يُسوّق “الغرب” نفسه على أنه المدافع الأبرز عن قيم “الحريات” و”حقوق الإنسان” على مستوى العالم، من خلال خطاب سياسي وإعلامي موحد يروج لنماذج مجتمعية تسعى لتوفير الحريات الفردية والجماعية، وتؤكد على احترام حقوق الإنسان كأساس للتعايش بين الشعوب. ولكن، ما يعكسه الواقع يختلف تمامًا عن هذه الصورة المثالية، حيث تتكشّف أمامنا صورة مزدوجة عند “الدول الديمقراطية الكبرى”، بين خطاب يرفع هذه الشعارات ويتغنّى بها وبين ممارسات عملية تكشف عن ” نفاق” واضح في السياسات والتوجهات الداخلية والخارجية.
كثيرا ما انبهر العالم الثّالث بالحياة في الغرب، وحلم ملايين النّاس بمعانقة الحرية في العالم الغربي المبهر المضيء، واعتقدوا أنّه وخلال أيّام فقط يستطيعون أن يحوّلوا الأحلام إلى حقائق، ويحوّلوا الفقر إلى غنى، والقمع إلى حرية، وبالإضافة إلى هذا الانبهار بالأضواء البرّاقة والأحلام الوردية، انساق العالم الثّالث وراء شعارات الحرية والدّيمقراطية وحقوق الإنسان.
هؤلاء الذين تصوّروا، على مدى قرن من الزّمن، أن الحياة في الغرب بهذه الصّورة البرّاقة، وحسبوها جنّة على الأرض انخدعوا تمامًا بجانب واحد من وجهي العملة ” البخسة”، واختفى عنهم الوجه الأسود المخيف البشع، فالدّيمقراطية وحقوق الإنسان والحرية هي مجرّد فقاعات برّاقة ملوّنة تتراقص أمام أعين المنخدعين، الذين كلّما اقتربوا منها اكتشفوا أنّها مجرّد أوهام فارغة تنفجر في الهواء.
ورغم هذه الصورة المثالية، فإن الواقع يظهر صورة مغايرة، ففي كثير من الحالات، يتناقض الخطاب الغربي مع الممارسات اليومية للأنظمة الغربية في مختلف المجالات، بدءاً من سياسة الهجرة وصولاً إلى التعامل مع الأقليات، مرورًا بانتهاكات حقوق الإنسان في بعض الأماكن تحت غطاء “الحرب على الإرهاب” أو “الحفاظ على الأمن القومي”، ويظهر بوضوح أن هناك فجوة بين المبادئ المعلنة والسياسات المتبعة.
“الدّيمقراطية” و”الحرية” و”حقوق الإنسان” في الغرب هي مجرّد شعارات فارغة، سراب ودغدغة لمشاعر المحرومين البعيدين في أصقاع العالم المتخلف، و”الدّيمقراطية” في هذا الغرب -الذي أبهرنا- تتمثل فقط كلحظة من الحرية في إيداع ورقة انتخاب، مرّة كلّ أربع سنوات أو خمس، في صندوق لاختيار سلطة تحكم، هذا كلّ ما هنالك، أما بالنّسبة للهيئات الأخرى السّياسية والتّشريعية والدّبلوماسية فهي حكر على عالم المال والشّركات ومن يدور في فلكها.
خطاب الحريات.. أيديولوجية “العالم الأفضل“
منذ فجر “النهضة الأوروبية” وظهور الفلسفات التي دعت إلى الحرية، العدالة، والمساواة، أصبحت هذه المبادئ القيم الأساسية التي تبنى عليها الأنظمة الديمقراطية الغربية، حيث يُعتبر احترام حقوق الإنسان في الولايات المتحدة وأوروبا وتوفير الحريات الأساسية من واجبات الحكومات التي تعكس تقدمها ورقيها، كما تُعتبر الحريات الفردية في الخطاب الغربي عنصرًا لا غنى عنه، ويتجسد ذلك في دعم حقوق الأقليات، حرية التعبير، وحقوق المرأة، وتحت هذا السقف يتم تصوير الغرب كقدوة في تحقيق قيم الحرية وحقوق الإنسان، ويُطلب من بقية العالم الاقتداء به في مجال احترام كرامة الأفراد وضمان حقوقهم المدنية والسياسية.
واشتهر الغرب في العالم بتمسكه الراسخ بمبادئ الحريات وحقوق الإنسان، وقد عمل لعقود على نشر هذه القيم كمرشد للمجتمعات الأخرى، معتبراً نفسه المدافع الأول عن كرامة الإنسان وحرياته الأساسية، لكن مع مرور الوقت ظهرت تناقضات واضحة بين الخطاب الغربي المثالي حول حقوق الإنسان والممارسات الفعلية التي تقوم بها الدول الغربية، فبينما يرفع الغرب شعار الديمقراطية والحريات الفردية تكشف السياسات الداخلية والخارجية عن ازدواجية صارخة تتناقض مع هذه المبادئ.
وبينما يتفاخر الغرب بدعمه لحقوق الإنسان في الخارج، نجد أنه في الداخل غالبًا ما تكون سياساته متناقضة مع هذه القيم، حيث تتفشى في بعض الدول الغربية سياسات التمييز العنصري، ويتم تقييد الحريات باسم الأمن القومي، في حين أن التدخلات العسكرية والسياسية تحت شعار “حماية حقوق الإنسان” تثير الكثير من التساؤلات حول نوايا الغرب الحقيقية، هذه الازدواجية لا تؤثر فقط على مصداقية الخطاب الغربي، بل تُسهم في تأجيج الشكوك حول دوافع الغرب في سياسته الخارجية، وتجعل من مفهوم “حقوق الإنسان” أداة لتبرير المصالح السياسية والاقتصادية.
نفاق الغرب
وأحد أبرز الأمثلة على هذه الازدواجية يظهر في ملف حقوق اللاجئين والمهاجرين في أوروبا، فبينما تتغنى الدول الأوروبية بقيم الترحيب والتسامح، فإن السياسات الفعلية تجاه المهاجرين قد تشمل التمييز، الاعتقال التعسفي، وحتى الترحيل القسري في بعض الأحيان، بالإضافة إلى ذلك كثيراً ما يتم استخدام خطاب “الأمن” لتبرير تقييد الحريات الشخصية.
وفي مشهد يتكرر في العديد من الدول الغربية، تعاني الأقليات العرقية والدينية من التمييز والعنصريةوهذا التناقض يظهر جليًا في تعرض المسلمين وذوي البشرة السوداء والمهاجرين بشكل عام لظروف قاسية، سواء من خلال قوانين التمييز أو من خلال الممارسات اليومية التي تنتهك أبسط حقوقهم.
وفي هذا السياق، فإن الخطاب حول حقوق الأقليات في الولايات المتحدة، يواجه تناقضًا واضحًا مع الواقع خاصةً فيما يتعلق بالتمييز العنصري، حيث لا تزال الأقليات العرقيةمثل الأمريكيين من أصل أفريقي، يعانون من التفرقة والعنف من قبل الأجهزة الأمنية، وهو ما يتجسد في نشوء حركات مثل “حياة السود مهمة” التي تطالب بتغيير سياسات الشرطة وحقوق المواطنين.
ويشدّد الخطاب السّياسي والإعلامي في الغرب، على التمسّك بمبادئ المساواة وعدم التّمييز، إلّا أنّ وجود التّمييز العنصري في سياساته وممارساته يثير تساؤلات حول صدق وفعالية هذه المبادئ، وفي العديد من البلدان الغربية لا يزال التّمييز العنصري المنهجي قائمًا بأشكال مختلفة، بما في ذلك في نظام العدالة الجنائية والتّوظيف والإسكان والتّعليم والرّعاية الصحّية.
وعلى الرّغم من الحماية القانونية وتدابير مكافحة التّمييز، لا تزال الأقليات العرقية تواجه حواجز وعوائق، وعلاوة على ذلك فإنّ انتشار الصّور النّمطية العنصرية، والتّحيّزات في وسائل الإعلام، والسّياسة والتّفاعلات اليومية، يؤدّي إلى ترسيخ المواقف والسّلوكيات التّمييزية كما أنّ الفشل في معالجة هذه القضايا عميقة الجذور وتصحيحها يقوّض مصداقية ادّعاءات الغرب بتعزيز الدّيمقراطية وحقوق الإنسان.
“حقوق الإنسان “..لاختراق سيادة الدّول
من ناحية أخرى، يجد الغرب نفسه في موقف دفاعي حين يتعلق الأمر بحرية التعبير أو الحقوق الشخصية في الدول ذات الأنظمة السياسية غير الليبرالية، ويطلق المبررات من أجل التدخل في شؤون هذه الدول تحت شعار “حماية حقوق الإنسان”، حيث تتجلى ازدواجية الغرب في تسييس قضايا حقوق الإنسان، ففي الوقت الذي تدين فيه بعض الدول الغربية انتهاكات حقوق الإنسان في دول أخرى، يتم تجاهل أو التعتيم على انتهاكات مماثلة تحدث داخل حدودها أومن قبل حلفائها، كما تُستخدم حقوق الإنسان في كثير من الأحيان كأداة للضغط السياسي، حيث يتم تسليط الضوء على بعض القضايا بغية تحقيق مصالح استراتيجية، بينما يُغض الطرف عن أخرى إذا كانت تضر بتلك المصالح.
وفي هذا الصدد، لا يمكن نسيان تعامل بعض الحكومات الغربية مع الأنظمة الاستبدادية، حيث تتم التغطية أو التعتيم على انتهاكات حقوق الإنسان في هذه الأنظمة مقابل المصالح الاقتصادية أو الأمنية التي تجمع الغرب بها. وأحد جوانب هذا المعيار المزدوج واضح في الدّعم الغربي لهذه الأنظمة الاستبدادية في السّعي لتحقيق مصالحها الاستراتيجية، على الرّغم من ممارساتها غير الدّيمقراطية، ويسلّط هذا السّلوك الضّوء على إعطاء الأولوية للأهداف الجيوسياسية على تعزيز القيم الدّيمقراطية.
معايير غربية بالأبيض والأسود
من المهم أن نلاحظ أنّ تاريخ الدّيمقراطية في الغرب ليس خاليًا من التّناقضات والتّحديات، حيث اتّسم تطبيق المبادئ الدّيمقراطية غالبًا بالمعايير المزدوجة، واستبعاد مجموعات معيّنة من المشاركة الكاملة في العملية السّياسية، وكان لهذا المسار التّاريخي المعقّد للدّيمقراطية في العالم الغربي، تأثير عميق على المعايير المزدوجة والتّناقضات الواضحة في حقوق الإنسان.
ويوضّح التّاريخ الاستعماري أيضًا، التّطبيق الانتقائي للدّيمقراطية وحقوق الإنسان من قبل القوى الغربية، حيث دعّمت غالبًا الأنظمة الاستبدادية في المستعمرات السّابقة لخدمة مصالحها الخاصّة، في حين دافعت عن القيم الدّيمقراطية في أماكن أخرى، ويؤكّد هذا التّناقض على الطّبيعة المزدوجة للسّياسات والممارسات الغربية، ويكشف عن التّناقض بين مبادئها المعلنة وسلوكها الفعلي.
لا يزال الإرث الاستعماري يؤثّر على النّهج الغربي لهذه القضايا، ممّا يؤدّي غالبًا إلى استخدام معايير مزدوجة والتّطبيق الانتقائي لمبادئ الدّيمقراطية وحقوق الإنسان، وهذا السّياق التّاريخي أمر بالغ الأهمية لفهم الطّبيعة المعقّدة والمتناقضة غالبًا للخطاب الغربي حول الدّيمقراطية وحقوق الإنسان، والحاجة إلى إعادة تقييم نقدي لأسسه ومسلّماته.
إلى جانب ذلك، فإنّ التّطبيق الانتقائي من جانب الغرب لهذه المبادئ في سياسته الخارجية، هو مظهر رئيس من مظاهر هذا المعيار المزدوج، كما يتّضح من دعمه للأنظمة الاستبدادية باسم المصلحة الوطنية، في حين يدافع عن القيم الدّيمقراطية وحقوق الإنسان في سياقات أخرى، وهذا التّناقض لا يقوض مصداقية دفاع الغرب عن الدّيمقراطية وحقوق الإنسان فحسب، بل يساهم أيضًا في عدم الاستقرار العالمي وعدم المساواة.
ويشير مفهوم الازدواجية في السّياسات الخارجية، إلى ظاهرة تبنّي الدّول الغربية لمعايير وممارسات مختلفة، عند التّعامل مع القضايا الدّولية، وخاصّة في الشّرق الأوسط والمناطق الأخرى، إنّ هذه الثّنائية واضحة في الطّريقة التي تتعامل بها القوى الغربية مع التدخّلات العسكرية، حيث تعمل في كثير من الأحيان على تعزيز الدّيمقراطية وحقوق الإنسان في حين تدعم -في الوقت نفسه- الأنظمة الاستبدادية لتحقيق مصالحها الاستراتيجية الخاصّة، وتتجلّى الثّنائية في حالات مختلفة، مثل الدّعم الغربي لبعض الأنظمة غير الدّيمقراطية في الشّرق الأوسط، والدّفاع غير المشروط لسّياسات الاستعمارية الصّهيونية في المنطقة العربية، في حين تدافع عن الدّيمقراطية وحقوق الإنسان في أجزاء أخرى من العالم.
والنّتائج الفعلية لهذه التدخّلات غالبًا ما تؤدّي إلى المزيد من زعزعة الاستقرار والمعاناة الإنسانية، كما حدث في ليبيا والعراق وأفغانستان.. وغيرها، وهذا يوضّح التّناقض بين الأهداف المعلنة للتدخّلات الغربية وتأثيرها الفعلي على الأرض، وبالتّالي فإنّ الثّنائية في السّياسات الخارجية تشكّل عاملًا مهمًّا في فهم تعقيدات العلاقات الدّولية، وتداعيات الإجراءات الغربية على الاستقرار العالمي وحقوق الإنسان، وإنّ هذا يسلّط الضّوء على الحاجة إلى نهج أكثر تماسكًا ومبدئيًا للسّياسة الخارجية يتماشى مع قيم الدّيمقراطية وحقوق الإنسان، دون المساومة على المصالح الاستراتيجية.
وفي سياق توظيف الغرب للدّيمقراطية وحقوق الإنسان لتكون مبرّرات للتدخّلات العسكرية، غالبًا ما يتمّ تأطير التدخّلات العسكرية كوسيلة لتعزيز الدّيمقراطية وحماية حقوق الإنسان في البلدان الأجنبية. ومع ذلك، يكشف التّحليل الدّقيق عن نمط متكرّر من المعايير المزدوجة والتّطبيق الانتقائي لهذه المبادئ.
وغالبًا ما يبرّر الغرب أفعاله العسكرية، باسم الدّيمقراطية وحقوق الإنسان، ومع ذلك يميل إلى تجاهل الانتهاكات المماثلة في مناطق أخرى، حيث لا تكون مصالحه الاستراتيجية على المحك، وغالبًا ما تثير التدخّلات الغربية تساؤلات حول النّوايا الحقيقية وراءها، حيث يمكن اعتبارها تخدم أجندات جيوسياسية محدّدة بدلًا من الأغراض الإنسانية البحتة.
وتثير هذه الثّنائية في السّياسات الخارجية، مخاوف بشأن اتّساق وصدق التزام الغرب، بتعزيز الدّيمقراطية وحماية حقوق الإنسان في جميع أنحاء العالم، كما تسلّط الضّوء على الحاجة إلى نهج أكثر شفافية ومصداقية في التّعامل مع الشّؤون الدّولية، وهو النّهج الذي لا تشوبه التدخّلات الانتقائية والحسابات الجيوسياسية.
وفي هذا السّياق، يصبح استخدام القوّة العسكرية قضيّة مثيرة للجدال، لأنّها تتشابك في كثير من الأحيان مع ديناميكيات القوّة المعقّدة والمصالح الجيوسياسية، ممّا يلقي ظلالًا من الشّك على الالتزام الحقيقي بدعم القيم الدّيمقراطية وحقوق الإنسان على السّاحة الدّولية.
وبالتعمّق في مفهوم الازدواجية في السّياسات الدّاخلية، مع التّركيز بشكل خاص على قضية التّمييز العنصري، تتّضح هذه الازدواجية في نهج الدّول الغربية في التّعامل مع السّياسات الدّاخلية، حيث تدافع من ناحية عن المساواة وعدم التّمييز في حين لا يزال التّمييز العنصري المنهجي قائمًا داخل مجتمعاتها.
غزة الفاضحة للمفارقة الغربية
منذ بداية معركة “طوفان الأقصى” في السابع من أكتوبر 2023، أصبح من الواضح أن الحكومات الغربية ووسائل إعلامها تمارس ازدواجية معايير فاضحة تكاد تتجاوز حدود النفاق والرياء، هذه الازدواجية تتمثل في انحياز غريب لصالح الاحتلال الإسرائيلي وتبني أكاذيب وافتراءات تهدف إلى تصوير “إسرائيل” كضحية، بينما تُوصف عملياتها القتالية ضد الفلسطينيين بأنها “دفاع عن النفس”.
وعلى مدار السنوات الماضية، كانت الدول الغربية وعلى رأسها الولايات المتحدة وحلفاؤها الأوروبيون، يتهمون روسيا بارتكاب “عدوان على دولة ذات سيادة” في حربها ضد أوكرانيا. كما تبنوا مواقف متشددة ضد موسكو متمسكين بمعايير حقوق الإنسان، ومؤكدين ضرورة احترام القانون الدولي. ومع ذلك، نجد اليوم أن نفس تلك الدول غضّت الطرف عن جرائم الاحتلال الإسرائيلي على قطاع غزة، ولم تثر أي اعتراض حقيقي على استهداف المدنيين الفلسطينيين، بما في ذلك قصف المنشآت المدنية مثل المستشفيات والمدارس والمساجد.
إن الموقف الغربي ممّا حدث ويحدث في غزة يكشف بشكل جلي عن انحياز صارخ للدول الغربية التي تدّعي الديمقراطية لصالح الكيان الإسرائيلي الغاصب، رغم كل ما ارتكبته من جرائم بحق الفلسطينيين، وهذه الازدواجية في المعايير تفضح حقيقة أن المعايير الدولية لحقوق الإنسان ليست سوى أداة سياسية تستخدم حسب المصلحة.
الازدواجية في المعايير لا تتوقف عند حد المواقف الرسمية فقط، ففي الوقت الذي كانت فيه الدول الغربية تسارع إلى تحميل روسيا مسؤولية قتل الأطفال وتدمير المنشآت المدنية في أوكرانيا، نجدها تدافع عن “إسرائيل”، رغم القصف العشوائي الذي يستهدف المدنيين في غزة، والمنشآت المدنية بما في ذلك دور العبادة.
هذا الانحياز، دفع بالعديد من السياسيين والصحافيين العرب والأجانب وكذلك المؤثرين على مواقع التواصل الاجتماعي، إلى رفع شعار “ازدواجية المعايير”، لفضح التناقضات بين تعامل الغرب مع الأزمات المختلفة، فأجرى العديد من بين هؤلاء مقارنات بين أسلوب تعاطي الولايات المتحدة والاتحاد الأوروبي مع حالات مشابهة ومنها مثلاً الحرب في أوكرانيا والمسارعة إلى اتهام موسكو بارتكاب الجرائم والضغط من أجل إعلاء معايير حقوق الإنسان واحترام القانون الدولي، وكيف أنهم أنفسهم يغضون الطرف عن كل المخالفات “الإسرائيلية” لتلك القوانين والمعايير في قطاع غزة.
ختاما، فإن المطلوب هو أن يعيد الغرب تقييم نهجه، في تعزيز الدّيمقراطية وحقوق الإنسان على السّاحة الدّولية، وأن يتبنّى مواقف أكثر اتّساقًا مع المبادئ التي يدافع عنها، بغضّ النّظر عن الاعتبارات الجيوسياسية، فضلًا عن الانخراط في حوار بنّاء مع الدّول غير الغربية لمعالجة المخاوف المشروعة بشأن الاستعمار الجديد والإمبريالية الثّقافية.
وينبغي لصناع السّياسات والعلماء الغربيين، أن يفحصوا بشكل نقدي افتراضاتهم وتحيّزاتهم، فيما يتّصل بالدّيمقراطية وحقوق الإنسان، مع الأخذ بعين الاعتبار وجهات النّظر والتّجارب المتنوّعة من مختلف أنحاء العالم، التي ترافع لقيام نظام عالمي أكثر عدالة وإنصافًا، يقوم على مبادئ المساواة والعدالة واحترام الكرامة الإنسانية.

حرياتهم المعلنة وواقعنا المرير.. الديمقراطية بالسلاح
لطالما تباهى الغرب بدوره الريادي في مجال حقوق الإنسان والحريات الأساسية في صورة المدافع الأول عنها مقدّمًا نفسه كمرجعية أخلاقية عالمية، رافعا راية الدفاع عنها شعارًا ساميا مستندًا إلى إرث طويل من الثورات الفكرية والسياسية التي أسست لدساتير تضمن الحقوق وتروج للمساواة. ومع ذلك، تُظهر الممارسات الواقعية على المستويين الداخلي والخارجي تناقضًا صارخًا بين الشعارات المعلنة والسياسات المطبقة، مما يضع مصداقية الخطاب الغربي على المحك ويثير تساؤلات حول مصداقيته كمرجعية أخلاقية عالمية.
ارتبطت هذه الصورة بشعاراتٍ برّاقة تمجد العدالة والمساواة وحقوق الأفراد، مُدعمة أيضا إلى سلسلة من الثورات الفكرية والسياسية التي صاغت الدساتير ووضعت الأسس لتطبيق هذه المبادئ. ومع ذلك، يكشف الواقع عن تناقضٍ صارخ بين الخطاب الغربي المثالي وممارساته الفعلية، سواء على المستوى الداخلي أو الدولي. هذه الازدواجية المتجذرة ليست مجرد أخطاء عرضية، بل تعكس نمطًا تاريخيًا مستمرًا تُحركه المصالح السياسية والاقتصادية.
لكن هل هذا الشعار يتماشى مع الواقع العملي الذي نعيشه؟ هل ممارسات الدول الغربية تتوافق مع الخطاب النبيل الذي تصدعنا به؟ أم أن هناك فجوة هائلة بين الأقوال والأفعال تكشف زيف الادعاءات وتكشف عن وجه آخر لهذا الخطاب؟ كيف يمكن للدول التي تمارس التمييز والعنصرية في داخلها أن تدّعي الدفاع عن حقوق الإنسان في الخارج؟ وكيف يمكن تصديق دول تزعم الحرص على الديمقراطية وهي تنتهك سيادة الدول الأخرى وتدمر بنيتها التحتية؟
إن هذه الازدواجية لا تؤثر فقط على مصداقية الخطاب الغربي، بل تُلحق الضرر بمفهوم حقوق الإنسان نفسه، فبتشويه هذا المفهوم واستغلاله لأغراض سياسية، يتم تحويله إلى أداة للتدخل في شؤون الدول الأخرى وتبرير العدوان.
ولا يقتصر الأمر على التمييز الداخلي، بل يتعداه إلى التدخل في شؤون الدول الأخرى تحت ذريعة حماية حقوق الإنسان، فالحروب التي شنتها الدول الغربية على دول العالم الثالث، بدءًا من العراق إلى أفغانستان، باسم نشر الديمقراطية وحقوق الإنسان، لم تسفر إلاّ عن دمار وخراب وتهجير الملايين. وتحت ستار مكافحة الإرهاب، تمارس هذه الدول سياسات قمعية تقيد الحريات وتنتهك حقوق الإنسان بشكل صارخ.
على المستوى الداخلي، تتجلى مظاهر ازدواجية الغرب في قضايا التمييز العنصري والإسلاموفوبيا، حيث تُمارس سياسات تُناقض مبادئ المساواة التي ينادي بها. في الولايات المتحدة، على سبيل المثال، ما زالت الحوادث المتكررة للعنف الشرطي ضد الأقليات العرقية، لا سيما الأفارقة الأمريكيين، تُبرز التفاوت الواضح في تطبيق العدالة، فحركة “حياة السود مهمة” التي انطلقت بعد مقتل جورج فلويد عام 2020، كشفت عن عمق التمييز الهيكلي في مؤسسات يفترض أنها قائمة على مبادئ العدالة والمساواة.
كما أن قضايا تقييد الحريات باسم الأمن تُبرز هذه الازدواجية بشكل واضح، فبعد أحداث 11 سبتمبر، اعتمدت الدول الغربية قوانين تُتيح مراقبة المواطنين وتقييد حرياتهم تحت ذريعة مكافحة الإرهاب، وهو ما يتناقض مع الحق في الخصوصية وحرية التعبير. وعلى المستوى الدولي، تُستخدم شعارات الحريات وحقوق الإنسان كذريعة للتدخل في شؤون الدول الأخرى.
التدخل العسكري في العراق عام 2003 بحجة “تحقيق الديمقراطية” كشف عن أجندات خفية، حيث أدى إلى تدمير البنية التحتية للبلاد وخلق حالة من الفوضى، بينما فشلت الديمقراطية الموعودة في التحقق. وفي الوقت ذاته، تُغض الدول الغربية الطرف عن انتهاكات حقوق الإنسان في دول تُعتبر حليفة لها، متجاهلة شعاراتها عندما تتعارض مع مصالحها الاقتصادية والسياسية، ودعم أنظمة تُتهم بارتكاب انتهاكات جسيمة لحقوق الإنسان يُظهر بوضوح كيف يتم تطويع الخطاب الحقوقي لخدمة أجندات سياسية وانتقائية.
هذا التناقض الواضح بين الخطاب والممارسة أضعف المصداقية الأخلاقية للغرب عالميًا، فقد أصبح من الصعب على الدول الغربية أن تُقنع العالم بأنّها تحمل نوايا صادقة في الدفاع عن حقوق الإنسان والحريات، خاصة عندما تواجه انتقادات من دول في الجنوب العالمي، كلها تُشير إلى ازدواجية المعايير.
القيم المعلنة والممارسات اليومية.. تناقضات صارخة
إن ازدواجية الغرب دفعت العديد من الشعوب إلى التشكيك في قيمة المبادئ الغربية ذاتها، والنظر إلى التدخلات الغربية على أنها أدوات للهيمنة بدلًا من كونها مساعٍ لتحرير الشعوب، ثم إنّ ازدواجية الغرب في التعامل مع قضايا الحريات وحقوق الإنسان تُظهر أن المبادئ التي يدّعي الالتزام بها غالبًا ما تُوظف لخدمة مصالح سياسية واقتصادية، ومع استمرار هذه الممارسات، تتزايد التساؤلات حول شرعية الخطاب الغربي ومصداقيته، وإذا أراد الغرب استعادة ثقته على الساحة الدولية، فعليه أن يعمل بجدية لتطبيق المبادئ التي يروج لها، داخليًا وخارجيًا، بعيدًا عن الانتقائية والمصالح الذاتية.
تتجلى تناقضات صارخة بين القيم المعلنة والممارسات اليومية في قلب المجتمعات الغربية، على الرغم من التباهي بالمساواة والعدالة، نجد أن قضايا التمييز العنصري والإسلاموفوبيا تؤكد محدودية هذه الشعارات، حيث أظهرتتقارير في الولايات المتحدة، أن الأمريكيين من أصول أفريقية معرضون للتوقيف بنسبة تزيد على 2.5 مرة عن البيض. ووفقًا لإحصائيات عام 2022، فقد قُتل أكثر من 1200 شخص على يد الشرطة، مع ارتفاع ملحوظ في الحالات التي استهدفت الأقليات العرقية. أما في أوروبا فقد تصاعد خطاب الكراهية ضد المسلمين والمهاجرين، حيث شهدت فرنسا وحدها زيادة بنسبة 14 بالمائة في الهجمات العنصرية ضد المسلمين عام 2021، علاوة على ذلك، تُقيد الحريات الشخصية باسم الأمن القومي، خاصة بعد أحداث 11 سبتمبر، حيث أدى ذلك إلى موجة من التشريعات في الولايات المتحدة وأوروبا تُتيح مراقبة الأفراد وتقييد حقوقهم، مما يجعل القيم المعلنة مجرد واجهة لسياسات قمعية.
ازدواجية الغرب في الساحة الدولية
على المستوى الدولي، تتخذ ازدواجية الغرب أشكالًا أكثر وضوحًا للعيان كالتدخل العسكري حيث أدى الغزو الأمريكي للعراق في 2003، تحت ذريعة نشر الديمقراطية، إلى مقتل أكثر من مليون عراقي، وتشريد الملايين. هذا ولم تكن الديمقراطية سوى غطاء لتحقيق أهداف سياسية واقتصادية بحتة، حيث تركزت العقود النفطية بعد الحرب في يد الشركات الغربية الكبرى.
وبينما يُدين الغرب انتهاكات حقوق الإنسان في دول مثل الصين وروسيا، يغض الطرف عن الانتهاكات الجسيمة في فلسطين، فمنذ عام 2000، استشهد أكثر من 10.000 فلسطيني، بينهم آلاف الأطفال، دون أن يُمارس الغرب أي ضغوط فعلية على “إسرائيل”. أما العدوان الهمجيعلى غزة الأخيرة، فخلّفت منذ السابع أكتوبر 2023، 45 ألفا و658 شهيدا وإصابة 108 آلف و583 فلسطينيا.
وتستخدم المُؤسسات الدولية، مثل الأمم المتحدة ومجلس الأمن، لتكريس هذه السياسات، حيث يُمارس حق النقض (الفيتو) لحماية حلفاء الغرب، كما حدث في عشرات القرارات التي تدين “إسرائيل”، بينما تُفرض عقوبات قاسية على دول مثل إيران وفنزويلا، مما يزيد من معاناة شعوبها.
لا يمكن تجاهل البُعد الاقتصادي في ازدواجية الغرب، حيثتُسيطر الدول الغربية على المؤسسات المالية الدولية مثل البنك الدولي وصندوق النقد الدولي، وتُفرض شروط قاسية على الدول النامية للحصول على قروض، مثل خصخصة القطاعات الحيوية ورفع الدعم عن السلع الأساسية، وقد أدت هذه السياسات إلى زيادة الفقر بنسبة 20 بالمائة في بعض الدول. كما تُسهم وسائل الإعلام الغربية في تعزيز هذه التناقضات من خلال تغطيات منحازة، وعلى سبيل المثال، تُبرز الانتهاكات في روسيا والصين، بينما تُهمّش المآسي في اليمن أو سوريا، حيث تؤدي التدخلات الغربية إلى تفاقم الأزمات الإنسانية.
تصورات أخرى..
عند مقارنة التصورات الغربية لحقوق الإنسان بتصورات حضارات أخرى، يظهر بوضوح اختلاف جوهري، حيث يؤكد التصور الإسلامي على التوازن بين الحقوق والواجبات، مع إعطاء أولوية للمجتمع بجانب الفرد. أما التصور الآسيوي، فيستند إلى فلسفات مثل الكونفوشيوسية، التي تُركز على الانسجام المجتمعي والتنمية المشتركة، وهذا التنوع الثقافي يُبرز أن حقوق الإنسان ليست حكرًا على رؤية واحدة، بل يجب أن تُراعي السياقات المختلفة.
أسباب وآثار الازدواجية
لا يمكن تجاهل الدور الاقتصادي في تشكيل هذه الازدواجية، الدول الغربية، يليها الاستعلاء الثقافي، فتتم معاملة شعوب العالم الثالث كأدوات لتحقيق أهداف الغرب، وذلك نتيجة إرث استعماري طويل، لذلك تأتي ازدواجية المعايير في تطبيق انتقائي للقانون الدولي حسب موازين القوى، حيث أدت ازدواجية السّياسات الغربية إلى تقويض الثقة المتبادلة بين الدول، ممّا أدى إلى تعقيد العلاقات الدولية بشكل كبير. فباتت الدول تشكك في نوايا الغرب، وتخشى من أن يتم استغلال مبادئ حقوق الإنسان كأداة لتحقيق أهداف سياسية ضيقة.
هذا الشك المتبادل خلق بيئة من عدم الثقة والتوتر، حيث باتت الدول تفضل اللجوء إلى الحلول العسكرية أو الدبلوماسية المتشددة لحماية مصالحها، ما زاد من حدة الصراع والتنافس الدولي، كما أدت ازدواجية السياسات الغربية إلى تسريع ظهور نظام دولي متعدد الأقطاب، حيث تسعى دول أخرى مثل الصين وروسيا إلى تحدي الهيمنة الغربية.
هذا التنافس المتزايد قد أدى إلى تعقيد العلاقات الدولية بشكل كبير، حيث باتت التحالفات تتشكل وتتغير بسرعة، وزادت المخاطر من اندلاع صراعات واسعة النطاق وحالت دون إيجاد حلول مشتركة للمشاكل العالمية، مثل تغير المناخ والفقر.. ولقد أدت ازدواجية السياسات الغربية إلى تعقيد العلاقات الدولية، خاصة فيما يتعلق بالدول النامية. فمن جهة، تتطلع هذه الدول إلى التعاون مع الغرب لتحقيق التنمية، ومن جهة أخرى، تشعر بالشك والريبة تجاه نوايا الغرب، وهذا التناقض قد أدى إلى تعقيد العلاقات بين الشمال والجنوب، وجعل من الصعب تحقيق أهداف التنمية المستدامة..
وأخيرا، لقد أضعفت ازدواجية السياسات الغربية من دور المؤسسات الدولية، مثل الأمم المتحدة ومجلس الأمن، في حل النزاعات الدولية وحفظ السلام، فقد باتت هذه المؤسسات عاجزة عن اتخاذ قرارات حاسمة بسبب الخلافات بين الدول الأعضاء، مما زاد من تعقيد العلاقات الدولية وفتح الباب أمام التدخلات العسكرية أحادية الجانب.
ولتجاوز هذه الازدواجية، يجب تبني خطوات من بينها، تعزيز التعددية في النظام الدولي، بحيث تكون المؤسسات أكثر تمثيلًا لاحتياجات العالم النامي، بالإضافة إلى تقوية التعاون بين الدول النامية لبناء تحالفات توازن الهيمنة الغربية.. دون أن ننسى ضرورةإرساء خطاب عالمي جديد يُراعي تنوع الثقافات والحضارات، بدلًا من فرض نموذج واحد.
إن الازدواجية التي تُمارسها الدول الغربية ليست مجرد تناقضات عابرة، بل تعكس نظامًا عالميًا غير عادل يسعى للحفاظ على الهيمنة بأي وسيلة، فإذا أراد الغرب استعادة مصداقيته، فعليه التخلي عن خطاب القوة والهيمنة والعمل بصدق لتحقيق العدالة والمساواة، وعلى الشعوب والدول النامية أن تتحد لتشكيل نظام عالمي جديد أكثر عدلًا، يعترف بتنوع الثقافات ويُحقق التوازن بين المصالح والحقوق.
إن الفجوة بين الشعارات والممارسات في الغرب ليست وليدة الصدفة، بل هي نتيجة لتركيبة معقدة من العوامل التاريخية والسياسية والاقتصادية والثقافية، لفهم هذه الازدواجية بشكل كامل، يجب علينا أن ننظر إلى ما وراء الشعارات النبيلة، وأن نحلل المصالح الحقيقية التي تقف وراء السياسات الغربية.
إن مواجهة هذه الازدواجية تتطلب منا أن نكون أكثر نقدية تجاه الخطاب الغربي، وأن نطالب بمساءلة الدول الغربية عن ممارساتها، كما يتطلب الأمر بناء حوار بناء بين الحضارات والثقافات، للتوصل إلى فهم مشترك لحقوق الإنسان، وتأسيس نظام دولي أكثر عدالة ومساواة. علينا أن نميز بين الشعارات النبيلة والأفعال القبيحة، وأن نرفض أي محاولة لتشويه مفهوم حقوق الإنسان.. وعلينا أن ندعم جهود بناء عالم أكثر عدلًا ومساواة، عالم يحترم حقوق الإنسان لكافة الشعوب دون تمييز أو استثناء.

العدل الانتقائي.. عنصرية مغلّفة بشعارات الحضارة الغربية
المتأمل في واقع الغرب وفي أمريكا بشكل خاص، يلحظ أنهم مجرمون إرهابيون دمويون، يفتقرون إلى أبسط قواعد الإنسانية، بل إن قلوبهم معدومة من الرحمة؛ كيف لا وقد تكالبوا جميعًا مع الكيان الصهيوني في حرب إبادتهم على سكان قطاع غزة، فقتلوا النساء والأطفال، ودمَّروا البيوت والمدارس والمستشفيات وكافة مقومات الحياة، بلا رحمة وبلا هوادة وبلا إنسانية. وكل ذلك تم بدعم غربي سخيٍّ، شمل الجانب العسكري والمالي والمعنوي واللوجستي للكيان الصهيوني.
هذا الغرب الذي يدَّعي الحرية، سمح لرسامي الكاريكاتير بالاستهزاء بالرسول صلى الله عليه وسلم برسوم مسيئة تحت ذريعة حرية التعبير والرأي، بينما لو أنكر كاتب غربي الهولوكوست، وشكَّك فيه، فإنه تتم محاكمته وتجريمه وسجنه، كما حدث للمفكر الفرنسي (روجيه جارودي)، حيث تمت محاكمته عام 1998 بسنة سجن وغرامة مقدارها 120 ألف فرانك فرنسي، بحجة تشكيكه في الرواية الصهيونية للهولوكوست.
كذلك يحاسَب ويجرَّم كلُّ من ينتقد جرائم اليهود تحت عنوان (معاداة السامية)، وبالمقابل كل من يسيء إلى الإسلام أو القرآن الكريم، بل من يقوم بحرق المصحف الشريف لا يتعرض إلى أي مساءلة!
ومثال ذلك: ما قام به زعيم حركة اليمين المتطرفة في السويد (راسموس بالودان) بحرق نسخة من القرآن الكريم أمام السفارة التركية في العاصمة السويدية، ولم يتم مؤاخذته، تحت مسمى حرية الرأي.
من جانب آخر نجد في الغرب ازدواجية غريبة وعجيبة تنمُّ عن عنصرية متأصِّلة في نفوسهم؛ فهم يهتمون بحقوق الأقليات إذا كانت غيرَ مسلمة، ويطالبون بحمايتها ومنْحها كافة الحقوق، كما يحدث الآن في سوريا، بينما لا يكترثون بالأغلبية المسلمة إذا تعرَّضوا للاضطهاد أو دمار أو إبادة، كما حدث لباقي الطوائف في سوريا نفسها.
ومن مظاهر التمييز العنصري في الغرب: أنه إذا تعرض يهودي أو مسيحي لاضطهاد أو قتل، أقاموا الدنيا ولم يُقعدوها، وطالبوا بالقصاص والانتقام، بينما لو قام الغرب بقتل آلاف المدنيِّين الأبرياء من المسلمين، فلا يكلِّفون أنفسهم ولو بالاعتذار. وهذا ما حدث في أفغانستان والعراق وفلسطين.
ولو تأملنا واقع العنصرية داخل أمريكا لوجدنا أن إرث العبودية تجاه السود لا يزالحاضرًا، ويتجلى اليوم في التمييز العنصري ضد أصحاب البشرة السوداء، فهم أكثر الأفراد عُرضة للقتل على يد الشرطة، وبمعدل ثلاثة أضعاف، مقارنة بالأشخاص ذوي البشرة البيضاء، وفق تقرير صدر من الخبراء المعنيين بالنهوض بالعدالة والمساواة في أمريكا.
إضافة إلى ما سبق، فإن خطاب التحريض على كراهية الأجانب في الغرب، لاسيما ضد العرب والمسلمين اللاجئين منهم والمهاجرين، بدأت تجتاح العديد من الدول الغربية، خاصة من قِبل الحركات اليمينية المتشددة، وغالبًا ما يُستخدم العنف ضد المسلمين تحت مسمى مكافحة الإرهاب.
وقد كشف استطلاع للرأي العام أجرتها وكالة الاتحاد الأوروبي قَبْل عامين أن نسبة 92 بالمائة من المسلمين في أوروبا يعانون صورًا عدة من التمييز العنصري، وأن 53 بالمائة واجهوا التفرقة العنصرية عند محاولاتهم العثور على سكن، بسبب أسمائهم، وأنّ 39 بالمائة عانوا التمييز بسبب منظرهم الخارجي، عند سعيهم للحصول على عمل.
في الختام، هذا هو الغرب، له مظهر مخادع يروِّج للمساواة والحرية والعدالة للجميع، بينما واقعه الحقيقي خلاف ذلك.. واقع دموي إجرامي عنصري، يضع مصالح الرجل الأبيض فوق الجميع، حتى ولو كان فوق جماجم الآخرين، من غير بشرتهم البيضاء وعيونهم الزرقاء.

عصر العدمية.. حين تتحول الحريات إلى أدوات استعباد
على مدى قرون وبعد الثورة الفرنسية تحديدا اتخذ الغرب موقفا مُهما من الحريات الفردية، فأحد شعارات تلك الثورة كانت الحرية. ومن خلال هذا الشعار سوّق الغرب نفسه حاميا للحريات الشخصية، ولكنه فشل فشلا ذريعا في تسويق نفسه حاميا لحريات الآخر من الشعوب والأمم المستضعفة، بل على العكس من ذلك استعمر تلك الشعوب وحرمها من حقوقها وثرواتها، ونعتها بالتخلف والرجعية ونظر إليها نظرة عنصرية.
وبدا أن عصر الحريات الحقيقي لم يكن سوى مسحة فلسفية نظرية جاءت للتغطية على الجرائم التي ارتكبها الغرب بحق الشعوب، ومن الغرب انطلقت أسوأ ثلاث فلسفات عنصرية النازية والفاشية والصهيونية، فهذه الفلسفات التي تحولت إلى قوى إمبريالية تتخذ من الكراهية والعداء للأمم والأجناس الأخرى سبيلا لتحقيق ما أسمته الكبرياء القومي والوطني.
ورغم أن الغرب قد اكتوى بنار النازية والفاشية خلال حربين عالميتين والماركسية لاحقا، لم يتعلم الدرس، فرعى العنصرية في وجهها الأقبح وهو الصهيونية، هذه الحركة التي احتقرت الآخر عقديا وعرقيا، فهي تؤمن بالخرافات التلمودية التي تزعم أن اليهود شعب الله المختار، وبناء على ذلك فمن حقه سرقة فلسطين وقتل أهلها وتشريدهم والتفكير ببناء “إسرائيل” الكبرى من النيل إلى الفرات من خلال عقلية توسعية متوحشة.
ولذلك لا عجب أن يكون الخطاب الغربي تجاه الحريات مزدوجا، وحتى عندما يريدون تسويق الحريات في بلاد العالم الثالث ناقضوا أنفسهم فبدلا من نشر الديمقراطية التي يتغنون بها راحوا يرعون مستبدين ويساهمون في انقلابات عسكرية تَحرم الشعوب من الحرية الحقيقية في بناء دولهم ضمن ما يعتقدونه من أفكار ومبادئ، فتسوق لهم الشذوذ والانحطاط الأخلاقي والنسوية الفاجرة. ولم يوقّروا الرموز الدينية والتاريخية للأمم الأخرى فاستهزأوا بالرسل والكتب السماوية من محمد صلى الله عليه وسلم والقرآن الكريم حتى عيسى عليه السلام الذي يزعمون أنه إله يعبد من دون الله. فعلوا ذلك في السينما والرواية والشعر والرسم، ولكن ألسنتهم وفنهم وإعلامهم قصُر عن أن يمتد للصهيونية التي فعلت الأفاعيل بشعب فلسطين قتلا وتدميرا وسحقا للأطفال والنساء.
لقد كانت غزة مثالا صارخا على تلك الازدواجية فهذه “أبي مارتن” الصحفية الأمريكية تقول بوضوح لا لبس فيه “إن المجتمع الصهيوني مجتمع فاشي كامل الفاشية فأكثر من تسعين بالمائة من أفراده يؤيدون قتل الفلسطينيين وتدمير بلادهم واجتثاث جذورهم مستخدمين السلاح الغربي بكل أشكاله”. وهذا الرئيس الأمريكي المنتهية ولايته يقول “إن نتن ياهو هاجمه لأنه رفض الاستماع إليه في عدم قتل المدنيين بسبب ظن الصهاينة بوجود رجل “سيء” بينهم، لكن تبين لي أنه على حق لأنه كما قال لي هم من قتل شعبه” فهو يبرر للمجرم قتل الأطفال والنساء وتدمير المستشفيات والمدارس فوق رؤوسهم وحرقهم في خيامهم. يقول أوسكار لافونتين، وزير المالية الألماني السابق: “غزة دليل على عصر العدمية الغربية، حيث القيم غائبة والأكاذيب تسود.. أكثر ما صدمني في حياتي السياسية هو أن نصف أطفال غزة يتمنون الموت.. كارثة إنسانية صادمة تُشاهدها البشرية دون تحرك!”
لقد انتفض العالم الغربي في مظاهرات عارمة قادها شبابهم والأحرار عندهم ضد الهجمة الصهيونية، فماذا كانت ردة فعل الأنظمة الداعية إلى الحرية؟ سحل النساء واعتقال الطلاب والهجوم على مخيماتهم وطردهم من الجامعات بلا ذنب سوى أنهم رأوا الحقيقة التي طالما غيّبها الإعلام المتصهين. ولم يكتفوا بذلك بل سنّوا قوانين تدين كل من رفع علما فلسطينيا، أو تغنى بالحرية لها، أو من صرخ في وجه الساسة من رؤساء ووزراء ونواب نادوا بلا خجل ولا احترام لما يسمونه الحرية باستخدام كل الأسلحة التقليدية والمحرمة دوليا وصولا إلى استخدام القنبلة النووية ضد غزة كما قال السيناتور الصهيوني “لندسي غرام”.
لقد أزالت غزة من خلال صمود أهلها وتحملهم مالم يتحمله أحد من قبل المساحيق عن الوجوه القبيحة التي تتخفى وتتوارى خلفها خطابات كاذبة، وأظهرت أن الغرب ليس سوى شركة همها الاستعمار واستغلال الشعوب وتدمير الثقافات والحضارات الأخرى حتى تبقى مهيمنة ومسيطرة على الشعوب الأخرى.

“السلام الأمريكي”.. حقبة من الأكاذيب تحت رحمة النيران في غزة
بعد قرابة السنة ونصف من الإجرام الصهيوني والتواطؤ الأمريكي والصمت العالمي، وضعت حرب الإبادة في غزة أوزارها، ولئن كان من المبكر الآن تقدير حجم الانعكاسات التي خلفها السابع من أكتوبر 2023 على واقع الاحتلال ومستقبل المشروع الصهيوني في المنطقة العربية، فإنه من الواضح جدا أن الدور الداعم الذي لعبته الإدارة الأمريكية لحكومة الاحتلال في حربها الأخيرة قد سبب ضررا بالغا لصورة أمريكا في العالم، وأبان عن تراجع كبير لمستوى التزام واشنطن بالقيم والمثل التي طالما رافعت لأجلها، بشكل قد يُعجل بنهاية حقبة “السلام الأمريكي”. إن الشرخ الذي أحدثه الموقف الأمريكي المنحاز بشكل فاضح لصالح المشروع الصهيوني في المنطقة قد يسهم بصورة مؤثرة في تدهور مكانة أمريكا في نظر الرأي العام العالمي.
اتخذت الولايات المتحدة الأمريكية من انتصارها التاريخي على النازية في الحرب العالمية الثانية مصدر إلهام لتعزيز دورها في بناء قواعد العلاقات الدولية في مرحلة ما بعد الحرب، فنصبت نفسها راعية للسلام ومناصرة لتطلعات الشعوب للكرامة والحرية في مختلف مناطق العالم، سواء من خلال حضورها المؤثر داخل منظومة الأمم المتحدة أو عبر الأدوار التي مارستها في مختلف الأزمات والنزاعات التي عرفها العالم.
وعلى الرغم من أن مواقف الولايات المتحدة وتدخلاتها خلال العقود الماضية لم تكن دوما مستجيبة لما تمليه القيم والمبادئ الإنسانية، بل محتكمة في الغالب إلى مقتضيات المصلحة ونوازع الهيمنة، إلا أنها حافظت على مستوى ما من المصداقية في المحافل الدولية واستمرت خلال مرحلة الأحادية القطبية في قيادة العالم وفرض منطق “السلام الأمريكي” عبر وسائل القوة المادية المباشرة، أو عبر أدوات “القوة الناعمة”.
اعتبر الكاتب الأمريكي “جوزيف ناي” أن قوة أمريكا ومكانتها المهيمنة في مرحلة ما بعد الحرب الباردة لم تكن مستمدة فقط من عوامل القوة المادية أو ما يعرف بالأدوات الصلبة، بل كانت نابعة أيضا من المُثل والقيم التي تبنتها الإدارة الأمريكية ودافعت عنها في مختلف المحطات، حيث شرح في كتاب “ملزمون بالقيادة”، الصادر نهاية القرن الماضي فكرة أن قوة أمريكا ليست مرتبطة فقط بقوتها العسكرية والاقتصادية، بل إن مصدرها أيضا من قوتها الناعمة، أي جاذبية القيم والأفكار التي تتبناها، ورمزية سياستها الخارجية المنسجمة مع تلك القيم. فالعمل الذي قامت به وسائل الدعاية المختلفة ساهمت في الترويج لمثل وقيم الثقافة الأمريكية، لكن جاذبية تلك القيم كانت مرتبطة أيضا بمستوى التزام الإدارات الأمريكية المتعاقبة بنهج سياسي يعبر حقيقة عن تلك المبادئ.
إن جوهر القوة الناعمة يمكن في قدرة بلد ما الحصول على النتائج التي يريدها في السياسة العالمية لأن هناك بلدانا أخرى معجبة بمثله وتريد أن تحذو حذوه أو تتطلع إلى مستواه من الازدهار، فمن المهم اجتذاب الناس وجعلهم يريدون ما تريد، لتحقيق النتائج بأقل كلفة. بحسب “ناي” دائما فإن مصادر القوة الناعمة في السياسة الدولية تنشأ إلى حد كبير من القيم التي تعبّر عنها منظمة أو بلد ما في ثقافته، وفي الأمثلة التي تضربها ممارساته الداخلية، وفي الطريقة التي تعالج بها علاقته مع الآخرين، كتب “إدوارد هاليت كار” سنة 1939 يصف القوة الدولية بثلاث فئات هي: القوة العسكرية، القوة الاقتصادية، وقوة السيطرة على الرأي. إن موارد القوة الناعمة لأي بلد ما ترتكز على ثلاثة موارد: هي ثقافته (حين ما تكون جذابة للآخرين) وقيمه السياسية (حينما يطبقها بإخلاص في الداخل والخارج) وسياسته الخارجية (عندما يراها الآخرون مشروعة وذات سلطة معنوية أخلاقية).
من هذا المنظور فإن صورة أمريكا التي يراد ترويجها أو صناعتها، وجعلها مرجعية بالنسبة للبعض في مجال مناصرة تطلعات الشعوب والدفاع عن حقوق الإنسان تبدو غير متوافقة مع رصيدها المعتبر من انتهاكات حقوق الإنسان والتدخلات العسكرية السافرة في العديد من الدول كهايتي، الصومال، أفغانستان، والعراق وغيرها من المحطات التي ارتكبت فيها فظائع مخزية تحت ذرائع مختلفة. كما أن سجل الولايات المتحدة في المنطقة العربية بالذات يتضمن تاريخا حافلا بالتدخلات المنحازة والوساطات غير المحايدة خصوصا فيما يتصل بالصراع الدائر بالأراضي الفلسطينية المحتلة، حيث تبنت واشنطن سياسات داعمة للكيان المحتل خلال مختلف أطوار الصراع.
فعلى مدار العقود السبعة المنقضية من الاحتلال الصهيوني للأراضي الفلسطينية استعملت واشنطن حق النقض “فيتو” في أكثر من 49 مناسبة لمنع إصدار قرارات عن مجلس الأمن الدولي تدين الاحتلال الإسرائيلي، ووفرت دوما مستويات عالية من الدعم المادي والعسكري والسياسي لاستمرار المشروع الصهيوني في المنطقة، بشكل جعل منها وسيطا منحازا وراعيا غير مؤهل أخلاقيا لإدارة تسوية سياسية يمكن أن تحفظ الحد الأدنى من حقوق الشعب الفلسطيني.
يمكن النظر إلى السجل غير المشرف للمواقف الأمريكية المنحازة تجاه الكيان المحتل على أنه شكل من أشكال التواطؤ الخادمة للمشروع الصهيوني، لكن ما قدمته الإدارة الأمريكية خلال سنة ونصف من العدوان الوحشي على غزة يرقى إلى مستوى المشاركة المباشرة في جريمة الإبادة، فزيادة على الاستعمال المتكرر لحق الفيتو خلال أطوار الحرب الذي تجدد في أربع مناسبات عجز فيها مجلس الأمن عن إقرار وقف لإطلاق النار، فإن الدعم السياسي الذي عبرت عنه الزيارات المتوالية لكبار مسؤولي إدارة الرئيس المنقضية ولايته جورج بايدن، والدعم العسكري الذي بلغ مستويات قياسية، حيث ناهزت المساعدات العسكرية الأمريكية حدود 17.9 مليار دولار من الذخائر والأسلحة، قد شكّلا العوامل الرئيسية المساندة لحرب الإبادة ووفرا الدعم اللازم لاستمرارها على مدار 471 يوما متواصلة.
ربما كان من الممكن للولايات المتحدة الأمريكية أن تدير حملة علاقات عامة لترميم صورتها أمام الرأي العام العالمي خصوصا عبر ترويج نجاح مساعيها في فرض وقف للقتال وإقرار اتفاق لتبادل الأسرى وإنهاء الحرب، أو عبر قيادة مبادرات إعادة الإعمار لغزة، لو كان حجم الضرر يتعلق فقط بموقف الانحياز الجائر تجاه المحتل المتحدي لقرارات الشرعية الدولية، لكن إقدام الكونغرس الأمريكي على إصدار قانون يفرض عقوبات على أعضاء المحكمة الجنائية الدولية في حال أقروا متابعات ضد مسؤولين أمريكيين شكل سابقة نزعت عن الإدارة الأميركية ما بقي من مصداقية، ووسع حجم الفجوة التي باتت تفصل المبادئ عن الأفعال، بل إن دعوة الرئيس الأمريكي المنتخب حديثا دونالد ترامب لتهجير سكان غزة نحو الأردن ومصر، قد تشكل ملمحا آخر من ملامح الرعونة في السياسة الأمريكية خلال طور التراجع والتردي المنبئ بقرب نهاية حقبة “السلام الأمريكي”.

الديمقراطية في مرآة غزة.. الحقيقة تحت الأنقاض
فرضت الظروف الحياتية كالثورات الشعبية والاقتصادية والحروب العسكرية، ما نطلق عليه المفاهيم العلمية والسياسية والقانونية والاجتماعية، وتجلت هذه المفاهيم منذ العقد الاجتماعي الذي رفعت فيه شعارات العدالة والحقوق والمساواة.. إلخ، فضلا عن الثورات الحديثة التي انفجرت معها نظريات ومفاهيم ومبادئ أصبحت فيما بعد مسلمات ومقدسات، في الدوائر السياسية ودواليب أنظمة الحكم المختلفة؛ حيث تُفسر العلاقات والمشاكل والأحداث والظواهر في كنف هذه المفاهيم وتحت ظل منطلقاتها ومبادئها الأساسية؛ كمفهوم الديمقراطية والعدالة والحرية والمساواة.. إلخ.
وما هو معروف عن هذه المفاهيم كالديمقراطية على سبيل المثال؛ أنها تنافي كل حكم فردي أو حكم بعض الطبقات الاجتماعية التي تجمعها في الغالب مصالح مشتركة سياسية كانت أو اقتصادية أو دينية عقائدية.. إلخ، فجوهر الديمقراطية كما يسوق للجماهير الغربية قبل العربية هو حكم الجماعة أو حكم الشعب، وحرية الرأي والتعبير والمساواة بين المواطنين وكسر الحواجز والفوارق بينهم وبين نظام الحكم.
لكن العالم قبل السابع من أكتوبر 2023 (طوفان الأقصى) ليس هو نفسه بعد هذا التاريخ، فكل ماله علاقة بتلك المفاهيم بدوره قد تغير وتبدل؛ ما يعني أن تلك المفاهيم عرفت حركية كبيرة وتحولت مع تحول تلك الأنظمة السياسية والاقتصادية والتحالفات الدولية؛ أي أن بعضها تكيف مع خصوصية هذه المرحلة وبعضها الآخر أُعيد إنتاجه بما يتوافق ويتلاءم مع ظروف الزمان والمكان، وهذا ما نراه جليا وبوضوح وبكل شفافية إذا ما تعلق الأمر بعقيدة الغرب الحقيقية التي يؤمنون بها ويقدسونها ولا يؤمنون بغيرها، أو حتى برأي يخالف رأيهم ويتعارض مع مصالحهم! فدائما ما ينقلبون على أعقابهم ويترك الحبل على الغارب لتحقيق أهدافهم ومآربهم.
فها هي الوقائع والأحداث التي مضت – العدوان على غزة – تسقط القناع وتكشف المستور عن فحوى الكثير من المقدسات المفاهيمية والأعراف الغربية السياسية والقانونية والعسكرية، التي تضبط حسب زعمهم العلاقات الدولية في شتى أنواعها وفي جميع مجالاتها؛ كمنظمات القانون الدولي والأمن الدولي والأمم المتحدة ومراكز حقوق الإنسان وغيرهم، التي لا يلتزم بتعاليمها وبتشريعاتها وبرامجها غير الدول الضعيفة المقهورة المتخلفة والمغلوب على أمرها، قبل أن تلتزم بها الدول الأعضاء فيها والتي سهرت على إنشائها وتطويرها بحسب رؤية وأهداف أوليغارشية تحكمية استعمارية.
ها هي القضية الفلسطينية في محطتها الحاسمة مع طوفان الأقصى تبث للعالم صورا ومشاهد مروعة عن الإبادة الجماعية للشعب الفلسطيني في قطاع غزة، متجاوزةً حدود العقل البشري والمنطق العسكري الحربي وتعدت بكثير ما يصطلح عليه بالإنسانية، فأين هي منظمات حقوق الإنسان؟ وأين هي الحماية الدولية للأطفال وللأبرياء العزل؟ وأين هي العدالة والمساواة؟ وأين هي الديمقراطية التي تغنت بها الأنظمة الغربية…؟
ازدواجية المعايير الغربية.. بين التطبيق والواقع
في اعتقاد الكثير من الجماهير العربية أن الدول الغربية تحترم الديمقراطية والحريات وحقوق الإنسان وحقوق المرأة والطفل وحقوق العمال.. إلخ، وتدعو الحكومات لاحترامها والعمل بتشريعاتها وبقوانينها، ولكن في حقيقة الأمر أن تلك الدعوات معظمها أدوات ضغط لخدمة أجندات تلك الدول الغربية. فأنظمة الحكم الديمقراطية الغربية المزعومة قد فضحها الزمان والمكان وأجهزت عليها أحداث التاريخ وتطورها، فقد بنيت على شعارات زائفة بعيدة كل البعد عن الحقيقة وعن ممارسات الواقع، فالغرب نفسه لا يؤمن بتعاليم الديمقراطية وبمبادئها إذا ما تعلق الأمر بمصالح بعض الفئات والطوائف الدينية أو الطبقات الاجتماعية أو بعض النخب السياسية والاقتصادية…الخ، فتراه يرتد ويتنكر لمواطنيه وقد يسلبهم أو يحرمهم بعضا من حقوقهم.
في بعض الدول الأوروبية كإيطاليا مثلا التي تدعي الديمقراطية جعلت من الكنيسة الكاثوليكية مصدر إلهامها ولها الوصاية الكاملة على حياتها السياسية بالخصوص؛ فلا صوت يعلو فوق صوت الكاثوليك ولا قرار يلغي قرار الكنيسة، وإسبانيا كما هو مقر في دستورها أن الانتخاب حق فقط للإسبان الكاثوليك دون غيرهم من المواطنين من الديانات الأخرى.
كما كانت قيم الديمقراطية الغربية المزعومة واضحة وضوح الشمس في كيفية التعامل مع الانقلابات العسكرية؛ مثل ما حدث في تركيا وفي السودان والنيجر ومالي وتشاد وبوركينا فاسو وغينيا وغينيا بيساو والغابون، وها نحن اليوم نشاهد ونسمع خطابات الكراهية والتحريض عبر القنوات الفرنسية الرسمية وغير الرسمية، وعلى لسان حزب اليمين المتطرف الذي تغذيه وتدعمه الحكومة الفرنسية، الداعي إلى إثارة الفتنة والترويج لها داخل الجزائر مستخدما قضية الخائن صنصال والمؤثر الفرانكو-جزائري مطية لذلك، كما يعمل هذا الحزب ومن ورائه دائما فرنسا الكولونيالية على نشر التفرقة والتمييز العنصري بين الفرنسيين الأصليين وبين مزدوجي الجنسيات، وها هي طبائع فرنسا الاستعمارية تظهر مرة أخرى من خلال مزايداتها ومغالطاتها غير المسؤولة، وتهديداتها المتكررة ضد الجزائر وضد الصحراء الغربية، متنكرة بذلك ومتناقضة مع القانون الدولي الذي ينفي وينبذ كل عبارات التعالي والازدراء في العلاقات الدولية، وهناك الكثير.. الكثير من الأمثلة عن قيم الديمقراطية الغربية الواهية التي تكيل بمكيالين إذا ما تعلق الأمر بمصالحها.
فدائما ما تنكشف وتنفضح الديمقراطية الغربية العنصرية أكثر فأكثر في علاقاتها مع المستضعفين من البلدان (العربية والإسلامية خاصة)، فتشاهد أنواع الظلم والاستبداد والطغيان وأشكالا مختلفة من السطو والاغتصاب، وكله مُبرر بداعي التنمية الاقتصادية والاجتماعية والثقافية ورفع الغبن عن الشعوب المقهورة وتحريرها من طغيان حكامها الدكتاتوريين ونقل زيف الديمقراطية إلى هذه البلدان.
وقد سمعت وشاهدت شعوب العالم برمته الديمقراطية بحريتها وعدالتها ومساواتها التي نقلت إلى العراق وإلى اليمن وإلى تونس ومصر وسوريا وإلى ليبيا! وقد كنا أمس نرى بأم أعيننا عنصرية الديمقراطية الأمريكية والفرنسية والبريطانية والإيطالية والألمانية وكل ديمقراطيات العالم الغربي، التي تسمع لصوت شعوبها ومواطنيها وتسمح لهم بالمشاركة في سياساتها الداخلية والخارجية! كما تسمح لهم بالمساهمة في تقرير مصيرهم ومصير أوطانهم!
فقد خرج المواطنون الغربيون إلى الشوارع والساحات العمومية يتظاهرون ويحتجون على المجازر “الإسرائيلية” في قطاع غزة، وينادون جميعهم بصوت واحد “أوقفوا العدوان الصهيوني على أطفال وأبرياء غزة”. فدائما ما يخرج عليهم قادتهم ووُزارؤهم ومسؤولوهم بكل وقاحة بعدم السماح لهم مهما كلف الأمر بمعاداة السامية والوقوف ضدها، فيأمرون الأمن والشرطة بقمع الاحتجاجات المؤيدة للقضية الفلسطينية والمناهضة للعدوان الصهيوني الوحشي على قطاع غزّة، ويتخذون بذلك كل التدابير والإجراءات الصارمة ضد أي مظهر من مظاهر مناهضة الطغيان.
هذه هي ديمقراطية الديماغوجيين والفاشيين والفاسدين الغربيين التي فاح ريحها النتن بين شعوبها ومواطنيها قبل الرافضين والمعادين لها، فيرى فيها الكثير من الباحثين والمختصين والمهتمين الغربيين في الشأن السياسي وكنتاج لدراسات مراكز ومعاهد أمريكية وأوروبية متخصصة؛ أن الديمقراطية الغربية تتراجع في السنوات الأخيرة خاصة الأمريكية منها، فلقد أصبحت الديمقراطية الأمريكية واجهة لحكم الأقلية وأصبحت قاعدتها هشة تتبع النفوذ وتشترى بالمال.. إلخ، فهي تفقد كل مرة مصداقيتها وموثوقيتها بين شعوبها ومواطنيها.
حقوق الإنسان والحرية والديمقراطية الغربية في مهب الريح
بعد انكشاف الوجه الحقيقي للأنظمة الغربية ولأهدافها، وبعد ذوبان كل مساحيق التجميل التي طُليت بها مختلف المفاهيم السياسية الغربية (حقوق الإنسان والحرية والديمقراطية.. إلخ)، علينا مراجعة كل ذلك تبعا لخصوصيتنا المجتمعية الدينية والعقائدية والبشرية والجغرافية..، سواء تلك التي تنظم المجتمعات وتسيرها أو تلك التي تحكم العلاقات الدولية وتحددها، أو حتى المفاهيم التي تدرس في الدوائر العلمية والأكاديمية وفي مراكز البحث وفي المدارس والمعاهد والجامعات.
ولا نقول إننا لا نؤمن إيمانا مطلقا بتلك المفاهيم السياسية الغربية التي أقل ما توصف به أنها مهدت وأسست ونظرت لمختلف النشاطات والعلاقات؛ ولكن علينا أن نشكك فيها ونفهمها قبل أن نسقطها ونتبناها في تفسيرنا للواقع الذي نعيشه؛ لأن البيئة التي ظهرت وتطورت فيها غير البيئة التي نحاول فهمها، أو على الأقل تختلف عنها في بعض الخصائص السياسية والثقافية والاجتماعية والتاريخية.. إلخ، بالإضافة إلى جهلنا بالكثير عن ظروف وأسباب نشأتها وعن أهدافها وغايتها؛ فعلينا تبريرها قبل تحويرها وإسقاطها على واقعنا والعمل بمخرجاتها في حياتنا، وتمحيصها قبل تجاوزها ونقدها وإثبات نقصها أو ضعفها أو حتى فشلها قبل إغفالها أو مقاطعتها.
وهذا ما دأبت عليه المقاومة الفلسطينية في غزة بعد السابع من أكتوبر وبطريقة مغايرة ومختلفة تماما لما هو مألوف ومعروف، وبشكل أكثر ما يمكن قوله إنه ثوري يفضح الكثير من التجاذبات والعلاقات الاستراتيجية السياسية الغربية-الغربية، والغربية-العربية، ويميط اللثام عن الكثير من المفاهيم القديمة؛ وعن القوانين والمراسيم والمواثيق الدولية.. إلخ، كل ذلك يستدعي إعادة النظر في العادات والتقاليد والأعراف التي تحكم المجتمعات قبل القوانين الوضعية، وإعادة قراءة واقع المجتمعات خاصة الإسلامية منها قراءة مغايرة للنماذج التي قدمتها وتقدمها الدول الغربية، التي تحكمها ظروفا وعناصر وخصائص سياسية واقتصادية واجتماعية وثقافية.. إلخ، تختلف من دون شك عن تلك التي تحكم الحياة في المجتمعات العربية والإسلامية تحديدا.
علينا أن ننتبه جيدا كشعوب تابعة لا متبوعة إلى الهمجية والعنجهية التي يحملها بعض ممثلي الأنظمة الغربية التي تدعي الديمقراطية، ويتغنون بشعارات العدل والمساواة والحرية المزيفة، فهناك الكثير من أبناء تلك الديمقراطية يؤمنون إيمانا كبيرا بفقدان جاذبيتها وبريقها، كما يبدو أن بقاءها واستمرارها لا شك بفضل سطوة وقوة أصحابها، الذي ينافي أصلا مع مبادئ الديمقراطية الصحيحة وأهدافها الحقة.
وهذا ما أكده المجتمع الغزي الأبي بشكل أكثر ما يمكن قوله إنه راديكالي يميط اللثام عن المفاهيم الغربية القديمة ويغير قيمها بأساليب ثورية، فظهرت بذلك عناصر جديدة تفسر الواقع، بما في ذلك المفاهيم والقيم التي تضبط العلاقات الاجتماعية في المجتمع الواحد؛ مثل التكافل والتعاون والتضامن وحب والوطن والحفاظ عليه وعلى الهوية العربية والدينية والثقافية والتضحية لأجلهم بالنفس والنفيس.. إلخ، وعالم المثل الغربي المعبر عنه نظريا والمجسد في الكثير من كتابات الفلاسفة القدامى أصبح أمرا واقع بين الغزيين، فبالرغم من القتل والجرح والمرض والحاجة والفقر وانتشار الأمراض والأوبئة، لا اختلاس ولا اغتصاب ولا تعد على الممتلكات، بل تنقل لنا الأنباء وتسوق الأخبار عن السلوكيات الحضارية؛ مثل التسامح والتعاطف والتعاون ونكران الذات النابع عن الإيمان الصادق بثوابت الدين الإسلامي الحنيف.. إلخ.
وفي الأخير ليس فقط خطاب الحرية والديمقراطية الغربي من فقد مصداقيته بين مختلف شعوب العالم، بل حتى مفهوم القوة غيّره وبدّله أبطال طوفان الأقصى وأحرار الأمة الإسلامية، وتكسر معناه الكلاسيكي القديم على أسوار غزة، فالقوة ليست هي كثرة العدة والعتاد وليست هي كثرة عدد الجيوش والأفراد، بل هي الإيمان والإصرار والثبات على الحق والجأش والشجاعة والبسالة والإقدام والرجولة في الدفاع عنه، فبذلك حطمت المقاومة الإسلامية الفلسطينية كبرياء الغرب الاستعماري الهمجي الاستيطاني، وكشفت مخططاته ونواياه وأبانت عن ضعفه ومرغت هيبته المزعومة في ساحات الوغى، والشيء الوحيد الذي انتصر فيه الغرب المتصهين بخطاباته وشعاراته، هو قتل المدنيين الأبرياء من النساء والأطفال والرضع، والجرائم الشنيعة التي تبث بشكل يومي ومباشر على مرأى من العالم أجمع. فلقد أدرجت غزة نفسها في قاموس المفاهيم الحديثة كمرادف للمقاومة والصمود والنصر.

نهاية العرض الهزيل.. السياسة الدولية في سيرك ازدواجية المعايير
يشهد العالم ازدواجية في المعايير ونفاقا في إنفاذ القانوني الدولي، فمنذ حملة نابليون بونابرت عام 1801م وكذلك التدخل الألماني في المنطقة التي كانت تحت الاحتلال العثماني، وصولًا لتدخلات القوى المنتصرة في الحرب العالمية الأولى وخاصة بريطانيا وفرنسا وإلى اليوم ومع تشكليهم النظام الإقليمي والمشهد الدولي المناسب لمصالحهم وهيمنتهم ونهبهم، لم تكن المعايير والقوانين والإجراءات المتبعة واحدة في التعامل والاحتكاك مع شعوب ومجتمعات المنطقة.
وإذا قمنا برصد وتتبع ميثاق الأمم المتحدة ومجموعة القوانين الدولية والاتفاقات والمعاهدات الدولية والمؤسسات العالمية والإقليمية وهذا الكم الهائل من التشريعات بعد الحرب العالمية الثانية وإلى الآن وفي كافة الاختصاصات وخاصة تلك التي تتعلق بالشرعية الدولية وبالمقاربة والتفاعل القانوني الدولي مع ملف حقوق الإنسان وقدسية الحياة البشرية والنزاعات المختلفة وأهمية تحقيق الاستقرار نجد أن هناك كما هائلا من الترتيبات والتشكيلات والمؤسسات واللجان المختلفة في هذا الإطار.
لكن هل القوانين والمعايير الدولية الموجودة حققت المراد وحافظت على استقرار وأمن المجتمعات والشعوب وأنجزت العدالة والحق أو ساهمت فيه ولو بنسب معقولة وخاصة في الشرق الأوسط؟ بكل أسف إن هذه القوانين والتشريعات ضمن ما يعرف ميثاق الأمم المتحدة جيرت وأصبحت أداة للقوى الخارجية للتدخل في شؤون المنطقة وبالمثل للقوى السلطوية الدولية التابعة للقوى المهيمنة في إخضاع المجتمعات والشعوب وتصفية قيمنا وثقافاتنا وتنوعنا الغني تحت يافطة المحافظة على الدولة المركزية المشكلة عبر القوانين والأجهزة المنبثقة لتطبيق هذه القوانين المكرسة لحفظ السلطات والأنظمة والبعيدة عن روح العدالة والحق والمساواة والتشارك والأخوة في الحياة الإنسانية ومجالاتها المختلفة.
وهناك العديد من المقاربات والأمثلة تثبت النفاق الدولي وسياسة الكيل بمكيالين في كيفية التعامل والتفاعل مع قضايا شعوب المنطقة ومنها:
القضية الفلسطينية العادلة
حيث ورغم كل تجاوزات الكيان الإسرائيلي وممارساته إلا أن الغلبة في غالب الأحيان أو التفوق القانوني في المحافل الدولي هي للمعتدي “الإسرائيلي” وليس للفلسطيني المحق والمظلوم والمهدور حقه في أرضه وبيته، وذلك لأن “إسرائيل” تمثل نواة الهيمنة الإقليمية للنظام العالمي المهيمن.
ونستطيع القول إن المقاربة القانونية مرسومة ومحددة وفق مصالح الهيمنة العالمية على المنطقة والتي تمس حقوق العديد من شعوب دول العالم الثالث بما فيها حقوق الشعوب العربية والمثال على ذلك الاستعمار الفرنسي للجزائر وسوريا ولبنان والاستعمار الايطالي لليبيا والاستعمار البريطاني لمصر والمفارقة أن عددا من المؤسسات القانونية الدولية ومنها المحاكم التي هي أيضًا حالة تنظير قانوني وهياكل مؤسساتية وأجهزة للدول الرأسمالية والسلطوية العالمية وأدواتهم الإقليميون، تقول عن الجرائم المرتبكة بأن لها مبررات وتحتاج لمسارات قانونية يجب أن تقوم بها الدول وليس الشعوب والمجتمعات رغم كل الوثائق والأدلة، وكأنّ من ليس له دولة أو لا ترعاه دولة عليه الموت والانتهاء وهذا ما أفرزته القوانين الدولية التي لا يهمها سوى هيكل القانون وجسده وملامحه المخادعة وليس روحه العادلة والحقة وتطبيقه لأجل الإنسان والمجتمع أينما كان، ودليلنا القرارات التي صدرت من محكمة العدل الدولية بشأن حرب الإبادة في قطاع غزة وقرار محكمة الجنايات الدولية وإصدار مذكرتي اعتقال بحق نتنياهو وغالانت وقيام مجلس النواب الأمريكي بفرض العقوبات على العاملين في المحكمة بعد تجرئها على إصدار مذكرتي اعتقال بحق حلفاء أمريكا ليأتي تشريع النواب الأمريكي لتحصين هؤلاء الحلفاء من الملاحقة الدولية.
وحالة التخبط والفوضى الموجودة في الشرق الأوسط وحالة عدم الاستقرار والحروب الأهلية وحرب الإبادة الجماعية في غزة والمصائب وانعدام الحلول وتفشي الفوضى، هي بسبب القوانين وموضوع السيادة الوطنية في دول المنطقة، أصبحت أيضًا من المؤشرات على الازدواجية وحالة النسبية الكيفية حتى في القوانين والتعامل بين الدول وفق رغبة السلطات وليس وفق حقيقة هذه المفاهيم ومصالح المجتمعات والشعوب. فمثلا عندما تتدخل دولة في سيادة دولة أو شعب آخر ويتم انتهاك الحقوق ووحدة هذه البلدان والشعوب، فإن هذا التعبير القانوني أو إبداء الموقف يتوقف على مصلحة السلطة وعلاقاتها الإقليمية والتدخل الدولي فيها، ولعل حال العديد من دول المنطقة شاهد على حالة اللاسيادة أو السيادة الناقصة والقانون الكيفي والمقاربة الازدواجية، وكل محافل ومؤسسات القانون الدولي وتفرعاتها ومحاكمها ومنظماتها غير كافية لمعاقبة دولة أو سلطة على تجاوزاتها ولها نفوذ وقوة مؤثرة حتى لو كانت باغية وغازية ومعتدية أو أنه يتم التغاضي عن سلوكياتها الإجرامية لكونها إحدى الأدوات المهمة لتنفيذ الأعمال اللاقانونية للهيمنة العالمية الاحتكارية كحالة “إسرائيل” وتركيا ودول عديدة كونها أحد أدوات الهيمنة العالمية في المنطقة.
الغرب وحقوق الإنسان
بدأت الأفكار الغربية التي تتمحور حول الإنسان وحقوقه بالظهور في القرن السابع عشر في غرب القارة الأوروبية، بعد بروز فكرة المواطنة في الدولة. تدور هذه الفكرة حول أنَّ للمواطن في الدولة حقوقًا، ومن واجب هذه الدولة احترامها وعدم التعدي عليها، ثم كثر الحديث عن هذه الحقوق، وأصبح مصطلح حقوق الإنسان أكثر رواجًا في القرن الثامن عشر في فترة الاستقلال الأميركي الذي جاء إعلانه بمقولة: “كل البشر خلقوا متساوين”.
ولا يمكن إغفال شعارات المساواة والحقوق والتطلّعات نحو حياة كريمة، التي تجسّدت في ثورة الشعب الفرنسي في العام 1789، والتي ولدت من رحم معاناة الطبقة الثالثة في المجتمع الفرنسي آنذاك؛ المجتمع الذي صاغ فلاسفته مبادئ الحرية والعدالة والمساواة، ووضعوا الحجر الأساس لتطور مفاهيم حقوق الإنسان، وجعلوا مسؤولية حمايتها على عاتق المجتمع الدولي.
تبِع هذا المسار التصاعدي في تكوين نظرية تَساوي الحقوق بين البشر، توالٍ للأحداث بين انتهاكات لحقوق الإنسان من جهة تجاه الشعوب المستعمرة في الحقبة الاستعمارية أوفي المجتمعات الغربية نفسها تجاه النساء والفقراء وذوي البشرة السمراء، وتكثيف اهتمامات ودعوات للدفاع عن حقوق الإنسان من جهة أخرى، إذ تم إنشاء منظمات وهيئات محلية ودولية، مثل عصبة الأمم والأمم المتحدة، وكان الإعلان العالمي لحقوق الإنسان في العام 1948.
من منظّرين إلى منتهِكين
في العام 1945، صدر ميثاق الأمم المتحدة الذي ينص في فقرته رقم 55 على أنَّ المجتمع الدولي يتحمل مسؤولية إشاعة احترام حقوق الإنسان والحريات الأساسية للجميع، بلا تمييز بسبب الجنس أو اللغة أو الدين.
وفي العام 1948، تم إنشاء منظمة الإعلان العالمي لحقوق الإنسان، وصادقت عليها معظم دول العالم، كما ألزمت جميع الدول عامة، والدول الغربية بشكل خاص، نفسها باحترام حقوق الإنسان في عدد من المواثيق والاتفاقيات، مثل الميثاق الأميركي لحقوق الإنسان في العام 1950 واتفاقية هلسنكي 1975.
أما على الصعيد الشعبي، فقد سارعت الشعوب في العديد من الدول الديمقراطية إلى إنشاء مؤسسات غير حكومية معنية بمراقبة مدى التزام الدول باحترام حقوق الإنسان، مثل منظمة العفو الدولية وبيت الحرية الأميركي، حتى باتت شعارات الحريات والمساواة وعدم التمييز العنصري ثقافة في العالم، يُخيّل إلى الأغلب الأعم من البشر أنَّ رائدها هو الشعوب الأوروبية والأميركية، والساعي إليها لا بدَّ من أن يمر بمراحل تطور فكرية ونفسية، وأن يعبّئ فكره بأفكار وآراء جديدة، وأن ينظر بمنظار غربي إلى الأحداث والأمور، حتى يملأ فجوة التخلف بينه وبين الإنسان الغربي المتحضر، ويكون أقرب ما أمكنه إلى ذلك النموذج الغربي الذي يتوجب تعميمه على جميع البشر، لأنه، بحسب ما يتصوره، النموذج الأصلح والأمثل للإنسان صاحب القيم والمبادئ.
وعلى الرغم من وجود هذه المنظمات والهيئات الحكومية وغير الحكومية، فإننا نشهد عددًا غير قليل من انتهاكات حقوق الإنسان في العالم، والتي لم تكن محط اهتمام العالم الغربي الديمقراطي، بل إنَّ عددًا ليس قليلًا من هذه الانتهاكات كانت دول تتغنى بهذه الحقوق والقيم والمبادئ مسؤولة عنه أو كانت ترعى أنظمة قامت به، فما الذي جعل دول الغرب – المدافع الأول عن حقوق الإنسان والحاضنة لها – المنتهك الأول لهذه الحقوق؟
تفرّدت الولايات المتحدة الأميركية بهيمنتها على العالم بعد تعزيز العلاقات بينها وبين الدول الأوروبية وإنشاء حلف شمال الأطلسي في مواجهة المد السوفياتي، إلى أن انتهت الأحداث بانهيار الاتحاد السوفياتي واندثار الفكر الشيوعي مقابل التوجه الرأسمالي، إذ أصبحت لها اليد الطولى على حلفائها، كما على أعدائها، وراحت ترعى مصالحها في العالم من خلال سياساتها الخارجية، إذ يكاد لا يخلو المشهد السياسي في العالم من تدخلات الولايات المتحدة الأميركية في سياسات الدول الداخلية، وخصوصًا دول العالم الثالث.
تأتي هذه التدخلات، تحت شعارات مواجهة الإرهاب ونشر الديمقراطية في العالم، مصحوبةً بحملات إعلامية ضخمة وواسعة من أجل تعزيزها بتأييد محلي وعالمي، بل إن تدخلات الولايات المتحدة الأميركية لم تكن فقط تدخلات سياسية. على العكس، إن ما شهده عدد من الدول في العالم من نكبات وحروب وانتهاكات لحقوق الإنسان كان بتوقيع أميركي، وبحسب ما نشرته البعثة الدبلوماسية الصينية في موسكوفي تغريدة في موقع “تويتر”، قامت الولايات المتحدة الأميركية بمهاجمة أو قصف 33 دولة بعد الحرب العالمية الثانية.
وكما تشير دراسة تكاليف الحرب التي أجراها معهد واتسون للشؤون الدولية والعامة في جامعة براون، فإن عدد ضحايا الولايات المتحدة الأميركية بحجة محاربة الإرهاب منذ العام 2000 حتى اليوم تخطى 929 ألف شخص، وتسبّبت العمليات العسكرية الأميركية في أفغانستان بمقتل 174 ألف شخص، من بينهم أكثر من 30 ألف مدني، وإصابة أكثر من 60 ألف شخص، فضلًا عن الصور والمشاهد الموجعة لجنود أميركيين يعذّبون مساجين بأبشع أنواع التعذيب التي انتشرت في السجون، مثل سجني أبو غريب وغوانتنامو.
إنَّ القيم والمبادئ والمسميات الجميلة هي مفاهيم وتصورات وسلوكيات تدغدغ المشاعر، ولها اعتباراتها وقيمتها في حياتنا المعاصرة، لكنها تتحول إلى شيء آخر، أو نستطيع القول، يظهر وجهها القبيح في لحظة حسم الخلاف مع الآخرين أو المساس بالمصالح الخاصة.
بين لاجئي أوكرانيا ولاجئي العراق في أوروبا
بعد مرور حوالي 3 سنوات على بدء الحرب بين روسيا وأوكرانيا، التي ليس خافيًا على أحد، دور ومدى قوة الماكينة الإعلامية التي تضخّ كمًا هائلًا من الأكاذيب والتضليلات فيها، لكسب تعاطف شعبي مع أوكرانيا المدعومة من الغرب لمواجهة روسيا، العدو الأعظم للأميركيين، ظهر الوجه الخفي لذاك الغرب المتحضر، وطفت العنصرية والتمييز على وجه أوروبا، فكان الانتهاك الأخلاقي لأدنى حقوق الإنسان بحسب اللون والجنس والدين، وكان سلب الحق بالحياة بحسب اللون والجنس والدين، وصار ذوو البشرة البيضاء والشعر الأشقر والعيون الملونة أحق بإجلائهم من مناطق النزاع والمعارك من ذوي البشرة السمراء والعرب، وبات المسيحيون أحق بالإجلاء من المسلمين، والأوروبيون أحق بالبقاء من أبناء البلاد الفقيرة والبعيدة، من أمثال العراقيين والسوريين.
هذا ما قاله إعلام مسئولين غربيين، فقد قال أحد مراسلي شبكة “CBS” الأميركية، شارلي داجاتا، إنَّ مقارنة غزو أوكرانيا بالحرب في العراق أو أفغانستان غير ممكن، لأنَّ حرب أوكرانيا “أكثر تحضرًا، وشعبها أوروبي”، وأوضح أن “أوكرانيا متحضرة نسبيًا وأوروبية، وهي دولة لا تتوقع فيها حدوث الحرب أو تأمل ألا يحدث ذلك”.
رئيس وزراء بلغاريا كيريل بيتكوف، قال في تصريح متلفز: “اللاجئون الأوكرانيون ليسوا من اللاجئين الذين اعتدنا عليهم، لذلك سنرحب بهم، هؤلاء أوروبيون وأذكياء ومتعلمون، ولا يملكون ماضياً غامضاً، كأن يكونوا إرهابيين”.
وتضمّنت برامج في قناة “BFM” الفرنسية اليمينية خطابًا شبيهًا منذ بداية الغزو الروسي، شمل عبارات مثل: “نحن لا نتحدث عن سوريين يهربون من قصف نظامهم المدعوم من بوتين، بل نتحدث عن أوروبيين يقودون سيارات كسياراتنا”، بينما قالت صحيفة “التلغراف” البريطانية: “هذه حرب مختلفة. إنها حرب ضد أناس أوروبيين يشبهوننا ويستخدمون نتفليكس وإنستغرام، وليست حرباً ضد بلاد بعيدة وفقيرة”.
وأخيراً، أوضح نائب المدعي العام السابق لأوكرانيا أنَّ الصراع بين روسيا وأوكرانيا كان عاطفيًا للغاية بالنسبة إليه، نظرًا إلى كونه شمل “قتل الأوروبيين ذوي العيون الزرقاء والشعر الأشقر”.
أتى ذلك مضافًا إلى ما سبق هذه الحرب من استعداد لها وتدريب للمواطنين الأوكرانيين من قبل منظمات عسكرية على أجواء حرب محتملة مع الروس. بمعنى آخر، تمّ إنشاء حركات مقاومة أوكرانية للدفاع عن أرضها في مواجهة أيّ هجوم عسكري روسي محتمل داخل الأراضي الأوكرانية. يقول المُدرب سيرغي فيشنيفسكي: “اعتاد الناس في المدن الكبرى على واقع أن النزاع بعيد منها، وهم يدركون حاليًا أن الحرب يمكن أن تصل إليهم”.
نعم، من المعروف أن القانون الدولي أعطى الأهمية الكبيرة لمبدأ حق الشعوب في تقرير المصير، وحقها في الدفاع عن النفس، وحق الإنسان في العيش بحرية وكرامة. بالتالي، من وجهة نظر حقوقية دولية وعالمية، من حق المدنيين الأوكرانيين حمل السلاح وتعلم كيفية استخدامه وامتلاك خبرات قتالية، وهناك دعوات للأجانب للالتحاق بصفوف المقاتلين، على لسان الرئيس الأوكراني فلودومير زيلينسكي، من أجل الدفاع عن أوكرانيا ومواجهة الروس، مقابل إعفاءات من تأشيرات الدخول.
أما في المقلب الآخر، في بلدان العالم البعيدة عن الغرب، حيث تنتشر القواعد العسكرية الغربية في مناطق مختلفة من أجل حفظ المصالح على اختلافها، سواء كانت سياسية أو اقتصادية أو عسكرية، وعلى رأسها مصالح الكيان “الإسرائيلي” الذي يعتبر خط ارتكاز رئيسي متقدمًا للغرب في منطقة الشرق الأوسط، فإن اقتناء السلاح واستعماله للمقاومة من أجل الدفاع عن الأرض والثروات ومواجهة المحتلّين والغزاة يعتبر إرهابًا وحجَّة للتدخل العسكري الغربي أو دعم الأنظمة التي ترعى مصالح الغرب في المنطقة من أجل القضاء عليه.
خطط أمريكا للسيطرة على العالم
ستظل الولايات المتحدة تبحث عن طرق ووسائل ليس لنشر ديمقراطيتها في العالم للهيمنة والسيطرة على هذا العالم الذي كان يظن أن دولة أمريكا يمكن أن تغير وتبحث عن أدوار أخرى مثل نشر ثقافة السلام والتعايش ونصرة الضعيف والتصدي لأي مؤامرة تستهدف تدمير العالم ومن أروع ما كتب عن نظرية الهيمنة والسيطرة التي تطبقها أمريكا الآن للاحتلال العالم دون أي خسائر مالية أو بشرية هو ما سطره نعوم تشومسكى المفكر الأمريكي اليهودي المعروف في كتابه “الهيمنة أم البقاء: سعى أمريكا للسيطرة على العالم” الذى يحلل وبتدرج تاريخي ومنطقي سعى أمريكا للتفوق العالمي، ويتتبع السياسات الأمريكية الحثيثة لتحقيق سيطرة كاملة وشاملة وبأي ثمن، ويبين وبشكل لا يدع مجالاً للشك أن ما تجلّى مؤخرًا من سياسة للسيطرة الكونية ابتداء بأحادية القوة إلى تفكيك الاتفاقيات الدولية وانتهاءً بإرهاب الدولة، وتسليح الفضاء يتفق تمامًا مع الرغبة الجامحة بالهيمنة التي تتهدد بقاء البشرية وسلامتها.
منذ بدايات العام 2003 والدراسات تشير إلى مخاوف عالمية متزايدة من الولايات المتحدة التي وصلت لدرجة عالية من الهيمنة والسيطرة، بالإضافة إلى عدم ثقة بقيادتها السياسية، غير أنه بالرغم مما تبدو عليه الإدارة الأمريكية الحالية ومخططيها من تطرف فإن برامجها ومناهجها لها جذور في التاريخ الأمريكي الطامح للسيطرة الكونية، فهناك وفرة في التاريخ تُظهر استعداد القادة السياسيين للتهديد باللجوء للعنف وجّه مخاطر كارثية محققة، إلا أن الخطر أكبر بكثير اليوم، فالخيار بين البقاء أو الهيمنة لم يكن بهذه الحدة التي نشهدها اليوم.
أعلنت أمريكا في العام 2002 عن أجندتها الاستراتيجية الكبرى التي صرحت بنية أقوى دولة في التاريخ الإبقاء على هيمنتها عبر التهديد باستخدام القوة العسكرية. وفى تلك الأجندة الاستراتيجية الإمبريالية أكدت الولايات المتحدة عزمها على القيام “بحرب وقائية”، وليس حربًا دفاعية.
وهي مختلفة عن الحرب الدفاعية، بل إنها تقع ضمن جرائم الحرب، خاصةً إذا كانت فعلًا تتم وفقاً لـِ “مَنْ جاء دوره”، وهكذا فإن العالم بالتأكيد في مأزقٍ كبير.
لقد اُستغلت أحداث 11 سبتمبر لبناء نموذج سيطرة جديد قام بتفكيك القانون والمؤسسات الدولية ومنح البيت الأبيض السلطة لتجاهل سيادة القانون المحلى، وتم اعتماد تعريف مناسب للإرهاب، فهو ما يراه البيت الأبيض كذلك. وإن كان هذا التبلور ليس بسابقة، فأداء الإدارات الأمريكية المتعاقبة سواء في أمريكا اللاتينية أو الشرق الأوسط أو أوروبا الشرقية أو شرق آسيا كله يتبع سياسة خارجية واحدة لا علاقة لها بالعدالة واحترام حقوق الإنسان.
ولم تكن السياسة الخارجية وحدها المستفيدة من توظيف أحداث 11 سبتمبر، بل إن الإدارة استغلت تلك الأحداث وتحت شعار الوطنية والأمن الوطني وطبقت عددًا من الإجراءات المتطرفة التي في نهاية المطاف أفادت الأغنياء وأضعفت البرامج الاجتماعية التي تخدم حاجات الأغلبية العظمى وزادت في انصياع السكان المرعوبين لسيطرة الدولة، ذلك أن تقليص الخدمات الحكومية وتخفيض الضرائب وزيادة الصرف الحكومي على التسليح لم يستفد منه سوى الأغنياء وشركات التكنولوجيا المتقدمة، وهذا السيناريو الذى يوظف الخوف ليس بالشيء الجديد فسياسات ريغان وبوش الأب من قبله التي أسفرت عن وضع اقتصادي متدهور وتفاوت كبير في توزيع الثروة وتغول أصحاب رؤوس الأموال، جعل تلك الإدارات أيضًا تلجأ إلى اختراع الأعداء والحروب الواحد تلو الآخر مرة على الساحة الخارجية كالحرب في أمريكا اللاتينية ومرة على الساحة الداخلية كالحرب على المخدرات والمتشردين»، وذلك لإبقاء الدعم الشعبي وراء الإدارة وشغله عن المهم.
إشكالية السيطرة
مع تراجع الدور البريطاني في الشرق الأوسط والتدخل الأمريكي لاستلام ذلك الدور، كانت السياسة الأمريكية بحاجة إلى دولة دخيلة تعمل كشرطة محلية وتحفظ المكتسبات الاستراتيجية الأمريكية في المنطقة. وهكذا أصبحت “إسرائيل” مع استمرار الدعم لها وباستثناء ترسانتها النووية من الحظر والتفتيش، أكبر قوة عسكرية في المنطقة، فـ “إسرائيل” عبارة عن قاعدة عسكرية وتكنولوجية لأمريكا، فعصب الاقتصاد فيها مرتبط بنظام عسكري تكنولوجي ذو علاقة قوية بالاقتصاد الأمريكي.
وهذا يفسر تحول الموقف الأمريكي فيما يتعلق بسياسات “إسرائيل” في الأراضي المحتلة وما تمارسه من إرهاب ضد السكان، إذ انتقل من تبنى وجوب تطبيق المواثيق الدولية في الأراضي المحتلة إلى الامتناع عن التصويت، كما حدث إبان عهد بيل كلينتون أو إلى تجاهل تلك المواثيق تمامًا والاستخفاف بها كما في عهد بوش الابن.
شهدت السنوات الأخيرة في القرن الماضي سجلاً من الإرهاب نفذ بدعم من القوة العظمى وحلفائها، والسبب بسيط، فيمكن الحصول على العديد من الفوائد كالمال والخيرات المحروم منها الضعفاء، ومن ذلك المساعدات التي تلقتها نيكاراغوا وتركيا وكولومبيا والسلفادور لقمع مواطنيها، وهي حالات تعتبرها الولايات المتحدة ناجحة بالرغم من الدمار الاقتصادي والسياسي والاجتماعي الذي ألحقته السياسات الأمريكية بها، بل إن أمريكا تريد تكرار هذا “النجاح” في الشرق الأوسط عبر الحملة المحمومة نحو “الديمقراطية”.
تعتقد الباحثة كريستيل جينو، أنّ القوى الغربية تخاطر بمصداقيتها، حين تدافع عن حقوق الإنسان بمعايير مزدوجة، بينما تحاول حشد تأييد بلدان الجنوب داخل الأمم المتحدة، في مواجهة النفوذ الصيني المتنامي، وحسبها فإن موقفها غير العادل هذا، يشكّل معضلة جسيمة.
وخاتمة القول عندما يكون الصدام بين القيم الإنسانية والحقوقية من جهة، والمصالح المادية للدول من جهة أخرى، من المؤسف أن تسقط هذه القيم وتندثر، بينما تنتصر المصالح المادية، ومن المؤسف أيضًا أن منظّري الحقوق لا يعترفون بها إلا عندما تستعمل كسلاح ضد خصومهم، هذه النظرة وهذه الفلسفة مردّها الازدواجية في تطبيق حقوق الإنسان.