في مشهد يزداد قتامة يومًا بعد يوم، تتسارع آلة القمع الصهيونية في الضفة الغربية، حيث تلتهم المستوطنات الأراضي، وتجرف الجرافات المنازل، بينما تتحول المدن الفلسطينية إلى ساحات مواجهة مفتوحة. لم يعد ما يحدث مجرد تصعيد عابر، بل أصبح استراتيجية ممنهجة تهدف إلى اقتلاع الفلسطينيين من جذورهم، وفرض واقع استيطاني جديد بقوة السلاح والتنكيل. وهذا ما أشار إليه منسق الأمم المتحدة للسلام، تور وينسلاند، حين أعرب في سبتمبر 2024 أمام مجلس الأمن عن “قلق عميق” من التوسع الاستيطاني والعنف، محذرًا من “تهديد وجودي” لما يسمى بحل الدولتين. بينما اتهم ممثل روسيا “إسرائيل” بـ”التطهير العرقي” بدعم أمريكي، ووصف مندوب الجزائر الوضع بـ”حافة الهاوية”، مؤكدًا أن سلطة الاحتلال تخلق واقعًا جديدًا في الضفة.
وبالفعل، تحولت الضفة -منذ السابع من أكتوبر 2023- إلى مسرح لجرائم الاحتلال بأبشع صورها، حيث تتواصل عمليات القتل بدم بارد، وتتصاعد حملات التهجير القسري، ويُحكم الحصار على المدن والبلدات، بينما يُمنح المستوطنون الضوء الأخضر لتنفيذ اعتداءاتهم الوحشية على الفلسطينيين دون رادع. العالم يراقب، والدبلوماسية الدولية تكتفي بالإدانات الخجولة، بينما تواصل “إسرائيل” تنفيذ مخططها القاضي بضم الضفة الغربية خطوةً بعد أخرى.
لم يكن هذا التصعيد وليد اللحظة، بل هو حلقة جديدة في سلسلة طويلة من السياسات الممنهجة التي تديرها سلطة الاحتلال بقبضة من حديد. ووفقًا لتحقيق أعدته وكالة “سند” للرصد والتحقق الإخباري، فإن “إسرائيل” تسعى لإعادة رسم خارطة الضفة الغربية بآلية مدروسة تمهيدًا لضمها بالكامل. ويقود هذا المخطط وزير المالية الصهيوني بتسلئيل سموتريتش، الذي يتمتع بنفوذ واسع داخل الإدارة المدنية، ويتحكم بشكل مباشر في عمليات المصادرة والهدم، بينما يتحول المستوطنون إلى ميليشيات مسلحة تمارس الإرهاب تحت غطاء “الجيش” الصهيوني.
في سباق محموم مع الزمن، تواصل “إسرائيل” تنفيذ مخططها للسيطرة على الضفة الغربية، بينما تصعّد من سياسات القمع والتنكيل بالفلسطينيين. فبينما يستمر عدوانها الوحشي على قطاع غزة، لا تتوقف جرافاتها عن تدمير المنازل وسلب الأراضي في الضفة، في مشهد يعكس ذروة التصعيد الذي تشهده المناطق الفلسطينية.
منذ السابع من أكتوبر 2023، اجتاحت الضفة الغربية موجة غير مسبوقة من العنف الممنهج، تجسّدت في عمليات قتل جماعي، وهدم واسع للمنازل، وحصار خانق طال مدنًا وبلدات فلسطينية. وتصاعدت وتيرة الاستيطان إلى مستويات قياسية، حيث تجاوزت عمليات الاستيلاء على الأراضي ما تم نهبه خلال أكثر من عقدين، في خطوة تعكس اندفاعًا محمومًا نحو فرض واقع استيطاني جديد. وفي ظل هذه التطورات، تصدّر المستوطنون المشهد، محولين الضفة إلى بؤرة للإرهاب المنظم، عبر شنّ اعتداءات متكررة تهدف إلى تهجير الفلسطينيين قسرًا، وفرض وقائع جديدة تخدم الأهداف الصهيونية بعيدة المدى.
التحقيقات تكشف أن هذا المخطط ليس مجرد تصعيد عشوائي، بل استراتيجية متكاملة لإعادة هندسة جغرافية الضفة، بما يضمن السيطرة الكاملة عليها. ويتولى سموتريتش، أحد أبرز عرّابي هذه الخطة، تنفيذها بتنسيق وثيق مع المستوطنين، الذين أصبحوا جزءًا أساسيًا من آلة الاحتلال، يمارسون القتل والنهب تحت حماية “الجيش” الصهيوني.
تكثيف الاستيطان وسلب الأراضي
التصعيد العسكري في الضفة الغربية ليس وليد معركة “طوفان الأقصى”، بل سبقه ارتفاع واضح في وتيرة العنف الصهيوني ضد الفلسطينيين. ففي عام 2022، وثّقت الأمم المتحدة استشهاد 154 فلسطينيًا، وهو الرقم الأعلى منذ بدء التوثيق المنهجي في 2008، بمتوسط 13 شهيدًا شهريًا. هذا الرقم تضاعف في 2023، حيث استُشهد 35 فلسطينيًا في يناير وحده، أي ما يقارب ثلاثة أضعاف المعدل الشهري للعام السابق.
ومع حلول السادس من أكتوبر 2023، أي قبل يوم واحد فقط من انطلاق “طوفان الأقصى”، بلغ عدد الشهداء الفلسطينيين في الضفة 198، متجاوزًا بذلك حصيلة 2022 بأكمله. وبعد الطوفان، تصاعدت حدة العنف بصورة غير مسبوقة، إذ استشهد 805 فلسطينيًا خلال الفترة بين أكتوبر 2023 ونهاية 2024، بينهم 593 بالذخيرة الحية، في عمليات اقتحام عسكرية واسعة استخدمت فيها “إسرائيل” الدبابات والطائرات الحربية لأول مرة منذ الانتفاضة الثانية.
لم تقتصر سياسات الاحتلال على الهجمات المسلحة فقط، بل شملت عمليات تدمير واسعة للبنية التحتية والمنازل، ما أدى إلى تهجير آلاف الفلسطينيين قسرًا. ووفق تقارير إعلامية، فإن “الجيش” الصهيوني يستلهم من تكتيكاته العسكرية في قطاع غزة لتطبيقها على شمال الضفة الغربية، لا سيما في جنين وطولكرم ومخيم نور شمس، حيث يتم تنفيذ عمليات عسكرية موسعة تشمل الهدم والتجريف وإقامة موانع أرضية حول المخيمات.
بالتزامن مع العمليات العسكرية، شهدت الضفة تسارعًا غير مسبوق في النشاط الاستيطاني. ففي 2024، تم إنشاء 48 بؤرة استيطانية جديدة، وهو رقم قياسي مقارنة بالسنوات السابقة. هذه الطفرة في الاستيطان لم تكن وليدة لحظة، بل بدأت قبل السابع من أكتوبر، حيث تم خلال النصف الأول من 2023 إنشاء 21 بؤرة استيطانية جديدة.
ومن اللافت أن المناطق الأقل نشاطًا من حيث الاستيطان، مثل جنين وطولكرم، كانت الأكثر عرضة للهجمات العسكرية بعد السابع من أكتوبر، ما يعكس وجود علاقة وثيقة بين التصعيد العسكري والاستيطان. ففي تحليل صور أقمار صناعية بتاريخ 12 مارس، تبيّن أن قوات الاحتلال دمرت ما يقارب 30 كيلومترًا من شبكة الطرق في جنين وطولكرم ومخيم نور شمس، بهدف عزلها وإحكام السيطرة عليها.
في سياق التضييق المستمر على الفلسطينيين، صعّدت “إسرائيل” عمليات الهدم، إذ بلغت المنشآت المهدمة منذ أكتوبر 2023 وحتى مارس 2025 نحو 2560 منشأة، ما أدى إلى نزوح أكثر من 5900 فلسطيني. ووفق بيانات الأمم المتحدة، فإن وتيرة الهدم شهدت ذروة غير مسبوقة في فبراير 2025، حيث تم هدم 170 منشأة في شهر واحد فقط. وأدى تصاعد عمليات الهدم والاقتحامات العسكرية إلى موجة نزوح غير مسبوقة في الضفة الغربية، حيث وثّقت وكالة الأونروا نزوح ما يقارب 40 ألف فلسطيني من بيوتهم منذ أكتوبر 2023، في أكبر عملية تهجير تشهدها الضفة منذ عام 1967.
“السور الحديدي”.. غطاء للتصعيد العسكري
في يناير 2025، أطلقت “إسرائيل” عملية “السور الحديدي”، والتي ركزت على تدمير البنية التحتية للمقاومة الفلسطينية في جنين وطولكرم ومخيم نور شمس. وتحت ذريعة محاربة الجماعات المسلحة، استخدمت “إسرائيل” عقوبات جماعية قاسية، شملت هدم المنازل، وفرض الإغلاقات، وحرمان الفلسطينيين من الرعاية الطبية، وسط تنديد دولي واسع النطاق.
في ظل هذا المناخ التصعيدي، ازداد عنف المستوطنين ضد الفلسطينيين بوتيرة غير مسبوقة، حيث جرى تجنيدهم ضمن “كتائب الدفاع الإقليمي”، وتسليحهم بآلاف البنادق، ما جعلهم أداة غير رسمية لطرد الفلسطينيين من أراضيهم. ووفق منظمة “ييش دين” الحقوقية، فإن 94% من التحقيقات في جرائم المستوطنين أُغلقت دون توجيه أي اتهامات، ما يعكس سياسة الإفلات من العقاب التي تنتهجها “إسرائيل” لتشجيع المستوطنين على ممارسة العنف.
إلى جانب العنف العسكري والاستيطاني، فرض الاحتلال قيودًا مشددة على حركة الفلسطينيين في الضفة الغربية، عبر إقامة المزيد من الحواجز العسكرية ونقاط التفتيش. ووفق مكتب الأمم المتحدة لتنسيق الشؤون الإنسانية، فقد زادت القيود المفروضة على التنقل بنسبة 40% منذ أكتوبر 2023، ما أدى إلى شلل في الحياة اليومية للفلسطينيين، وأثر على وصولهم إلى الخدمات الأساسية.
تظهر المعطيات أن “إسرائيل” تسير بخطى ثابتة نحو فرض واقع جديد في الضفة الغربية، عبر الجمع بين الاستيطان، والعنف العسكري، وسياسات العقاب الجماعي، بهدف التمهيد لضمها بشكل كامل. وفي ظل هذا التصعيد، يواجه الفلسطينيون أحد أخطر التحديات في تاريخهم، وسط صمت دولي وعجز عن وقف الانتهاكات المستمرة التي تهدد مستقبل الوجود الفلسطيني في الضفة.