“الأيام نيوز” تستطلع آراء نخبة من الكتّاب العرب.. الإعلام الثقافيّ العربيّ.. غائب أم مغيّب أم في غيبوبة؟

على امتداد أكثر من خمسين سنة من القرن الماضي، كانت تنتشرُ على جغرافية الإعلام العربي المجلاَّتُ والدَّورِيات، لا سيما الشَّهرِيَّة، المُتخصِّصة في الآداب والفنون، إضافة إلى صفحاتٍ يوميَّةٍ في الجرائد والصُّحف.. وكانت تتابِعُ بعُمقٍ أخبارَ الثقافة في كل حقولها: أدبية، فنِّية، إصدارات، فعاليات ثقافية وفكرية.. إضافةً إلى الكتابات الأدبية والثقافية المُنوَّعة التي كان يكتبُها الأدباءُ والمُبدعون.

منذ مطلع هذا القرن، اختفَت – أو تكاد – تلك المجلاَّت والدوريات، وتقلَّصَت الصَّفحاتُ الثقافية في الجرائد والصُّحف، بل صارَت تهتمُّ بالأخبار الشخصِيَّة للفنانين والموضة والتَّجميل.. ولا تكاد تنشرُ الكتابات الإبداعِيَّةَ: شعر، قصة قصيرة، خاطرة، مقالة أدبية، أو المتابعات المُعمَّقة للفعاليات الثقافية وحصاد المَطابع.. والأمر لا يختلف كثيرًا في وسائل الإعلام الأخرى، وإن كانت وسائل التَّواصل الاجتماعي أكثر نشاطًا رغم تناولها السَّطحي للشؤون الثقافية..

توجَّهَت جريدة “الأيَّام نيوز” إلى نُخبةٍ من الكُتَّاب، وطرحَت عليهم هذه التَّساؤلات: ما هي رؤيتكم حول قضِيَّة الإعلام الثقافي؟ وهل ترون أنَّه من الضروري إحياء وبعث الإعلام الثقافي “الحقيقي”، باعتبار أنَّ الثقافة هي روح الأمَّة وحامل هويَّتها وعناصر قِيَمها وأسرار لغتها ومَكنوز تراثها…؟

إنَّ الإعلام الثقافي الذي نَعنِيه هو تمامًا ما يفهمه الإنسان العربيُّ، بعيدًا عن التَّعريفات الأكاديميَّة والتَّنظيرِيَّة. هو “بالتَّحديد” امتدادٌ لرؤية المُفكِّر الجزائري “مالك بن نبي” للثقافة، حيث قال بأنَّها: “جوٌّ مُركَّب من: الألوان، والنَّبرات، والرَّوائح، والعُرف والعادات، والأشكال، والإيقاعات، والحركات التي تَطبَع على حياة الإنسان اتِّجاهًا، وأسلوبًا خاصًّا، من شأنهِما أن يشحذَا خيالَه، ويُلهِما عبقريَّتَه، ويُغذِّيَا مواهبَه الخلاَّقة”.

وحديثنا عن أزمة الإعلام الثَّقافي هو حديثٌ عن أزمة الثَّقافة.. وحديثنا عن أزمة الثَّقافة هو حديثٌ عن أزمة الحضارة، أو كما قال “مالك بن نبي”: “كلُّ تفكيرٍ في مشكلة الحضارة هو في أساسه تفكيرٌ في مشكلة الثقافة”. بل إنَّ حديثنا عن الإعلام الثقافي هو حديثٌ عن الفصل الرَّابع من فصول الثقافة: وهو المنطق العملي مُجسَّدًا في ممارسة هذا الإعلام، وذلك وفقًا لـ “مالك بن نبي”: “فصول الثقافة الأربعة هي: الأخلاق، والاستاطيقا (علم الجمال)، والصياغِيَّة (الأفكار النُّخبويَّة)، والمنطق العملي”.

فإذا ما توافقنا بأنَّ الإعلام الثقافي يجب أن تتوافر فيه – على الأقل – الأفكار البنَّاءة والأخلاق النَّبيلة والرؤى الجمالِيَّة، فيُمكننا القولُ بأنَّ هذا الإعلام يعاني من أزمة حقيقيَّة، وقد انحرَفَ من ثقافة الأفكار والأخلاق والجَمال، و”اعتنق” ثقافة الأوهام ومُطاردة “النُّجوم” وفنون التَّجميل وأدواته.. وتحوَّل من “صانعٍ” للأعلام الذين يقتدي بهم الشَّباب، من بين فئات: العلماء والمُفكِّرين والأبطال التَّاريخيِّين.. إلى “صانعٍ” للشُّخوص القُدوة من بين فئات أخرى لا علاقةَ لها بـ: الأفكار البنَّاءة والأخلاق النَّبيلة والرؤى الجمالِيَّة.

من المُجدي الإشارة إلى أنَّ الإعلام الثقافي كان من عناصر “صناعة” الوحدة الروحِيَّة على مستوى القُطر الواحد، وعلى مستوى جغرافية انتشار اللغة العربية في الأوطان العربية أو البلدان التي يتواجد فيها الإنسان العربي، غير أنَّ “الفردانيَّة” التي نتجَت عن تكنولوجيا الاتصال وشبكات التواصل الاجتماعي، وغِياب الإعلام الثقافي “الحقيقي” سيؤدي إلى تفكُّك الوحدة الروحيَّة، ويُعيد تشكيل معنى آخر للثقافة بحيث لن تكون هي حامل الأفكار وعناصر الهوِيَّة ومكنوز التُّراث.. وما يتبع هذا التغيير من تأثيراتٍ على المُجتمع، وعلى علاقة الإنسان العربي ببيئته وتاريخه ومحيطه ولغته ومُعتقده.. لن نذهب أبعد من هذا، ونترك المجالَ أمام أفكار ورؤى نُخبة كُتَّابنا الذين تناولوا قضيَّة الإعلام الثقافي.

 

رانيا محيو الخليلي
رانيا محيو الخليلي (أديبة وروائية من لبنان)

عصرُ الثقافة يعيش في غيبوبة..  الصحافة الثقافية اليوم: صدى يبحثُ عن مُجيب…وما مِن مُجيب!

عندما كان الأدبُ “إبداعًا”، والفنُّ “أصالةً”، والموسيقى “طربًا”، كان هناك صحافةٌ ثقافية وأقلامٌ تبحثُ عن مَكامِن الجمال الفكري والفني بكل المجالات والميادين. نهاية القرن الماضي، كان الزمنُ مكتظًّا برُوَّاد الثقافة، ولم تكن الثقافة لمجرد التَّباهي أداةَ تصنُّعٍ وادَّعاءٍ.

نهاية القرن الماضي في “ست الدنيا” بيروت، كانت مقاهي “الحمرا” تعجُّ برجالات الصحافة والأدب والفن على جانبي الطريق. فإن لم تجد لك مكانًا شاغرًا في “المودكا”، ستجده في “الكافيه دو باري” أو في “الويمبي” وفي ذروة الحرب.

أذكرُ عندما كانت تندلع حربٌ فُجائِيَّةٌ مساءً، ونسمع إطلاق النار والقذائف، تُسارع والدتي إلى دفتر التليفونات وتتَّصل بمقهى “المودكا” لتسأل عن أبي. أبي كان يقضي هناك فترةَ ما بعد ظُهر كل يومٍ. أبي كان صحفِيًّا سياسِيًّا وثقافِيًّا واجتماعيًّا، اعتدنا عليه الكتابةَ في كلِّ شيءٍ. كان يقضي وقته مع الكاتب “وجيه رضوان” مُؤلِّف أهمِّ الأعمال الدرامية اللبنانية، ومع الفنان والكاتب الكوميدي “إبراهيم مرعشلي”، والفنَّان الشَّامل “ماجد أفيوني” وغيرهم.. أمَّا رفيقه اليومي، فكان الكاتب والصحافي الفني “رياض جركس” وقد رافقه والدي في مسيرة إطلاقه لكتابه عن أيقونة لبنان السيدة “فيروز”.

حين كان يعود أبي إلى البيت، كان يحمل معه الكثيرَ من القصص والأخبار، لقد علِمنا منه أنَّ “فيروز” ستغنِّي “إسوارة العروس” لجنوب لبنان، وعرفنا أنَّ الفنان الوسيم صاحب الإلقاء البديع “أكرم الأحمر” سيصوِّر دورَ بطولةٍ في مسلسل جديد… والكثير الكثير من أخبار الفن والثقافة والإصدارات والتَّرجمات التي كنت أُنصِتُ إليها بشغفٍ، ثم أنام والكثير من الأحلام الجميلة تراودني.

كنتُ أعتقد وقتها أنَّ الحربَ هي التي كانت تُؤرِّق أحلامَنا وتمنعنا من عيشِ الحياة بطبيعتها، لم أكن أعلم أنَّنا بأوج الحرب كُنَّا نعيش الحياة بعزِّها ومَجدِها. انتهت الحربُ ورحَل مُعظم من ذكرتُهم، ورحل معهم أبي. والأمر لم يتوقَّف عند رحيل مُبدعين لن يتكرَّروا، وإنَّما لم يعد هناك “مودكا” ولا “ويمبي” ولا “كافيه دو باري”. حتى مسرح البيكاديللي العريق في “الحمرا” الذي كُنَّا نشاهد فيه حفلات “كركلا” ومسرحِيَّات “الرَّحباني” كـ “صيف 840″، ومسرحِيَّات “مروان نجار” مثل “عريسين مدري من وين”، أصبح مَهجورًا ولا تزال عليه إعلانات آخر مسرحيات الثمانينيات. وكما تغيَّرَت ملامحُ “الحمرا”، تغيَّرَت معها أجواءُ الثقافة، وأصبح هناك فرعٌ من “مُستثقفي” القرن الحديث الذين يعتبرون أنفسهم “النُّخبة” ولا يقصدون مقاهي الرَّصيف وإنَّما المراكز التجارية ومقاهي القهوة الأميركية المُستحدثة. الجمالُ هجَر البشرَ والأمكنة وبقِيَ الصَّدى يبحث عن مُجيبٍ، لكن ما مِن مُجيب!

أذكرُ أنِّي عام 2018 شاركتُ في معرضٍ عربي للكتاب، كان أول معرض عربي للكتاب أشارك فيه خارج لبنان، وقرَّرتُ وقتها توقيع إحدى رواياتي، أعلنَت إدارةُ المعرض عن اسمي وعن عنوان روايتي لكنها لم تعلن اسم الدَّار والجناح الذي سأوقِّع فيه. استاءت الناشرةُ، فذهبتُ للاستفسار عن الأمر لاعتقادي أنَّهم نسوا اسم الدار، وهنا كانت الصاعقةُ: أخبرتي مسؤولة الإستعلامات أنَّهم لا يذيعون سوى أسماء دُور النَّشر المُهمَّة ذائعة الصِّيت. على الرغم من أنِّي كنتُ مستاءةً جدًّا من الناشرة لأنَّها تسبَّبَت لي بالكثير من الأذى، لكني لم أقوَ على إهانتها بإبلاغها عن السَّبب، وتذرَّعتُ لها بأنِّي لم أجد من يجيبني. لم أفهم وقتها على أيِّ أساسٍ قبلوا مشاركات دثور النَّشر التي لا يعتبرونها مُهمَّة، وقبضوا منهم إيجار الجناح؟ وماذا سيخسرون من “بريستيجهم” إذا ذكروا اسم دار النَّشر بالصوت، وقد سبَق لهم ذكره في لوائح المُشاركين؟  تساءلتُ على أيِّ أساسٍ قيَّموا أنَّها دارٌ غير مُهمِّة من ذيوع صيتها؟ وهل هكذا يكون التعاطي الثقافي؟ هل هذا هو أساس تقييم الكِتاب والكاتب والناشر؟

صاعقتي لم تتوقَّف هنا، بعدها بشهرين كان معرض “بيروت” للكتاب، وللأسف كان آخر معرض نشِطٍ شهدَته “بيروت” من وقتها، عرَّفني أحدهم على ناشر عربي، المفروض أنَّه شاعرٌ ومُرهَفٌ وحوله هالةٌ من المُفكِّرين والأدباء والشعراء. زُرته في جناحه في المعرض وأنا أحمل روايةً من رواياتي لأهديها له، وأخبرته أنِّي أبحث عن ناشرٍ، قبل اطِّلاعه على الرواية التي لم يتناولها منِّي، نظر إليَّ وقال لي: “كم عدد مُتابعيك على مواقع التواصل؟”.

رددت عليه بصرخة تعجب: “نعم؟؟!!”.

فتابع: “عددُ متابعين كثير يعني بيع كثير، هذا هو مقياسي الأوَّلي لقبول أعمال جديدة في داري”.

لا أُخفي أنِّي لحظتها شعرتُ بدُوارٍ ريثما تقبَّلتُ ما أسمع، ثم قلت له: “ألاَ تعلم يا شاعرنا العظيم أنَّ المتابعين يمكن شراؤهم، وأنّ المتابع المُشترى لا يشتري؟”.

تركته وأنا أسير في المعرض، وتوقَّفتُ أمام المقهى الذي يديره مطعم “سقراط” البيروتي العريق، وقد كان مُكتظًّا بالكُتّاب والقراء وقهقهات الأحاديث وتبادل الكُتب وعرضِ المشتريات… توقَّفتُ وأنا أشاهد واقعًا مختلفًا بوجوه مختلفة فقدَت روحها ولم تعد تبحث عن الكمال، لأنَّ الكمال هو إحساسٌ وتفوُّقٌ واجتهاد، وهم لا يريدون أن يجتهدوا ويتفوَّقوا، لأنَّهم ببساطة وصلوا إلى مرحلة بلادة استهلاكِيَّة، وفقدوا الإحساس..

كنتُ حزينة وقتها لأنِّي أدركتُ أنَّ عصر الثقافة يعيش في غيبوبة، لم يعد هناك كُتّاب ولا ناشرين ولا مدراء معارض حقيقيين وأصليين، كلُّ شيءٍ أصبح مُسلّعًا وبلا قيمة. وبالتَّأكيد، مع انهيار كل هذه الدَّلالات التثقيفية ستنهارُ الصحافة الثقافية. وهنا تذكَّرتُ والدي، افتقدتُ والدي بحُرقةٍ، لأنَّ الزمن لم يعد زمانه هو وأترابه، لقد استُبدِلوا بوجوه نَكراء لا تفهم ولا تَعي ولا تشعر.

عدتُ أدراجي وانطلقتُ بسيَّارتي من واجهة “بيروت” البحرية حيث معرض الكتاب، وتوجَّهتُ مُجدَّدًا نحو شارع “الحمرا”، كان المساء قد حلّ والمحلاَّت أقفلَت، سِرتُ في شارع “الحمرا” وأنا أبحث عن أيِّ أثرٍ لمقهى “المودكا”، عن أيِّ أثرٍ لأبي ورفاقه، ورُحتُ أتَمتِم وبعض دموع القهر تنزل من عينيّ وأنا أدعو أن أجد ولو طيفًا منهم لأخبره ما يحدث بعدهم، لربَّما استطاعوا أن يعودوا ولو لبعض الوقت لينقذوا واقعَنا الثقافي، وبالتَّالي لربما استطاعوا أن ينقذونا نحن أبناء الثقافة… أبناؤهم.

 

إبتهال أبو شهاب
ابتهال أبو شهاب (إعلاميّة فلسطينِيَّة من لبنان)

إحياءُ الإعلام الثقافي الحقيقي.. إحياءٌ لروح الأمَّة

من وجهة نظري، القضية التي طرحتموها مُهمِّةٌ للغاية، وتعكس تغيّرات هامّة في المشهد الإعلامي العربي خلال العقود الأخيرة. فعلاً، كانت المجلّات والدوريّات الثقافِيّة تلعب دورًا هامًا في نشر المعرفة والتَّرويج للثقافة والفنون، وكانت توفِّر منبرًا للكُتَّاب والمثقّفين للتعبير عن آرائهم ونقدهم وتبادل الأفكار..

مع تطوّر التكنولوجيا وظهور وسائل الإعلام الجديدة، شهدَت صناعة الإعلام تحوُّلات جذرية. وبالتالي، شهد الإعلام الثقافي تقلُّصًا في وسائله التقليدية مثل: المجلّات والدوريّات، وتحوّلَت بعض الاهتمامات الإعلامية إلى الأخبار الشخصية والتَّرفيه.

مع ذلك، يمكن القول أنَّه مع وجود التكنولوجيا الحديثة والوسائط الاجتماعية، هناك فرصة كبيرة لإحياء الإعلام الثقافي وتعزيزه بطُرق جديدة. يمكن للمواقع الإلكترونية والمدوّنات والبودكاست والقنوات على اليوتيوب وغيرها من وسائط الإعلام الجديدة أن تلعب دورًا هامًا في نشر المعرفة والثقافة. يمكن للأدباء والمثقفين والخبراء في مجالات مختلفة أن يقدِّموا محتوى ثقافي غني ومُتعمِّق عبر هذه الوسائط، وبالتالي تعزيز الوعي الثقافي وتثقيف الجمهور.

إحياء الإعلام الثقافي الحقيقي يُعتبَر أمرًا ضروريًا بالنسبة للمجتمعات، حيث تُعتبَر الثقافة روح الأمّة ومصدرًا هامًا للهوية والقيم والتراث. يمكن أن يساهم الإعلام الثقافي في تعزيز التفاهم والتواصل الثقافي، وتشجيع الابتكار والإبداع، وتعزيز الوعي الثقافي لدى الجمهور.

من الضَّروري أن يكون هناك اهتمامٌ مستمِرٌّ ودعم للإعلام الثقافي من قبل المؤسسات الثقافية والحكومات والمجتمع بشكل عام. يجب توفير الموارد والدعم المالي لتشجيع إنتاج المحتوى الثقافي عالي الجودة وتوزيعه بشكل واسع. يجب أيضًا تعزيز التعاون بين وسائل الإعلام التقليدية والجديدة لتحقيق أفضل استفادة من الإمكانيات المتاحة.

علاوةً على ذلك، يمكن للجمهور أن يلعب دورًا فعّالًا في دعم الإعلام الثقافي عن طريق الاهتمام بالمحتوى الثقافي ودعم الكُتّاب والمثقفين والفنَّانين. يمكن للجمهور أن يشجِّع إنتاج المحتوى الثقافي من خلال قراءة الكتب والمجلاَّت ومشاركة الأعمال الفنية والثقافية على وسائل التواصل الاجتماعي وحضور الفعاليات الثقافية المحلِّيَة.

بالتَّالي، يمكن القول إنَّ إحياء وبعث الإعلام الثقافي الحقيقي ضروري ومُهمٌّ للحفاظ على التراث الثقافي وتعزيز الوعي الثقافي في المجتمعات. يجب أن يكون هناك جهود مشتركة من قبل المؤسسات والحكومات والجمهور لتعزيز الإعلام الثقافي وتوفير المِنصَّات اللاَّزمة للتعبير الثقافي والفني.

 

 

ناصر عطا الله
ناصر عطا الله (كاتب وشاعر فلسطيني من غزة)

الإعلام والثقافة في زمن الحرب.. غزَّة أنموذجًا

بدأ العدوان الصهيوني بتشديد الخناق على وسائل الإعلام الفلسطينية منذ سيطرة حركة “حماس” على قطاع “غزَّة” سنة 2007، فتراجعَت الجرائدُ والصُّحف والدَّوريات السنوِيَّة والشَّهرية والمجلاَّت عن دخول “غزَّة”، واعتمد المواطنُ الفلسطيني على وسائل التواصل الاجتماعي بكافَّةِ تطبيقاتها، مكتفِيًا بها عن الصحافة الورقِيَّة.

هذا الأنموذج المُصغَّر يعكس الحالةَ الواقعة في الكوكب بشكلٍ عام، فغالبًا ما تراجعَت الصحافةُ الورقِيَّة عن سابق عهدها في القرنين التاسع عشر والعشرين، رغم أنَّ بعض الدول كـ “مصر” – مثلاً – ما زالت تجتهد في إصدار الصحافة الورقِيَّة، خاصة وإنَّ كُبريات الصُّحف العالمية توجَّهَت فعليًا إلى الصحافة الإلكترونية، مع تخفيض عدد طبعاتها ورقِيًّا، وهذا يؤكد على أنَّ الصحافة الورقِيَّة بحالة تراجع أيضًا.

ومع هذا الانحسار للصحافة الورقية، تكون الثقافة إحدى المكوِّنات الأساسية في المجتمع قد تأثَّرَت سلبًا بطريقة أو بأخرى، ولم تعد القضايا الثقافية مُؤرشَفةً كما كانت سابقًا، بل اعتمدَت على الإعلام الإلكتروني، وفي هذا الاعتماد يكون كل من يملك ثمن بطاقة الأنترنت، أو من يتوفَّر له؛ فهو مشارك في المادة الثقافية، بغضِّ النظر عن ثقافته، وبلاغته، وتحصيله العلمي والمعرفي، خاصة وأنَّ المُجاملات قد لعبَت دورًا سلبيًا في النَّشر الرديء للثقافة.

ورغم ذلك، بنَت الثقافاتُ في الوطن العربي مفاهيمَ الحداثة في مجال التكنولوجية على أسُس مختلفة استطاعَت من خلالها تطوير وسائل النَّشر، والتبليغ الأسرع للإبداع، وخلقِ جمهورٍ أكثر تفاعلاً مع الثقافة والإبداع، قد لا يكون مُتوِّفرًا في الإعلام الثقافي الورقي، وتوفُّره كان يعتمد على الرسائل والردِّ عليها إذا توفَّر سيأخذ وقتًا أطول بكثير مِمَّا هي عليه اليوم.

عدَا على أنَّ المزاج الثقافي العربي في حالة تغيير مُتواتر مع الطفرة الإلكترونية الحاصلة، وتغلغل مواقع التَّواصل في الحياة العامة، وعلى اتِّساع رقعتها الاجتماعية، واعتبار الثقافة متوفِّرًّا مجانِيًّا في بطون الشبكة العنكبوتية، قلَّما نجد من يشتري الكتابَ أو الجريدة، حتى تخزين الكتب الأدبية في المواقع الإلكترونية ووضعها تحت يد المُتناوِل بدون تكلفة تذكر، قلَّل بشكل كبير الطلبَ على الكُتب المَطبوعة.

إلاَّ أن عوامل كثيرة لعبَت دورًا ما، ولتراجع الإعلام الثقافي الورقي في العالم إلى مستويات مُتدنِّيَة، منها البطالة في فئة الشباب، والغلاء الفاحش لمستلزمات الحياة، والبحث عن الأولويات، ويبقى الكتاب أو المجلة نوعًا من التَّرفيه الذي من المُمكن الاستغناء عنه من قبل المثقفين غير المُضطرِّين للاقتناء، وقد تنحصر عملية الاقتناء على المُقتدِرين ماليًّا، والباحثين، والمكتبات العامة والجامعِيَّة.

ورغم ذلك بقيت معارض الكتاب في العالم تلعب دورًا إيجابيًّا في ميادين التَّرويج والنَّشر والتَّعريف والإشهار، بل تحوَّلَت بعض المعارض السنوية إلى أسواق كبيرة ومواسم للتنزه واقتناص الفرص لامتلاك الكتاب بأسعار تنافسِيَّة، وعادَت إلى الواجهة المطابعُ ودور النشر لتنشيط ذاتها، مستفيدة أيضًا من التكنولوجية والإعلام الإلكتروني.

وعلى هامش الحديث عن الإعلام الثقافي في الوطن العربي وشؤونه، أستطيع أن أثبت الكثير من محاولات الاحتلال الإسرائيلي مُحاربةَ الثقافة الفلسطينية من خلال فرض شروط تعجيزِيَّة على المَطبوعات بكل أشكالها خاصة في فلسطين التاريخية والقدس، وأمَّا في الضفة الغربية فتعتمدُ على المشاريع التمويلية من جهات دولية، وهذا غير متاح في قطاع غزة بسبب الحصار، لذا تراجعَت المطبوعات بشكلٍ كبير جدًّا، وبات الاعتماد على الفضاء الإلكتروني..

أمَّا مع العدوان الأخير، فكثيرٌ من العناوين الثقافية تم تدميرها بشكل كلِّي، وتمَّ شطبُ المطابع والمراكز الثقافية، وقتل الكثير من المثقفين والكُتَّاب، ومُطاردة كُتَّاب المَنشورات، واغتيال النشطاء، وكل هذا لتحقيق هدف واحد وهو القضاء التامُّ على الثقافة الفلسطينية.

ومن نافلة القول والتَّدليل أنَّ العدو، حامل ثقافة التَّدمير للغير والشطب للآخر، يبقى مُتربِّصًا بكل ما من شأنه فضح عدوانه، وتعرِيَة وجهه القبيح، وربَّما يستطيع تدمير المطابع والمكتبات والجامعات والمراكز الثقافية وقد فعل، إلاَّ أنَّه لا يستطيع تكميم الأفواه بشكل كلِّي ومُحكم في ظل الطَّفرة الإلكترونية وانتشار وسائل التواصل الاجتماعي، رغم انحياز مُشغلِّي هذه الوسائل لصالحه، فبات التَّضييق على المحتوى الوطني الفلسطيني، ثقافة قمعٍ منتشرة بيد داعِمي الاحتلال.

والثَّابت أنَّ المثقفَ الحقيقي، سيبقى يعتمد على الورقي لِما له من رَونقٍ وحميمِيَّة امتلاكٍ، ومرجعِيَّة بمتناول اليد، تُغذِّي العقولَ، وتزيِّن البيوتَ بالمكتبات.

 

أحمد عاشور
أحمد عاشور (كاتب وأديب من فلسطين)

المَشهد الثقافي بين الواقع والطموح..

دون أدنى شكٍّ، وصَل المشهدُ الثقافي والأدبي على الساحة العربية خلال العقدَين الماضيَين إلى مستويات أقلّ ما يُقال عنها أنَّها لا تعكس حقيقة ما تواجهه الأمَّةُ من تحدياتٍ كبيرة على جميع الصُّعُد، ولهذه الظاهرة المؤلمة أسبابُها والعديد من الرَّوافد التي تغذِّيها وتعمل على انتشارها سواء بشكل مباشر أو غير مباشر.

كانت الصُّحفُ الورقِيَّة اليومِيَّة وبعض النَّشرات والدَّوريات الأسبوعية ونصف الشَّهرية والمجلاَّت المُتخصِّصة تتسابق على نشر الثقافة والفنون والأدب. وكان المُثقَّفون والكُتَّاب شبه مُتفرِّغين لنشر إبداعاتهم وكل ما يفيد المواطن العربي وفي جميع فنون الكتابة. وكانت الأقلامُ الرَّصينة المُهتمَّة بهذا الشَّأن لها حضورها وجمهورها بين أوساط معظم فئات الشعب والذي كان ينتظر بلهفة إنتاج هؤلاء الأدباء والكُتَّاب والمبدعين.. وعلى ما يبدو أنَّ الحالة السياسِيَّة غير المستقرة بل وغير المُهتمَّة الاهتمام المنطقي لكل ما يدور في عالمنا العربي من أزمات كبيرة وحالة اقتصادية في غاية السُّوء.. كان لها نصيب الأسد من تراجع المشهد الثقافي والأدبي والفني المُلتزم بقضايا الأمَّة من المحيط إلى الخليج..

ودون أدنى شكٍّ أيضًا، كان لظهور وانتشار شبكات التَّواصل الاجتماعي بأنواعها المختلفة والتي يطغى عليها طابع التَّرفيه الخالي من أيّ مضمون، كان لها عظيمُ التَّأثير على القارئ والمتلقِّي العربي الذي تحوَّل تلقائِيًّا إلى البحث عن التَّرفيه السريع دون الاهتمام بالمحتوى والمضمون، مِمَّا أدَّى إلى المزيد من التَّراجع في نشر الثقافة الجادة والمُلتزمة.

كان لرائحة الورق ومَلمسِه بالغ الأثر والقيمة في عشق القارئ واهتمامه بمتابعة الصحف والمجلات والكتب، ومتابعة كل جديد في عالم الثقافة الأدبية والفنية والرياضِيَّة. وكان لهذا العشق مردوده الرائع على انتشار وازدهار صناعة الثقافة بجميع أنواعها.. وكانت تحقِّق الكثير من النَّجاحات..

لا نستطيع إنكار المزاج العام للقارئ والمتلقِّي العربي، وهذا المزاج مرتبط بشكل قوي بالحالة العامة التي تسود مجتمعاتنا العربية وهي ليست في أحسن حالاتها، بل على العكس كامل الأمَّة تعاني من مشاكلَ بعضُها مُستورَدٌ من الخارج بسبب سطوة الدول الاستعمارية، والبعض الآخر لأسبابٍ داخلية في كل قطر عربي..

ويبقى السؤال الصعب: كيف نُعيد إلى الثقافة والإعلام الورقي قيمتَه التي فقدناها لأسباب عديدة؟ نعم، كان منها ظهور شبكات التواصل الاجتماعي، وأيضًا منها تحوُّل بعض الكُتَّاب والمُبدعين إلى البحث عن الثَّراء السريع من خلال الانتشار على الشبكة العنكبوتِيَّة.. من الصعوبة بمكان إقناع أيّ كاتبٍ أو أديب أو مُبدع التركيزَ على الأهداف السامِيَة التي تخدم مشروعنا الثقافي والحضاري عندما تكون المُغرياتُ في الجانب الآخر كبيرةً بل وضخمة، ولكن لغة التَّعميم دائمًا على خطأ، فهناك من هؤلاء الكُتَّاب والأدباء والمُبدعين مَن لا تؤثِّر عليه الإغراءات المادية ولكنهم قلَّة مع الأسف الشَّديد.

 

إسراء نزال
إسراء نزال (ناشطة اجتماعية ومهندسة كيميائية فلسطينية من جنين)

ثقافتنا العربيَّة في مواجهة غُول العولمة!

ذكَر المُمثِّل الأمريكي “ستيفان سيغال” في مقابلة كانت قد أجرِيَت معه مُؤخَّرًا، أنَّ روسيا والتي لا تنتهي حربُها مع الولايات المتحدة الأمريكية – بغضِّ النَّظر عن شكل الحرب – غنِيَّة بالثقافة. وقد أثارَت مقابلته لديَّ عدَّة أسئلة، من بينها كيف لأمريكيٍّ أن يتحدَّث بإعجاب شديد عن ثقافة دولة هي مُعادِيَة تاريخيًّا لوطنه؟ تكمن الإجابة في الوسيلة التي نشرَت هذه المقابلة حتى كانت مقابلته مقدِّمة لهذا المقال.

إنَّه الإعلام الذي تمكَّن من إظهار ثقافة دولة روسيا، وللدقَّة، فإنَّ فعاليات كأس العالم عام 2018 كانت المفتاح الذي انطلق من خلاله الإعلامُ الروسي لإظهار ثقافة روسيا على عكس ما تبثه وسائل الإعلام الغربية، مِمَّا جعَل مُواطنًا كالمُمثِّل الأمريكي “سيغال” يتحدَّث عن ثقافة دولة مُعاديةٍ لوطنه، ولم يكن ذلك مُمكنًا دون الإعلام الذي يشكِّل وعاءً ناقلاً للثقافة التي تعكس هوية ومضمون الشعب.

السؤال، هل الأمر هكذا بالنسبة إلى الثقافة العربية الغنِيَّة الثرِيَّة، أي هل هناك إعلام عربي يعمل على نشر ثقافته العربية بالدرجة الأولى، كي نُحدِّث الأجيال العربية عن حقيقة جمال ثقافتنا التي هي جزءٌ من حضارتنا، وجزءٌ لا يتجزَّأ من هويتنا العريقة؟ هل يمكننا من خلال إعلامنا العربي الاندماج في العولمة الإعلامية، ناقلين ثقافتنا العربية الضاربة في جذور التاريخ، مُتَحدِّين ما تتناقله وسائل الإعلام الغربية عن العرب وماهيَّتهم؟

الإجابة، لا، ولكن الأمر ليس مستحيلاً، إلاَّ أنَّه ينقصنا الكثير الآن، وهنا وفي كل بقعة عربية. هل تعلم لماذا؟

بداية، هنالك العديد من التَّعريفات لمفهوم الثقافة، لكن التَّعريف المُتَّفق عليه من قبل علماء الاجتماع في الوقت الحاضر هو تعريف: كروبي وكلاكهون، حيث يُعرِّفان الثقافة على أنَّها تتألَّف من أنماطٍ مُستتِرة أو ظاهرةٍ للسُّلوك المُكتسب والمَنقول عن طريق الرُّموز، فضلاً عن الإنجازات المُتميِّزة للجماعة الإنسانية، ويتضمَّن ذلك الأشياء المَصنوعة. ويتكوَّن جوهرُ الثقافة من أفكار تقليدية وكافَّة القِيَم المُتَّصلة بها.

وقد كتَبَا هذا التَّعريف بناء على تحليل 150 مفهومًا للثقافة، ومن خلاله يمكن استنتاج أهمِيَّة الثقافة التي تساهم في تشكيل هوية شعبٍ ما أو جماعة إنسانية ما، من خلال جُملة عظيمة من القِيَم والعادات والتقاليد والإنجازات في كافة المجالات المتنوعة والمختلفة، سواء كانت: أدبية، فنية، موسيقية أو علمية، والتي جميعها – في تطوُّرها وتقدُّمها – تشكِّل إضافةً ثرِيَّة لثقافة هذا المجتمع، لكن لا شيء يمكنه الوصول إلى أفراد المجتمع دون وسيلة ترويج تُفصِح عن هذا الشيء، ناقلةً إلى المجتمع سِمات وأهمية هذا الشيء، وإلاَّ سيبقى كل شيء في طيِّ النسيان!

ومن هنا تكمُن أهمية الإعلام الذي يُشكِّل أولاً الوعاءَ النَّاقل للثقافة، علاقة تكاملِيَّة مع الثقافة ثانِيًّا، السلطة الرابعة في الدولة، ولكن في ظل العصر الثالث الذي يُسمَّى بشكل أو بآخر بعصر الاتصالات والإنترنت ومواقع التواصل الاجتماعي، فإنَّ الإعلام قد أصبح السُّلطة الأولى إلى جانب السلطات الأخرى في الدولة، وهذا ثالثاً. كل ذلك يعكس ويؤكِّد أهمية الإعلام الثقافي لكونه ينقل إلى المجتمع جزءًا لا يتجزأ من هوية هذا المجتمع، وأيضًا يُربّي الأجيالَ على السِّمات والهوية العريقة الجامعة لكل أفراد المجتمع، وهذا هو الأهمُّ، لكن ناقوس الخطر يدقُّ الجرسَ! السبب؟

منذ بدء “الربيع” في الوطن العربي، بدا واضحًا للكلِّ العربي السيطرةَ المخيفة لوسائل التواصل الاجتماعي على ذهنية وعقلية الفرد وبالتالي على بنية المجتمع، فقد أصبح بالإمكان لكلِّ فردٍ أن يجعل من صفحته منبرًا إعلاميًّا يتحدث عمَّا يشاء دون رقابة، مِمَّا ساهم في نشر المعلومة الخاطئة قبل الصحيحة. لكن في الحقيقة المشكلة لا تكمن هنا، بل في أنَّ وسائل التواصل الاجتماعي قد جعلَت من المُمكن للأفراد أن يجمعوا الملايين من المتابعين وأرباح تغنيهم حتى عن الوظائف، مِمَّا جعل من الصعوبة بمكان أن يكون هناك إعلام ثقافي عربي قادر على السيطرة على ذهنية الأجيال الناشئة ناقلاً ثقافتنا العربية، وهذا تحدٍّ كبيرٌ جدًّا، خاصة أنَّ الأجيال الناشئة باتت ترى أنَّها مُؤثرة في المجتمعات، وبالتالي لا حاجة لها إلى إعلام ثقافي!

ليس هذا فقط، بل أثَّر “الربيع” على حالة المواطن العربي من كل النواحي خاصة الاقتصادية والسياسية وبشكل تلقائي النفسية، حيث جعل “الربيع العربي” مواطنَنا العربي في حالة خوفٍ من المستقبل وفقرٍ اقتصادي، وهذا كان سببًا أساسيًّا في اهتمامه بالأمور السياسية والاقتصادية حصرًا، ولأنَّ الإعلام هو ليس محايدًا بالمطلق (إن كُنَّا نريد الصدق)، فإنَّه أولاً تابعٌ إلى جهة معينة عاكسٌ لسياستها، وتجاريٌّ يحلِّل ما يريده المواطن، فينقل الخبرَ في المجال المطلوب ثانيًّا، لذلك أصبح الآن واضحاً لمَ أجهزة الإعلام في الوطن العربي تخصُّصاتها مُقيَّدةٌ في السياسة والاقتصاد، وأحيانًا كثيرة في الرياضة من باب التَّرفيه. وهذا انعكس سلبًا وبشكل عميق على الإعلام الثقافي الذي حدثَ انحسارُه بسبب السياسات العربية المُتبعة.. جعلته شبه غير موجود أو غير ملاحظ، رغم غِنى الوطن العربي بكُتَّابه وأدبائه وشعرائه وكل مُضيفٍ إلى الثقافة العربية، لكن كل هؤلاء لا يوجد إعلامٌ راعٍ لهم ينقل إبداعاتَهم.

وبناءً على ذلك كلِّه، أصبح العربيُّ يتناقل الخبرَ السياسي والاقتصادي من خلال الوسيلة الأسرع بالنسبة لديه، وهذه الوسيلة هي الآن مواقع التواصل الاجتماعي التي برمجَت العقلَ العربي على المعلومة السريعة، الأمر الذي صنع الوعي العربي بحيث بات يُفضِّل مثلاً مِنصَّة “التيك توك” التي تتناقل المعلومةَ السريعة والآنية، وهذا ما لا يتَّفق مع الثقافة التي لا تقدِّم خبرًا أو معلومة لحظِيَّة، بل معلومة تراكمِيَّة أصبحَت غير مرغوبة بين شعوبنا العربية التي تمَّ برمجةُ وعيها بحيث تفضِّل كل ما هو لَحظيٍّ وسريعٍ وقصيرٍ.

وهنالك أيضًا ما يترك أثرًا سلبيًّا على إعلامنا الثقافي العربي، يشكِّل تحدِّيًا إضافِيًّا للإعلام الثقافي.. إنَّها العولمةُ والتي يقصد بها بشكل بسيط نشرُ ثقافة مُوحَّدة لكل الجماعات الإنسانية في العالم، مِمَّا يشكِّل خطرًا على ثقافة شعبٍ ما تتميَّز ثقافتُه ببصمتها التاريخية الخاصة، لكنها ستندثر في ظلِّ عولمةٍ إعلامِيَّة تساهم مواقعُ التواصل الاجتماعي في نشرها مساهمةً كبيرة.

وتأتي خطورة العولمة الإعلامية في أنَّها تستهدف بشكل خاص وشديد فئةَ الشَّباب الذين يتطلعون إلى كل جديد ومختلف، ونظرًا إلى وجود عقدة تُسمَّى “عقدة الغرب” والتي تجعل من العربي يظن أنَّه أقلّ شأنًا وعلمًا وثقافةً من الغربي، أصبح الشبابُ العربي يميل إلى التأثُّر بالإعلام الغربي، مُتقمِّصًا ثقافةً عالمية لا تنسجم ولا تتفق مع ثقافتنا العربية العميقة العريقة.

والجدير بالذِّكر أنَّ الشباب هم جيل القيادة القادمة التي ستحكُم أوطانَها، فأيُّ ثقافةٍ سيفرضونها على شعوبهم العربية إن كانوا قد أتوا بثقافة مُغايرةٍ للثقافة العربية في ظل غياب الإعلام الثقافي العربي؟!

في الختام، وبالعودة إلى الأسئلة التي طرحتها في مقدِّمة المقال، فإنَّ الإعلام العربي يمكنه أن يشكِّل نهضةً ثقافية واندماجًا في العولمة الإعلامية، ناشرًا ثقافتنا التي تمثِّل إنجازاتنا – أيًّا كان نوعها – جزءًا منها، هذا إن أرادَت سياسات الدول العربية والتي يمكنها تخصيص موازنة مالية أصبحت الآن مطلوبة لقلة التمويل في مجال الإعلام الثقافي، فلو أرادَت ذلك سياسيات الدول العربية يمكنها من تقوية وتثبيت جذورها التي تحاول الدول الاستعمارية كَيَّها إن لم تتمكَّن من تشويهها.. يمكن للدول العربية أن تعكس رؤيتها السياسية من خلال مسرحية – مثلاً – وهذا شكلٌ من أشكال الثقافة، فتكون قد ضربَت عصفورين في حجر واحد.. يمكن للدول العربية أيضًا فرض رقابةٍ على مواقع التواصل الاجتماعي لحصر مخاطر هذه المواقع وإعطاء مساحة للكلمة المكتوبة، وذلك لكي تعيد إليها أجيالها التي ثقافتُها الآن تذوب في الثقافات الأخرى، والتي لا تشبه تاريخنا. يمكن للحكومات العربية أن تفعل الكثير، هذا إن أرادَت ومن ثم إن تمكَّنت!

 

عبد الله الحصري
عبد الله الحصري (كاتب من مصر)

أين رُوَّاد الثقافة والكلمة المُؤثِّرة؟

إنَّ هدف الإعلام المحترم في أيّ دولة هو كسبُ ودِّ المُواطن وذلك ببناء جسر قوي قوامه الثقة، وهذا لن يتأتَّى إلاَّ إذا كان الإعلام محايِدًا يمضي وفقًا للمصلحة العامة ولا شيء سواها. وللأسف، لا ينطبق ما ذكرتُه على إعلامنا الذي سادته المصالحُ وانبرَت فيه الأقلام إلى خدمة الأنظمة دون اعتبارٍ لهموم المواطن واحتياجاته.. لقد اتجهَت الأفكارُ إلى خدمة الأنظمة وحماية الكراسي، مِمَّا أدَّى إلى زعزعة الثقة فيما تتناوله وسائل الإعلام.

سيناريوهات مُكرَّرة في كل الدول التي تخدمها المصالح، ولا سبيل إلى الإصلاح دون صياغة جديدة تواكب التطوَّرَ العالمي في مجال الإعلام.. أين وكالاتُ الأنباء العربية من مثيلاتها العالمية؟ لا شيء نفتخر به إن أردنا المقارنة. أين أصواتُ الإعلام المُعبِّرة عن احتياجات المواطنين وقضاياهم؟ إنَّهم لا يتحدَّثون بلسانهم ولا يشعرون بآلامهم ولا يخوضون في تفاصيلهم..

إعلامٌ مُشتَّتٌ عشوائي لا منظومة تحكم آراءه، وبالتَّالي لا تأثير على صانعي القرار إن كانت هناك نيَّةٌ للإصلاح وتغيير المسار. أين دورُ إعلامنا العربي فيما يخص القضايا المصيرية وتوحيد الآراء بخصوصها، وبناء جسور قوية بين الشعوب ببعضها من جهة، وبين الحكَّام وبعضهم من جهة أخرى؟ لا شيء من هذا وذاك.

أين الإعلام من قضايانا السياسية والاقتصادية والاجتماعية؟ أين الحلولُ والأفكار المطروحة؟ أين الإعلام المرئي والمسموع؟ أين المجلاَّت والصحف؟ أين رُوَّاد الثقافة والكلمة المُؤثِّرة؟ سأكتفي بما تناولتُ وما طرحته من قضايا، أليس هذا بكافٍ لتوضيح الصورة!؟

 

محمد عواد
محمد عواد السماني (روائي من مصر)

الصحافة الثقافِيَّة المَوءودة.. واللَّهوُ الخفيُّ

قبل أن نبدأ، دعونا نسأل سؤالاً مُهمَّا: هل مجتمعاتنا العربيَّةٌ مُثقَّفةٌ أصلاً، ليهتمَّ الإعلامُ الثقافي بالأمر؟

هناك فجوةٌ مُتعمَّدةٌ أو غير ذلك، بين الثقافة والمجتمعات العربية، نشأ هذا الأمر عن عمدٍ، وبأيدٍ مُستتِرة، بما يُطلق عليه العامَّةُ من شعوبنا عبارةَ: “اللَّهو الخفي”، أو ربَّما حدَث لأسباب مجتمعِيَّة واقتصادية، وربما سياسية أيضًا، ولم يتدخَّل أحدٌ عن عمدٍ ليحدث هذا النُّضوب الفكري الإبداعي والثقافي في مجتمعاتنا، من مبدأ: تستطيع أن تَسوس أمَّةً جاهلة، أفضل كثيرًا من أمَّةٍ ينغِّص مُثقَّفوها على الحاكم هَنأةَ رقدته!”.

أذكرُ قولَةً لأحدهم، أدهشتني كثيرًا، قال فيها لاعنًا ثورات “الربيع العربي”: “من يطالب أمَّةً جاهلة بالديموقراطية، فهو مُنحرِفٌ يغرِّر بقاصرةٍ!”. وبالتفكير في عبارته، ربَّما تجد شيئًا من الصواب، والأمثلة على ذلك كثيرةٌ، ما حدث في بلداننا العربية، من نتائج كارثِيَّة لهذه الثورات “الربيعيَّة”، التي قفزَت من تغيير الأنظمة إلى خراب الأوطان، وقتل الحُكَّام، بل والتَّناحر حدَّ التَّهلكة على السُّلطة بعد زوال من كانوا على سدَّتها.. فهل غرَّر جهلُنا بعذرية أوطاننا ففضَّ بكارتَها، وتركها تنزف على قارعة الطريق؟!

لا أريد أن أخرج عن الموضوع الرئيسي، لكن مَن الأولى بالحديث عنه؟ هل صحافةٌ لا تهتمُّ بالثقافة، أم شعوبٌ هي أصلاً لا تعرف عن الثقافة شيئا؟ بل وإن وجِد “المُتحدِّثون”، فهم في الغالب يتصارعون على الشُّهرة، وأموال الحُكَّام، والسَّفر، والظهور في برامج التلفاز! واعتقادي أنَّ القضية الرئيسيَّة في المثقف وليست في الثقافة، ولا في صحافة الثقافة، لأنَّ المثقف هو الكيان، والثقافة وما يتبعها هي الظل، ولا ظلَّ بدون كيانٍ أصلاً.

والمثقف نوعان، النَّوع الأول: المبدع أو الكاتب، والنوع الثاني: المتلقي. وعندما يختفي الأول، فلن تجد الثاني بالمنطق. والإبداع نوعان، إمَّا سلبي، وإما إيجابي، فأحدُهم يستطيع أن يحرِّك المجتمعَ يمينًا، يستطيع أن يغرس المواطنة، والعروبِيَّة، والانتماء القومي، ووسطِيَّة الدين، والتَّقارب المجتمعي، وقبول الآخر، والحضّ على القيم المجتمعية من محبَّةٍ وتراحمٍ وتعاون.. على النَّقيض من ذلك وهم كثُرُ في مجتمعاتنا أيضًا، وهم المتكسِّبون دائمًا، فمنهم وعلى حساب مجتمعاتهم، فكرًا وتوجُّهًا، يحمِّلون الأديانَ ما لا طاقة لها به، ويتطرَّفون بمجتمعاتهم إلى أقصى اليسار، فيصيغون أرضًا خصبة للتناحر بين الناس، ويتحدثون عن الله ودينه بما لم ينزل به سلطان، إمَّا جهلاً، وإمَّا قيضًا من أعداء الأمَّة المُتربِّصين بها في كل زمان ومكانٍ. وغيرهم من “مُلمِّعي الحُكَّام”، على حساب أوطانهم وشعوبهم، هؤلاء المزمِّرون في كل وادٍ، والراقصون في كل ملهى، والقادرون على أن يسكروا بكؤوس من معاناة شعوبهم، لصالح حاكم ظالم.. دورهم أن يقوِّموه بدلاً من أن يمجِّدوه، على ما هو فيه! وهذا طبعا لا ينطبق على جميع حُكَّامنا، ولكن إلاَّ من رحم ربي.

أمَّا المُواطن المثقف، فهو قضيةٌ أخرى، ألهوه – كانوا من كانوا – بما أسموه هم بأنفسهم: “اللهو الخفي”. ألهوه عن أن يملك رُؤى، وأن يكون له رأيٌ. صاغوه كتلةَ لحم لا تملك عقلاً، يستطيع أن يميِّز بين الصالح والغث. ألهوه بالعوز والفاقة وبالجريمة. ألهوه بـ “الساحرة المستديرة”، وبـ “الفنَّانة القديرة”، و”الراقصة اللهلوبة المسنيرة”. هم لا يريدون شعوبًا تفكر، أو تعترض. هم يريدون قطيعًا يُساق. هم يريدون ثقافة لنا تُماهي مع ما يريدونه لنا من ثقافة، “ثقافة علب الكانز الفارغة”. يريدوننا خواء في خواء، والصحافة الثقافية ليست إلا جزءًا من المؤامرة، ترفع أهل البلاط فوق السحاب، وتقبُر أصحاب المبادئ والفكر السويِّ في أجداثها أحياء، أو يلقون بهم في غياهب السجون!

لقد تمكَّنوا مِنَّا تمامًا، شعوبٌ خاوية الفكر والرؤى، قطيعٌ نسير خلف قطيع، الراعي ذئبٌ، والكلب لصٌ، والمرعى فضاء مُتَّسَع من الانحطاط والكذب، والثقافة نغمةُ الرقص، والصحافة قوَّادٌ يغرِّر بقاصرة… وفي النهاية إلاَّ من رحم ربي!!

وفي النهاية أيضًا لا أعمِّم الأمرَ، فأوطاننا لا زالت خصبةً ولاَّدة بالمبدعين، والمفكرين، والصحافة البيضاء، والحُكَّام الأنقياء، والشُّخوص الراقِيَة، وأصحاب المبادئ السَّامية، ومهما حاولوا نزع أرحام عظمتها، رغمًا عنهم سوف تحمل كل لحظة خارج أرحامها بعظماء يدافعون عن هويتها، ومكانتها، وقيمها وقيم شعوبها. يقينًا، سوف تظل أوطاننا تتمخض كل لحظة، لتنجب لنا عظيمًا، رغم كل ما يكيدون! وفي النهاية، أختمُ حديثي بالقول: أمستُ الصحافة الثقافية ليست إلاَّ ذراعًا لما يريده “اللَّهوُ الخفيُّ”.

 

 

عبد الواحد محمد
عبد الواحد محمد (روائي من مصر)

فلسفة الإعلام الثقافي والرواية العربية!

كان “ابن منظور” لا يقف على كتابٍ مُطوَّلٍ إلاَّ اختصره، ومن الطَّرائف أنَّ ولدًا له رأى رجلاً طويلاً، فقال له: لو راك أبي لاختصرَك.

لا ريب، يمرُّ الإعلامُ الثقافي العربي بمراحل عديدة من التطوُّر والنُّضج والقدرة على بلورة كل قضايانا الثقافية، بوعي فيه كثيرٌ من التساؤلات المنطقية وأخرى بالطَّبع حائرة، في ظل سُوقٍ عالميَّة مفتوحة بلغة جديدة: لغة الإنترنت، والذكاء الاصطناعي، والكتاب الإلكتروني، وكل الوسائط الرقمِيَّة التي أدَّت إلى تراجع بعض الدوريات الثقافية العربية التي كانت سفيرًا لكل مثقف عربي من المحيط إلى الخليج.   بل احتجاب بعض تلك الدوريات الثقافية عن أداء دورها لظروف عديدة ومختلفة، ومنها وباء “كوفيد 19” (كورونا) الذي أجبر كثيرًا من مؤسسات الثقافة على التوقُّف نتيجة انتشار هذا الوباء بشكل مُخيفٍ بين كل فئات البشر حول العالم.

لكن يوجد بيننا دورياتٌ ثقافيةٌ ومؤسسات عربية ذات منهجِيَّة وتاريخٍ تقدم الجديدَ إلى القارئ والمتلقِّي، بل تقدِّم كل الدَّعم المادي والمعنوي للمثقف داخل الوطن العربي وخارج الوطن العربي. ومن تلك الإصدارات مجلةُ “العربي” الكويتية بكل ما تحمله من فلسفة ذات أُطُرٍ بنَّاءة تؤكد على هوية الرواية العربية بكل معاني الحكمة، ومكاشفة واقعنا الثقافي بكل ضميرها المعتاد، مع كُتَّاب الرأي واستطلاعات مراسيلها حول عالمنا الكبير. وأيضًا مجلة “فصول” المصرية، التي تصدر من الهيئة العامة للكُتَّاب، تقوم بدورها البنَّاء بين عقل وعقول في سماوات الوطن.

لكن بالطَّبع اختفَت عِدَّة مجلاَّتٍ وإصدارات عربية هامة.. لكن لا يمكن أن نغفل دور “مؤسسة عبد العزيز البابطين” في الكويت والتي لها دورٌ استراتيجي في بناء جسور ثقافية مع كل عربي سواء كان شاعرًا أو ناقدًا أو باحثًا، من خلال إصدارات عديدة وجوائز مالية تجاوزَت مائة ألف دولار، وهذا أيضًا نجده في مؤسسات ثقافية عربية ومنها “مؤسسة العويس الثقافية” بكل جوائزها المادية ومهرجاناتها التي هي رواية عربية كبرى.

نعم تراجعَت بعض الإصدارات العربية في زمن الإنترنت اليوم نظرًا لسيطرة تلك الثقافة الإلكترونية على الشباب، واختفاء العديد من المبدعين العرب لظروف عديدة.. لكن نلمحُ دومًا ودائمًا ضوء الرواية العربية مع كل إصدارات ومؤسسات “وطن” في مدِّ كل جسور الإبداع مهما كانت التحدِّيات الجسيمة، تكتب فلسفةً مختلفة عن عالم عربي فيه لغة الضاد تعانقنا جميعًا مع كل إصدار جديد مع حلم يكتب فينا جميعًا الحبَّ لغةَ وطنٍ.

 

 

رشاد رداد
رشاد رداد (شاعر وكاتب من الأردن)

الثقافةُ العربِيَّة بحاجةٍ إلى ثورةٍ ثقافِيَّةٍ

لا نخجل إذا قلنا إنَّ الإعلام الثقافي العربي قد سجّل تراجعًا في محتواه وأسلوبه مع انحسارٍ وتراجع ظاهرٍ في العمل الأدبي النَّقدي الهادف.

وإذا عُدنا إلى الوراء قليلاً، نجِد أنَّ الحالة الثقافية العربية كانت بخير مع تلك الثُّلة من قادة الفكر والثقافة مثل: طه حسين، زكي نجيب محمود، العقاد، الرافعي، ميخائيل نعيمة.. وغيرهم مِمَّن أثروا الساحةَ الثقافية والأدبية العربية بأفكارهم الثقافية النقدية البنَّاءة، وأقول إنَّ هذه الأسماء الكبيرة والفعَّالة قد قدَّمَت للبشرية أسباب التقدُّم والنجاح.

والسؤال الذي يطرح نفسه مع تقدم الثورة التكنولوجية وما وفّره ذلك الجيل من قيم وأفكار وجهود مهمة لترسيخ مفهوم الثقافة وبناء قاعدة صلبة للأجيال اللاحقة، إلاَّ أنَّ كل ما بناه ذلك الجيل العبقري قد ذهب سدى، والدَّليل على ذلك هذا الانحدار المُخيف للثقافة والمثقف، وما تعانيه الثقافة من ضُعفٍ وترهُّلٍ وانحطاط على كل الصُّعُد، يجعل علينا لِزامًا أن نطرح السؤال بقوة: ما سببُ ولماذا حصَل هذا الانحدار والانهيار بهذا الحجم المرعب؟

إنَّ غياب الإعلام الثقافي عن حياتنا أو كسله قد أدَّى إلى نتائج سلبِيَّة وكارثِيَّة على المجتمعات العربية، وكلُّنا يعلم أنَّ هناك علاقة وثيقة بين الإعلام والثقافة، فلا ثقافة من دون إبلاغ وتعبير عن محتواها، ولا إعلام قوي من دون ثقافة تؤازره.

ومن يتابع ويشتغل بالثقافة فإنَّه يُصاب بالإحباط والانكسار حين يرى كيف أصبحَت الثقافة مُهملة ومنسِيَّة في معظم الأقطار العربية. وصارَت الثقافة بكل أشكالها ليست من أولويات الحكومات العربية، بل أصبحت عِبئًا وحِملاً ثقيلاً على ميزانيات الحكومات، وأصبح ما يُصرَف لوزارات الثقافة من الميزانيات هو أقل القليل، وهنا نشأت الأزمةُ الحقيقيةُ وأصبحت تلك الوزارات تعاني الويلَ ولا تستطيع أن تقوم بدورها الطليعي المطلوب منها، وأصبحت وزارات ضعيفة ولا تستطيع أن تقدِّم الدَّعم الكافي من أجل المشروع الثقافي العربي. بمعنى آخر، الوزارةُ الفقيرة هي وزارةٌ غير مُنتِجة في ضوء ما يُخصَّص لها من الميزانيات، وبالتَّالي سوف ينعكس ذلك على الثقافة والمثقفين، ولا نخجل إذا قلنا إنَّ المثقفين العرب هذه الأيام هم الفئة المظلومة والفقيرة جدًّا.

فالمجلات المُتخصِّصة بالأدب والفنون قد أقفلَت أبوابها وذلك للسَّبب المُشار إليه سابقًا، فكم مجلة كانت مُتخصِّصة في الشأن الثقافي العربي قد توقَّف صُدورها بحجَّة الأعباء المالية، وهذا أمرٌ خطيرٌ جدًّا وله آثارٌ سلبية مُتعدِّدة على المجتمعات العربية، وبالطَّبع هذا ينعكس على كل الفنون الأخرى من فن تشكيلي ومسرح وموسيقى.. وهذا الإخفاق قد أصاب المؤسسات والروابط الثقافية في معظم الاقطار العربية وأصبح نشاطها محدودًا جدًّا بل أشبه بحالة شللٍ تامٍّ.

وكذلك إذا نظرنا إلى الصحف العربية بشكل عام، فإنَّها ليست أحسن حالاً، فبعض الصُّحف حذفَت الصفحات الثقافية منها، وبعضها منَح الثقافة مساحةً ضيِّقة جدًّا لا تتعدَّى الصفحة الواحدة، وحتى هذه الصفحة الواحدة معرضة للاعتداء من قبل إعلان تجاري أو غيره.

حتى وسائل الإعلام نادرًا ما تتابع أخبارَ الثقافة والمثقفين، وكأنَّه تهميشٌ متعمَّدٌ ولا نيّة طيبة في ذلك أبدًا. وإذا نظرنا إلى الإعلام العربي بشكلٍ عام، فإنَّنا نجده وللأسف أصبح جلّ اهتمامه هو متابعة الفنانين والمُمثلين والراقصات وكرة القدم والموضة والمكياج وعمليات التَّجميل.. ويرصد لها ميزانيات ضخمة جدًّا، وتقام لها الفعاليات التي تستهلك الملايين من الدولارات، في حين تكون يدها بخيلة جدًّا ولا تصرف دولاراً واحدًا على فعالية ثقافية.

ولا بدَّ أن نُشير إلى أنَّ الأوضاع الاقتصادية في البلدان العربية صعبة جدًّا، وهذا بالتالي ينعكس على الحالة الثقافية بحيث أصبحَت المجلات الثقافية والصحف الثقافية تعاني من سوء الظروف المادية، كما أنَّ الإعلام التجاري قد هيمن على كثير من الصُّحف.. ونحن نعلم جيدًّا أنَّ الثقافة ليست سلعة تجارية بل هي فكرٌ ومعرفةٌ، ولا بدَّ أن نعترف أنَّ الصحافة الثقافية هي انعكاسٌ للسلطة السياسية، ولا ننسى أنَّ الرقابة المستمرة من السلطات السياسية تجعل حجم الحرية ضئيلاً، وهذا ينعكس على دور الثقافة وتقزيمها، أي بمعنى نحن أمام ثقافة بلا سُلطة مقابل سُلطة بلا ثقافة.

ولا بدَّ أن نشير إلى تغييب البرامج الثقافية عن المشهد الإعلامي، ولكن حتى لو وُجِدت هذه البرامج فغالبًا ما تُذاع أو تَبثُّ على استحياء، بحيث يتمُّ بثُّها في مواقيت غير مناسبة، كأن تُبثَّ في آخر الليل فلا أحد يشاهدها ويتابعها، أو في وقت الظهيرة بحيث تكون نسبة المشاهدة منخفضة جدًّا أو معدومة، ويكون محتواها هابطاً ويفتقر إلى معايير الجودة.

ومن يتابع وسائلَ الإعلام العربي يصاب بالإحباط وبتلبُّكٍ مَعويٍّ مِمَّا يشاهده من مواضيع سخيفة وسطحية وأحيانًا خليعة وتهين العقل والفكر للمشاهد العربي، وهذا ساعد على تهديد الأخلاقِيَّات العامة، وأنتج أجيالاً تجهل كل شيء.. حتى هذه اللَّوثةُ قد أصابَت الإعلاميين بحيث أصبحَت لغتُهم ركيكةً وضعيفة وحواراتهم ومخزونهم الثقافي كارثِيًّا.

وحين تصبح المَحطَّات الثقافِيَّة في يد تُجَّار الدِّرهم والدينار تصبح الثقافة لا قيمة لها وحتى عند الحكومات تكون في آخر سُلَّم الأولويات واستبدلِت ببرامج التَّرفيه والكسب المادي.. ونحن بحاجة إلى ثورة ثقافِيَّةٍ تُعيد إلى الثقافة بريقَها وقيمتها المُستلبَة.

ولكن بالرَّغم من هذه الضبابِيَّة في الحالة الثقافية العربية، إلاَّ أنَّنا نجد بعض الإضاءات هنا وهناك، ونحسبُ هذا الأمر طيّبًا ويتوجب علينا ذكره بكل شفافية وصدق، إذ أنَّ بعض المحطَّات الفضائية رغم كل الظروف الاقتصادية والسياسية الصعبة استطاعَت وبكل نجاح وذكاء أن تبُثَّ وتقدِّم لنا برامج ثقافية على سويّة عالية سواء كان في التقديم أو في المادة المقدمة وباحترافية عالية.

لكننا نطمع بالمزيد ونطمح أن تصبح وزارات الثقافة العربية هي الحاضنة الأولى للإبداع والفن، وتكون منارات ثقافية متوهِّجة لا تنطفئ ولا يخفُتُ بريقها على مدار العام. ولعمري هذا الأمر يحتاج فقط إلى قرار مسؤول شجاع يساند الثقافة ويدعمها، ولا أظن الأمر صعبًا أبدًا إذا كانت النَّوايا سليمة.

 

جمال بركات
جمال بركات (رئيس مركز ثقافة الألفية الثالثة وأديب من مصر)

أفكارٌ وذكرياتٌ.. شاهدٌ على الحركة الثَّقافية خلال خمسين سنة

هذا الموضوع مُهِمٌّ جدًّا وخطيرٌ جدًّا يدخل بنا إلى كهف الظُّلمات لنبحث عن الثعبان السَّام الذي ابتلع الحمامةَ الوديعة الجميلة الرَّقيقة الحالمة التي اسمُها الثقافةُ، فتوقَّف الهديلُ وحلَّ مَحلّه الفحيح.

في النِّصف الأوَّل من القرن الماضي، كانت الحركةُ الثقافية – رغم ضعفها وقلَّة عددِ أفرادها – لها تأثيرات إيجابية على القُرَّاء والمهتمِّين الذين يتابعون قصةً هنا وقصيدةً هناك، ويتخاطفونها من بعضهم بعضًا في المدارس المتوسطة والعليا، وهم يشعرون بالسعادة والتَّحليق في عالم جميل بديع.

وجاءت فترةُ الستينيات التي تفاعلتُ أنا داخل بساتينها الثقافية – رغم صغر سنِّي آنذاك – وبدأتُ أتابعُ وأتنقَّلُ وأرى الشخصيات عن قربٍ، وإن كانت المسافةُ بيني وبين بعض هذه الشخصيات بعيدة عن موضوع التَّواصل والتَّفاعل، فكانت المتابعة مع بعضها الأكثر شُهرة، والتَّواصل البسيطُ مع بعضها الأقلّ شهرة.. والباحث عن مكانٍ ينطلق منه إلى آفاق هذه الحياة الثقافية، ومن هؤلاء على سبيل المثال فقط: الراحل الكبير “عبد العال الحمامصي” الذي وصفني بعد رُبع قرن من التَّعارف والتَّواصل والتَّفاعل بوصفٍ يصعب على أكبر أحبَّائي والمُعجبين بي والمؤمنين بقلمي أن يتجاوزه، عندما قال في ندوة عامة في تسعينيات القرن الماضي أمام الجميع وهو يناقش مجموعتي القصصية (أرجوكم ارحلوا) التي صدرَت في سلسلة “إشراقات أدبية” التي كان يرأس تحريرها آنذاك، قال: جمال بركات هو الأديب كما يجب أن يكون إبداعِيًّا وخُلقِيًّا وإنسانِيًّا”، وعندما جاءت الندوةُ لتُنشَر في جريدة “المساء” المصرية، طلبتُ أنا من الزميل “مصطفى القاضي” متَّعه الله بالصحة والعافية أن يشطب كلمة “خُلُقِيًّا” حتى لا تُغضِب بعض أصدقاء “عبد العال” الذي اعتادوا على شرب الخمر والحشيش وما يتبع ذلك من مفردات حياتِيَّة، وتركتُ “إبداعيًّا وإنسانيًّا” فقط.

في فترة الستينيات، كانت الحياة الثقافية تشعُّ بنورها في كل الاتِّجاهات، وبها مساحةٌ واسعة تسعُ الجميع رغم وجود بعض الجماعات التي بدأت بعقد اتِّفاقات غير مكتوبة بالتلميع والترويج المتبادل وفتح أبوابٍ جديدة أمام أفرادها ومحاولة فرض السيطرة على الحياة الثقافية المصرية.. ثم الانطلاق نحو الحياة الثقافية العربية والعالمية من خلال أرضِيَّة صلبةٍ يُروِّج لها الإعلام الثقافي بترديده الدائم والمستمر لهذه الأسماء دون توقف حتى تثبت في الذهن وخاصة ذهن السَّطحيين من الناس، وهؤلاء منهم مجموعةٌ كبيرة من عَلِيَّة القوم الذين لا يُتابِعون ولا يقرأون، فإذا ما ردَّدتَ الأسماءَ أمامهم مرَّة ومرة ومرة ثم سألتهم عمَّن يعرفونه من الأدباء تنطق ألسنتهم على الفور بهذه الأسماء.

هؤلاء حقَّقوا مكاسب كثيرة وكبيرة لا يستحقُّونها، وحصل بعضهم على أوسِمة من الخارج رغم ثُبوت سرقاتهم الأدبِيَّة على رؤوس الأشهاد، ليس ذلك فقط ولكن جاء اعترافهم بالسَّرقة وتبريرهم لها بحبِّهم الشديد للتراث وللمَسروق منه.. الذي جعل عملَهم “لا إراديًّا” يقتبس هذه الأعمال دون تعمُّدٍ منهم رغم وجود صفحات كاملة بالنصِّ لا يمكن أن تنتقل من داخل عملٍ إلى داخل عمل آخر إلاَّ بالنقل المباشر والتركيز أيضًا، حتى أنَّني عندما دخلتُ في معركة ما مع واحد من كبارهم وحاول تشويه صورتي وطلب – على صفحات الجريدة التي يرأس تحريرها – من الأجهزة المَعنية بالأمن العام البحثَ عني وضبطي كمُخرِّبٍ للوطن، وقام بنشر صورتي ليسهل على الأجهزة القيام بمهمتها في إلقاء القبض عليَّ ومحاكمتي… قمتُ بالردِّ عليه في جريدة أكبر من جريدته، وقلتُ له: يا لِصَّ التراث والتاريخ لستُ أنا مَن يستحقُّ القبضَ عليه.. وأبلغوني أنَّه عندما قرأ ذلك في الجريدة الأخرى سحَّت الدموعُ من عينيه ولم يكن ليصدِّق أنَّ الجريدة سمحَت لي بقول ذلك له على صفحاتها.. فغالبيةُ الوسط الأدبي تعرف بسطوِه على التُّراث ليصبح مُبدِعًا، وسطحِيَّة تناوله للأمور الأخرى.. لكن نفوذه وجماعته التي تدافع عنه وعن أفرادها بشراسة وتحاول القضاء على من يتجرَّأ على فردٍ من أفرادها كانت الحِصن الحصين له ولكل أفراد المجموعة.

أنا كنتُ ومازلتُ وسأظلُّ في هذا الوسط، الذي قاربتُ على الخروج منه ومن الحياة ذاتها بحكم العمر، أبحث عن الإبداع وجمال الإبداع وخيال الإبداع وتحليق الإبداع، ولهذا رفضتُ العملَ في الدَّوائر الثقافية رغم أنَّ ذلك كان مُتاحًا جدًّا ومُيسَّرًا جدًّا. ورفضتُ العملَ في الوسط الصحفي رغم أنَّ ذلك كان متاحًا جدًّا وميسرًا جدًّا، وقمتُ بإتاحته للبعض لكنني لم أعمل في هذين المجالين لأنَّني أعتزُّ برأيي ولن أتنازل عنه لإطاعة أمر رئيس تحرير أو تبني رؤية قيادة ثقافية.

في فترة الثمانينيات من القرن الماضي، كان الوَهج الثقافي في مصر والذي لم يحدث مثله في التاريخ الثقافي على مدار التاريخ.. المبدعون كانوا يبدعون بحرية غير مَسبوقة ويقولون ما يريدون، والكلمة يُردُّ عليها بالكلمة أو بإجراء قانوني أو حتى بمناقشتها في مجلس الشعب مثل هذه القصيدة التي أثار صاحبها أكبر جدلٍ عندما قال: “أبصق في وجه الرب” فهاجَت الدنيا وطلب البعض إعدامه والبعض طلب سجنه، ونوقِش الأمر تحت قبَّة البرلمان، والشاعر كان سعيدًا بذلك جدًّا فهو ربَّما حقَّق أكبر بكثير مِمَّا كان يطمح إليه من وراء هذه العبارة.

وعلى الخُطى نفسها، حاول زميلٌ مُقرَّبٌ لي جدًّا أن يُعيد الكَرَّة بسبه لرئيس الجمهورية ليقبضوا عليه ولو لمدة أسبوع واحدٍ يعرف هو كيف يستثمره مثلما استثمرَ البعضُ ذلك من قبل وجَنوا الكثيرَ من المكاسب والأموال من وراء ذلك.. ويذكِّرون الآخرين دائمًا بأنَّهم من سجناء الرأي الذين دفعوا ثمن إعلان رأيهم من عمرهم وحريتهم.. زميلي هذا أُحبِط عندما فعل ذلك ولم يتعرَّض له أحدٌ، فابتسمتُ وقلتُ له: هذه الأجهزة ذكيَّةٌ جدًّا وتعرفُ غرضَك الحقيقي ولن تنَوِّلك غرضَك.. فذهب بعد فترة وانضم إلى الحزب الوطني الذي تسيطر عليه الحكومة، وكان هو دائمًا يردِّد بأنَّه حزب الفساد والفاسدين، فسأله بعض المُقرَّبين: كيف تنضمُّ إلى حزب الفساد والفاسدين، وأنت من كان يسبُّه ويلعنه في الليل والنهار، ابتسمَ ببرود وقال: انضممتُ إليه لأطهِّره من الفساد. بالطَّبع كلامٌ فارغٌ!

في فترة الوَهج الثقافي كانت الندواتُ الأدبية مُتوهِّجة، وكانت المجلاَّتُ الأدبية مُتوهِّجة، والصفحات الأدبية في الصحف متوهجة، ورغم تكوُّن بعض “الشِّلل” التي اتَّفقَت على مجاراة الجماعات التي سبقتها والدفاع والقتال العلني عن أفرادها والذي يصل إلى الإنذار والتهديد للآخرين.. إلاَّ أنَّ اتِّساع المجال جعَل من الساحة ملعبًا يتَّسع للجميع.

كانت الندواتُ والفعاليات تنقسم إلى مجموعتين: المَتن والهوامش… كان مَن بالمتن يتفاعلون ويناقشون ويبذلون الجهدَ ويضيئون الأنوار. وأصحاب الهوامش لا صوت لهم ويراقبون المشهد من هوامشهم.

في هذه الفترة، تفاعلتُ واستمعتُ وحاورتُ الكبارَ جدًّا أمثال: يحيي حقي: توفيق الحكيم: مصطفى محمود، عبد القادر القط، نجيب محفوظ.. وغيرهم، في أماكنهم أو في “جريدة الجمهورية” عندما كُنَّا نستضيف بعضهم مع الصديق الكبير “مصطفى القاضي” والذي هو من يمثِّل القسم الأدبي في الجريدة بصفة رسمية.

ومع دخول فترة التسعينيات، لم يتوقَّف المدُّ الثقافي، ولكن بدأت عواملُ تَغيُّرٍ تظهر وبقوة في هذا الوسط، وأطلقتُ عليها أنا حينها – بداية من نهاية الثمانينيات – “العصابات الثقافية”، هذه العصابات فاقَت الجماعات والـ “شِّلل”، لأنَّها دوائر مُنظَّمة جدًّا وتستخدم وسائل وأساليب وتقنيات حديثة، وتمرِّر كل الأمور داخل أطُرٍ قانونية، وتحاول التسلُّل إلى الدوائر الثقافية الرسمية تمهيدًا للسيطرة عليها، إلى أن أصبحَت الكعكةُ الثقافية في يدها لتحتجز للعصابة 95% منها وتوزِّع 5% منها لذرِّ الرَّماد في العيون. وانتقل مَن كانوا على الهامش ليصبحوا في المَتن، وهُمِّش من ظلوا في المتن لسنين طويلة.

هذا هو المشهد الثقافي الحالي، وبالطَّبع فإنَّ الهامشيِّين السَّابقين يُقدَّمون إلى الإعلام وإلى الدوائر الثقافية العربية والأجنبية على أنَّهم من يُمثِّلون الثقافةَ والإبداع، بينما ألقِيَت خيمةُ التَّعتيم على غالبية المبدعين الحقيقيين مع السماح لنسبة ضئيلةٍ منهم بالمرور إلى الضوء لاتخاذها ستارًا بأنَّ التَّعتيم غير موجود.

واختفَت من الساحة غالبيةُ النوافذ الثقافية مع تقديم بعض البرامج الثقافية السطحِيَّة للهامشيِّين ومَن يمتلك اتصالات وعلاقات، فالموضوع كله من باب سدِّ الخانة وتلميع من بيده الأمر.

ووسط كل هذا، فنحن نرى – مثلاً – هذا المثقف العملاق الشيخ الدكتور “سلطان القاسمي” الذي يحيي مجلاَّت ثقافية توقَّفَت ويعيدها إلى الأضواء، ونراه يأتي إلى “مصر” ويزور اتِّحاد كُتَّابها ليضع وديعة مالية ليحصل الكُتّاب على معاش وعلاج، بل ويقوم كل عام بتكريم بعض كُتَّاب “مصر”، وهذا أمر يستحق عليه ألف ألف ثناء.

ونجد أيضًا الحركة الثقافية في “السعودية” تنطلق انطلاقات كبرى والمبدعون هناك يتلقون دعمًا ماديًّا ومعنويًّا، وابنتي الدكتورة “شوقية محمد الأنصاري” تقوم برعاية المبدعين الصغار من الأطفال وتتيح لهم الفرصة بنشر إبداعهم وهم أعواد خضراء، وتنوي أن تُعمِّم ذلك على الوطن العربي بكامله، وهذا أمرٌ مُبشِّر أنَّ في نهاية النفق نقطةُ ضوءٍ.. نتمنَّى لوطننا العربي أن يتعاون المبدعون فيه تعاوُنًا حقيقِيًّا داخلِيًّا وخارجِيًّا بصدق لينطلق الإبداع الحقيقي وليس إبداع “العصابات الثقافية”.

 

صقر البعيني
صقر البعيني (كاتب ومُمثِّل من لبنان)

لماذا هذا التَّماهِي مع ثقافة الغرب؟

يمرُّ الإعلام الثقافي في وطننا العربي بأزمةٍ كبيرة، بحيث خفَّ وهجُهُ في وسائلنا الإعلامية كافة، سواء كانت مسموعة أم مرئية أو مكتوبة. فبدلَ من أن تتغنّى تلك الوسائل بثقافتنا العربية التي نفتخرُ بها، والتي كانت يومًا ما محطَّ إعجاب الملوك الأوروبيين، نجدها تتلهّى بالقشور والأمور التي لا تمتُّ إلى ثقافتنا بصلةٍ.

فعالمنا العربي يزخرُ ببحرٍ من الأمور الثقافية وفي كافة الميادين، وهذا البحر يلزمه العديد من البرامج التثقيفِيَّة كي تتمَّ تغطيته، وإذ ذاك سيُصبح طاغِيًا على كل ما يُقدَّم حاليًا.

ذلك لأنَّ الإعلام بشكلٍ عام، وخاصةً في أيامنا هذه، هو اللاَّعب الأساسي في نشر المعلومات بأنواعها كافة، حيثُ يمثِّلُ محورَ التَّواصل والتَّأثير المباشر على الناس.

كان الإعلام في السابق يعتمدُ على المواد الثقافية بنسبة كبيرة، فأنا أذكرُ جيدًّا عندما كان يُعرض على شاشة تلفزيون لبنان برنامج ثقافي عنوانه “المميّزون” وكان برنامجًا مخصّصًا للكبار ويتناول سباقًا ثقافيًّا بين المشتركين وفي كافة الميادين الشعريّة الأدبية الفنيّة والرياضيّة وغيرها من المواضيع الهامة، وقد حقّقَ نجاحًا كبيرًا ليس فقط في لبنان ولكن في العالم العربي أيضًا، حيثُ كان التلفزيون اللبناني هو أول تلفزيون في العالم العربي.

كذلك، مَن منَّا لا يذكرُ برنامج “من سيربح المليون”، الذي يُعتبرُ من أولى البرامج الثقافيّة في التلفزيونات العربية، طبعًا هو نُسخة عن برنامجٍ أجنبي، وعُرِضَ خلال عدّة سنوات متواصلة، وحقّقَ نجاحًا منقطع النَّظير، وقدّم لنا مادّة ثقافيّة هامة.

لكن بوجود العولمة والانفتاح الإعلامي، صار الطَّاغي الوحيد على الإعلام العربي هو التجارة والترويج لبرامج ترفيهيّة هابطة لا تمتُّ إلى الثقافة بصِلة. نحن لسنا ضدَّ الترفيه، ولكنّنا لا نحبِّذ نقل ثقافة الغرب الجريئة والوقحة في كثيرٍ من الأحيان إلى مجتمعنا العربي، وجعلها هي الطاغِيَة على برامجنا العربية.

كذلك على صعيد الثقافة الفنية، كنَّا نتابع برنامج تخريج الهواة “ستوديو الفن” الذي خرَّج كبار الفنانين في العالم العربي، وكانت لجنة التحكيم مؤلَّفة من فنانين مخضرمين في كافة المجالات الفنيّة، أذكرُ من أولئك المخضرمين الراحلين: الفنان اللبناني المخضرم “زكي ناصيف”، المايسترو الدكتور “وليد غلميّة” وغيرهما من المخضرمين، وكان نجاح المُتباري يعتمدُ فقط على موهبتهِ وثقافته، أمّا برامج تخريج الهواة في أيامنا هذه فهي منسوخةٌ من برامج أجنبية تعتمدُ على تصويت الجمهور الذي هو بطبيعته “شكليّ”، ويصل المتباري الذي ربّما مُتَّفقٌ معه مسبقًا على شروطٍ معيّنة كي ينجح ويحتل المرتبة الأولى، ولكن الطامَّة الكُبرى هي في بعض أعضاء لجنة التحكيم الضعفاء في غنائهم وليسوا مُخوّلين أن يُبدوا آراءهم في المُتبارين الذين يؤدّون أفضل منهم. وهذا كلُّه يشكِّلُ تهديمًا للتراث العربي وكذلك محاربة لثقافتنا التي تعتمدُ على الأصالة.

يأتي دور الأغنيات الهابطة والتي لا نفهم معظم كلماتها، بعد أن كان كبارُنا يتغنّون بكلمات شعرائنا الكبار وينشرون ثقافتنا العربية الأصيلة إلى العالم كلِّه، نجد فنَّاني اليوم يعتمدون شعرًا هابطًا لا لون له ولا رائحة، وتقوم وسائلنا الإعلامية في نشرِ تلك الأعمال بُغيَة الربح المادي من دون الاكتراث بالمادة الثقافية التي تحويها تلك الأعمال.

ناهيكم عن اعتماد اللغة المَحكِيَّة في البرامج التلفزيونية والإذاعية كافة ما خلا الإخبارية منها. هذه ليست مشكلة كبيرة، ولكن أن تُصبح اللغة الأجنبية في حديث مُقدِّمي البرامج هي اللغة الطاغية بحيث نسمع جُملةً مؤلفة من عشر كلمات منها سبع أجنبية، فنشعرُ بأنّنا نشاهد مَحطّة أجنبية وليست عربية، حتى في تقديم المهرجانات العربية الكُبرى نجد لقاءات الفنانين على السجّادة الحمراء تطغى عليها التَّعابير الأجنبية بطريقة تُزعِجُ بعض الضُّيوف وتُربِكهم.. فلماذا هذا التَّماهي مع الغرب؟

يا أخواني الإعلاميين ويا وسائلنا الإعلامية العربية، أسمعتم مرّةً واحدة مُقدِّمًا أو مقدمة برامج أجنبية يتفوّهان بكلمة أجنبية غير لغتهم الأم، مستحيل، لماذا؟ لأنّهم يفتخرون بلغتهم وثقافتهم الأم.

من هنا نجدُ بأنَّ الإعلام العربي في أزمة كبيرة، بحيث لا يستطيع القيام بدوره الثقافي الرِّيادي، فهو – كما سبَق وذكرتُ – المؤثِّر الكبير على الناس والمجتمع، فنجدُ بأنّهُ تَغيب عنه البرامج الثقافية التي تفيد المجتمع وتُوصِل ثقافتنا إلى العالم أجمع، فهو مُجبرٌ على مجاراة التطوُّر العالمي والجريُ في ركابه ما يجعله عاجزًا عن إبراز ثقافتنا العربية العريقة.

لكنَّ لا ننسى بأنَّ كل وسائلنا الإعلامية تابعة لوزارات مختصّة بالثقافة في كل بلد عربي. ويرجعُ الحقُّ في تقصير وسائل الإعلام في المساهمة في نشر ثقافتنا إلى تلك الوزارات التي لا تضعُ خططًا وسياسات مدروسة تهتم بالثقافة لتربية الأجيال الصاعدة، وتفرض تلك السياسات على وسائل الإعلام العربية.

 

علاء أبو جحجوج
أ. علاء أبو جحجوج (كاتب فلسطيني من غزة)

المشهد الثقافي إلى أين؟!

نتساءل دائمًا عن دور الإعلام في المجالس العامة والخاصة، ولم يغب أيضًا هذا التَّساؤل عن المؤسسات الحكومِيَّة بأنواعها، كما ويُطرَح هذا السؤال في الوسائل الإعلامية المرئية وهي الأكثر مُتابَعةً وتطوُّرًا في عصر  التكنولوجيا والإبداعات التي أسهمَت في النُّضوج الصاروخي الإعلامي، حين كانت الوسائل المقروءة والمسموعة ذات الانتشار الأوسع جغرافيًّا وتاريخيًّا، عند الطبقة المتعلمة والمثقفة في العالم، حتى وصلَت التكنولوجيا إلى كل بيت، فأصبح الإعلام المرئي بوسائله المختلفة، هو المهيمن الأول في عالمنا، لإيصال الحقيقية وتسليط الضوء على الإنسان أينما كان على هذه الأرض، ليبقى شاهدًا ومشهودًا عليه.

فرغم كثرة التساؤلات عن الدور الإعلامي في مجتمعاتنا العربية، والبحث عنها يمينًا وشمالاً، وتعدُّد الإجابات ومنطقيَّتِها من عدمه، لا ننكر بالإجماع الدَّورَ الأساسي الذي لعبه الإعلام العالمي والعربي، خاصة في جميع وسائله المقروءة، والمسموعة، والمرئية، في نشر الكثير من الثقافات وتأثيرها وتأثرها في ثقافة الشعوب والأديان، ومُتطلَّبات عصرها. وأخذت بالتغيُّر نحو ما هو نافع في البناء الفكري الذي اعتمد على التحرُّر والانطلاق نحو ما هو جديد في ثقافات الغير، لتلتقي كلها في وعاء واحد، كان سببه الإعلام ببرامجه المختلفة من خلال وسائله المُتعدِّدة.

وإن كان هناك سؤالٌ مباشر بدأ يتكرَّر بصورة عفوية وغير ذلك، بصيغة تقول: أين الإعلام العربي من تسليط الضوء على ما هو أهمُّ من قضايا أخرى، لا تشكِّل للإنسان أيّ أهميَّةٍ في ظل الصراعات المحيطة به، بل يطفو على السطح في عصرنا الحالي، ما هو مزعج وغير منتج، في وسائلنا الإعلامية، المرئية، المسموعة، والمقروءة، بحق ثقافتنا العربية والإسلامية، طالَت جميع شرائح المجتمع بطبقاته المختلفة، يقف الجميع رافعًا يديه عاليًا مُبرِّئًا نفسه؟!

ولا نستطيع أن ننفي مُطلقًا أنَّ هناك مَن تأثَّر في هذا الوجه الإعلامي، على شكله الحالي، ولم يسلم هذا الشَّكلُ الجديد من الحاكم الذي يعطي الأمر لرسم صورة إعلامية تتناسب مع سياساته وتطلعاته المستقبلية، حتى أنَّه لم تنجُ المرئية ولا المسموعة ومن قبلها المقروءة من الحزبِيَّة ونشر ثقافة التقديس، التي خلقَت اختلاف الرأي والرأي الآخر، والأذن التي لا تصغي إلاَّ إلى فكرها المبرمج، المحفوظ غير المفهوم، مع التشدَّد على عناوين وأسماء إعلامية، حتى أخفقَت في إظهار الحقيقة، وتجد من يُصفِّق لها.

لا يوجد فرق في الجواب على السؤال المُتكرِّر بصِيَغه المختلفة، الذي يضع أصبع الاتهام على وسائل الإعلام العربية وحالة التدنِّي التي وصلَت إليها بعد امتلاكها كل الأدوات التي تُحسَد عليها، من إعلاميين وعناوين تثير اهتمام المتلقي، وينضج بها، في مختلف المجالات منها: السياسية، الاقتصادية، العلمية، الاجتماعية، الدينية، الثقافية.. بما ينفع العقل الخالص من الإشارة في توجيهه، كما هو الآن.

لست أنا وحدي المُتضرِّر أو المستاء من الحالة الإعلامية العربية والعالمية، ولأكون مُنصفًا، كان وما زال له مِهنِيَّته العالية والمسؤولة، والدور الأساسي في تأسيس ثقافة الشعوب، نحو بلدهم وغيرها من البلاد التي لا تختلف عن ثقافاتهم وأخلاقهم. فالإعلام هو رسالة بنِيَت على الحقيقة، وإظهار كل ما يدور من حول المتلقِّي، في تخصيص المجالات، وإبرازها بوسائل الإعلام المختلفة.

وإن سئِلتُ عن حالة الاستياء نيابة عن الآخرين من المثقفين والكتاب، الذين كان لهم مكانتهم الكبيرة في نشر الثقافة، بين الأجيال، وترسيخ القيم والثوابت الوطنية، وإبراز إبداعات غيرهم، كما أظهر السابقون إبداعاتهم التي طالَت الكلَّ الواحد، دون تجزئة، وتوثيق التراث، ومعالم حضارته، وإحياء الشكل الفاعل والدائم.

يكون سؤالي وجوابي معًا، على النحو التالي: أين الكتابات الإبداعية أولاً في الصحف والمجلات؟! فقد اعتدنا عليها وعرفنا منها أسماء الأدب والفنون، وتربَّينا على مذاقها الإعلامي الشامل، دون إقصاء أيٍّ من المجالات، وأصبحنا نشير إلى هذه الصحف والمجلات الثقافية، كعناوين مَرجعِيَّةٍ للباحث والقارئ والمبدع الناشئ، لتغذية أفكاره واكتساب المهارات، والتعرف على أجيال أبدعَت منذ عقود من الزمن.. لم يكن غير هذه الجرائد والصحف والمجلات بأعمدة الثقافة والفنون والأدب المختصَّة تقدِّم إلى القارئ يوميًّا أو أسبوعيًّا أو شهريًّا.. التي أسَّسَت الوعيَ العربي وتقديره للأفكار المُعبِّرة عن الوجدان العربي بكل ثقافاته.

ومع الأسف، منذ قرن وأكثر من الزمن، بدأت تسقط تدريجِيًّا الكتاباتُ الإبداعية بأشكالها المختلفة، والفنون بمختلف أنواعها، من الصحف والمجلات والجرائد، بموضوعات لا تقدم ولا تؤخر  القارئَ  بشيءٍ، بل تعكس المستوى الثقافي  للشعوب واهتماماتهم الفارغة من محتواها، في أمور تختصُّ في عالم الموضة والأزياء والتجميل والأخبار الشخصية للفنانين، ليس اعتراضًا على ما ذلك، بل التساؤل: لماذا استبدِلت أعمدةُ الأدب في الجرائد والصحف المحلية، العربية، والعالمية، ليتمركز غيرها كصاحب حقٍ في هذه الأعمدة، مُتباهِيًا بسيطرته على مجلات وصحف خُلِقت لذلك الأدب وتلك الفنون. لا أستطيع وضع اللَّومِ على تلك العناوين المقروءة كوسيلة إعلام مُختصَّة بالثقافة، بل العِتاب على ما يملؤها اعتبارًا أنَّها أصبحت غير مُحقِّقة لأهداف العصر وتطلعات شبابه. ولم ينجُ تواصل النشاط الاجتماعي من هذا الفيروس الذي أصاب الشؤون الثقافية في مقتلٍ، وأخرجها من دائرة الاهتمام والنَّشر، فالمسؤولية هنا على أبواب الجميع تقف، لكي نعيد الاهتمام للمثقف والمبدع العربي في كافة المجالات الإبداعية، وفي جميع الوسائل الإعلامية، المرئية، المسموعة، والمقروءة، ليحيا المَشهد الثقافي من جديد.

محمد ياسين رحمة - الجزائر

محمد ياسين رحمة - الجزائر

اقرأ أيضا

آخر الأخبار
تحتلّ المرتبة الثانية إفريقيًا.. الجزائر تطمح لبلوغ 20 ألف مؤسسة ناشئة بحلول 2029 رئيس زمبابوي:"لا تحرر لأفريقيا دون استقلال الصحراء الغربية" سوناطراك تُعزّز قدرات مستشفى الحروق الكبرى بمعدات حديثة إجراءات مشددة لدخول مكة هذا الموسم..تعرف عليها وزير الداخلية يأمر باستكمال مشاريع الحماية المدنية قبل موسم الاصطياف مشروع التصفية الكبرى في غزة.. هل يسكت العالم على نكبة القرن؟ وكالة "عدل" تُفنّد اتهامات والي وهران محادثات في جدة حول أوكرانيا.. "دبلوماسية الفنادق" تفرض إيقاعها آفاق جديدة للتعاون الجزائري الإثيوبي في قطاعات حيوية نداء أممي لرفع الحصار عن غزة وإدخال المساعدات فورًا ديوان الحج والعمرة يعلن فتح بوابة برمجة رحلات الحج بالتعاون مع اليونسكو.. توثيق رقمي ثلاثي الأبعاد لموقع تيمقاد الأثري نهاية مسلسل الاختراق.. "إسرائيل" تزحف داخل المغرب الحكومة الفرنسية تعتبر إشادة تبون بماكرون خطوة نحو تجاوز الخلافات وزير الثقافة: "السينما الجزائرية تشهد ديناميكية حقيقية" بينما الأمم المتحدة تتفرج.. الاحتلال المغربي يستمر في قمع الصحراويين تحذيرات جوية.. عواصف رعدية وأمطار غزيرة بهذه الولايات في ظل تحديات إقليمية ودولية.. قرارات رئاسية حاسمة العلاقات الجزائرية الفرنسية.. الرئيس تبون يضع النقاط ويحدّد المسار الجوية الجزائرية تعلن عن تخفيضات استثنائية للجالية الوطنية بالخارج