تحلّق الطائرات المُسيّرة بلا توقف فوق الصحاري الشاسعة على طول الحدود السودانية، موجهةً قوافل التهريب المحمّلة بالأسلحة إلى مليشيات ترتكب يوميًا أبشع جرائم الإبادة. وفي الوقت ذاته، تفيد تقارير جماعات الإغاثة بأن تلك الطائرات تحوم مستطلعة الظروف في مدينة محاصرة تغرق في مجاعة مدمّرة، لتتمكّن من إرسال إشارات يبدأ بعدها تقديم الدعم لقوة شبه عسكرية وحشية مسؤولة عن قصف المستشفيات ونهب شحنات الإغاثة، وإحراق آلاف المنازل. لكنّ المفارقة الصادمة تكمن في أن هذه الطائرات تنطلق من قاعدة إماراتية، تدّعي أبوظبي أنها مخصصة لجهود إنسانية لإنقاذ الشعب السوداني، في إطار ما تسميه “أولويتها العاجلة” لحماية أرواح الأبرياء ودرء المجاعة في أكبر حرب تشهدها إفريقيا.
غير أن الحقيقة المروّعة التي تتكشف للعالم يوما، تشير إلى أن الإمارات تمارس لعبة شيطانية مزدوجة في السودان، هذا البلد الذي تمزقه حرب أهلية تُعدّ من بين الأكثر دموية وكارثية في العالم، مما يثير تساؤلات جوهرية حول ما يمكن أن تكسبه الإمارات من وراء هذا النهر من الدم التي تتسبب فيه.
وفي إطار سعيها المستمر لتعزيز نفوذها الإقليمي، تنخرط الدولة الخليجية النفطية الثرية في حملة سرية متصاعدة لدعم الأطراف المتصارعة في السودان، سعيًا وراء ترسيخ مكانتها كقوة مؤثرة في تحديد مسار الأحداث. وتشير تقارير مستندة إلى مصادر موثوقة ومذكرات دبلوماسية مسربة، فضلًا عن صور الأقمار الصناعية التي حلّلتها صحيفة “نيويورك تايمز”، إلى أن الإمارات تضطلع بدور خفي في تحويل الأموال والأسلحة، بما في ذلك تزويد المقاتلين بطائرات مسيّرة متطورة. وهذا الدعم العسكري يسهم في تصعيد النزاع، مما يزيد من حالة الفوضى والدمار التي تعصف بالسودان، في ظل حرب أهلية مدمرة تهدد استقرار المنطقة بأسرها.
وفي الوقت الذي تروج فيه الإمارات لنفسها على أنها راعية للسلام والدبلوماسية ومقدمة للمساعدات الإنسانية، تكشف الأدلة عن دور مزدوج يتجاوز هذا الخطاب. فقد استخدمت الإمارات رمزية الهلال الأحمر، الذي يعد نظيرًا للصليب الأحمر وأحد أبرز رموز الإغاثة في العالم، كغطاء لعملياتها السرية، حيث تقوم بتسيير طائرات مسيرة إلى السودان وتهريب الأسلحة إلى المقاتلين، وفقًا لما تظهره صور الأقمار الصناعية وما أكده مسؤولون أمريكيون.
هذه الحرب المدمرة جعلت السودان -البلد الشاسع والغني بالذهب، والذي يمتد ساحله على البحر الأحمر لمسافة تقارب 500 ميل- ساحة مفتوحة لصراع دولي تغذيه أطراف عديدة، من بينها روسيا. لكن وفقًا لمسؤولين، فإن الإمارات تلعب الدور الأبرز والأكثر تأثيرًا، حيث تتعهد علنًا بالتخفيف من معاناة السودان، بينما تزيدها سرًا من خلال دعمها للأطراف المتحاربة، مما يعمق الأزمة الإنسانية التي يُترك الشعب السوداني لمواجهتها بمفرده.
وأكد محققون تابعون للأمم المتحدة في جانفي الماضي ما ورد في تحقيق نشرته صحيفة “التايمز” العام الماضي، الذي يوضح بالتفصيل عمليات تهريب الأسلحة الإماراتية. فقد أشاروا إلى وجود أدلة “موثوقة” على أن الإمارات تخرق حظر الأسلحة الذي فرضته الأمم المتحدة على السودان منذ عقدين من الزمن.
وفي سياق تصعيد هذه الانتهاكات، وسعت الإمارات حملتها السرية، حيث يتم نقل طائرات مسيرة صينية الصنع من مطار في تشاد، الذي قامت الإمارات بتوسيعه وتجهيزه على الطراز العسكري. تُعد هذه الطائرات الأكبر من نوعها المستخدمة في الحرب السودانية حتى الآن.
تظهر صور الأقمار الصناعية بناء حظائر لطائرات مسيرة وتركيب محطة للتحكم بها في المطار، الذي شهد هبوط العديد من طائرات الشحن التي كانت تنقل أسلحة الإمارات إلى مناطق نزاع أخرى مثل ليبيا، حيث تم اتهام الإمارات أيضًا بخرق حظر الأسلحة، وفقًا لتحليل صحيفة “التايمز” لبيانات تتبع الرحلات الجوية.
ويفيد المسؤولون الأمريكيون بأن الإمارات تستخدم المطار الآن لتسيير طائرات عسكرية مسيرة متطورة، تزود قوات الدعم السريع بمعلومات استخباراتية في ساحة المعركة، وترافق شحنات الأسلحة إلى المقاتلين في السودان لمراقبة الكمائن. وقد حددت صحيفة “التايمز” نوع الطائرة المسيرة المستخدمة، وهي “وينج لونج 2″، التي تُقارن غالبًا بطائرة إم كيو-9 ريبر التابعة للقوات الجوية الأمريكية.
تظهر الصور أيضًا مستودعًا للذخائر في المطار ومحطة تحكم أرضية لطائرات “وينج لونج” بجوار المدرج، الذي يبعد حوالي 750 ياردة فقط عن مستشفى تديره الإمارات ويعالج المصابين من قوات الدعم السريع. يمكن لطائرة “وينج لونج” التحليق لمدة تصل إلى 32 ساعة، ويبلغ مداها 1000 ميل، وقادرة على حمل ما يصل إلى 12 صاروخًا أو قنبلة.
ومع ذلك، لا يبدو أن الطائرات المسيرة تنفذ ضربات جوية خاصة بها في السودان حتى الآن، بل تركز على توفير المراقبة وتحديد الأهداف في ساحات القتال الفوضوية. وبحسب ج. مايكل دام، من معهد ميتشل لدراسات الفضاء الجوي، فإن هذا يجعلها “قوة مضاعفة مهمة”.
وفقًا للخبراء والمسؤولين، يمكن توجيه هذه الطائرات عن بُعد من الأراضي الإماراتية بعد إقلاعها من القاعدة. وقد تم رصدها مؤخرًا وهي تقوم بدوريات في سماء مدينة الفاشر السودانية المحاصرة، حيث يتضور السكان جوعًا وتحيط بهم قوات الدعم السريع. وتستضيف المدينة نحو مليوني إنسان، مما يزيد من المخاوف من وقوع المزيد من الفظائع في هذه الحرب المستمرة.
واندلعت الحرب في السودان عام 2023، نتيجة صراع على السلطة بين الجيش السوداني وقوات الدعم السريع، التي ساعد الجيش في إنشائها. وتحولت هذه التوترات سريعًا إلى اشتباكات مسلحة في شوارع العاصمة، مما أدى إلى انتشار الفوضى في مختلف أنحاء البلاد. ويعبر العاملون في مجال الإغاثة عن أملهم في إنزال المساعدات الغذائية جويًا إلى مدينة وصفها توبي هاروارد، كبير مسؤولي الأمم المتحدة في دارفور، بأنها “جحيم على الأرض”.
في هذا السياق، تصر الإمارات على أنها تعمل من أجل إنهاء النزاع ومساعدة ضحاياه، حيث قدمت مساعدات بلغت قيمتها 230 مليون دولار، و10,000 طن من الإمدادات الإغاثية، ولعبت دورًا محوريًا في محادثات السلام الأخيرة التي قادتها الولايات المتحدة في سويسرا. وفي تصريح للسفيرة الإماراتية لانا نسيبة، أكدت التزام الإمارات بدعم الشعب السوداني في سعيه لاستعادة السلام.
من جانبهم، حاول عدد من المسؤولين الأمريكيين الكبار إقناع الإمارات بوقف عملياتها السرية، مشيرين إلى معلومات استخباراتية حول الأنشطة الإماراتية داخل السودان، وفقًا لما ذكره خمسة مسؤولين أمريكيين مطلعين على المحادثات. بعد مناقشات مع نائب الرئيس هاريس حول تهريب الأسلحة مع الشيخ محمد في ديسمبر، قدم الزعيم الإماراتي ما اعتبره بعض المسؤولين اعترافًا ضمنيًا بدعم قوات الدعم السريع. ورغم عدم اعترافه بدعم مباشر، أقر الشيخ محمد بدور الفريق محمد حمدان، قائد قوات الدعم السريع، في إرسال قوات للقتال إلى جانب الإمارات في حرب اليمن.
كما أبدى الشيخ محمد اعتقاده بأن قوات الدعم السريع تشكل حصنًا ضد الحركات السياسية الإسلامية في المنطقة، والتي تعتبرها العائلة المالكة الإماراتية تهديدًا لسلطتها. ورغم عدم رد الحكومة الإماراتية على أسئلة حول هذه المحادثة، قال أحد المسؤولين الأمريكيين: “لم يعد بإمكانهم الكذب علينا، لأنهم يعرفون أننا نعرف”.
وتعبر جيريمي كونينديك، رئيس منظمة اللاجئين الدولية والمسؤول السابق في إدارات أوباما وبايدن، عن غضب منظمات الإغاثة تجاه الإمارات، متهمة إياها بإدارة “عملية إغاثة وهمية” كغطاء لدعمها لقوات الدعم السريع. وأضاف: “يريدون الأمرين معًا؛ دعم مليشياتهم العميلة والتظاهر بأنهم ملتزمون بالقواعد في النظام الدولي”.
يُذكر أن عدداً من أعضاء الكونغرس الأميركي طلبوا، يوم السبت، إلى الرئيس جو بايدن، قبل اجتماعه برئيس الإمارات، محمد بن زايد آل نهيان، الاثنين (أمس)، أن يناقش “التقارير المثيرة للقلق بشأن دعم الإمارات العربية المتحدة لقوات الدعم السريع”، وأن يحث ابن زايد على “وقف دعم بلاده لتلك القوات، ويعيد تأكيد الهدف المشترك لتحقيق سودان آمن”.
وأعرب الأعضاء عن قلقهم من أن “تصرفات الإمارات في السودان تتعارض مع الجهود الأميركية لإنهاء العنف وتحقيق الحرية والسلام والعدالة للشعب السوداني”، موضحين أن “قوات الدعم السريع ارتكبت جرائم حرب وجرائم ضد الإنسانية وعمليات تطهير عرقي في السودان. ومن الضروري أن تكون شراكتنا مع الإمارات مبنيّة على مصالحنا المشتركة وقيمنا ورؤيتنا المشتركة لتحقيق استقرار السودان”.