق زياد وأشعاره الطريدة… حينها طردني الجنود بعد أن تيقنوا أني مصاب بهستيريا الغناء.

رمت أم الأسير المريض نعيم شوامرة رأسها على كتفي وأجهشت بالبكاء صارخة: أعيدوا لي ابني قبل أن أموت! لقد أصيب بمرض ضمور العضلات، بدأ يتلاشى، ارحموه وارحموني، أريد أن أراه، يكفينا موت، يكفينا نقص مستمر في الحياة… هي هستيريا أمهات رائعات طبيعيات يرفضن أن يزغردن في الجنازات.

تطلعت إلى وجه الشهيد ميسرة أبو حمدية، ضاحكًا واثقًا متكبرًا، مرض السرطان ملأ عظامه في السجن حتى سقط مقتولًا، ولكنه الآن يبتسم ميتًا، كأننا اثنان في الموت والقيامة، تمنيت أن يأخذني إلى ضوء عينيه وأتلاشى في أبديته، كي أرى صيرورة أخرى في صورة أخرى، ويكون جسدي أمامي… هي هستيريا الموت البطيء خلف قضبان لا يصلها أطباء.

في بيت أم ناصر أبو حميد في الأمعري، وجدت العنقاء والخنساء، أربعة أبناء في السجن وشهداء، صور وهدايا تملأ الصالون الصغير، وأم ناصر تجلس هادئة تقبض بيديها تصريح الزيارة وتسألني: لماذا جئت إلينا من بعيد؟ أنا البعيد، قلت لها: أحاول أن أساعدك على تحمل الانتظار، وأقلع من شرايين الصمت كل الورود، قالت: هذا الحلم لا يكفي… هي هستيريا البطولة عندما أرى صدى لغتي في المخيمات.

في مستشفى كابلان الإسرائيلي، جلست مع الأسير سامر العيساوي بعد إضراب دام تسعة شهور، وشاهدته من على كرسيه المتحرك يفاوض روحه متحديًا أن يهزم الموت القادم، صافي الذهن، صورة أمه أمامه كتحية ساخنة تعطيه عمرًا جديدًا… هي هستيريا أسير قرر أن يعود إلى القدس، وعندها التزمت الصمت لأسمع صوت الصلاة.

في بيت أبو العبد السكافي بالخليل، قرأت سيرة عائلة قادمة من الجبل، دم على الحائط يسيل من جسد شهيد، قمر يطفح في عيني أسيرين، معلق على الجدار يشع، صورة الطفلة الشهيدة عبير على شبك الزيارة تنادي أباها لتعود إلينا قتيلة، بكى أبو العبد، بكت الجنازة، بكى المريول الأخضر ونشيد المدرسة… هي هستيريا الجنازات والحسرة في بلد الدوالي والأنبياء.

حملت قدم ناهض الأقرع المبتورة ماشيًا إلى مقبرة البيرة، لا هي جنازة ولا هي مسيرة، قدمٌ قُطعت بالسجن أزرعها الآن في التراب، لعلها تنمو وتعود إلى جسد الأسير، سقيتها بالماء وقلت لناهض: انتظر، ستعود بقدمين كاملتين قريبًا… تطلع المشيعون نحوي معتقدين أني مصاب بهستيريا الخيال.

أنا شخصية هستيرية لأني أخربش في المواعيد، ولا أكتب عن الحب شيئًا، أراقب قاضي المحكمة العسكرية في سجن عوفر يصدر حكمًا على طفل من القدس عمره عشر سنوات، يقرأ لائحة اتهام طويلة مليئة بضرب الحجارة على المستوطنين، يغضب القاضي، يزمجر، “إسرائيل” في خطر، لا حصانة للأطفال، يبتسم الطفل، يمد يده ليصافحني، تساءلت: كيف يجتمع هنا ملاك وحارس؟… هي هستيريا المحاكم الإسرائيلية وأيامنا كلها حديد.

أنا مصاب بالهستيريا، ما حاجتي لاسمي ومنصبي، وكل شيء يتوغل في أعماقي، أقرأ رسالة الأسير المشلول منصور موقدة، يطلب مني أن أبني له قبرًا جميلًا، وأن أزرع حوله الورد وأشجار الزيتون، وأن أساعده بعد الموت على نسيان آلامه، وموصيًا أن تكون حياته خارجه بعد أن مزق جسده الرصاص وقلة العلاج بالسجون… لا يدري منصور أني منذ أن سقط أبو السكر أصبحت مصابًا بهستيريا الزمن وروحي شريدة، وسوف أتعثر في المقبرة.

أنا مصاب بالهستيريا، على بعد مترين مني، أنا، ضربة سجن قاسية في رأسي، يطاردني كريم يونس وإبراهيم طوقان، والأسير محمد براش وهو يصرخ: لست أعمى، لست أعمى لأبصر ما تبصرون.

ابراهيم ملحم 3
إبراهيم ملحم

الموت جوعاً وعطشاً وبرداً!

لم يعدم المحتلون وسيلة، ولا تركوا سبيلاً إلا وسلكوه، لإشباع نزعة الانتقام التي تتلبّسهم، حتى أن علاماتها حادة على وجوههم، من شدة غيظهم، وعظيم كيدهم، وتربّصهم لتنفيذ ما تسوّل لهم أنفسهم من شرور، تعجز الشياطين عن مجاراتهم في سوء أفعالهم.

تفنّن جيش الإبادة في تجريب كل أشكال التقتيل والتدمير والترويع بحق أهلنا في غزة، بيد أن قطع الماء وإمدادات الغذاء، والوقود اللازم لتشغيل مولدات الكهرباء المنتجة للحياة في الخيام، وما تبقى من مبانٍ ومستشفيات، منذ أحد عشر يوماً، يشكل امتداداً جهنمياً للإبادة التي بدأت قبل ستة عشر شهراً، وتجري الآن بتؤدة لقطع شريان الحياة، ودفع الناس إلى الهجرة طوعاً أو قسراً.

ورد في الذكر الحكيم ما يحثّ المؤمنين على قيم الإيثار، والإكثار من إطعام الطعام: “ويطعمون الطعام على حبه مسكيناً ويتيماً وأسيرا”. وقد حث المصطفى، صلوات الله وسلامه عليه، على أن تظل ممكنات الحياة بمنأى عن الاستحواذ والاحتكار، فالناس شركاء في ثلاث: “الماء والكلأ والنار”. لكن المحتلين المستعمرين يستخدمون قطع وسائل الحياة التي يتشارك فيها الناس جميعاً وسيلة للإبادة والتطهير العرقي، تطبيقاً لما جاء في وصية أحد قادة العصابات الصهيونية في تعاملهم مع القرى والبلدات الفلسطينية عشية النكبة الأولى: “إذا قطعنا عنهم الماء، فإن البساتين سوف تصفرّ، والأزهار سوف تذبل”. تلكم هي العقيدة التي ورثها أحفاد عصابات شتيرن وليحي والهاغانا، والذين يعيدون اليوم إنتاجها على نحو يفوق ما فعله آباؤهم المؤسسون الذين يملكون براءة اختراعها.

ماذا يجري في الضفة؟

بينما تأخذ حرب الإبادة في غزة أشكالاً جديدة من الترويع والتجويع، وقطع الكهرباء عن آخر محطات التنقية المزودة لمياه الشرب، بالتزامن مع وقف إمدادات الوقود للمخابز والمستشفيات، فإن حرباً لا تقل شراسة وتوحّشاً تتوالى فصولها في مدن وبلدات وقرى ومخيمات الضفة، ويمارس فيها جيش الاحتلال وجيش المستوطنين تقاسماً وظيفيّاً في الأدوار والعدوان.

فبينما يقتحم الأول المخيمات، ويُعمِل فيها قتلاً وهدماً وتهجيراً لسكانها، ويشق شوارع عريضة على أنقاض البيوت والمباني والممتلكات فيها، فإن جيش المستوطنين يقوم بعمليات السطو ومهاجمة الآمنين من سكان القرى في منازلهم، والبدوفي مضاربهم، فيسرقون ويحرقون ويصادرون كل ما يقع تحت أيديهم من أراضٍ وأموالٍ وحليّ ومواشٍ، يسوقونها بالمئات كغنائم اغتنموها من أصحابها الفقراء.

إنها التطبيق العملي لخطة الحسم، بثلاثية القتل والحرق والمحو، والتي تجري أمام عدسات الإعلام في عالم يبتلع لسانه، إلا من بيانات خجولة تحمل الإدانة دون أن تغير شيئاً من الواقع المتفاقم من المعاناة اليومية التي يكابدها الضحايا، بينما تنذر الأوضاع بالتدهور والتطور نحو الأخطر والأسوأ، في ضوء إطلاق كاتس يد المستوطنين، كي يفعلوا في الضفة ما فعله الجيش في قطاع غزة.

قبل أيام، نشر أحد المستوطنين مقطع فيديو يظهر فيه مئات الشبان والأطفال في إحدى قرى الشمال وهم مكبّلون. ويقول المستوطن إن هذا العمل يجري لغرض الإذلال والتنكيل بالشباب، ولا علاقة له بالأمن؛ فقط الإذلال والتنكيل، وترك الضحايا يفكّون قيودهم بأسنانهم بعد أن يشفي الجنود غليلهم بحفلة التنكيل التي أقاموها لإذلالهم، وهي الحملة التي تشهدها العديد من القرى والبلدات صباح مساء.

سؤال المصير ولا شيء آخر غيره، هو الذي ينبغي أن يشغل اهتمام كل الحريصين على ما تبقّى من نثار وطن يبتلعه غول الاستيطان، ويتهدد أبناءه خطر التهجير.

الأمريكان ملهمش أمان!

الخلاصة العنوان، خلص إليها الرئيس المصري الراحل حسني مبارك، بعد تجربة حكم امتدت ثلاثين عاماً، وقد أوردها الكاتب الراحل محمد حسنين هيكل في كتابه “مبارك وزمانه.. من المنصة إلى الميدان”، وهي خلاصة من عاش تقلبات السياسة الأمريكية وكان أحد ضحاياها.

كانت درة فغدت مقبرة!

إنها غزة، الجريحة الصابرة الصائمة المتحملة أثقالاً تنوء تحت وطأتها الجبال الراسيات! كانت تضج بالحيوية والحياة والنشاط، آناء الليل وأطراف النهار، يذهب الناس إلى أرزاقهم وإلى سهراتهم وإلى صلواتهم خلال الشهر الفضيل، الذي ليس له مثيل، يضفي عليه الغزيون نكهة خاصة من أرواحهم، بكرمهم وصدقهم، وحسن ضيافتهم، وحبّهم وطيبة نفوسهم.

في رمضان، تتفتح المواجع على موائد الإفطار، حين يتذكر العالقون في أحزانهم أحبّاءهم الصغار الذين كانوا بضحكاتهم وقفشاتهم، ونومهم وسهرهم، وجوعهم وعطشهم، يحيلون موائد الإفطار إلى مناسبات تضجّ بالحياة، حتى إذا غابت شمس اليوم الأخير من الشهر الفضيل تبكيه العيون وتستوحش غيابه السريع.

لا شيء يجبر الفقد سوى الصبر على اللأواء، الذي يحيل الموجوعين إلى الدواء في الذكر الحكيم: “واصبر على ما أصابك إن ذلك من عزم الأمور”.

الكوابيس المقيمة أمام أعيننا!

من بين عديد النتائج الصادمة التي خلصت إليها اللجنة الأممية المستقلة، المكلفة بالتحقيق في الجرائم التي ارتكبتها “إسرائيل” في قطاع غزة، وجميع الأراضي المحتلة، تبرز شهادات صادمة لمعتقلين تحرروا من الأسر، وما زالوا أسرى خوفهم ورعبهم وقلقهم وحزنهم، مما طالهم من تعذيب تجاوز كل الحدود.

اللجنة خلصت كذلك إلى أن العنف الجنسي، والعنف القائم على النوع الاجتماعي، يُرتكب في جميع أنحاء الأراضي المحتلة كاستراتيجية حربية، تتبعها “إسرائيل” للسيطرة على الشعب الفلسطيني وتدميره، وهي ذات الخلاصة التي خلص إليها تحقيق دولي، خلال الأشهر الأولى من حرب الإبادة، حيث أشار إلى أن نسبة الخصوبة الإنجابية انخفضت من 6.2 قبل نشوب الحرب، إلى 4.2 بعدها، ما يفسّر التركيز على استهداف النساء والأطفال كبنك أهداف من أجل قتل المواليد، وقتل الوالدات لغرض إهلاك الحرث والنسل.

لعل أهم ما خلصت إليه اللجنة، هو الدعوة إلى تفعيل قانون عدم الإفلات من العقاب، الذي بدونه فإن “إسرائيل” ستواصل جرائمها على نحو أكثر فظاعة.

بهاء رحال 3
بهاء رحال

غياب غزة عن دراما رمضان: تقصير أم تغييب متعمد؟

للعام الثاني، غابت غزة عن أي دراما في رمضان، خاصة في الفضائيات العربية والعالمية. فهل الأمر تعبير عن حالة غياب الدراما الفلسطينية وضعفها فحسب؟ هل الأمر محض صدفة؟ لا أظن ذلك! أم أن للأمر أسبابًا أخرى؟ ما دفعني إلى طرح هذا السؤال هو الاكتظاظ الكبير للمسلسلات الرمضانية التي تشهدها كل الفضائيات، والتي تتسابق عليها المحطات، في وفرة واضحة للدراما المصرية والسورية واللبنانية والخليجية. ووسط محاكاة الدراما لكل مشكلات الواقع العربي، من المحيط إلى الخليج، ولكل ما يعصف بالبلاد العربية من فقر وبطالة واقتتال داخلي، ومشكلات اقتصادية واجتماعية، وسطوة استعمارية، نجد أن واقع غزة غائب تمامًا عن هذا المشهد، وهو الحاضر فقط طوال الوقت في الأخبار.

صورة غزة المحكية في المسلسلات لها ضرورتها ووجوب حضورها في الدراما العربية. وإن كانت مستبعدة عن قصد، فهذا الاستبعاد فيه تجنٍّ كبير. وإن كان الاستبعاد لضعف أو ضآلة الإنتاج الفلسطيني، فعلى المعنيين مراجعة الأمر وبذل اهتمام مضاعف، حتى تحضر غزة وفلسطين بكل أحمالها وتاريخها الإنساني والحضاري، كي لا تكون غائبة فتُنسى!

قد يُعزى الأمر فلسطينيًا إلى التقصير الناتج عن عدم وجود الرعاية اللازمة للمؤسسات التي من واجبها تقديم دراما فلسطينية تحاكي الواقع المحلي بكل أبعاده وتسلط الضوء على مشكلاته. ومن الجدير جدًا أن نجد كبار الممثلين العرب والمنتجين والكتّاب يسلطون الضوء على حرب الإبادة، لما للأعمال التلفزيونية من أثر كبير على المجتمعات، وعلى إيصال الرسالة إلى العالم بشكل يلامس الناس أكثر من أي وسيلة أخرى.

ربما يكون هناك تقصير فلسطيني، أو تغييب مقصود أو غير مقصود. وهنا، لا يقع التقصير على جهة واحدة، بل على جميع الجهات، من كتّاب السيناريو إلى الممثلين والمنتجين والممولين، والجهات المعنية، سواء حكومية أو أهلية. فلا شيء يبرر هذا التقصير، في ظل الهجمة الشرسة على قضيتنا، ومحاولات طمسها وطمس روايتنا، وتقديم رواية الآخر التي تقوم على الكذب والادعاء.

إنها إشارة ودعوة لمن يريد التقاطها، والبناء عليها من أجل تعزيز الإنتاج الفلسطيني، سواء كان في التلفزيون أو المسرح أو السينما. وهنا، أجد من الضروري أن أستذكر ما قاله الشهيد الراحل ياسر عرفات: “الثورة ليست بندقية ثائر فحسب، بل هي معول فلاح، ومشرط طبيب، وقلم كاتب، وريشة شاعر.”

علي شكشك 3
علي شكشك

درويش ظِلآ “أنا لست لي

يصعب الحديثُ في أمرٍ كاليوم الوطني للثقافة، وهو الشأن الذي يستعلي على البرمجة والتعليب والحصار في يومٍ أوفي أي بعد زماني أو مكاني، بما أن الثقافة ذاتَها هي تجلياتُ الإنسان وتفاعلاتُ كينونته مع المكان والكون والزمان، وانفعالاتُ روحِه وأشواقِه وأسئلته الكبرى وعواطفه الأولى، حزنه وإيقاعه وانطباعات الجمال، مما يطفح عن الحياة ذاتِها ويعبرُ المسافاتِ والأجيال، وهي اضطرامُ الموسيقى والمعنى واللون والانسجام، تصوغها الشعوبُ سيمفونيةً لها، تعبقُ بملامحها وتشهدُ على تميّزها، تحملُ جيناتها وتضمنُ تماسكها واستمرارها وترفدها بتفرد وجودها وماء حياتها وطاقة ممانعتها، شاهدة على حيويتها وجدارتها بمكانها تحت الشمس وبين بني الإنسان.

وفي أوج الهجمة على شعبنا الفلسطيني، والتي افترضت منذ البداية غيابه، وحاولت أن تنفيه من الذاكرة، وبذلت جهودها الكاملة لإسكات تاريخه ومحوه من الفضاءات الإنسانية، وقد وصلت اليوم إلى أشرس حالاتها وهي تصادر رموز تاريخه وتغتصب جيناته التراثية وتسرق منظوماته الثقافية وعاداته وعرق روحه التي أنجبته وبلورته على مدار الأجيال، وهو الذي شيّد المدن الأولى على الأرض وحاك طقوس الزرع والحصاد وطرّز حزنه وفرحه أناشيدَ وأحاسيس، وأبدعَ حضارة البرِّ والبحر، وماحكَ حضارات الإغريق والمصريين والفرس والبابليين والرومان، وأبدع عنوان الثقافة الأسمى كما لم يكن، وكما لم يتجلَّ في أيِّ مكان، فأنجب ثقافة التعايش الحضاريّ الإنساني وقدّمه دليلاً على إمكانيته للإنسان.

وإذا كان عدونا قد اغتصب الأرض ويسعى إلى سرقة التاريخ ويحاول محوَ ملامحنا، بل يزوّرُ الملامحَ ويستثمرُ رموزَنا الثقافية والحضارية في الوعي الإنساني الغربي، ويحتلُّ مساحاتِنا ويسرقُ عاداتِنا وأزياءَنا بنفسِ الشراسة التي يسرقُ فيها الجغرافيا، بل وتصلُ به اللصوصيةُ والجرأةُ والصلافة والوقاحة إلى حدّ سرقة آلامنا ومعاناتنا، حين يستخدم صورةً لفتاة فلسطينية تصرخ وتبكي بعد أن أبادوا بيتها وأهلها ويسوّقها على أنها طفلة يهودية تعرضت لإرهابٍ فلسطيني، ويجمعون باسمها بناءً على ذلك التبرعات.

وبما أنّه يسعى إلى إبادتنا ونفينا وسرقة سياقنا ووطننا، فيجب أن يكون أهمُّ الردود التلقائية هو إعلاء اسم ثقافتنا وتأكيدها وحملها إلى فضاءات الوعي والسموّ بها فوق الشمس وإلى أعماق الوجدان في أرجاء النفس وأرجاء الكون وأينما وُجِدَ الإنسان، وأن نعلنها وطناً حتى يتحقق الوطن، وعلَماً علينا يفضح افتراءاتهم ويُعرّي ادّعاءاتهم ويكشف سرقاتهم، فهي المكنونة التي لا يمكن مصادرتها وهي المورّثات التي تضمن تألقَ الهوية، وهي سيمفونية الشعب بكل تنوعه وألوانه وأفراده.

ينتقي الشعبُ الفلسطيني اليومَ واحداً من أبنائه ليلخّصَهم ويمثّلَهم، ويُتوجُ ذكرى ميلاده يوماً لثقافته الوطنية، وهو الذي حمل الجرح ولخص الحكاية، وغنّى لشعبه وأرضه على موج الضوء وتخوم الماء، ورصدَ العصافير التي تموت في الجليل، وبشّرَ بآخِر الليل وأوّلِ النهار، محمود درويش الذي لخص الإنسان وأسئلة الحياة وبلاغة الجرح ومجاز الرواية، وقارب الوراء ومفارقات الصراع، وكان ما أراد، ولم يعتذر عما فعل، وأعلن:

سأحمل هذا الحنين..

إلى أوّلي وإلى أوّله..

وسأقطعُ هذا الطريق

إلى آخري وإلى آخره..”

هو يومٌ وطني للثقافة الوطنية الفلسطينية، يُتوِّجُ انبعاثاتها وتفاعلاتها وحيواتها في الأرض والشعب والهواء والماء والتاريخ والنار، ويقطر مع الليمون وعصير زيتونة عمرها أربعة آلاف عام، وعرق الحداد والفلاح، وطقوس الغزل ومراعي الأمل، واللاجئين، وحنين الأطفال، وآلام الذين ماتوا قبل أن يعودوا، والذين سيُولدون ويكبرون ويُقتلون، لإبرةٍ ترسمُ على ثوبها نقوش الكنعانيين الأوائل وتسخر من الشرطية التي صاحت فجأةً فيهم:

هو أنت ثانيةً، ألم أقتلْك؟..

قلتُ: قتلتِني، ونسيتُ مثلكِ أن أموت..”

وقد تماهى فيه الذاتي والإنساني والوجوديّ والسياسي والكوني والحاضرُ والموت والخلود والإبهام مع يوميات الحزن العاديّ، ومع قهوة الأم ورائحة المدن، وينحت صوت الملح من الرمل موالاً مبلّلاً بعشبٍ على حجرٍ، يرتب “ذاكرةً للنسيانِ” يوماً ما، مع ملايين آخرين، من إميل حبيبي وفدوى طوقان وجبرا ومعين وغسان كنفاني وكمال ناصر وإدوارد سعيد وشموط وعبد الرحيم محمود وسميح القاسم وإلياس صنبر وريم البنّا، إلى أحمد العربي وكلِّ ذي يدين من حجرٍ وزعتر:

هذا النشيد

لأحمد المنسيِّ بين فراشتين

مضت الغيوم وشردتني

ورمت معاطفَها الجبالُ وخبّأتني

ومع ملايين آخرين من أشقاءَ وأحرارٍ اعتنقوا الإنسان، كما اعتنقه درويش وأصبح عنواناً لأشواقه محلّقاً بها على جناح الضّادِ، وجاعلاً منها مفردةً لفلسطين، هو لشعبه وسؤال الحياة، حضورٌ لثقافة وكينونة شعب وترجمة لأمشاجِ الأرض والتاريخ والإنسان مع أشواق الروح وتجلّي السماء، ورؤيا البديهة حين تغنّي:

ههنا حاضرٌ

عابرٌ

ههنا علّقَ الغرباءُ بنادقهم فوقَ

أغصانِ زيتونةٍ، وأعدّوا عشاءً

سريعاً من العلبِ المعدنيّةِ، وانطلقوا

مسرعين إلى الشاحنات”.

نادي الأسير الفلسطيني

نادي الأسير الفلسطيني

اقرأ أيضا

آخر الأخبار
روسيا تُبدي رغبتها في إطلاق مشاريع استثمارية جديدة في الجزائر الاتحاد الأوروبي يُشيد بدور الجزائر كشريك موثوق واستراتيجي في المنطقة توجيهات صارمة لتسريع عمليات صيانة وتجهيز البواخر مولوجي تُبرز جهود الدولة في التكفل بذوي الاحتياجات الخاصة وزير العدل: مشروع قانون الإجراءات الجزائية حماية للمال العام والاقتصاد الوطني سايحي يدعو إلى تكثيف الجهود لتحسين التكفل بمرضى السرطان وتوسيع مراكز العلاج وزير التجارة يؤكد على ضرورة تطوير آليات العمل الرقابي لمواكبة تحولات السوق مجاهد: نجاح الجزائر يكمن في تعاملها مع القضايا بالمبادئ لا بالمصلحة أزيد من 20 شركة روسية تستكشف السوق الجزائرية في منتدى أعمال مشترك فرنسا تغازل أحفاد النازيين.. ما القصة؟ الجزائر تستعدُّ لاحتضان مؤتمر إفريقي هام الأضاحي المستوردة.. الأولوية للفئات المعوزة وأصحاب الدخل المحدود حصيلة مروعة.. 39 قتيلا في حوادث المرور خلال أسبوع وزير الاتصال: "التكوين أساس تشكيل جبهة إعلامية تدافع عن الوطن" هذا موعد انطلاق الطبعة الثالثة للصالون الإفريقي للأعمال بوهران وزارة التربية تواصل سلسة جلسات دراسة وتدقيق اقتراحات المنظمات النقابية المعتمدة شنقريحة: العلاقات الجزائرية-الرواندية نموذج للتنسيق السياسي في الدفاع عن إفريقيا اللغة الأمازيغية.. دعم متزايد لإصدارات في مختلف المجالات الثقافية عرقاب: الجزائر تُشجع التحول نحو نموذج طاقوي مستدام ومتكامل في إفريقيا الغموض يخيّم على واغادوغو.. حملة اعتقالات تفضح صراع أجنحة في جيش بوركينا فاسو