على امتداد قرون، كانت أملاك “الأوقاف” الركيزة الأساسية في محاربة الفقر والجهل، ويُقال بأنها أسهمت في تأمين الحياة الكريمة للهاربين من الأندلس بعد سقوطها. وقد تفطّن الاستعمار الفرنسي لأدوار “الأوقاف” في الحياة الاجتماعية والاقتصادية والاجتماعية للشعب الجزائري، فعمل على تدمير هذه القيمة الإسلامية، وأصدر العديد من المراسيم والأوامر التي أدّى تنفيذها إلى تحريف الأوقاف عن مقاصدها وأدوارها الحقيقية، واغتصاب الكثير من الأملاك الوقفية وتحويل ملكيتها إلى الإدارة الاستعمارية.
صَدقةٌ جاريةٌ
اختلف تعريف “الوقف” من مذهب فقهي إلى آخر، كما اختلف في تعريفه القانوني من بلد إسلامي إلى آخر، والمعنى الشائع أن “الوقف” هو نوعٌ من الصدقة الجارية، حيث يقوم المُسلم بوقف أو “حبس” ملك عقاري أو فلاحي وغيره، فيكون المدخول الآتي، من ذلك الوقف، من الكراء أو التأجير أو الغلّة.. مُوجّهًا إلى عمل من أعمال البرّ والخير والإحسان، وغالبا ما كان هذا العمل الخيريُّ مُخصّصا من طرف “الواقف”، مثل توجيه المدخول لفائدة مسجد أو طلبة علم أو كفالة أيتام في منطقة معينة..
الأوقاف.. لإغاثة الهاربين من “سقوط” الأندلس
كانت الأوقافُ “مؤسسةً” شعبية للتضامن بين مختلف فئات المُجتمع، والمصدر الوحيد الذي ضمنَ بناء وتموين وصيانة المدارس والمساجد والمكتبات، وتنشيط الحركة العلمية، كما ضمن مُحاربة الفقر والتكفّل بالفئات المُجتمعية الهشّة والمحرومة، ومواجهة الكوارث الطبيعية والحالات الوبائية، وخدمات أخرى كثيرة. وممّا يُحكى في كتب التاريخ والتراث أن الهاربين إلى الجزائر من محاكم التفتيش بعد سقوط الأندلس، وجدوا في “مؤسسة” الأوقاف خير عون وسند، حيث تأمَّنت لهم أسباب الحياة الكريمة، وتوفّرت لهم عناصر الاستقرار ثم الاندماج في المجتمع الجزائري حتى صاروا جزءًا منه.
المصدرُ الوحيد للحركة العلمية
يُحدّثنا المُؤرّخ “أبو القاسم سعد الله” عن الأوقاف وعلاقتها بالحركة التعليمية والدينية، في كتابه “تاريخ الجزائر الثقافي”، فيقول: “إن الأوقاف (الأحباس) كانت هي المصدر الأساسي للتّعليم والمعلمين والمكتبات والمساجد والحركة العلمية على العموم. ومنذ اللحظة الأولى للاحتلال صادرت السلطات الفرنسية جميع أملاك الوقف وضمّتها لأملاك الدولة الفرنسية المعروفة (بالدومين). ومن ثمّة نضَب مَعينُ التعليم والمعلمين وتوقفت الحياة العلمية وشغرت المساجد والمدارس والزوايا”.
المدارس أكبر من نسبة السّكّان
يذهب كثيرٌ من الباحثين للتاريخ الجزائري خلال الحكم العثماني إلى أن الإدارة العثمانية لم تُول عناية بمجالات مُجتمعية كثيرة، وبشكل خاص العلم والتعليم. غير أن وجود الأوقاف كمؤسسة للتضامن الشعبي سدّ هذا “الفراغ” إلى الدرجة التي وصفها “أبو القاسم سعد الله” قائلا: “كل الذين درسوا موضوع التعليم في الجزائر غداة الاحتلال اندهشوا من كثرة المدارس وحرية التعليم وكثرة المتعلمين ووفرة الوسائل من أجل التَّعلُّم، كالمداخيل الوقفية، ومحلاّت الأوقاف والأجور العالية. وفي المدن كما في الأرياف كان التعليم جزءًا أساسيا من حياة الناس. وكان المعلم والمتعلم موضع تقدير الجميع، وحب العلم كان جزءا من العبادة. كما اندهش أولئك من وفرة المدارس التي كانت تزيد ربما عن نسبة السكان. وكان التعليم حُرًّا وخاصا ويكاد يكون مجانيا وإجباريا قبل أن تشرّعه فرنسا لأبنائها بعد 1873.
فالسيد والمَسُود والحاكم والمحكوم كلهم سواءٌ في البذل من أجل تعليم أبنائهم في ديموقراطية متناهية، إذ يلتقي أولاد الأغنياء وأولاد الفقراء على صعيد واحد، ويتلقُّون نفس البرنامج على يد نفس المعلم، وبنفس اللغة والروح. وربما وظف الأغنياء معلمين (مؤدبين) خاصين لأبنائهم”. وهذا ما جعل بعض الباحثين يؤكّد ما أثبته بعض الرّحالة الألمان، الذين زاروا الجزائر في السنوات للاحتلال، بأن غالبية الجزائريين كانوا يعرفون القراءة والكتابة، ولم يكن الأمر مَقصورا على المدن الكبرى، بل امتدّ إلى كل مناطق الجزائر.
النساء شريكات الرجال في الأوقاف
لقد كانت الأوقاف مؤسسة شعبية للتضامن، حيث أسهم فيها كل من يستطيع المُساهمة من أغنياء ومُلاّك وتجار وفلاحين وصُنّاع وحرفيين، ولم يختلف في ذلك النساء عن الرجال، وفي هذا الشأن يقول “سعد الله”: “وهناك وثائق عديدة تثبت أن النساء كن يشتركن في الوقف أيضا. فأخت خضر باشا، وهي السيدة قمر بنت القائد محمد باي، قد أوقفت على جامع أخيها الباشا بعد وفاته. كما أن السيدة مريم، وهي من عائلة ابن نيكرو الأندلسية قد أوقفت أوقافا على الجامع المعروف باسمها (جامع السيدة مريم). وتتمثل الوقفية في ثلاثة منازل وأربعة عشر دكانا. وخصصت السيدة حنيفة بنت مصطفى خوجة.. أوقافا على الزاوية التي بناها زوجها. أما السيدة دومة بنت محمد فقد أوقفت أواني طبخها النحاسية لفائدة ضريح عبد الرحمن الثعالبي، على أن يكون إصلاح هذه الأواني من مدخول آخر تملكه”.
سُبُل الخيرات
لم تخلُ منطقة في الجزائر، مهما كانت نائية عن المدن ومناطق التجمع السكاني الكبيرة، من وجود أملاك وقفية مُلحقة بالزوايا أو المساجد أو المدارس، وكان يقوم على شؤون إدارتها وتسييرها أفرادٌ ومجموعاتٌ، بالإضافة إلى “المؤسسات” الجماعية للوقف، حيث كان أشهرها في العهد العثماني مؤسستي “سبل الخيرات” و”أوقاف مكة والمدينة”، وقد تأسّست الأولى سنة 1591 على يد “شعبان خوجة باشا” الذي عرفت الجزائر في عهده استقلالها عن حكم الباب العالي في إسطنبول، إضافة إلى ما أصابها من الطاعون والمجاعة.
وحول هذه المؤسسة، قال “سعد الله”: “ومن أشهر مؤسسات الوقف الجماعية إدارة (سُبُل الخيرات) الحنفية. وكانت مؤسسة شبه رسمية. فهي التي كانت تشرف على جميع الأوقاف المتعلقة بخدمة المذهب الحنفي من زوايا ومدارس ومساجد وموظفين وفقراء.. وكانت مؤسسة سبل الخيرات تقبل الأوقاف المُوجهة لخدمة الفقراء والعلماء والطلبة والعجزة، كما كانت تقوم بإنشاء المؤسسات الجديدة لنفس الغرض وتشرف عليها وتُوجّهها وتُنمّيها. ذلك أن كثيرا من الواقفين كانوا يعهدون بوقفهم إلى إدارة سبل الخيرات”.
أوقاف مكة والمدينة
أما مؤسسة “أوقاف مكة والمدينة” فكانت تُدير أملاكا يؤول فائض مداخيلها إلى الفقراء في مكّة المكرّمة والمدينة المُنوّرة. وحول أهميتها وأملاكها يقول “سعد الله”: “وتدل الإحصائية التالية على أهمية مؤسسة مكة والمدينة في الحياة الاجتماعية. فقد ثبت أن هذه المؤسسة كانت تملك في آخر العهد العثماني الأوقاف التالية: 840 منزلا، 258 دكانا، 33 مخزنا، 82 غرفة، 3 حمّامات، 11 كوشة (مخبزة)، 4 مقاهي، فندق واحد، 57 بستانا، 62 ضيعة (مزرعة)، 6 أرحية (ربما المقصود أماكن الراحة والاستجمام)، 201 إيجار”.
بالإضافة إلى الدور الخارجي الذي كانت تقوم به هذه المؤسسة، حيث يقول “سعد الله”: “فقد كانت تُمثّل وجه الجزائر في العالم الإسلامي، وكان ركب الحج الجزائري يحمل كل سنة كمية هائلة من النقود والذهب والفضة والألبسة وغيرها إلى فقراء مكة والمدينة وخُدام الحرمين الشريفين (آنذاك)”.
تدمير التضامن الشعبي
هذا الميراث الإسلامي العظيم الذي جعل مؤسسات التضامن تنطلق من صلب الشعب لتفعّل حركاته العلمية والدينية وتقي أبناءه من الفقر والحاجة، وتحارب الجهل والفقر، عمل الاستعمار الفرنسي على تدميره من خلال سنّ القوانين والتشريعات وإصدار الأوامر الجائرة وتحويل ممتلكات الأوقاف لخدمة الأغراض الاستعمارية، وفي هذا الشأن يستشهد “سعد الله” بما نشرته جريدة “المنار” سنة 1952 بتوقيع “ابن عمار”، فيقول: “فرنسا تعهّدت باحترام الدين الإسلامي عند الاحتلال، ومع ذلك لم تف بوعدها، فقد استولت على المساجد الكثيرة وحوّلتها إلى غير ما أنشئت من أجله كما استولت على الأوقاف، وضرب الكاتب (ابن عمار) على ذلك مثلا بأوقاف الجامع الكبير بالعاصمة التي كانت تشمل 125 دارا و39 حانوتا، وثلاثة مخابز، وتسعة عشر بستانا، أما أوقاف جامع سيدي بومدين بتلمسان فقد كانت تشمل تسعَ حدائق، وقطعتي أرض، وأربعة بساتين، ومنزلين، ومطحنتين وحمّامًا، وقطعة أرض للحراثة تبلغ 300 هكتار”. فإذا كانت هذه أوقاف مسجد واحد، ليُحاول القارئ إذًا أن يتخيّل أوقاف مئات المساجد والمدارس والزوايا عبر كل مناطق الجزائر آنذاك.
الرسالة مُستمرّةٌ
ما زالت الأوقاف تؤدي في رسالتها عبر بعض الهيئات مثل الزوايا، ودراسة تاريخها وأدوارها عبر مختلف عهود الجزائر منذ الفتح الإسلامي، يكشف بالتأكيد بأنها أقوى مؤسسة شعبية يُمكنها الإسهام في محاربة الفقر والتكفّل بالفئات الاجتماعية الهشّة، بالإضافة إلى ما يُمكن أن تقدّمه في مجال صيانة ونباء المساجد والمدارس القرآنية.