تتحقَّق جدوى الكتابة الإبداعيَّةِ من خلال التَّواصل الدائم والمَوثوق بين الكاتب والقارئ. وهذا التواصلُ يستدعي، فيما يستدعيه، أنْ يكون الكاتب عارِفًا بالمَدارات النَّفسِيَّة والمُجتمعيَّة للقارئ، أو عارِفًا بأساسِيَات بعض العلوم الإنسانيَّة مثل: علم الاجتماع وعلوم النَّفس، إضافةً إلى معرفةِ الكاتب بمُستويات التَّلقِّي لدى القُرَّاء لا سيما فيما يتعلَّق باللغة والمستوى التَّعليمي.. فهل يهتمُّ الكاتبُ بهذه الجوانب عندما يُمارس الكتابةَ الإبداعيَّة؟ وهل يُحدِّد فئةَ أو فئات القُرَّاء التي يستهدفها، أم أنَّه يكتبُ إلى النُّخْبة من القُرَّاء؟
توجَّهتْ جريدة “الأيَّام نيوز” بهذه التَّساؤلات إلى نُخْبةٍ من الأدباء العرب، فكانتْ هذه الأوراقُ التي تتضمَّنُ أفكارَهم ورُؤاهم وبعض الإضاءات حول تجاربهم الشَّخصيَّة..

هل انْعزلَ الأدباءُ والمُثقَّفون في أبْراجِهم؟!
“هل انعزل الأدباءُ والمثقفون في أبْراجهم؟”، عبارةٌ سمعتها وأنا في بداية حياتي الأدبية عندما كنتُ أكتبُ القصةَ القصيرة، كنت وقتها في المرحلة المتوسطة.. تركتُ الطفولةَ خلفي، وبدأتُ أكتبُ ما يَجول في خاطري، وسمعتُ أحدَهم، وكان ذائع الصِّيت وقتها، يقول كلامًا كبيرًا في ندوة له بمعرض القاهرة الدولي للكِتاب، واستوقفه أحد الحضور مقاطعًا له بشِدَّة ليقول: انزلْ من بُرجك العاجي، وعِشْ واقعَ الناس، ولن تكتب مثل الذي كَتبتَ، ولن تقول مثل الذي تَقول. وترَك المكانَ وانصرف؛ لكنه لم يتركني أبدًا، ولم تذهب مَقولته من رأسي.
كان هذا الأمر منذ ثلاثة عقود ونصف وإلى الآن لم يتغير الوضعُ، لا زال الأديبُ والكاتب والمثقف في وادٍ، والمُخاطَبين في وادٍ آخر، ربَّما يَعْترض أحدُهم قائلاً: إنَّ الأديبَ حالةٌ والأدبَ نزعةٌ تأتي لصاحبها، فلا بدَّ من تفريغ طاقته وبَيان مَكنونها على لسانه نثرًا أو شعرًا أو حتى موسيقى، ولكنني أختلف معهم كثيرًا.
زمانُنا الحالي يحتاج من المُثقفين والكُتَّاب والأدباء أنْ يُوطِّدوا علاقتَهم بما يتعرَّضُ له الناس من هموم ومشاكل، وأفراح وأحزان، ونجاحات وانكسارات، وما يجول بخاطر الشباب المنفتح على الثقافات المُتنوِّعة، وما يطرأ على العلاقات الاجتماعية من تغيُّرات مُتسارِعةٍ، وما أصاب البُيوتَ والأسَرَ من أخْذٍ ورَدٍّ وتجاذبات، فالأسْرة غير الأسرة، والتعليم غير التعليم، والعلاقات غير العلاقات، والطموحات تغيَّرتْ، والأحلامُ تبدَّلتْ، ورغبات الشباب تتأرجح بين مَقبولٍ منهم ومَرفوضٍ مِنَّا، بل ومَعيبٍ في أحيانٍ كثيرة.
لن أذهب إلى الماضي السَّحيق من تاريخنا الأدبي؛ بل سأرجع إلى الوراء مائة عام فقط، سنقرأ كيف كان الكتابُ في عالمنا العربي خَيْرَ مُعبِّرٍ عن القُرَّاء والمجتمع والأسرة والشباب وحتى الجالسات في البيوت من فتيات وأمَّهات وسيِّدات.
كان الأديبُ ابن البيئة والمجتمع لا ينفكُّ أبدًا عن مشاكله ولا ينعزل عن طموحاته، يعالج الأخطاءَ التي يراها بِعيْنه، يكتبُ عنها مقالةً وأكثر، يجسِّدها في مسرحية شعرية أو يستدعي الماضي في ملحمة بطولية، بل ويكتبها في رواية واحدة أو سلسلة روايات مُتَّصلة في أجزاء عدة، وكانت الصحف والمجلات تناقش القضايا بحق، وكانت اللقاءات الفكرية والحوارات الصحفية بل واللقاءات التلفزيونية والإذاعية مُتعة للمجتمع بكل فئاته، يجلسون ليستمعوا إلى حوار الأديب هذا، وينتظرون بلهفة اللقاءَ التلفزيوني مع الأديب فلان، ويتلهَّفون بشوقٍ إلى المقال الأسبوعي للكاتب ذاك.
لكننا اليوم ومع تقدُّم التكنولوجيا وسُهولة النَّشر والتَّعبير وتعدُّد مِنصَّات النشر – للأسف الشديد – لا نجدُ أحدًا يجذب الناسَ لينتظروا مقاله أو روايته أو قصته أو حتى قصيدته أو ديوانه الجديد.. انْعزل الأديبُ والكاتِب عن واقع مجتمعه فعاقبه المجتمع بعدم القراءة ولا الشَّغف لمقالته ولا الشراء لمطبوعاته ولا الاهتمام لإصداراته؛ فخسر المجتمع خسارة كبيرة.
إنَّ إعادة العلاقة بين الأديب والكاتب والمثقف وبين القارئ تحتاج إلى أنْ يكون الأديب جزءًا من المجتمع بحق؛ يتألم لألمه بحق، يُعبِّر عن فكر المجتمع بحق، يساند الفكرَ الصحيح، ويصوِّب الفكرَ الهدَّام ويحاربه، يسعى بجهده وفكره وقريحته ليكون لسانَ الضعفاء والمهمَّشين والسَّاعين إلى الرزق في زمن لا يرحم ولا يقف على أحد.
إنَّ وُقوفَ الأديبِ على الحِياد لن يفيد الأديب ولا الأدب ولا المجتمع، ولن يُثري الحياة الثقافية ولن يرتقي بالفكر، بل سيزيد الخَرْقَ وستغرق السفينة بالجميع، وهذا لا نتمنَّاه أبدًا.
أيها الأدباء، انزلوا من برجكم العاجي وكونوا بين الناس ولسانهم، وعبِّروا عنهم، ولن يتوقَّف إبداعُكم بل سيتطوَّر ويتقدم وينطلق إلى فضاءات أشدَّ اتِّساعًا ورحابةً وفكرًا.

أكتبُ لأبْقى على قَيْد الحياة
للحُروف روحٌ نابِضةٌ بحقيقةِ نفس كاتِبها، وعندما أكتبُ، أصِرُّ على السَّهْل المُمتَنِع، فأنا ابنةُ مُخَيَّمٍ عِشتُ بِحارةٍ شعبِيَّةٍ، وتعوَّدنا على التواصل دون رُتوشٍ أو تجميلٍ للكلمات، يحكُمُنا الأدبُ والأخلاقُ والمبادئ والقِيَم. لسنا بحاجة إلى اللَّف والدَّوران أو إلى كلمات لا يفهمها البعضُ، لهذا استنكرُ وبشدة من يمتلكون كمًّا هائلاً من المصطلحات الصَّعبة ولا يُجيدون توظيفَها بطريقةٍ صحيحةٍ إلى درجة عدم الإتْيان بفكرةٍ واضحةٍ نستخلصها من بين السُّطور..
أنا حريصةٌ جدًّا أنْ تفهم أمِّي ما أكتبُ، أنْ تستوعب كتاباتي دون الحاجة إلى القراءة أكثرَ من مَرةٍ. أهتمُّ لأبناء وطني ولا أهتم بالنُّخبة ليس تقليلاً من شأنهم، لا سمَح الله، لكن ما جدوى الكتابة إنْ لم أصِل بأفكاري إلى العامَّةِ من الناس فهم بالنسبة لي الأهمُّ. لا أهتمُّ بالزَّخرفة الكثيرة والمُبالغ فيها، أزيِّنُ قصصي بما يلزم لسْرد مُشوِّقٍ وواقعي وبعضٌ من خيال.. أهتمُّ بأصدقاء الحَرْف والقُرَّاء لأنَّهم أصبحوا جزءًا مهمًّا من عالمي الذي أعشقه، وأحرص كثيرًا أنْ أكون مَصدر حُبٍّ وطاقة إيجابية خاصة للنساء لأنني أهتمُّ بقضايا المرأة. علاقتي بالقُرَّاء خيْطٌ من ودٍّ واحترامٍ أزيِّنه بكلِّ صِدقٍ وشفافيةٍ..
بالحُبِّ نحيا عبارةً تحمل الكثيرَ من المعاني الإنسانية الجميلة، فبالحُبِّ نتجاوز كل الصِّعاب وعلى كل المستويات، لهذا أفرحُ كثيرًا وأنا أرى صدى كلماتي وما تلاقيه من آذانٍ صاغِيَةٍ وصمتٍ وعيونٍ تحمل الكثيرَ من الإعجاب.. أحيانًا أشعرُ بقلوبٍ من حولي تنبض بشدة، تتأثر بفرح وربما بحزن.. أكتبُ لأبْقى على قيد الحياة بقلم يُترجِم وجَع الإنسان وفرحه، حتى صمته أتقن الولوجَ فيه بنَهَمِ عاشقةٍ.. أكتبُ للوطن المُحتَل والشعب الصامد الذي يواجه المِدفعَ بحجرٍ.. وما يكتبه القلب يصلُ إلى القلب، واقعٌ يعرفه كل من رسَم بكلماته على جدران الزَّمن قِصصًا خالدة، نُحارب بحُروفنا لأنها لا تقِلُّ قوةً وتأثيرًا عن الخنجر.
ماذا لو عاد بي الزمن هناك، إلى مُخَيَّمي الحبيب، أركضُ بين الحارات والدُّور لأصِلَ إلى مدرستي دون أنْ تتعاركَ جدائلُ شَعْري بشرائطه البيضاء ومَرْيولي الذي كانتْ أمِّي الغالية تحرصُ على أنْ يكونَ بهِيًّا تحت مِكْواةٍ عانتْ من حرارة “بابور الكاز”، وطَوْق الياسمين من حوْش بيتنا الذي يعانق صدري ليصل إلى مُعلِّمتي التي كنتُ أحبها وهو يَفوح بعطر المَحبَّةِ.
جَدَّتي وأنا..
ماذا سأفعلُ لو صحَوْتُ يومًا لأجِدَني هناك أرْسم على الأرض بِطُبشورتي مُربَّعات أقفزُ بينها كغزالٍ شاردٍ، وأنُطُّ على الحّبْلَة بين صديقات الطفولة الجميلات.. وبيت المَرحومة جدَّتي القُبرُصِيَّة التي أحبُّ، وكنت التصقُ بها إلى درجة العِشق، ورائحة بيتها المليء بأصُصِ الورد وصابون الفونيك الأحمر، وصَحْن الفول المُمتلئ بزيت الزيتون، ويدي الصغيرة تَغوص فيه مُحاولةً التقاطَ بعض اللُّقم بِنَهمٍ شديد.. كنتُ أمْسك بيَدِ جدَّتي في شارع النادي وكأنني أميرةٌ أتَباهى كوْني حفيدتها التي تشبِهُهَا كثيرًا، وعندما صرَخ، بصوته الأجشِّ، أبو يوسف تاجرُ الأقمشة: هل هذه ابنتك يا أمَّ فؤاد؟ ردَّتْ عليه جدَّتي وهي ضاحكةٌ: نعم هي ابنتي، ليزداد التصاقي بها إلى حدِّ التعلُّق والهروب من البيت دومًا لأكون إلى جانبها.. لم ولن أنسى آخر يوم لها وهي على ذِمَّة المرض، سُكَّري وغرغرينا، واثنيْن من أصابع قدميْها سبقوها بإذنه تعالى إلى الجنة.. كنتُ أمدُّ يدي لأطعمها قبل ذهابي إلى المدرسة وهي مُستسلمة، وعندما حملتُ حقيبتي المدرسية وقبل أنْ اخطوا إلى الباب الخارجي، استدرتُ لأراها، كانتْ تودِّعني بعيونٍ حزينةٍ، خرجتُ مُسرِعةً وأجهشتُ ببكاء مَريرٍ، وصديقتي سلوى تُحاول إسكاتي، لكن كان لديَّ شعورٌ غريبٌ بأنني لن أراها ثانية، وعند عودتي عصرًا كانتْ جدتي تدخل غيبوبةَ الموت بعد أخْذها إبرة الأنسولين دون فحصٍ مُسبق للسكري وينخفض عن معدله الطبيعي، ليأتيها الموتُ على مَهلٍ، كنتُ أضَع في فَمها بعضًا من الماء المخلوط بالسكر بناءً على طلَب المُمرِّضة صديقتها التي كانت تبكي بكاءً مريرًا، هي صديقتها في بنك الدم الذي كانت جدَّتي الحبيبة تعمل به دون كَللٍ، لكن يشاءُ الرَّحمان أنْ تموتَ جدَّتي، ويزداد حُزني الأولُ البِكْرُ الذي لم اختبره سابقًا ليرافقني المَرار سنوات طِوال..
زارتْني حُلْمًا لتشير لي بواجب الصلاة والحجاب، ولبَّيْتُ طلَبها بكلِّ حُبٍّ، وفي كل سنةٍ كنتُ أذهبُ إلى العمرة عن روحها الطاهرة. جدَّتي هي حُضْن الحُبِّ والدفء والجمال والحنان، هي الرُّوح الغائبة الحاضرة، هي الأصل في كل شيءٍ حتى عشقي للوطن، للأرض، للإنسان..

الكاتِبُ قارِئًا ومَقرُوءًا له
العلاقةُ بين الكاتِب والقراءة والقُرّاء علاقةٌ هيكلِيَّة مَتينةٌ ملتبسة، لأسبابٍ كثيرة مُتداخلة. ولعلّ أوّل تلك الأسباب وأهمّها أنَّ الكاتب لا يمكن إلاّ أن يكون قارئا في اللحظة الأولى، في رحلته الاستكشافيّة ناظرًا في الكلمات والرمّوز، ناقلاً لها على الطِّين أو الجِلد، على اللَّوح أو الكرّاس. تتأسَّس العلاقةُ وتَلتبِس، ههنا، في لحظةِ التَّهْجِيَة والنَّسخ حين يستوي القارئُ ساطِرًا للحُروف والكلمات. وهكذا يتدرّج الكاتبُ من القراءة تعلُّما إلى القراءة شغَفًا وتملُّكًا، ومن الكتابة نقلاً ونسخًا إلى الكتابة تشكيلاً وخَلْقًا. لذلك يمكننا الإقرار بأنَّ ما من كاتب عظيم إلاّ وهو قارئٌ عظيمٌ، لأنَّ فِعلَ القراءةِ عمليّةٌ حِواريّة مع النصّ وصاحبه. عمليّةُ كشْفٍ وتحليلٍ وتفكيكٍ للبنى والأساليب والمضامين، وإعادة بناءٍ لها ضِمن عمليّة تأويليّة شاملة يتملّك من خلالها القارئُ النصَّ ويتلبّس بالكاتب أو يستوي نظيرًا له. حينها، يتشكَّل وعْيُه بذاته مُتذوِّقًا مُستكشِفًا مُتمثِّلًا ومُبدِعًا.
ثمّ، أَليس الكاتبُ هو أوّلُ قارئٍ لأدبه؟ إنّه يقرأ ما يكتب بعيْنِ ذاته المُركَّبة وذاكرته الخاصّة وذائِقته الخصوصيّة. لذا يكون حُكم الذّات الكاتبة مُوغِلة في الذاتيّة حتّى وإنْ حاولتْ أخْذَ مسافةٍ والتَّحلّي بموضوعيّةٍ مَا. وهنا يصعب التَّمييز، بين كلّ هذه المستويات. فالآخرُ القارئُ هو أنا الكاتبُ، أو وجهٌ من وُجوهه، أو هو بعضٌ منه انفصل عنه ليكون موضوعًا. إنّنا حين نَسْتبطِن الآخرَ/ القارئَ قد نَتماهى معه، فنكون الآخر الذي هو الـ نحن. والكاتبُ وهو يُعبِّر عن ذاته، إنّما يعبِّر عن الآخر فيه، وعن العميق المشترك بين الذوات المُتَصادية في جوهرها الإنسانيّ، مهما بدتْ الأعراضُ والأشكالُ مختلفةً متنوِّعةً.
إنَّ الكاتبَ المُبدعَ، حسب رأيي، وإنْ انغمسَ في طقوس الكتابة ضِمْن وضعٍ وجدانيّ – نفسيّ – وُجوديّ مَخصوص، ليس كائنًا معزولاً أو مُتعالِيًا على القُرّاء وعلى الوجود الاجتماعي، ولا ينبغي له. وهو، في الآن ذاته ليس مجرّد مرآة عاكسة لانتظارات القُرّاء ولمتطلّبات البيئة/ السوق التي يعيش فيها. إنّه يتأثر، حتمًا، ولكنّه يُؤثر ويصارع ويشتبك مع أعداء شعبه وأمَّته، وأعداء القِيَم الإنسانيّة العميقة المشتركة. فالكلمات هي الصَّرخة والطَّلقة والوَعْد والشُّعلة، في وجه اللاّمعنى والوعي الزائف والتَّصحّر الثقافي وثقافة الموت. والكاتب، لكلّ ذلك، نبيّ عصره وحامل لواء التحرير والتنوير وتقرير المصير في مجتمعه.
وهل أكثر من هذا الانخراط الذاتيّ والوطنيّ والوجوديّ، تأكيدًا على معنى الكتابة وجَدواها؟ تلك الجدوى التي تستمدُّها من انخراطها في حركة الوجود الاجتماعي وتفاعلها مع قضاياه وتمثّلها لأزمات الإنسان المعاصر في مجتمعاتنا العربيّة. لذلك فإنَّ الثقافة التنويريّة والمعرفة العلميّة والفنّ الملتزم بالإنسان قضيّةً ومعنًى ووجودًا، والكاتب المُشتبك مع الأعداء والبذاءة واللامعنى قولاً وفعلاً، هي التي يجب أنْ توجِّه السياسات نحو أفق العمل والحريّة والعدالة، في مواجهة التَّسليع والتَّسطيح والاستغلال، وفي مقارعة الثقافة الاستهلاكيّة وسياسات الهَيْمنة والحروب التي تمارسها امبرياليات الشرّ الاستعماريّة.
ويمكننا أنْ نقول إنّ العلاقةَ بين الكاتب والقارئ في مجتمعاتنا العربيّة، قد فقدتْ الكثير من قوّتها وتأثيرها ووجاهتها، لأنَّ الكتابة أخذتْ تَفْقد، في ظل هيمنة الثقافة الاستهلاكية في مجتمعاتنا غير المنتجة، وظيفتَها الرِّياديّة والتنويريّة والتحريريّة، لفائدة كتابات مُغرَقة في الفردانيّة وذات وظائف ترفيهيّة تجميليّة، يحكمها منطقُ السّوق والاستهلاك. لكلّ ذلك يجب أنْ نخرج بالأدب من سباق التَّقييمات الاستهلاكيّة للجوائز الأدبية ذات الخلفيّة التَّرويضيّة، حتّى يستعيد الوظائف التنويريّة التحريريّة. لأنَّ مجتمعاتنا لم تستكمل بعد عمليّة تحرُّرها من الظلم الاجتماعي (استغلال اقتصادي واستبداد سياسي..) والتَّخلف الحضاري (عجز عن الابتكار والإبداع والتقدم..) والاستعمار الخارجي (فلسطين، سوريا، العراق، اليمن..) والهيمنة الامبريالية (في كلّ مكان من وطننا العربي).
خِتامًا، ونحن نُقِرُّ بقوةِ الفعل والتَّأثير للقُرّاء وللقراءة، وللوجود الاجتماعي والسياسي، آنيًّا وظرفيّا، على الكاتب، فإنّنا نؤكّد على أنَّ الكاتب الحرّ الرؤيويّ المشتبك في معركة الوجود هو الذي يَتَمثّل ملامحَ المرحلة ويضبط جبهة المعركة وأفق الوطن والإنسان. وأمّا البقيّة من حَمَلة القلم والقرطاس، فكَتَبَةٌ ينعقون وبُغاةٌ مُطبِّلون وراء مال السُّلطة، لا نصيب لهم من مَجدِ الكتابة إلاّ جوائز يُستدرَجون بها إلى زريبة السلطان ومسالخ الاستعمار.

وَمضةٌ حول تَجرُبَتي مع القراءة والكتابة
القراءةُ هي الأساس الصّلب للكتابة، حيث لن تتبلور أيُّ مَوهبةٍ في الكتابة والإبداع دون أنْ تسبِقَها فتراتٌ كبيرةٌ من القراءة لمختلف أنواع الكُتُب من أدبية إلى علمية إلى تاريخية وغيرها، والأغلبُ يجب أنْ يكون ذلك منذ الصِّغر. أنصحُ بذلك من تجربتي الخاصة التي عِشتها شخصيًّا، كنتُ أقرأ بنَهَمٍ شديد منذ الطفولة وفي عدِّة مجالات، خصوصًا أنني ولدتُ وكبرتُ في بيتٍ يقدِّسُ الكتبَ والثقافة، حيث كان والدي يعتزُّ كثيرًا بكنزه من الكتب الكثيرة المتنوِّعة، ويحثُّنا على القراءة، بل ويعمل مسابقات بيننا أنا وإخوتي، بأنْ يطلب مِنَّا عمَل تلخيصٍ للكتب المختلفة التي نقرأها، والتي يحضِّرها لنا كلٌّ حسْب سِنِّه. من هنا كانت القراءةُ هوايتي وشغَفي الأوَّلَ، ومعها جاء الشَّغفُ بالكتابة، فكان أنْ بدأتُ الكتابةَ في عمر صغير، في سن الثالثة عشر تقريبًا أو قَبْلها بقليل، لكنني جرَّبتُ النَّشر في ذلك العمر بفرحٍ كبير. بدأتُ بكتابة المقال النقدي الفني، وبعدها القصة القصيرة، ونشرتُ في جريدتيْ: الوطن والقبس في الكويت، حيث وُلِدتُ وكنتُ أقِيم.
عرفتُ حينها مُتْعَةَ التَّفاعل مع القُرَّاء، حين جاءتني الكثيرُ من التعليقات من القرَّاء ومن أصدقائي وأقاربي، ومن أبي قَبْلها طبعًا لأنَّه هو مَنْ كان يشجِّعني على الكتابة ويخبرني بفخره بي بأنني أكتبُ في ذلك العمر الصغير، بل وكان يوصل رسائلي إلى مَقَرِّ الجريدة بنفسه. أكتبُ ذلك الآن على أملِ أنْ يَقتدي الأهل بما كان يفعله والدي، وأهِمِيَّة العِناية بفكر وعقول أطفالهم، تمامًا كالعناية بأكلهم وحياتهم الخاصة.
عرفتُ في ذلك العمر الصغير معنى أنْ يقرأ لي شخصٌ ويعطيني رأيَه فيما أكتبُ، ولذَّةُ ذلك الفعل، لذلك ثَمَّنتُ كثيرًا علاقتي بالقارئ مِن وقتها. بل وللطُّرفة، كان بعض القُرَّاء يكتبون التَّعليقات مُوجَّهة إلى السيدة “تغريد فياض”، وكنتُ أضحكُ كثيرًا لذلك اللَّقب الذي أعْطِيَ لابنةِ الثالثة عشر. ولاحقًا، عرفتُ أنَّ تلك الكلمة هي تقديرٌ وتكريم لعقل تلك الكاتِبة، وأدركتُ أهميةَ الكتابة، والمسؤولية الكبيرة المُلقاة على عاتق الكاتب، أيًّا كانتْ نوع الكتابة التي يكتبها، فهو يتوجَّه إلى عقل ووجدان وقلب القارئ، وذلك شيءٌ خطيرٌ يتوجَّبُ الانتباهَ له بشكل كبير، في كل ما نكتب ونقدِّم إلى القُرَّاء.
إنَّ العنايةَ الشديدة بكل ما يُقدَّم إلى القُرَّاء، تُحقِّق الغايةَ من الكتابة ومن الإبداع بشكل عام، فأنا كروائية، وشاعرة، وقاصة، وحتى كمترجمة أتحرَّى الدقةَ أولاً في اختيار الأفكار، المعاني، والكلمات التي تُعبِّر عنها، أثناء عملية الكتابة، وحتى في المراجعة الدَّقيقة لِمَا كتبتُ، لأنِّي أعرفُ خطورةَ ما أقوم به، فلقد اختبرته جيدًّا عندما كنت قارئة شغوفة، شكَّل وجداني وعقلي.. الكثيرون من الكُتَّاب الذي كان لهم تأثيرٌ مِفصلي في حياتي بالحقيقة، وكان أوَّل مَن قرأتُ له وتأثَّرت به العبقري “جبران خليل جبران”، الذي جعلني أبكي مع كلماته في بعض كُتُبه، وجعلني أحِسُّ بالرَّاحة في جزءٍ آخر من كُتبه، حين هَمستُ لنفسي وأنا أقرأ بعض عبارات كتابه (النبي): “وهل يوجد إنسانٌ آخر في العالم يفكِّر مثلي، يحزن مثلي، ويشعر مثلي بتلك الغربة عن العالم”. وحلمتُ من بعدها أنْ أكتب مثلَه، وأنْ يقرأ لي مثلَه، أشخاصٌ يحتاجون لأنْ يعرفوا بأنَّهم ليسوا وَحيدين في أفكارهم وعلاقتهم مع الناس.
أثَّر بي كثيرًا الأديبُ العالمي “نجيب محفوظ”، وكان أولَ ما قرأتُ له روايته “أولاد حارتنا”، في عمر 11 سنة، وتأثَّرتُ كثيرًا بها وبأسلوبه وأفكاره، وأعدتُ قراءتَها لاحقًا بعد أنْ كبرتُ، حتى أفهم أكثرَ وأحلِّل أكثر ما تأثرتُ به وقتها. وبقيَّة روايات محفوظ التي كنتُ أقرأها بشغفٍ كبير، جعلتني أحبُّ مصرَ وأهلَها الطيِّبِين، كما وجدتُ أغلبهم في روايات “نجيب محفوظ”.. جعلتني أحلمُ بأنْ أسافر إلى مصر، حتى أقابِل هؤلاء الأشخاص الذين عِشتُ معهم ومع همومهم وأحلامهم وطيبتهم في تلك الروايات. وهذا ما حدَث معي في النهاية، وأنا أقيم في مصر منذ 18 عامًا حتى الآن.
في الحقيقة، مهما كَتَبنا عن علاقة الكاتب بالقارئ، فهو لن يَفي تلك العلاقة المُتميِّزة حقَّها، لأنَّها علاقةٌ فريدةٌ مُنزَّهة عن أيِّ غَرَض، غير المَحبَّةِ، والاستفادة، وأنْ يَجِد الشخصُ نفسَه في ذلك الكاتِب، وفي أفكاره، وأحلامه، والتي تنْقلها له صفحاتُ كتابِه. ذلك القارئُ اختار أنْ يشتري ذلك الكتاب، لذلك الكاتِب المُعيَّن، أو أنْ يبحث عنه على صفحات الانترنت ليقرأ أحْدَث إنتاجاته، حتى لو كان التوُّصل إلى ذلك الكاتب في البداية مَحْض صُدْفة، إلا أنَّ بحثه عنه وعن كُتُبه لاحقًا، ليس صُدْفة أبدًا.

القارئُ يُقْبِل على كتاباتٍ يَرى نفسَه فيها
لا يمكن التَّنَصُّل من الذاتِيَّة في الكتابة
الكتابةُ هي فعلٌ جميلٌ يجعل الكاتِبَ يبوح بمَكْنونات صدره إلى الآخرين عن وعيٍ أو عن غير وعي، ذلك لأنَّ كلَّ مُنتَج أدبي لا ينبع من عدمٍ، وإنْ ادَّعى أغلبُ الكُتّاب الحيادِيَةَ فذلك من وجهة نظري غير مُمكنٍ، لأنَّه لا يمكننا بأيِّ حالٍ من الأحوال التَّنصُّلُ من الذاتيةِ في الكتابة سواءٌ كان ذلك عن قصْدٍ أو عن غير قصدٍ، لأنَّك كأديبٍ ستنتصر حتمًا لنظرتك الخاصة إلى الأمور وتشحذ لها البراهين وتُجسّدها في شُخوص روايتك أو قصتك، وتسكب عليها من بَهارات خبرتك التي اكتسبتها من تجاربك في الحياة أو ما استخلصْتَه من تجارب الآخرين.
اللُّغةُ البسيطة هي سبيل استقطابِ قارئٍ نَهِمٍ
ولأجل أنْ يتمكّن الكاتبُ من إيصال فكرته إلى قُرّائه، كان عليه أنْ يعتمد وسيلةَ تواصلٍ تُساعده على تبليغ فكرته بأبْسط الطُّرُق، مراعِيًا في ذلك مستوياتهم الفكرية ومُيولاتهم والتي تحدِّد درجةَ فهمهم وتقبُّل ما يُعرَض أمامهم، ولا سبيل أنْجع من اعتماد لغةٍ سلسةٍ بسيطة لكتابة أدَبٍ تتشرَّبُه مداركُهم ويقرأون أنفسَهم فيه.
القِيَم في الكتابة.. والوعي الجَمْعي لمُجتمع القراءة
كما أنَّه على الكاتِب مراعاةُ المَنظومة القِيَمِيَّة والوعي الجَمْعي لدى جمهوره، الذي كوَّن من خلالهما نظرته الشاملة إلى الأمور، فصارتْ كجدارٍ فولاذي يحفظ به مَفاهيمه الخاصة والعامة والتي لن يوافق على أنْ يتعرَّض لها أحدٌ، كعقيدته النَّقِيَّة وعاداته وتقاليده، بالإضافة إلى أعْرافه التي تُعتبَر دِرْعه الواقي ضد كل اعتداءٍ خارجي يحاول أنْ يَحيد به عن سبيل آبائه وأجداده، مَهْمَا زعمنا بأنَّه قد ذاب في عالمٍ مُغاير لعالمه المحيط بسبب العولمة التي هاجمته بِبَريقها، وبسبب انفتاحه على عالم غربيٍّ يتزَيَّا بِزَيٍّ يختلف عن زيِّه، ويتحرّر من قواعد انضباطٍ عامَّةٍ يفرضها عليه نسَقُ حياته الانسانية كفردٍ ينضوي تحت منظومةٍ قِيَمِيَّةٍ مُحدَّدةٍ.
ولهذا يجد الكاتبُ نفسَه مُحاطًا بمجموعة قواعدٍ عليه الالتزام بها عند تواصله مع قارئه صغيرًا كان أمْ كبيرًا، لأنَّ ظروفَ بيئته وبيئة قارئه تفرض عليه التحرُّكَ وفْقَ نسَقٍ عامٍّ مُتَّفقٍ عليه.
وانطلاقًا من تجربتي الشخصية، فإنَّني أحرصُ على مخاطبة القارئ بما يتوافق مع بيئتنا العربية والإسلامية من مُراعاةٍ لعقيدة التَّوحيد وعدم التَّعرُّض لِمَا يخالفها سواء في شعرٍ أو نثرٍ. بالإضافة إلى احترام البيئة العربية المحافظة بشكلٍ عام، والبيئة الجزائرية المُرتكِزة على خُلُق الحياء والحرص على السِّتر وإشاعته بين أبنائها، ولهذا فإنَّني لا أكتب أبدًا ما يخدشُ حياءً القارئ، لأنَّ الهدف من الأدب، في نظري، هو بناءُ شخصيةٍ سوِيَّةٍ تتربَّى على قِيَمٍ عُلْيَا، وتُربِّي بدورها أفرادًا من عالمها الصغير أو الكبير، دون أنْ أنكر العواطفَ الجيَّاشة ولا أحاسيس الفؤاد وهي تعبِّر بوضوحٍ عن إنسانيةِ الإنسان، وأنَّه كائنٌ اجتماعي يَميل إلى السُّكون إلى جليس يوافقه في النَّظرة والمُيول أو ما نطلق عليه اصطلاحًا: توأم الروح.
الحالةُ النفسِيَّةُ مِفتاح القارئِ
ولا يَخفى على أحدٍ أنَّ الحالة النفسية للمرء هي التي تحدِّدُ سلوكَه بشكل عام، ولهذا فإنني أحرص على مخاطبة نفسِيَّة القارئ، محاولةً جلْبَ انتباهه إلى أهمية تركيزه على الجانب الايجابي من كلِّ أمْرٍ، وضرورة تفاؤله بقادمٍ أفضل مهما اكفهرَّتْ الأيامُ في وجهه، فما بعد ليلٍ كالحٍ إلاَّ ضياءٌ ساطعٌ، وما بعد ضيقٍ إلاَّ فرجٌ، كمال قال الشاعر:
ولرُبَّ نازلةٍ يَضيقُ لها الفتى ** ذِرْعًا وعند الله منها المَخرجُ
ضاقتْ فلمَّا استحكمَتْ حلقاتُها ** فُرِجتْ وكنتُ أظُنُّها لا تُفرَجُ
وبناءً على ذلك، تجدني في كتاباتي أحْفر في نفسِيَّة شُخوص القصة أو الرواية من خلال استعراض حالتهم النفسية والتي تحدد نظرتهم إلى الأمور والحياة وتنبني عليها سلوكياتهم، كوْني أوْمن بأنَّ الشخصَّ ما هو إلاَّ نفسٌ تتعاقَب عليها فُصولُ حزنٍ أو فرحٍ وتشاؤم أو تفاؤل، كوْنه روحٌ تؤثِّر فيها الكلمات بشكل إيجابي أو سلبي إلى درجة أنَّ كلمة طيبة قد ترفع من معنويات شخص فيصبح مُنتِجًا متفائلا، كما أنَّ كلمة سيِّئة قد تهدم شخصًا آخرَ وتجعله يحيا في سوداوية دائمة.
ومِن هذا المنطلق أرى بأنَّ كتابةَ أدبٍ مُضيءٍ يزرع تفاؤلاً وأملاً يفيض بأنوار حُسْن الظَّن بالله، وتوقُّع الأفضل هو سبيلٌ ناجحٌ إلى صناعة مجتمعٍ مُنتِجٍ يَسير أفرادُه تحت مِظلَّةِ بَهجةٍ نفسِيَّةٍ دائمةٍ مهما كانت ظروفُهم.

الرِّوايةُ.. قِصَّةٌ أمْ نَتاجٌ فكري؟
الرِّوايةُ العربية لا تزال مُغترِبةً عن معانيها العميقة لأنَّ هناك تَعميمٌ أنَّها مجردُّ قصةٍ مُوسَّعةٍ، وليستْ مجرد أيّ قصةٍ وإنَّما قصةُ حُبٍّ عاطفية رومنسية غالبًا ما تنتهي بموت البطل. رؤيةٌ مَغلوطةٌ بكلِّ تصوُّراتها، مِمَّا أثَّر سلبًا على تطوُّرها عربِيًّا.
وهنا ينبغي أنْ نقِفَ بمسؤوليةٍ، ونشرَح للقارئِ العربي ولبعض الروائيين العرب المعنى الحقيقي للرواية. نتَّفق معكم أنَّ الرِّواية يجب أنْ تحتوي على قصة، لأنَّ الكتابة الروائية، كما القِصَصِيَة، هي فعلٌ سَرْدي، لكن القصة ليستْ سوى جزء من عمليةٍ مُتكاملة تدخل فيها عناصر مُتعدِّدة.
إضافةً إلى بناء هيكل القصة، يجدر بالرِّوائي امتلاكُ أساساتٍ أخرى يمكن اختصارها بالعُمْق الفكري الإنساني. الرِّواية بقِصَّةٍ جميلةٍ لا تعني شيئًا إنْ لم يكن فيها فكرٌ فلسفيٌّ عميقٌ يتعامل مع الشخصيات بقالب نفسي واجتماعي يحترم عقلَ القارئ. القصصُ تتشابه، لكن كيفِيَّةَ سَرْدها هو ما يجعلها مُختلفةً.
كتابة الرواية في الغالب تنطلق من رؤية واقعية، يكون فيها نماذج بشرية متفاوتة المستوى العقلي والاجتماعي، والرِّوائي “الأصلي” هو الذي بمقدوره تمييزها وفكُّ شيفرتها كي يقدِّمها بصورة حقيقية وصادقة تحثُّ القارئَ على فهمها.
الروايةُ هي علم نفس وعلم اجتماع يتوحَّدان في قالبٍ إنساني فلسفي لإعطاء الرواية بُعدًا عميقًا.
كليةُ الآداب في الجامعات العربية والعالمية أرفقتْ الدراسات الأدبية بدراسات أسْمتها “العلوم الإنسانية” وتشمل الفلسفةَ وعلم النفس. حتى في تخصُّصي بالأدب الفرنسي درستُ علمَ النَّفس التحليلي، والنقد الاجتماعي، وتعمَّقتُ بآراء فلاسفة بارزين أطّروا للحياة، وتأثَّر بفكرهم رِوائيو عصرهم. وهنا يُطرح السؤال: “هل يجدر بالرِّوائي دراسة علم النفس وعلم الاجتماع والفلسفة ليُبدع؟”.
سأُجيب عن هذا السؤال من وجهة نظر غير أكاديمية، لأنَّ الإبداع الروائي هو فعلُ مَوهبةٍ مُتأصِّلة، ولو أنَّها تُدرَّس أكاديميًا، لكنها ليستْ نابعةً من أُسُسٍ أكاديمية وإنَّما من “نزعة فطرية”.
الرِّوائي الأصلي، إلزامًا، يتمتَّع بـ “نزعة فطرية” لرؤية الإنسان بعمقه، بحسناته وسيئاته، بخيره وشرِّه، بردود أفعاله، تقلُّبات مَزاجه، وحتى بأمراضه واختلاجاته الداخلية.
وهنا، وفي هذا السِّياق سأستَعيد هذا المقطعَ من روايتي “سيدة ستراسبورغ” الصادرة عام 2015 الذي تطرَّقتُ فيه إلى هذه “الفطرة” في بداية الرواية صفحة 12: “حنان الأولى بالترتيب العائلي قياسًا بالأولاد، وكانت بالترتيب الأول من حيث التفوُّق والاعتماد على النفس. كانت تُعْزّي هذا الأمر إلى مُربِّيَتها «فاطمة» التي تكفَّلتْ بالاهتمام به منذ لحظة ولادتها. فاطمة كانت مثقفة إنسانيًا، وليس بالمعنى الحقيقي للكلمة، ذلك لأنَّها كانتْ بالكاد تفكُّ الحَرفَ. ولو تساءلنا كيف يمكن لإنسانٍ أنٍ يكون مثقفًا إنسانيًا؟ نجد إجابةً فلسفية وجودية طويلة، تشرح أنَّ الوعْيَ البشري الذي سبَق القدرة على التعلُّم هو الذي يطغى في قياسه لقيمة الحياة. نكتشف أنَّ هذه الفطرة التي يتمتَّع بها قليلون من البشر فتمكنهم من رؤية الأمور على حقيقتها وبالواقع الخالي من الشوائب والعثرات. لقد كانت «فاطمة» من هؤلاء. كانت تُدرك النفوس بالفطرة وتتعامل معها على هذا الأساس”.
والرِّوائي المُتمكِّن هو الذي كما “فاطمة” مُربِّيَة “حنان” في رواية “سيدة ستراسبورغ”، يكون مثقفًا إنسانيًا برؤية فلسفية وجودية وبوعي لفهمها والكتابة عنها وفق متطلبات الرواية التي يؤلِّفها. بالإضافة إلى أنَّه يتوجَّب على الروائي أنْ يكون مُثقفًا علميًا أيضًا ليتكامل عمله الإبداعي بإتقان.
بالحديث عن براعة الرِّوائي في الدخول إلى العمق الإنساني في شخصيات رواياته، لا يمكننا التَّغافل عن ذكر الروائي الرُّوسي “دوستويفسكي” الذي كان ملهِمًا لكبار علماء النفس مثل “فرويد” في العديد من رواياته، وقد قال عنه في كتابه “التحليل النفسي والفن”: “دوستويفسكي مُعلِّمٌ كبير في علم النفس. لا أكاد أنتهي من بحثٍ في مجال النفس الإنسانية حتى أجد دوستويفسكي قد تناوله قَبْلي في مؤلفاته”.
هذا التَّوغُّل النفسي بالكتابة الروائية هو ما يجعل من الرواية عملاً أدبيًّا إبداعيًّا مختلفًا ومُميَّزًا، وقد يستخرجه الروائي من أعماقه قبل أعماق شخصياته. فالروائي يقوم بعملية تفريغ لكل لاوعيه بطريقة غير مباشرة تبعد الإشارة له ولا يمانع إنْ أشارتْ لأحد المُقرَّبين منه. كما حصل مع “إميل زولا” حين قام بلا وعيه بالكتابة عن رسَّام ثائرٍ مغمور في روايته “L’Oeuvre ” فاعتبر صديقَه المُقرَّب الرسَّام “بول سيزان” أنَّه يشير إليه بهذه الشخصية، مِمَّا جعل بينهما قَطيعة أبدية، حاول “زولا” حتى وفاته استرداد تلك الصداقة دون فائدة.
الرِّواية بالدرجة الأولى هي نَتاجٌ فِكريٌّ تدخل في حَبْكته القصة بين الواقع والمُتخّيَّل، لتستجمع خُيوطَها في عمليةِ حِياكةٍ مُنسجمةٍ، وكلَّما تعمَّقَ الكاتبُ فيها بالنَّفس البشرية وصراعاتها، كلُّما أثبتَ مَهارته بالرؤية وبالتَّحليل، دون أنْ يكون عالمَ نفسٍ أو عالمَ اجتماعٍ، وإنَّما مُجرَّد أديبٍ نفَضَ اختلاجاتَه في روايةٍ أدبِيَّةٍ.

اللُّغةُ المُتَصالحةُ مع القارئ.. والكتابةُ من مَدارات السَّهل المُمتَنِع
الإبداعُ رحلةٌ في عالم الخيال على مَتْن سفينةٍ مُحكمة الصُّنع، رُكّابها أشخاصٌ مختلفون في المُيول، الثّقافات، الحاجات، الأهداف والمستوى المعرفي، يقودها المُبدع الذي يتولّى مسؤوليّةَ الوصول بهذه السّفينة إلى برِّ الأمان مُلبِّيًا طلَب ما يحتاجه المسافرون معه – ومِن خلاله – إلى عَتبات أحلامهم.
ولتحقيق هذه الغاية، لا بدَّ مِن الإشارة إلى أنَّ النَّص المكتوبَ هو عمليةُ إبلاغٍ وتبليغٍ، إمتاعٌ وتوجيهٌ، ارتقاءٌ وتحضُّرٌ، فضلًا عن فتْح آفاق مُبتكَرة لا حدود لها. فإنْ استطاع العملُ الأدبيُّ الوصولَ إلى هذه الأهداف، نشأتْ علاقةٌ روحِيَّةٌ بين كاتبٍ مُتمكِّن وقارئٍ يَسعى إلى المزيد، فتغدو صداقةً تتعدَّى حدودَ المكان والزّمان، ويصيرُ العملُ الأدبيُّ مَلاذًا لقارئٍ يثق بما يُقدَّم إليه فيسعى إلى قراءته مِرارًا وتكرارًا.
من هنا، يصير لِزامًا على الكاتب أنْ يحسن اختيار موضوعاته، مُفرداته، مُصطلحاته، صُوَره البيانِيَّة، وطريقة عَرْضه لأفكاره. وهذا الأمرُ لا ولن يتحقَّق ما لم يكن الكاتبُ مِلِمًّا بمزايا القارئ الذي سيقع عمله الإبداعي بين يديه في نهاية المطاف، فهو المُتَلقِّي والمستفيد، وهو النّاقد، وهو مَن سيحكم على السّطور؛ ما بينها، ما خلفها، ما ومَن وراءها.
ومِمَّا لا شكّ فيه أنَّ الكتابةَ فعلُ حياةٍ مُشتركَة بين مَن يحمل القلمَ، وبين مَن يسعى إلى اكتشاف السُّطور، ولا يمكن أنْ يتحقَّق هذا الفعل ما لم يبذل الكاتبُ جهدَه في التّأكد من أنَّ كلَّ ما يقوله سيبلغ هدفَه المنشود. ويحضرُني في هذا المَقام، سَعْيُ بعض الشّعراء، إلى استخدام ألفاظٍ غريبة على السَّمع، هَجِينَةٍ، قليلة الاستعمال، كلمات من تلك التي سقطتْ مع الزّمن، أو المُفردات المُستحدَثة التي تحتاج إلى معجم يشرحُها، وكأنّهم يتعمَّدون ذلك لإثبات مَقدرتهم الأدبيّة وعَرْض مَخزونهم اللُّغويِّ، مُحوِّلين نصوصَهم إلى حَلَبات يتنافس عليها المتنافسون، ولا يشعرون بالرِّضى إلاَّ حين يَسعى القارئُ إلى فَكِّ رموز النَّصِّ لديهم، فتُمْسِي القراءةُ عمليّةً مُعقَّدةً تتوجَّه إلى مَن مَنَّ عليه اللهُ بخفايا اللّغة.
هذا النَّوع من الكتابة حرصتُ على اجْتنابه طيلة حياتي، وانتهجتُ في تَقديم أعمالي أسلوبَ السَّهل المُمْتنِع، فتمسَّكتُ بأسلوب “الجاحظ” الذي يرى أنَّ ” المعاني مطروحة في الطّريق يعرفها العَجميُّ والعربيُّ والبدويُّ والقَرَوِيُّ … والشّأن في تخيُّرِ اللّفظ وسهولة المَخرج وصِحَّة الطَّبع وجودة السَّبك”. واخترتُ ما خَفَّ معناه وغَلَتْ مَرامِيه، فاحترمتُ القارئَ الذي من حقِّه أنْ يفهم ما أقوله إلى أيَّةِ فئةٌ انْتمَى. فالهدفُ هو إمساكُ يَد هذا القارئ واصطحابه إلى عالم الإبداع سَعْيًا إلى توفير الرَّابطة القوية بينه وبين النَّص بعد كلّ ما شهدناه ونشهده، في أيَّامنا هذه، من ابتعادٍ عن لغتنا العربيّة قد يَصِل إلى درجة النُّفور أحيانًا، لأسبابٍ مُختلفة لعلَّ أوَّلَها ما يشهده المُتلقِّي من تعقيدٍ في النُّصوص، وليس آخرها شعوره بأنَّ الكاتبَ يتعالى عليه ويستعْرِض مَهاراته ضاربًا بعرض الحائط تلك العلاقة المُقدّسة التي يمكن أنْ تَتِمَّ بين القارئ المُخلص والكاتب – الصَّديق.
وربَّما كان لِعَملي في مجال التّعليم أثرُه في هذه الرّؤية، لذلك لم تخرج نُصوصي عن مَدارات الوُضوحِ والأناقَةِ واحترام بيئة القارئ وأخلاقياته، مستواه وأدَبِيَّاته، دينه، تقاليده وقدرته على التَّلقِّي، فلم أخرج يومًا عن إطار “الحُروف البيضاء” التي تحترم من تتوجَّه إليه. وقد وجدتُ شَريحةً كبيرةً تهتمُّ بما أقَدِّم، عِلمًا أنّي أنْهج هذا النَّهج منذ أكثر من عشرين سنة، وسأبقى، عَلَّني أستطيع أنْ أترك بَصمةً في وَصْل ما انقطع من روابط بين القارئ ولغته، في ظلّ ما نشهده من حروب تُشَنُّ على لغتنا لطمسها والقضاء عليها بكل الوسائل المُتاحة.

الكاتِبُ والقارِئُ.. و”جُغرافِيَّةُ المُحْتَوَى”
موضوعٌ مهِمٌّ وشائكٌ، وجديرٌ بالمناقشة والتَّمحيص.. نعم!!، وأسئلةٌ مهمةٌ تَدور في سِياق هذا الأمر وفَلَكه، أوَّلُها: لِمَن يكتب الكاتِبُ؟ هل يكتب إلى نفسه أمْ يكتب إلى جُمهوره؟ هل يكتب ليُحقِّق شَغَفه الشَّخصي أمْ يكتب لشَغَفِ مَنْ يقرأ له؟ هل يكتب ليتسلَّى مَن يقرأ له بما كتبه أمْ ليُلقِي بِحَجر كلماته في لُجَجٍ راكِدةٍ من الفكر الرَّجعي، ليصلحَ به مُجتمعَه من حوله، بل ويطمح بأنْ يغيِّر الفكرَ الإنسانيَّ كُلَّه!! ودعونا نَلِج إلى أمر آخر، ألاَ وهو “جغرافية المحتوى”، وهذا مُصطلح لم يَسْبغه أحدٌ من قَبْل على الأمر، خَرَج مِن رَحِم ذهني الآن وأنا أكتبُ إليكم!!
فما هي “جغرافية المحتوى”؟ “جغرافية المحتوى”، هي أنْ يعرفَ الكاتبُ لمن سوف يكتبُ، وماذا سوف يكتب، وبأيِّ مُستوى من اللغة بها سوف يكتب؟ هل سيُوجِّه كتاباتَه إلى طبقةٍ في قاع المجتمع، أمْ إلى النُّخبة الفكرية مِمَّن حوله؟، هل سوف يتحدَّث إلى مُجتمعٍ تغلب عليه سِمَة الدِّين، أمْ إلى طَبقةٍ مُتحرِّرةٍ؟ هل سوف يكتب إلى اليمين أو إلى اليسار، أو إلى مَن هُم يتوَسَّدون المُنتصفَ بينهما؟
هذا الأمرُ ضروريٌّ جدًّا، وَجَب على الكاتب تحديده قبل البدءِ في الكتابة، ولا بدَّ أنْ نعلم أنَّ لكلِّ قارئٍ ذائقةٌ مُعيَّنةٌ مُحدَّدة، وقدرة استيعابِيَّة تختلف من قارئٍ إلى آخر. ولا بُدَّ أنْ نعلم أيضًا، لا يُوجَد كاتبٌ ولا مَتْنٌ ولا نصٌّ، حتى الآن، أستطاع أنْ يُجمِع عليه قُبولاً وشغفًا مِن كلِّ مَن يقرأ، حتى كُتُب الله عزَّ وجلَّ، لم يجتمع عليها كلُّ عِباد الله، لحِكمةٍ يعلمها وحده عزَّ من قال وعزَّ من أنزل!!
وهنا نعود إلى مصطلح “جغرافية القارئ”، وعليه تُقاس مَهارة الكاتب بقدرته على تحقيق اتِّساعٍ جغرافيٍّ لقُرَّائه، من خلال تحقيق رضاءٍ نفسي عمَّا كتبه إلى أكبر رُقعةٍ مُمكنةٍ مِن القُرَّاء، وتتضاءل مهارةُ الكاتب كلَّما لم يتمكَّن من الأمر، وفي النهاية لن يدَّعي أحدٌ منهم بأنَّه استطاع أنْ يُرضي شغَف كلِّ من قرأ له، يقِينًا هو كاذبٌ!
وهذا لا يعني أنَّ تحديد الوجهة التي يريد الكاتبُ الحديثَ إليها عيبًا أو مَنقصةً تُقِلُّ من قدره، فالغاية تبرِّر الوسيلةَ، فلو أراد كاتبٌ أنْ يوجِّه حديثه مثلاً لمن يعتنقون الفكرَ المُتطرِّف: دينِيًّا سياسِيًّا، قَبَلِيًّا، راجِيًا أنْ يغيِّر هذا الفكرُ، ويَنْتحي بأصحابه إلى منطقة وسطى في مساراتهم الفكرية، فلا ضرورة لديه بأنْ يقرأ له من يهتمُّون بأخبار الاقتصاد، وأخبار السينما والموضة، يُسمَّى هذا بالكتابة الموجَّهة المَقصودة، ولا يعيب الأمر مُطلقًا، ولا نستطيع أنْ نُسمِّيه مَنقَصةً أو ما شابه، يشبه هذا “الإعلان المُموَّل” الذي نراه على مواقع التواصل، فَمِن الغباء أنْ يصِل إعلانٌ عن سيارةٍ فارهة إلى هؤلاء الفقراء الذين يمتهِنون الكتابةَ مثلا!
أمَّا الأمر الآخر، يجب أنْ يحدِّد الكاتبُ ثقافةَ من سوف يكتب لهم، فكرهم، لغتهم، استيعابهم، فمثلاً، ليس من المنطق أنْ يوجِّهَ كاتبٌ كِتابًا يفنِّدُ الشِّعرَ الجاهلي إلى طبقة من الدَّهماء، ومَن هُم في قاعِ المجتمع، هو يريد على أقْصى ما أوتِيَ من فُتات المعرفة أنْ يقرأ “مَوَّالاً شعبِيًّا”، هذا كلُغَةٍ، وأيضًا لا نوجِّه كِتابًا عن المتغيِّرات الاقتصادية العالمية إلى عُمَّال في مَصنَعٍ صغيرٍ يَحيكُ الأحذيةَ، فأقْصى علاقتهم بالاقتصاد التي تجول في خاطرهم، هل سوف تكفيهم راتبهم إلى نهاية الشهر أم لا؟!
في النهاية، أردتُ القول: يجب أنْ يتفاهم الكاتب مع قارئه من قبل أنْ يكتب له، بل ويساعده على خَلْق مساحةٍ جيِّدةٍ من العلاقة حتى بعد أنْ يكتب له، من خلال مناقشته حول عمله بالطُّرق المعتادة مثل النَّدوات وصفحات التَّواصل!! يجب ألاَّ يضعَ الكاتبُ نفسَه في بُرجٍ عالٍ، وينظر إلى قارئه نظرةَ تَعالٍ، نتيجتُها المنطقيةُ أنْ يبتعد عنه القارئ وعمَّا يكتبه!!
وأودُّ أنْ أتحدَّث عن أمرٍ آخر، ومُهمٍّ أيضًا، فدعونا نسأل: هل يَتشكَّلُ الكاتبُ إبداعِيًّا بما يريده القارئ؟
هذا بكل أسفٍ يحدثُ، وفي واقعٍ غريب، يتشكَّل جُلُّ الكُتَّاب في عالمنا العربي حسب رغبةِ القارئ، انقلبَ الأمرُ، أمسى يسير الكاتبُ خلْف رغبات القارئ، أصبح في المقام الأول هو أنْ يَبيع كِتابه، لا يعنيه المُحتوى، وضآلة الفكرة، وتناسى الهدفَ. أصبح القارئُ يجبر الكاتبَ على ثقافته، ينتزع منه قِيَمه ومبادئه، صار القارئُ يهبط بفكرِ الكاتب بما يريد قراءته، ولا يحدث العكس، بأنْ يسمو الكاتبُ بفكرِ قارئه عُلُوًّا وبذخًا!!
فمثلاً، يريد القارئُ أنْ يقرأ مُحتوى ضَحلاً يُطعِّمُه الكاتبُ له بالإباحِيَّةِ مرَّةً، وبالشعوذة مرةً أخرى، فيسير الكاتبُ خلفَه، لا يَعنيه فكرٌ مجتمعيٌّ، ولا ثقافةَ شعوبٍ تحتاج إلى الأمر!!
وهناك أمرٌ آخر، وسؤالٌ مهم، لماذا لا يقرأ جلُّ الناس الآن؟ هذه حقيقةٌ، فبرغم آلاف الكُتَّاب في كل باعٍ، الذين يكتبون من أجل الوَجاهة الاجتماعية وحسب، ولا يقرأون حتى لأنفسهم، لأنَّهم على قناعةِ حقيقية بضحالة محتوى ما كتبوه، وبرغم ذلك، نجد أنَّ القارئ العربي قد تراجع عن الأمر، لأنَّ الأمر صعبٌ عليه، فأصبح يعاني من الأمر، حين يبحث عن محتوى يقدِّم له فكرًا جيدًا، فيصير الأمر بالنسبة له، كمن يبحث عن إبرة في كومة قشٍّ!!
ناهيك عن هذا التسارع النَّمطي السلوكي، وهذه المُستجدَّات الفكرية التي فرضتها علينا العولمة، حيث أجبرتنا تلك المستجدات على ثقافة “التيك أواي”، والتي وَصلتْ إلى المثقف والقارئ أيضا، فأمَسيْنا لا نجد القارئَ العربي الذي يستطيع أنْ يَمكث ساعات يقلب في صفحات كتاب أدبي أو سياسي أو توجهي، أمسى يريد معلومةً كبيرة في “قُرصٍ مُدمَج” يمرُّ عليها مُرور الكرام ثم ينصرف إلى حال سبيله!!
لقد أزاحتْ هذه المستجداتُ كلاًّ من الكاتب والقارئ عن المَشهدِيَّة الثقافية والفكرية، بل وقضتْ عليها، وصارتْ هذه المستجداتُ الإعلامية الإلكترونية هي المُتحكِّم الأوْحدُ في ثقافة شعوبنا وتوجيه مساراتنا، فصرنا أمَّةً غير التي كُنَّا نعرفها!! ودعونا نسأل كلَّ مسؤولٍ في أمَّتنا العربية، سؤالاً هامًّا، فحواه: من صنعَ بثقافتنا هذا، ومن مِنكم يستطيع أنْ يُصلِح الأمرَ؟
هذه رُؤيتي، تَقْبَل الخطأ واليقين، لكنَّني أظنُّها في النهاية هي الأقْرب إلى اليقين..

الكتابةُ الإبداعِيَّةُ ومُستويات التَّلقِّي
بالنسبة إلى المَدارات النفسِيَّة والمُجتمعية للقارئ وجدوى الكتابة الإبداعية.. الكتابةُ فعلٌ إنساني يستلزم معه أوَّلًا أنْ يكون الكاتبُ مَهمومًا بمستلزمات مُجتمعه الإنسانية، النفسية والمجتمعية، ما يعني معه أنْ يكون فاهِمًا بل وهاضِمًا قَبْلاً لتراث مجتمعه النفس – اجتماعي، ثم الإبداعي التَّصوُّري، ليعبِّر تعبيرًا إنسانيًّا مِثالِيًّا عن مَكنونات مجتمعه المعاش. ثم ثانيًا؛ تأتي تراتُبِيَّة الإلمام بالقراءات والاستقراءات في السَّابق من التُّراث الإنساني العلمي، وبخاصة مجال علوم الإنسانيات: الاجتماع، علم دراسات المجتمعات البشرية، الفلسفة، المنطق، الأنثروبولوجيا أو علم دراسات الإنسان، ثم علم النفس بأفْرعه العديدة (الأدب، المعرفي، التطبيقي، الفن، المجتمع، الفرد..).
ويُبدِع المُبدع أجناسَه الأدبية من خلال هذه العلوم، وذلك على تنوُّعها؛ الشعر والنثر، المقال، الترجمة، القصة بأنواعها كلاسيكية: قصيرة، ق. ق ج، الومضة، الرواية بمشتملاتها الأدبية (سرد للسيرة الذاتية، إنسانية، تاريخية، سياسية، سوسيوثقافية، فانتازيا، خيال علمي)، المسرحية أيضًا على اختلافاتها الكلاسيكية بفصولها الثلاثة، أو ذات الفصل الواحد، أو المسررواية إلخ… فيكون العمل الأدبي هنا بمثابة صِلَةِ المَوصول بين المُبدع وجمهور المتابعين من القُرَّاء، وأيضًا جمهور النُقَّاد.
أمَّا فيما يخصُّ علاقةَ الكاتب بمستويات التلقِّي لدى القُرَّاء، والمستوى اللغوي والتعليمي؛ فيتبادرُ استفهامٌ لدينا: هل الكاتبُ مُلتزَمٌ بذلك جِدِّيَّةً في لغته؟ وهل فعل الكتابة الإنساني، كما أشرْنا سالفًا، هو فعلٌ مقصودٌ أو مُتعمَّد ومُرتَّب وهيراركي (هرمي أو عمودي) من ناحيتيْ اللغة والمستوى التعليمي للمتلقِّي؟ وهو أمرٌ صعبُ الحُدوث بل ومستحيل، لأنَّ الكتابةَ في حَدِّ ذاتها مَوْجاتٌ إنسانِيَّةٌ متلاحقة وفُيوضاتٌ إلهية، وإنسانية وروحِيَّةٌ، الأمر الذي وَصَل بشاعرٍ علاَّمةٍ كـ “المُتنبِّي”، على أنْ يُحصي المبدعَ في منزلة النَّبي، وكرامته الكلمة الأدبية، وهي مُفارقةٌ كبيرة جدًّا، لا نُوافقها ولكننا نَذْكرها على سبيل المثال لا الحَصر أو التَّسليم بها.
وقد تكون لغةُ الكاتبِ العربية مُقعَّرةً ومُعقَّدةً، وبالتالي كان حتمِيًّا عليه أنْ يُسهِّلها للقارئ، ويترك الألفاظَ والتَّعابير المَهجورة لُغوِيًّا منذ أمَدٍ بعيدٍ، فكان الروائي العالمي “نجيب محفوظ” يخلط ما بين الفُصحى والعامِيَّة في سَرْدياته، التماسًا لتراتُبِيَّةِ المُقوِّمات الكتابية الأدبية، ومعانيها الفلسفية وذهنية القارئ العربي، وأيضًا العظيم الراحل عميد الأدب العربي “د. طه حسين” كتَب بلغةٍ أكثر تَبسيطًا من لغة فيلسوف عصره المُستنير شيخ النُّقاد في الآدب العربي “عباس محمود العقاد”.. فكان أسلوبه مُعقَّدًا متفلسفًا إلى حَدٍّ كبير يصعب معه الأدراك التام لما وراء الأسْطر لدى الخاصَّة والعامَّة على حدِّ السَّواء.
وآخرون كتبوا بغير اللُّغة العربية، منهم السُّوداني “الطيب صالح” في رواية (شجرة ود حامد)، والجزائري العبقري “محمد ديب” في ثلاثيَّتِه (الدار الكبيرة، الحريق، النول).. فكان لِزامًا على من يترجم عنهما الكتابة بلغة سلسة سهلة وقريبة لعقل القارئ العربي، وهناك أيضًا من كتَب بالعربية المُبسَّطة رائد رواية الفانتازيا المجتمعية المصري “خيري شلبي” في روائعه: سارق الفرح، بطن البقرة..
هذا عن مستوى اللغة لدى القُرَّاء، أمَّا بالنسبة للمستوى التعليمي، فكيف سيتحكَّم المبدعُ في تقريره وتقديره؟ شيءٌ غاية في الصعوبة والتداول، فالإلهام الإبداعي يدفعه نحو فُيوضات الكتابة، وهل سيحدد سالفًا مُناصفةَ المستوى التعليمي للقُرَّاء.. القضيَّةُ أنَّه قد يسبق المستوى التعليمي الثقافي لدى نسبة منهم، وقد يكون نسبي وغير مضطرد لدى الآخرين.. أمَّا بالنسبة إلى تحديد فئات القُرَّاء، المُوّجَّه إليهم المادةُ الأدبية، أو بتعبيرٍ أكثر قُرْبًا، المُستهدفين من الكتابة الإبداعية، فهو – التَّحديد – مُتاحٌ وأكثر مُناسبةً لكلِّ كاتبٍ ومبدع، فمنهم من يُخصِّص كتابته إلى الشَّباب في مرحلة عُمْرِيَّةٍ مُتقدِّمة، أو الصغار الناشئة، وقد يتخصَّص للكتابة والرُّؤى النَّقدِيَّة في مجال الأطفال، أو يتخصص بالكتابة الأكاديمية، لمرحلةٍ عُمرية يحدِّدها مُسبقًا. هذا بالنسبة للكتابة المستهدفة لفئات عمرية بِعَيْنها، أمَّا من يكتب بنِيَّةٍ مُسبقة، وإلى نخبة ما، وإنْ كان مُفكِّرًا خلاَّقًا ورائدًا، تَقِلُّ صُفوف القرُّاء المُنضَمِّين إلى كتاباته الإبداعية شيئًا فشيئًا، وما بين حين وآخر..
فالعِبْرة هنا أنَّ المُبدِعَ فاعلٌ وكيانٌ عُضوِيٌّ في مجتمعه، كما أشار المُفكِّر العالمي الكبير “أندريا جرامشي”؛ فهو يكتبُ قاصِدًا تغيير أحوال مجتمعه إلى الأفضل، فالتَّغيير هو صَيرورة المجتمعات وضرورات الحياة ومبتغاها؛ كما أشار الفيلسوف اليوناني الأعظم “هرقليطس” مُعقِّبًا على صيرورة الإبداع: “إنَّك لن تنزل النَّهرَ مرَّتيْن”.. فكلُّ مرَّةٍ هناك إضافةٌ فكرِيَّةٌ إلى التُّراث الإنساني المَحَلِّي والقَوْمي والعالمي.