الاغتراب.. هل هو “إنفلونزا الأدباء” في عصر جُنون العالم؟

“الاغتراب مِثل الإنفلونزا، الجميعُ تقريبًا يَمتلكونه، ويتحدَّثُ عنه الجميع، لكن لا أحدَ يعرف ما هو”. هكذا وصَف المُفكِّرُ الفرنسي “جان ماري دومينيك” (1922-1997) الاغترابَ في كتابه “من أجل إنهاء الاغتراب”. ولا يبدو أنَّ هذا الإنفلونزا الأدبي قد انتهى، بل ازدادَ تطوُّرًا وتعقيدًا بسبب “جنون” العالم بما فيه من حروب وأزمات وانقلابٍ في القِيَم، وأيْضًا بسبب التَّطوُّر التكنولوجي والإنترنت ووسائل التواصل الاجتماعي التي تكاد أن تُحوِّل الإنسانَ إلى كائنٍ لامُنتمي يحيا في اغترابٍ حتى عن بيته وأهلِه ومحيطه..

توجَّهتْ جريدة “الأيَّام نيوز” إلى نُخبةٍ من الأدباء العرب بهذه التَّساؤلات: الاغتراب، كلمةٌ تتردَّد كثيرًا في الدراسات النقديَّة وفي تصريحات الأدباء والكُتَّاب والشعراء والمُبدعين عمومًا. فهل هي تُعبِّرُ عن الاغتراب الرُّوحي وشعور المُبدع بأنَّ مُحيطه، في الحياة العامة اليومِيَّة، لا يفهمه فكريًّا مثلاً؟ أو هي تعبيرٌ عن اغترابٍ زمانيٍّ، وشعور المُبدع بأنَّه لا ينتمي إلى عصره، ويحيا في عزلة روحِيَّة أو فكرِيَّة؟ أو هي كلمة مفتوحة الدَّلالة والمعاني تُتَرجِم عدَمَ تقدير المُجتمع لرسالة المُبدع وما يحمله من قِيَم الخير والمحبَّة والجمال؟ فكانت هذه الأوراق حول الاغتراب..

مفهومٌ مُعقَّدٌ بلا حدود

قال عالم الاجتماع الفرنسي “هنري لوفيفر” (1901-1991) فقال: “الاغتراب، يُستخدَم باستمرار، ولم يتِمَّ تعريفُ المفهوم أبدًا. إنَّه مفهومٌ مُعقَّدٌ بلا حدود”. وإذا ما تعمَّقنا البحثَ في تاريخ “الاغتراب”، سنجِدُ أنَّه مُصطلَحٌ يتقاطع مع مصطلحات أخرى مثل: العُزلة، الوحدة، التَّصوُّف، الغموض والإبهام.. وهو يتعدَّى حُقول الأدب والكتابة الإبداعيَّة إلى علم النَّفس والاجتماع والفلسفة، ولكنَّه تجلَّى بشكلٍ كبيرٍ في الشِّعر والرِّواية وفنون المسرح والسينما والفنِّ التشكيلي، وهناك من يعتبرُ بعض المذاهبِ الأدبية والفنيَّة بأنَّها مِن مُنتَجات الاغتراب، مثل: العَبثِيَّة، العَدَمِيَّة، السورياليَّة.. بل يربطون ظهورَ الاغتراب بالاشتراكيَّة والرأسمالية.

الاغتراب! هو مجموعة “اغترابات” ذاتية وعائلية واجتماعية وقانونية وأدبية وعاطفية وأخلاقية ودينية.. قد يعيشها الإنسان بشكلٍ قد يطول وقد يقصُر. وهو يُعبِّر عن أزمة الإنسان مع انتمائه وهويَّته ووطنِيَّه، كما وَرَد في أحدِ تقارير مؤتمر “إسبريت” الذي انعقد في شهر ماي 1965 وتناول مشاكل القوميَّة.

أدبُ الاغتراب

وقد أنتَج الغربُ ما يُسمَّى “أدب الاغتراب”، ونُشِرَت كُتبٌ نقديَّةٌ كثيرةٌ تناولت الاغترابَ في الأعمال الروائية لأسماء لامعة في سماوات الأدب، من ذلك الكتابُ النَّقدي الرَّائع للكاتبة “ماري فرانس روارت” بعنوان “هياكل الاغتراب”، وتناول مشكلة الاغتراب في الأدب خلال القرن الماضي والحالي. حيث درَست الكاتبةُ ظاهرةَ الاغتراب في أعمالٍ باللغة الفرنسية للأدباء: أندريه جيد، أندريه مالرو، ألبير كامو. وأعمال باللغة الألمانية للأدباء: فرانز كافكا، هيرمان هسه. وأعمال باللغة الإنجليزية للأدباء: وليام فولكنر، روبرتسون ديفيز، باتريك وايت، باتريك برادي.

الاغترابُ فكرةٌ لاهوتِيَّةٌ

تذهبُ بعض الِّدراسات الغربية بأنَّ الاغتراب كان في الأساس فكرةً لاهوتيَّة، “إحدى طرق قراءة العهد الجديد هي أنَّ مَجيء المسيح سيُخلِّص العالم من حالة الاغتراب عن الله”. وفي هذا السِّياق، أطلقت المُستشرقة الألمانيَّة “زيغريد هونكه” صرخَتها من الجزائر، سنة 1972، مُحذِّرةً من “موت الإنسان” في الغرب الأوروبي، بمعنى السُّقوط في الاغتراب والقلق الوجودي نتيجة الابتعاد عن الدين، حيث قالت: ” لقد وُلِدتْ العَدَمِيَّةُ والمادِّيَّة في الوقت الذي بدأ فيه الدين يُرخي من قبْضته”. ورأت بأنَّ المُجتمعَ الغربي مريضٌ، ووصفت الحلَّ قائلةً: “أرى أنَّ استرجاعَ الدين وفكرة المثالية هي الإمكانية الوحيدة لكي نعالج الأزمةَ التي يتخبَّط فيها مجتمعنا المريض”.

صرخةُ “فريدريك نيتشه”..

وإذا كانتْ “زيغريد هونكه” مؤمنةً من “المُوحِّدين” الألمان، ونائبةَ رئيسٍ لحركةٍ دينية غير مسيحِيَّة في ألمانيا، فإنَّ الفيلسوف الألماني “فريدريك نيتشه” (1844 – 1900) كان مُلحِدًا حينما أطلق صرخته عام 1882: “مات الإله! ويظل ميِّتا! ونحن هم الذين قتلناه!”، وذلك على لسان الرَّجل المجنون في كتابه “العلم المرح”.. وتساءل “نيتشه”: “ولكن كيف فعلنا ذلك؟ كيف كان بمقدورنا أن نفرِغ البحرَ؟ من أعطانا الإسفنجة لمحو الأفق بأكمله؟ ماذا فعلنا بإبعادنا هذه الأرض عن شمسها؟ إلى أين تسير الآن؟ إلى أي شيء تقودنا حركتها؟ أبعيدًا عن كل الشموس؟ ألم نسقط في منحدرٍ طويل؟”.

بين صرخة “زيغريد” وصرخة “نيتشه” مسافةٌ طويلةٌ من الاختلاف، فالأولى تُحذِّرُ وتطلب النَّجدةَ، وأمَّا الثانيَة فإنَّها كانت نوعًا من التَّبشير بأنَّ الفلسفة، في عصر العلم وثورة التِّقنِيَّة، يُمكنها أن تكون هي المرجعيَّة للأخلاق والقِيَم.

الإسلام.. المعادلة بين الروح والجسد

نعتقدُ بأنَّ الاغترابَ في عالمنا العربي كان أقلَّ وطأةً، وانحسر في مجال الأدب وخاصة الشِّعر وما يتعلَّق بذلك من دراسات “ضيِّقة”، ولم يكن مَوقِفًا وُجوديًّا مُرتكزًا على الفلسفة وعلوم النَّفس والاجتماع، وتحوُّلات المُجتمع في مسيرة تحرُّره من الدين.. ذلك أنَّ الدين الإسلامي هو قَوام أغلب المُجتمعات العربيَّة، ويحدثُ الاغترابُ بالابتعاد وعدم الالتزام بقِيَم الإسلام، والابتعاد لا يعني بالضَّرورة الدُّخول في حالة اللاَّدينيَّة، بل قد يعني إساءة فَهم الإسلام أو تكييف فهمه لتحقيق أهدافٍ لا تتوافقُ مع جوهره، فيُمكن اعتبار: الغلو، التَّشدُّد، التَّطرُّف، من مظاهر الاغتراب التي تجاوزت طُرُق التَّعبير الفكري إلى التَّعبير السُّلوكي.. كما يعني إسقاط المعادلة بين الروح والجسد (القِيَم الأخلاقية – النَّزعة الماديَّة) التي حقَّقها الإسلام ولم تستطع – ولن تستطيع – فكرةٌ مثاليَّة أو مذهبٌ فلسفي أو فكريٌّ أو أدبيٌّ تحقيقها..

سؤالٌ إلى القارئ

ويبقى السؤال مُعلَّقًا: ما هو الاغتراب؟ ولماذا يردِّد الكثيرون هذا المصطلح للتَّعبير عن حالة اللاَّمنتمي التي تُلازمهم، سواءٌ كانوا من الشعراء أو الأدباء، أو رُوَّاد عوالم الإنترنت وشبكات التَّواصل الاجتماعي؟ سنتركُ البحث عن الجواب إلى القارئِ..

 

محمد عواد
محمد عواد السماني (روائي من مصر)

هذا عَصْرُ الاغترابِ يا أعِزَّائي..

ما هو الاغتراب؟ “هو النُّفور الفكري والنفسي والمكاني والزماني لشخص ما، مع ما يحيطه مِن أيٍّ منهم، نتيجةَ عدمِ تَماهي التَّوجهات والرُّؤى والقناعات مع مَن هُم حوله”.

للاغتراب مَناحي عِدَّة، أوَّلها الاغتراب الفكري، وحين نقول الاغترابَ الفكري، نستطيع تَوصيفه بأنَّه هذا الاختلاف الفكري بصُوَره المُتعدِّدة مع الآخرين، فنجد مِثالاً على ذلك: أحدُهم يعتنق الفكرَ الديني المُتشدِّد، يحيا وسَط مجتمعٍ مُتحرِّر، فطبيعي أنْ يشعر بهذا النوع من الاغتراب، حين لا يجد نفسَه وقد تفهَّم المجتمعُ من حوله عقيدتُه و”إيديولوجيته”، فيشعر بالغربة وهو يعيش بينهم.

نقيسُ على الأمر، أطُرًا أخرى من الاغتراب الفكري، فنجد أحدَهم وقد تبنَّى عقيدةً أخلاقيةً مثل نبْذ الفساد المجتمعي في مجتمع مُنحَلٍّ، غارق في المحسوبية و الرشوة، وما شابه، فيحاول التغيير جاهدًا، ليجد نفسه رغم قِيَمه ومبادئه، مَنبوذًا مُقصى مِن طرَف مَن هُم حوله، بل ومُعاقبًا في بعض أحيانه، ليذهب به حاله إلى أحد الأمرين، إمَّا أنْ يكفر بقيمه ومبادئه التي يعتنقها، ويسير في الرَّكب سيْر الشياه مع القطيع، وإمَّا أنْ يقف في وجه الجَمْع المجتمعي، ويتحمَّل صاغِرًا أسِنَّة النِّبال وهى تخترق سَوِيَّته النفسية والفكرية، وفي الحالتين، هو يشعر بالاغتراب عن قَبيله مِمَّن حوله!

وتتعدَّدُ صُوَر الاغتراب في مجتمعاتنا، بدءًا من الاغتراب في المدرسة والمنزل والعمل والوطن نفسه حتى، فلربما تجد تلميذًا لم يتجاوز العاشرة يشعر بالأمر في فَصْل مدرسته، متى أحاط به مِن الرِّفاق مِمَّن يتنمَّرون عليه، أو يحقدون على تفوُّقه الدِّراسي، أو ربَّما يصِل الأمرُ إلى حُنْقهم على نظافة ملابسه وحسب!

وفي البيت أيضًا، ربَّما تشعر الأمُّ نفسها، أو الأب، بشكلٍ ما من أشكال الاغتراب، فتجدها فجأةً وقد أتى وقتٌ لا يقدِّر فيه مَن هم معها تضحياتها، حين تصير رؤيتهم للأمر وكأنَّها تفعل ما يتوجَّب عليها فعله، فيوصِلها الأمرُ إلى حالة ما الاغتراب في بيتها، وبين أبنائها وعشيرها.

يحدث الأمر نفسه مع الأب، بالرُّؤى نفسها، أو ربَّما يعاني الأمر بصورة أخرى، حين يفقد بريقَ سيطرتِه على البيت، وتحوُّل الأمر مِن مُعتمِدين عليه، إلى مُعتمِدٍ عليهم، فينزوي في ركن من أركان غرفته، مُبتعدا عن أهل بيته، مُتمنِّيًا الموتَ على ما هو فيه.

يحدث الأمرُ نفسه ربَّما في العمل، حين يجمعك عملك برفاق يعتنقون ما لا تقتنع به، مثل تملُّق الرُّؤساء، والنِّفاق، والرَّشوة والتَّخاذل في العمل، وأنتَ على النَّقيض من كل هذا، فيتكرَّر ما سبَق ذِكْره، ويصير حالكَ ما بين أمرين، إمَّا أن تكون معهم، وإمَّا أنْ تتحمَّل اجتماعهم عليك، وما بين الأمريْن يأتي الاغتراب.

حتى في الأوطان نفسها، فربَّما تعيشُ غريبًا في وطنك، حين تجد وطنك هذا لا يعنيه أمرك، أو تفقد فيه كرامتك، أو تجده يميِّز بينهم وبينك، وهو في النهاية أصعبُ أنواع الاغتراب، لأنَّه وطنك، ولن تجد مَهربًا منه إلاَّ إليه، فشرْخٌ بينك وبين وطنك، لا يستطيع أحدٌ من بعد أنْ يرمِّمه.

إذًا يمكننا القول بأنَّ الاغتراب ليس قاصرًا على شخص بعينه، ولا مكان بعينه، ولا أوقات بعينها، ولكنها حالةٌ من الاضطراب النفسي، والخِزي الحَوْلي، تستطيع أنْ تصيب كبيرَنا وصغيرَنا، بُسطاءَنا وسادتَنا، مثقفينا ومُفكِّرينا وجهلاءَنا، دون تمييز بين هذا ولا ذاك، كل ما في الأمر أنَّ لكلٍّ منهم مَلمَحٌ من الاغتراب يختلف شكلاً عن غيره ويتَّفق معه في مَضامينه.

ونعود مرَّةً أخرى إلى الموضوع نفسه، وهو “اغتراب القلم”، ونضع تحت قلَمِنا هذا: مُفكِّر، وكاتب، وشاعر، وسارِد، لنسأل أنفسنا، إلى أيّ واقعٍ سوف يصير إليه حالُ كاتبٍ صُحُفي يكتب مقالاً يومِيًّا لعام كامل عن نبْذ التحرُّش ومقاومته، ليعود إلى بيته وقد أخبرته ابنته بأنَّ أحدَهم ظلَّ يضايقها منذ أنْ غادرتْ مدرستَها حتى عادت إلى بيتها، يقِينًا سوف يشعر شعورًا مريرًا بنَتاج رسالته التي أراد أنْ يبثَّها في ذِهنية مجتمعه من حوله، وحينها ربَّما يتراجع عن الكتابة الإصلاحية ويمتهن له مهنة أخرى، مُغترِبًا عن رؤاه وقيمه ومبادئه.

أضِفْ إلى الأمر شاعرًا يكتب قصائدَه برُقيٍّ مُنقطع النَّظير، تشطيرًا وصوَرًا وبلاغةً، ليجدهم يصفِّقون لمن هم دون ذلك إبداعًا، يثمِّنون لهم نُصوصًا لا سُحُب فيها ولا غيْث، مُبتعِدين عنه وعن نصِّه، حينها ربما يكُفُّ عن الأمر، ويمارس اغترابَه هناك أمام قاعات محكمةٍ، يكتبُ للناس عرائض شكواهم لمن يتولَّون الأمر!

قِسْ على هذا سارِدًا مثلي، قضى عمرَه يكتب مُصلِحًا لمجتمعٍ تسيطر عليه آثامُه الفكرية والاجتماعية، رواية وقصصًا ومقالات، ليجد نفسه وقد مكثتْ كتُبُه فوق رُفوف المكتبات، دون أنْ يلمسها قارئٌ من أبناء جلدته. وعلى النَّقيض من هذا، يجد هؤلاء أصحابَ التَّدنِّي فِكرًا وقَولاً، وقد تكالب الناسُ حول ما يكتبون، فهل هناك لِمِثلي غير الاغتراب مَلاذًا لما هو فيه؟

نعم! أسوأ أنواعِ الاغتراب اغترابُ نُخبة الإصلاحيين، لأنَّهم أكثر الناس فكرًا وتدبُّرًا، لأنَّهم مِثالِيُون، لأنَّهم مجاهدون، لأنَّهم للعقل مُمعِنون، لأنَّهم مختلفون، اختلافهم هذا، جعلهم أوَّل المُغتربين، وآخر العائدين!!

 

عبد الله بن أحمد الفَيفي
أ.د. عبد الله بن أحمد الفَيفي (باحث وأديب من السعودية)

مُقارَبَةٌ في الاغتراب الثقافي واللُّغوي

لعلَّ الاغتراب الأجدر بالمقاربة، في تقديري، هو ذلك الاغتراب اللُّغوي والثقافي، لا النفسي؛ لأنَّ هذا الأخير بات مُستهلكًا في الطَّرح الثقافي، وكُتِب حوله الكثير.

على أنَّ اغتراب اللُّغة – أمس واليوم – هو صورةٌ عن اغتراب العَرَب، وتخلُّفهم الفكري والحضاري، واستلابهم للغرب.  أمَّا إضعاف اللُّغة عمْدًا، والاستهانة بها، واستبدال غيرها بها، فمشروع خيانة، يسعى إلى إضعاف العَرَب، فكرًا، وحضارة، وهويَّة.  على الرغم من أنَّه من المعروف والمشهود أنَّ من أضعف الإيمان، في الاستراتيجيَّات الثقافيَّة والحضاريَّة لدَى الأُمم الحيَّة، فرْضُ اللُّغة القوميَّة على الوافد، فضلًا عن المواطن.  وهل رأيتم الإنجليز أو الفرنسيين يكسِّرون لغتهم من أجل الوافدين؟  أم سمعتم الأمريكان يفعلون ذلك مع الوافد إلى (الولايات المتحدة الأميركيَّة)؟  أو أنَّهم يُلغون لغتَهم هم ويتحدثون بلغة الوافد؟  كلَّا! بل هم يُلزِمون الوافدَ بتعلُّم لغتهم، لكي يحيا بينهم بصورةٍ مريحة.  وعليه أنْ يحضِّر نفسه لذلك؛ بأخْذ دورات لغويَّة مكثَّفة، أو بأيِّ تدابير أخرى، مهما كلَّف الأمرُ، ليستطيع التَّفاهم مع أهل البلد المُضيف.

أمَّا العَرَب، ولعُقَدِ نُقصٍ حضاريَّةٍ مُزْمنة، ولأمراض ثقافيَّة بنيويَّة – لدى المؤسَّسات الحكوميَّة قبْل الشُّعوب – فإنَّ الاستراتيجيَّات الثقافيَّة والحضاريَّة الاتِّباعيَّة تتمثَّل في رفض اللُّغة القوميَّة وتحطيمها ليفهم الوافد، هذا إذا كان شرقيًّا.  أمَّا إذا كان غربيًّا، فالواجب ترك العَرَبيَّة أصلًا، والرَّطانة بلسان الغربي.  حتى إنَّك لتلحظ أنَّ العَرَبيَّ بات يخجل من استعمال لغته، كيْلاَ يُنظرَ إليه على أنَّه جاهل أو متخلِّف، أو – لا قدر الله – إرهابي، آبقٌ من ربقة سَيِّده الأبيض! فتَراهُ يناضل ما استطاع لإثبات وَلائه، لاوِيًا لسانَه بلغة سيِّده، مهما تمخَّض عن رطانةٍ بليدةٍ سَمْجةٍ؛ فالمهمُّ من كلِّ شيءٍ أنْ يحظى بشهادة الانسلاخ من لسانه، واعتناق لسان الآخَر، وما يتبع هذا من انسلاخات شتَّى!

بالأمس القريب كان الناس يتندَّرون على من يستعمل كلمة “أوكي”، بدل “طيِّب” – وإنْ كان قد يستعملهما معًا: “طيِّب.. أوكي” – أمَّا اليوم فقد اتَّسع الخَرْق على الرَّاقع، وما زال في اتساعٍ، وأمْسى الجميع – حتى العامِّي الأُمِّي، الذي لا يقرأ ولا يكتب بالعَرَبيَّة – يستعملون عشرات الكلمات غير العَرَبيَّة.

والطَّامَّةُ الكُبرى أنَّ المؤسَّسات المسؤولة – أو هكذا يُفترَض – تعليمًا وإعلامًا، والمُوْكَل إليها تسمِيَة المرافق والمَحالِّ التجاريَّة، قد شَرْعَنتْ ذلك الانسلاخ وأجازته، وكأنَّه لا يعني شيئًا؛ لأنَّ تلك الجهات نفسها، وببساطة، قد انسلختْ من هويتها، ولم تعد تعي من هي؟ وأين هي؟  فأنت ترى – على سبيل المثال الشَّعبي- كلمة “كافيه” تتبختر في الشوارع العَرَبيَّة العامَّة والخاصَّة، بعُرْض الوطن العَرَبي وطُوله، وتندلِق على كل لسان.  والطريف أنْ تسمع العُربان وتقرأهم يَجْمعون هذه الكلمة جمع مؤنَّث سالم: “كافيهات”!  والأطْرف أنَّ الكلمة – لفظًا ومعنى- عَرَبيَّة أصلًا، اسْتعْجَمَتْ ثم استوردوها!  فما كان لِيَحلو في أذُن العَرَبيِّ، المستلَب طبْعًا وصَنْعةً، ولا لِيَروق في نظره أن تُستبدل بـ “كافيه” كلمة “مقهى”، وبـ “كافيهات” كلمة “مقاهي”!  هو يشعر بأنَّ الكلمة العَرَبيَّة “مقهى” سُوقِيَّة مُبتذلة في مقابل “كافيه”!  والواقع أنَّه هو السُّوقي المبتذل الإمَّعة!  ولقد كانت بعض المقاهي العَرَبيَّة قبل سنين منتديات أدبيَّة راقية، يرتادها كبارُ الأدباء وعِلْية المُفكِّرين، في (القاهرة) مثلًا، كـ (نجيب محفوظ) و(توفيق الحكيم)، وأضرابهما.  ذلك قبل عهد “الكافيهات” المَسْخ، لفظًا ومعنى ووظيفة.

إنَّ هذا الاغتراب اللُّغوي ما هو ها هنا إلَّا مرآة مُقعَّرة تُصوِّر مُنحدرنا الثقافي العام الجارف، الذي يتعمَّق بنا إلى قاع الانحطاط عامًا إثر عام. وهي حالة مَرَضيَّة لا تنحصر عقابيلها في وضْع كلمةٍ مكانَ كلمة، ولا في البُعد الاغترابي اللُّغوي فقط.  كيف لا:

وفي القَومِ أَوْشابٌ رَأَوا كُلَّ مَجْدِهِمْ

بتَـبديـلِ جِلْـدٍ بَعْـدَ جِلْـدٍ مُرَتَّــقِ

فضَلُّوا هَباءً.. أَرْمَدَ النُّورُ سَعيَـهمْ

وأَعـراهُمُ عَنْ كُـلِّ سِـتْرٍ ومَـوثِـقِ

فها هُمْ أُولاءِ بَـيْـنَـنا يَـصْدَعُـونَـنا

خَصِيْمَيْنِ: مِنْ خِرْقٍ ومِنْ مُتَحَذْلِقِ

فأَيُّ اغـتِرابٍ يَدْهَمُ اللَّيْلَ وَجْـهُـهُ

ويُقبِلُ في الصُّبْحِ الأَغَـرِّ بفَيْـلَقِ؟!

وأيُّ اغتِرابٍ أَنْبَتَ الجَدْبُ نَـبْتَـهُ

فأَمْـحَلَ فِيهِ الأَخْصَبَانِ بِغَـيْدَقِ؟!

إذا كُنْتَ بَـينَ الجانِحَـيْنِ مُغـرَّبـًا،

فكُلُّ تُـرابٍ يَـتَّـقِـيْكَ ولا يَـقِــي

وإلَّا فـأَيٌّ مـا أَقَـلَّـكَ مَـوْطِـــنٌ

يَـضُمُّـكَ مِنْهُ جانِـحا مُـتَعَـشِّقِ!

 

جمال بركات
جمال بركات (رئيس مركز ثقافة الألفية الثالثة وأديب من مصر)

المبدِعُ الحقيقي مُغترِبٌ في مجتمعاتنا العربيَّةِ

موضوعُ الاغتراب موضوعٌ كبيرٌ.. المُبدعون الحقيقيُّون هم أكثر الناس إحساسًا بالاغتراب في هذا العالم، هؤلاء يسعون بصدقٍ إلى أنْ يكون العالم جميلاً في الشَّكل والمَضمون، ويحاولون بحُروفهم الصادقة كشْفَ زيفِ جمال الشَّكل الذي يُخفي في باطنه المَضمونَ السيِّءَ.

المبدعُ الحقيقي لا يشعر بالانسجام مع البيئة المحيطة به والمليئة بشخصيات إمَّا تَسبح في فكرٍ سطحيٍ يربطها بغرائز البطن والفرج وجمع المال، وتقف عند حدود ذلك. وإمَّا شخصيات أخرى يتغلغل داخلَها الفكرُ الهدَّام الهادف إلى سلب حقوق الآخرين والتَّغرير بهم والاستمتاع بذلك، واعتباره من الانتصارات الكبيرة.

المبدِعُ الحقيقي في حالة دائمة من المعاناة مع مَن حوله من البشر الذين يرونه غريبًا عنهم وعن بيئتهم، فينظر بعضُهم إليه على أنَّه إنسان غير طبيعي، وينظر إليه بعضُهم على أنَّ وجودَه بينهم يبعث المللَ والكآبة، وأنَّ أفكارَه لا تناسبهم وسلوكه لا يريحهم، وينظر إليه البعضُ على أنه يتعالى عليهم بقدرته على الإبداع ووضْع اسمه على الكتب.

أمَّا عن التجارب الشخصية فهي كثيرةٌ ومَريرةٌ، فقد كنتُ أعمل في مكان حكومي، وكان البعضُ يتوجَّس من ذِكْر أيّ سرٍّ من أسرار العمل السلبية أمامي، لعلاقتي بالصحافة والقلَم. وكان البعضُ الآخر يذهب ويحفظ بعض المقولات الثقافية والمعلومات ويدعو نفسه إلى شُرب الشاي في مكتبي، ويظلُّ يردِّد ما حفظه أمامي وأمام الحاضرين، ليخبرني أنَّ الثقافة من الأمور السَّهلة وأنَّها لا تميِّزني عن غيري الذي لو أراد لفعل ما أفعله بسهولة ويُسْر.. المبدع الحقيقي مُغتربٌ في مجتمعاتنا بجدارة.

 

انجيلا درويش
إنجيلا درويش (شاعرة وقاصَّةٌ من سوريا)

أَسِيرةٌ في الاغتراب الرُّوحي..

كونِي كرديةً وأكتب باللغة العربية، قمعُ البيئة حوَّلني إلى مقبرة شاسعة، تستقبل جميع المَوتى منيّ، كان الاغترابُ جزءًا من مسيرتي الأدبية، المَسِيرة التي وُلِدت وكبرتْ وسَط لوحةٍ مشدَّدٍة من كل جانب بالأعراف والتقاليد التي لم تتجاوز نصف عُمر الحرب!

حالةُ التَّخلي دفعني إلى دائرة الإحباط والابتعاد عن الأحلام، لأنَّني بكل بساطة تحوَّلتُ إلى قُنوطٍ في ظل البلاهة والعنصرية.. كما كان للغربة نصيبٌ أكبر في تهميش الذَّات.. لم أعش غربةَ المكان فحسب، والحنين والديار والأرض، بل أنْضافَ إليها اغترابُ الرُّوح أيضًا.

فوق هذا، أطواقُ الحياة لم تدعني وشأني، فقد أشتدَّ الحبْلُ حول عنقي، لأنَّ الغربةَ تربةٌ.. تتعرَّى من كل شيءٍ لأجل أنْ لا تموت جوعًا. تصبح كشجرةٍ تعصف بك الرياح من كل جانب إلى درجة أنَّك لا تجد للرياح فصْلاً أو موسمًا أو اسمًا مُحدَّدًا، حيث بيئةٌ جديدة، أناسٌ جُدُدٌ، قوانين جديدة، لغة جديدة، وأفكارُ مُتناقضةٌ..

أشدُّ ألمًا من كل هذا أنْ تقيم وسَط أناسٍ لا يأبَهون بما تمُرُّ به، وليس لهم قناعة بما تفعل أو تودُّ فعله، لأنَّك بكل بساطة (أنثى) ولا يحق لك عمل شيء ضِمْن الحدود المَرسومة منذ أوَّلِ صرخة.  وبما أنَّ الغُربة والاغتراب مُتلازميْن، وجميع الفئات الثقافية والفنية رهينةٌ لهما.. لم أجِدْ طريقةً مناسبة للخروج من كل هذا سوى أنْ أنْدلِق بمدَّخرات الصندوق الأسود الذي بداخلي، بالكتابة السريَّةِ خوفًا من ردود الأفعال والنقد غير المجدي، ولكن كتابة ماذا وكيف وبأيِّ لغة؟ لم أكُ أعلم.. اخترتُ لغةً لا أعرف باءها من يائها (العربية)، خضتُ معارك كثيرة مع الحياة والذات على الورق.. كلَّما كنتُ أخرج من بَوْتَقة ما، أقَع في أخرى أشدّ غورًا، ولكن بجرعات الصبر والإيمان نجحتُ.. من ناحية أخرى، أنا مُمتنَّة لمآسي الغربة، لأنها جعتْ صوتي، وأصوات الكثير من حالي، تخرج من غفوة طويلةٍ، ولو أنَّها كانت على حساب حياتنا والصلة والتواصل..

ما مرَّ به الوطن العربي من حروب وكوارث، كان للاغتراب نصيبٌ أكبر من نصيب واقع الحال، على الناس عمومًا وعلى الأدباء والشعراء والكُتَّاب خاصةً، فمن الطبيعي جدًاً أنْ يعيشوا الاغتراب، وأنْ تتكرَّر في دراسات نقدية بأنَّ الانحدار من ذرْوة الخيال إلى غور الواقع أمرٌ عصيبٌ فعليًّا.

صحيحٌ، إنَّنا تربَّيْنا على أنَّ هناك فضاءٌ واسعٌ.. يحمل في طيّاته وثناياه كثيراً من التخوّفات، والتَّوجُّسات، والتساؤلات.. واعْتَدناه كأنَّما لا أثر له باقٍ، ولكن مع مرور الأيام وفي ظل الأحداث حجم التعوُّد تفاقم.. وكان لا بدَّ من مرحلة انتقالية، إن كان في الرحيل أو كسر البنية الاجتماعية أو التفكك الأسُري، طبعًا إنَّ قوْل ذلك سهلاً ولكن في أغلب الأحيان يكون من الصعب القيام بذلك… لأنَّها لا تتوافق مع عقولهم والهيئة المحيطة، وليس وفْقًا لأمرِ نفوسهم..

ولكن كان لا بدَّ منها الواقعيةُ.. الواقعيَّةُ لم تكُ رحيمةً مع المبدعين بشكل عام، والاغتراب ليس كذبةً ولا دوْرًا تمثلُّيًّا من المبدع نفسه.. إنَّما كان سيناريو جاهزًا. في قديمٍ ليس ببعيد، كان الشاعرُ والشِّعر مَحطَّ الأنظارِ، ورمْز الشجاعة والقوة والبسالة، وضرْبٍ للمَثَل إنْ كان للرجل أو للمرأة، ربما لأنَّ الحالة المعيشية والوسائلية والطبقية كانت مختلفة تمامًا عمّا هي عليه الآن، فالتطوّر قد مسَّ كل تلك الجوانب عبر السنين، أو لربَّما أنَّ الشّعر الحديث جاء متأثِّرًا بالأدب الغربي، ويعتبر ثورةً صارخةً على قوانين وأنظمة وأسُس الشّعر القديم…

هذه الرُّؤيويَّةُ البَعدِيَّة والقَبْلية، والذاكرة الخطابِيَّةُ، ابتكرتْ المونولوج الداخلي للمبدع الذي دفعه إلى ظلمةٍ أخرى مجهولةٍ، وترْك النفس تغرقُ متشوِّقةً إلى النَّجأة.

 

رانيا محيو الخليلي
رانيا محيو الخليلي (أديبة وروائية من لبنان)

اغترابُ الأدبِ والأديبِ.. في حُضْن الانتماء المُجتَمعي

أقسى غربة هي غربةُ الوطن وسَط الأهل والمعارف والأصدقاء، أنْ تكون حاضرًا مع كل من حولك بكل حواسِّك وتجد نفسك مُضطرًّا إلى التَّبرير والشَّرح حتى لا يُساء فهمك. أليستْ هذه الحالةُ شبيهةً بذلك الكابوس الذي تودُّ الصراخ فيه لكن صوتَك لا يخرج من حُنجرتك؟

هذا هو واقع الأديب هذه الأيام، حيث معاني الأدب اقتصرتْ على الكلمات المُنمَّقة الهادئة التي تنتظر “آه الطَّرب” من القارئين دون أنْ تستفزَّهم وتحثَّهم على الأخذ والرَّد والتَّحليل. نعيش في زمن حيث يُفرَض على الأديب الكتابةَ بمواضيع مُحدَّدةٍ إنْ تخطَّاها يُرشق بالسِّهام، أوَّلها: “هل أنت حقًا أديبً؟”، “ابق في الأدب والروايات أفضل لك”، “خيالك الرِّوائي لا ينطبق مع الواقع”… وغيرها الكثير من الرُّدود الجارحة التي تُجرِّد الأدبَ من كلِّ معانيه، كما تُجرِّد بالوقت عَيْنه الأديبَ من حقوقه.

لا أعرفُ من أسْقط الحدودَ بين الأديب والمُتلقِّي بحيث أصبح المُتلقي هو الذي يفرض على الأديب عن ماذا يكتب وعن ماذا يتكلم ومن يؤيد ومن يُعارض؟ الإنسان العادي يستطيع بكل بساطة وحرية التَّعبير عمَّا يختلجه، أمَّا الأديب فلا يحق له ذلك. بأيِّ مفهومٍ فكري أو ثقافي اُقِرَّتْ هذه المُعادلة؟ حتى هذه اللحظة لم أجد الإجابة.

وصلتْ المشهدِيَّةُ إلى أبْعد من ذلك بتجاوز الحدود مع الأديب، ومن تلك المواقف العجيبة التي حصلتْ معي أنَّ إحدى المُغرِضات المُسْتثقفات انتقدتني بحِدَّةٍ، لماذا برأيكم؟ لأنَّ بطل إحدى روايتي يُسمِّي في قرارة نفسه مُمَرِّضَه باسم: “بغل”. اعتبرتْ أنَّني أستخدمُ عبارات “بذيئة” في رواياتي. لم أُجِبْها، واكتفَيْتُ بابتسامة استياء. لم أجِبْها لأنَّ الأمر يحتاج للعودة كثيرًا إلى الوراء بمفهوم الكتابة الأدبِيَّة، وللشَّرح أنَّ “الأدب” ليس معناه “الأخلاق والتربية”، وإنَّما هو كتابةٌ فنِّيَّةٌ معناها إظهار الحقيقة والواقع بأسلوب مُؤثِّرٍ، وأنَّه يجدر بالأديب إظهار أشخاص غير مُؤدَّبين وغير أخلاقيِّين ليضيء على الخَلل تمامًا كما في نفس تلك المُنتقِدة. لو قرَّرتُ مواجهتَها لكنتُ اكتفيتُ بعبارةٍ بسيطةٍ وهي: “على الأرْجح أنَّكِ لم تقرئي رواياتٍ بحياتك، أنصحكِ برواية (مائة عام من العزلة) لغابريال غاسيا ماركيز، أو رواية (كائن لا تُحتَمل خِفَّته) لميلان كونيدرا». لكني لم أجِبْ ولم أشرحْ، واكتفيتُ بإحساسي العميق بالغربة أمام كل هذا العَبث الحاصل دون أنْ يجِدَ له من رادعٌ. نحن ندفع ثمَنَ زمنِ انحطاطٍ فُرِض على الأجواء الثقافية، كُتُبًا مُعلَّبةٍ وأدباءٌ مُعلَّبين لِيَسُود التَّخلُّف أكثر وأكثر.

عندما نشرتُ أوَّل رواية لي عام 2009 “لعنة البيركوت”، اعتقدتُ أنَّ العالم بأسره سيفتح لي ذراعيْه لاحتضان روايةٍ قضيتُ أربع سنوات في كتابتها، وسَكبتُ فيها جزءًا من سيرتي الذاتية في الحرب والهجرة. الرواية اهتم بها الكثير من المثقفين والمتابِعين للشأن الأدبي، وأوْصى أحدهم أنْ يقابلني رئيس قسم الصفحة الثقافية في إحدى الصحف اللبنانية العريقة. وعلى الرغم من التَّوصِيَة، استقبلني ذلك “المسؤول” وهو رافعٌ رِجليْه على مَكتبه، طلبتُ منه إنزالهما لأبْقى، فتنبَّه وقام وجلَس على الكرسي أمامي وطلب لي فنجان قهوة. بقِيَ ساعتيْن يُكلِّمني عن نفسه وعن رواياته وعن تاريخه العريق والمجيد وعن جوائزه، وأعاد طلَب فنجانَ قهوةٍ ثانٍ وثالثٍ لي لأنَّه اسْتشعر أنِّي سأغفو وأنا اُنصِتُ في الوقت الذي كنتُ أبحث فيه عن طريقةٍ للانسحاب والخروج دون مقاطعةِ حديثه المُمِلِّ. وعندما تعبَ من الكلام، تناول كوبَ الماء ورشَفه بعدما تَيبَّس حلْقُه من تكرار أمجاده، ثم استذكر روايتي التي سبَق وأُرسِلتْ إليه، فأمسكَها وقلّبَها، ثم قال لي: “روايتك لا تصلح للمثقفين”. عِوَض الانزعاج، شعرتُ بارتياحٍ لاقتراب فَكِّ أسْري من مجلسٍ بَغيضٍ لم أشعر بأيّ ارتياح فيه. فسألتُه قبل أنْ أستأذن بالخروج: “هل قرأتَها؟”. فردَّ عليَّ وعيناه على الكتاب: “لا! لم أقرأها! لكني استنتجت ذلك من الغلاف. الغلاف يوحي بالمضمون لا تستهيني به”. فقلتُ له وأنا أتناول حقيبتي: “نعم معك حق أنا أيضًا لم يعجبني الغلاف لكن النَّاشر أصرَّ عليه، الحمد لله أنِّي لستُ أنا مَن صمَّمته. أعتذرُ منك مُضطرَّةً للمغادرة، لديَّ موعدٌ مهِمٌّ”. خرجت من عنده وأنا ألتمِسُ أنْ تهُبَّ رياحٌ تعيد لي أنفاسي التي كنتُ أكتُمُها قي حضور إنسانٍ متعجرِفٍ أتَتْه الفرصةُ ليحصل على مكانة ثقافية، وهو لا يعلم من الثقافة أبْسطَها وهو “الإحساس”. رأيته يبتسم بمَكرٍ حين استأذنتُ منه للمغادرة، اعتقدَ أنَّه حطَّمني وربَّما أذاني إلى درجة أنِّي لن أعود فيها إلى الكتابة مُجدَّدًا. لكنه لم يكن يعلم، بغباءِ تَعجْرُفِه، أنها كانتْ روايتي الأولى التي تخطَّيْتُ بها حواجز وأبواب الكتابة الروائية، وأنِّي بسببها انطلقتُ وسأستمِرُّ بكل طاقتي حتى آخر يوم في عمري دون رادعٍ أو عائقٍ.

مُباشرةً بعد خروجي في تلك اللحظات استجاب الله لأمنيتني وبدأتْ الريح تهُبُّ وقطَرات مطر كانون الثاني\ يناير تتساقط، أغلقتُ مِعطفي، وحمَلتُ مِظلَّتي، وأكملتُ طريقي بخُطى واثقةٍ أنِّي سأستكملُ الرِّحلةَ التي بدأتها ولن يردعني قارئُ أغْلِفةٍ.  كنتُ واثقةً من أنَّ رحلتي في عالم الأدب، وسَط هذه الأجواء المزيَّفة والمنتحِلة، ستكون طويلة وطويلة جدًا، فأقسى أنواع الغربة هي غربة الوطن، والأدب يعيش مُغترِبًا عن مواطنه. أما الأديب الذي يحمل حقًّا رسالةً هادفةً، لن يغترب عن أدبه.. مهما غرَّبوه أو حاولوا تغْيِيبَه وتَغريبه.

 

فيدور شربينا
تأليف: فيدور شربينا
نزار عيون السود
ترجمة: نزار عيون السود

الاغترابُ في الكتابات الأدبِيَّة

تجلَّى “الاغتراب” في الكتابات الأدبية، بشكلٍ مُلفتٍ، خلال النِّصف الثاني من القرن العشرين، غيْر أنَّ جذورَه تعود إلى زمن النَّهضة “التقنيَّة” الغربيَّة وبداية سيطرة الفكْر المادي على الإنسان الأوروبي، وما تبعَ ذلك من ظهورٍ لمذاهب فلسفية وأدبيَّة تعكس أزمة الإنسان الوجودية.. ومن الذين كتبوا عن الاغتراب في حقول الأدب والفكر، الكاتب الروسي ” فيدور أندريفيتش شربينا” (1849- 1936). وقد قام الكاتب والمُرجم السُّوري “نزار عيون السود” (1945 – 2023) بترجمة مقالٍ حول الاغتراب للكاتب “شربينا”، ونشَرَه في مجلة “الآداب الأجنبية” سنة 1975، ونقدِّمه في سياق هذا المِلف، لإضاءة زاوية حول “التَّداول” العربي لمسألة الاغتراب في سبعينيات القرن الماضي.

تعتبَر قضيةُ الاغتراب من القضايا الرئيسية في المُطارحات والمناقشات الأدبية المعاصرة. وذلك لأنَّ قضايا علم الجمال والفن، في تفسيرها لطبيعة الاغتراب، ترتبط ارتباطًا مباشرًا بالقضايا الاجتماعية والفلسفية. ومن هنا يَنبُع هذا الاختلاف الشديد في المواقف من هذه القضية، وحِدَّةُ الجدل حول هذا الموضوع.

ويُمكننا أنْ نعثر على بدايات فكرة الاغتراب لدى أدباء ومُفكري عصر النهضة مثل: روسو، غوته، شيللر، فيخته، هيغل.. وكانتْ هذه الفكرة، من الناحية الموضوعية شكلاً خاصًّا للتَّعبير عن رفْض الطابع اللاَّإنساني لعلاقات المجتمع الاستغلالي. حيث كانتْ العلاقاتُ الحيوية الواقعية تَمْثل في وعيِ الناس على شكلٍ مزيَّفٍ. وكان تحويل العلاقات الاجتماعية الواقعية إلى شيء آخر مخالف تمامًا لها، إلى شيء لا يرتبط بالناس بل يسيطر عليهم، كان موضوعًا من أهمِّ مواضيع الأدب.

كان استخدام اصطلاح “الاغتراب” للإشارة إلى مختلف الظَّواهر الأدبية الفنية. كما برَز هذا الاصطلاح، في بعض الأحيان، كصفةٍ للمُخاتلات والشَّعوَذات الفلسفية الاجتماعية. كما يبرز هذا المفهوم (الاغتراب) بتفسيره التَّجديدي، كغيره من المفاهيم، لا بجوهره التاريخي الحقيقي، بل يتعرض إلى تأويلات مَزاجِيَّة وتحويلات غريبة. وكثيرًا ما يعتبِر مُنظِّرُو “التَّجديدِيَّة” الاغترابَ مفهومًا مُطلقًا وجوهرًا للوجود، وأصْلاً من أصول التَّجديد التقدُّمي في الفن المعاصر.

وتبتعِدُ عن الحقيقة أيضًا، تلك الآراءُ التي تُنسَب إلى التيارات التجديدية، إلى الكشف الفني لعملية اغتراب الفَرد في المجتمع البرجوازي القائم على الملكية الخاصة، وذلك لأنَّ تجسيدُ الاغتراب في الفن، كان قد بدأ منذ زمن طويلٍ يعود إلى نُشوء العلاقات البرجوازية.

وعندما تحدَّث “كارل ماركس” عن أنَّ “شكسبير” و”غوته” قد كشفَا بصورة رائعة عن ماهِيَّة المال، كان يقصدُ بأنَّهما في مُؤلَّفاتهما وأعمالهما الأدبية قد جسَّدَا اغتراب الفرد وفقدانه لصفاته الإنسانية.

وفي مناقشته للتَّفسير غير التاريخي الذي أعطاه “شتيرفير” لمفهوم الاغتراب، استشهدَ “مارکس” بمؤلَّفات “شكسبير” لتأكيد فكرته القائلة بأنَّ الملكية الخاصة لا تخلق الاغتراب عند الناس فحسب، بل عند الأشياء أيضًا. وبقدر بُعْد المال، وهو شكل الملكية العام، عن الفردية الشخصية، بقدر ما هو مُناقِضٌ ومنافٍ لهذه الفردية. وقد عرَف “شكسبير” هذه الحقيقة بصورة أفضل من مُنظِّري البرجوازية الصغيرة.

فالتيَّارات التجدِيدِيَّة العصرِيَّة لم تُدخِل موضوعَ الاغتراب إلى الأدب العالمي، كما يزعم أنصارها. والتجديدية بانتزاعها لهذا الموضوع من مجموعة الظواهر الحياتية الطبيعية الكاملة، لم تحقِّق شيئًا سوى تفسير هذا الموضوع تفسيرًا مُضلِّلا مَعزولاً.

وقد قدَّم “مكسيم غوركي” مُؤلَّفاتَه، بدءًا بـ “فوما غوردييف” و”الأم”، وانتهاءً بـ “حياة كليم سامغين” تحليلاً مُرَكَّبًا اجتماعيًّا وروحيًّا داخليًّا لتشويه الشخصية وانحرافها نتيجة للاغتراب البرجوازي. وبحث في هذه المُؤلَّفات بصورة شاملة، عملية اغتراب العنصر الإنساني تحت تأثير سيطرة علاقات الملكية الخاصة ومجموعة الآراء والتَّصوُّرات المَقلوبة، والقناعات المزيَّفة وسيكولوجية عزلة الإنسان عن العالم كله، واستبدال القوانين الحقيقية الواقعية بمجموعة من الأوهام المُضلِّلة.

ويتَّصِل وعيُ هذه الظاهرة وإدراكها بتاريخِيَّة الفَهْم الواقعي للاغتراب. فالواقعِيَّة تكشفُ جوهرَه، وتبَيِّن التَّأثير المتبادل والمُركِّب للعوامل الاجتماعية والفلسفية والسيكولوجية المتصلة به، ومكانه في تيَّار الحياة العام. وينتظمُ السَّيْل العَكِر لانطباعات “كليم سامغين” في البُنْيَة الفلسفية الجمالِيَّة العامة لقصة “غوركي”، الذي انطلق فيها من تفهُّم الخبرة نصْف قرنٍ من حياة الإنسان الرُّوحية.

إنَّ جوهر فهْم الكُتَّاب الوجوديِّين لسَيْل ظواهر الحياة والانطباعات يكمنُ في نفي الأفكار المختلفة والحطِّ من أهميتها وقِيمتها، وفي إثبات الفرضية القائلة بضعف الإنسان وقضائه المحتوم، وفي وهمِيَّة جميع محاولاته لبناء حياته بصورة واعية. وهنا يظهر الاختلاف الجذري بين الواقعية وبين الوجودية. فالواقعية تخلق الواقع من جديد في مسار التطور التاريخي. وتُبحَث كل ظاهرةٍ كظاهرة مُتَّصلة بإحدى حلقات ديناميكية الحياة، وضِمْن شروط مُعيَّنة من نشوئها وتطورها. أمَّا الوجودية، فتحوِّل الاغترابَ إلى جوهرٍ ميتافيزيقي لا يتبدَّل.

والاغترابُ، تحت أضواء البحث العلمي، هو مفهومٌ يكشف تحوُّلَ مُنتَجات عمل الإنسان ومبادئ علاقاته بالمجتمع إلى ماهِيات مستقلة منفصلة تسيطر على الفرد. ويبَيِّن الفهمُ الماركسي لمفهوم “الاغتراب” الأسباب الحقيقية لنشوء الأوهام، كما يكشفُ أساسَ مختلف أنواع التَّفسيرات المُضلِّلة والمزيَّفة، وتحويل العلاقات الواقعية إلى مجالٍ للأوهام والخيال.

وقد استُخدِم اصطلاحُ “الاغتراب” في الدِّراسات الأدبِيَّة في السنوات الأخيرة بكثرة في معنى خارجٍ عن أطُر التاريخ وكَسِمَةٍ عامة لخصائص الفن المعاصر، وكاكتشافٍ أوْجده الفنُّ التَّجديدي مُتَّصِلٍ بخصائص أعمال “فرانز كافكا” بشكل خاص. واكتسبَ استخدامُ هذا المصطلح مقاييسَ واسعةٍ، وأصبح يرتبط، بصورة رئيسية، بتلك الآراء التي تنفي فهْم الفنِّ كشكلٍ للإدراك والمعرفة. ويعارض الاغتراب بنظرية الانعكاس، التي يُنظَر إليها كنظرية غير عصرِيَّةٍ ولا تُعبِّر عن خصائص فنِّ وأدبِ المُجدِّدين الطَّليعيِّين.

لقد تشَكَّل مبدأ الاغترابِ في الخلق الفني للمدرسة التجديدية ونظرياتها کردٍّ جدليٍّ كلامي على مبدأ الطبيعة الإدراكية – المعرفية للفن. وهذا منطقيٌّ جدًّا لأنَّ “الاغتراب”، من حيث الفَهْم الخاص له يفترض، حسب رأيهم، جعْل الفنِّ غامضًا ومُبهَمًا.

وقد صاغ بوضوحٍ معنَى استبدال التصوير في الفن بـ “الاغتراب” و”الابهام”، “أرنست فيشر” في كتابه “من غريلبارتسر إلى كافكا.. ستُّ مقالات”، ويؤكِّد “فيشر” في هذا الكتاب ما يلي: “يخلق كافكا مجموعةً من الشخصيات التي يسلِّط عليها الأضواء، وتبقى الصِّلة بين هذه الشخصيات غير واضحة في أغلب الأحوال، وتشبه هذه الشخصيات الأحْرُف الهيروغليفية لا الأحرف الأبجدية المعروفة.. ويلتقي الواقعُ المغترب بعالم الإنسان الداخلي كوحدة ما للشخصيات”. وهكذا يتحقَّق “اغتراب” الواقع في الفن عن طريق الإبهام، وحسب النظريات التجديدية العصرية نَصِل إلى نتيجة عن الضرورة التاريخية لاعتبار الفهْم “الغامض المبهم” لطبيعة الخلق الفني أساسًا للنقد الأدبي المعاصر.

وقد ظهرتْ محاولةُ تبديل مبدأ التَّصوير الفني بـ “الاغتراب” و”الغموض والإبهام” في مواد المؤتمر الذي كُرِّسَ لأعمال “كافكا”، وبحَث موضوع اغتراب الإنسان عن المجتمع على أساس الفهم الغامض للاغتراب، وفي روح سيطرة العمليات الكئيبة، وكموضوعٍ له أهمِّيَة شاملة وعامة دائمة في ظروف المُجتمَعيْن البرجوازي والاشتراكي. وهكذا يكتسبُ الاغترابُ قيمةَ مبدإٍ شاملٍ لتجديد ظواهر الفن المعاصر وتقويمها.

وحسب نظريَّةِ الاغتراب، لا ترتبط الشخصيات الأدبية والفنية لا بتطورات الواقع، ولا بالوعي الذاتي الإنساني الذي يتطوَّر تاريخيًّا. وينطلق إدراك طبيعة الفن، حسب نظرية الاغتراب، من تصوُّرٍ للخلق الفني كعملٍ إبداعي له قيمته الذاتية، وكتعبير وجداني لا يخضع لمقولات الإدراك والهدف العادية.

غير أنَّ “الإبهام” ليس أبدًا مبدأ إبداعيًّا عامًّا، وهو لا يُشكِّل أكثر من طريقة من الطرق المختارة في الفن المعاصر، تتصل برؤية خاصة للعالم. وهو قد يسمح بالوصول إلى مجال بعض مَظاهر الفرد الذاتية، غير أنَّه عاجزٌ تمامًا عن تجسيد وجود ذي مقياس أكبر، أو تجسيد حركة التاريخ والمجتمع والعصر. لذلك

فقد اضطرَّتْ الاتجاهات الأدبية التي تستخدم طريقة “الإبهام”، ولا سيما الوجودية في الأدب والسينما بصورة خاصة، اضطرَّتْ إلى اللُّجوء إلى المذهب الطبيعي الصِّرف أو الوثائقية البَحْتة. وهذا أمرٌ لا بدَّ منه لأنَّ الإمكانات التعبيرية التصويرية “للإبهام” أو الهَرْغلفة (نسبة إلى الهيروغليفية) محدودة وضيقة بشكل خاص، وهي ضعيفةٌ جدًّا وعاجزة عن التَّجسيد الحَماسي لسير التاريخ الموضوعي. ولهذا بالذات، كانت الاتجاهات التجديدية، التي تتميز أحيانًا بحِدَّة التَّعبير عن جوانب الفرد الذاتية، أضعف من أنْ تخلق لوحةً عريضة للعالم. وتبقى مسألة تصوير مسيرات العصر الكبيرة حتى الآن بمقدور الواقعية فقط.

وإذا ما كان التَّجسيد الواقعي للاغتراب يُمسِك بجذور نُشوئه ويدرك خصائص طبيعته الاجتماعية واتجاهاته وتطوُّره، فإنَّ الاغتراب بالنسبة للاتجاهات التجديدية هو قَدرِيَّةٌ صوفِيَّةٌ مُبهمة لا تتبدَّل، لا بداية لها ولا نهاية.

أمَّا الواقعِيَّة فلا تعتبِر الاغترابَ حلقة شاملة دائمة. إن دحْض الشرِّ يتطلَّبُ دائمًا تمييزًا بين ظواهر الواقع التاريخية والأخلاقية المختلفة. وعلى العكس من ذلك، تكمُن النَّزعة الرئيسية للتيارات التجديدية في الطموح إلى الإرغام على التصديق بغباء العالم كله ولا عقلانيته، وفي عدم التَّبدُّل الداخلي للفرد وثباته، وفي القضاء المحتوم للإنسانية كلها، وكما يرى “ك. ماركس” لا بدَّ من أجل القضاء على اغتراب الإنسان، من تغيير المجتمع وطابع العلاقات. أمَّا الوجودية فتؤكد موضوعيًّا العلاقات القائمة، وذلك لأنَّها ترى أنَّ أيّ تغيير حاسم للمجتمع يبقى ناقصًا، لأنَّ قوانينه الرئيسية مغروسة في طبيعة الإنسان ذاتها.

إنَّ اللاَّمبالاة الكاملة تجاه جوهر الظواهر الاجتماعي الواقعي هي صفةٌ مُميَّزةٌ، بل ويمكننا القول بأنَّها ماهِيَة النقد الوجودي الصُّوفي الغامض للمجتمع.

إنَّ التَّفسير الخاص لمبدإ “الاغتراب”، ذلك التفسير الذي يُحتِّم اللاَّمبالاة نحو الخصائص الجمالِيَة – الاجتماعية لمادة الفن – والذي ينفي وجود أيّ اختلافٍ بين المفهوميْن: الرَّجْعي والتقدُّمي للخير والشر، يتصل عُضويًّا بالفَهم

الخاص لوحدة الثقافة المعاصرة، وبالنفي الكامل لانقسامها إلى ثقافة ثورية وأخرى رجعية، وطبقًا لمثل هذا الموقف، تزعمُ التياراتُ التَّجديدِيَّة بأنَّها قد “أزالتْ” النَّظرات “المُتقادِمة”، لأنَّها تكشف، كما تزعم، خطأَ الفهْم الاجتماعي والمَعرفي للفن. وتطرح الطبيعة العُليا لمبدإ الاغتراب الذي يَمحو بصورةٍ كاملةٍ أيّ تمييز للظواهر، ذلك المبدأ القائم على النقد الشامل للوسَط كلِّه، كتجسيد للطَّابع التَّركيبي الشامل للطَّليعية وللاتجاهات التجديدِيَّة.

وهل صحيحٌ أنَّ الاغتراب الذي يجرُّ وراءَه تعادلاً شاملاً لجميع الظواهر “يزيل” تناقضات الحياة؟ من غير السَّوِيِّ، ومن غير المنطقي أنْ نعتبر مَذهب الاغتراب، الذي يزعم وكأنَّ الإنسانية كلّها تُعاقَب بسبب نقائص فئة صغيرة من المجتمع مُميَّزة ومَحدودة، تركيبًا اجتماعيًّا شُموليًّا.

إنَّ دعوة الوُجودية إلى النَّزْعة الطُّفيلِيَّة والخُمول الرُّوحي، لِحَتمِيَّةِ الوجود الإنساني، تستبدل نَزاعات الحياة التَّراجيدِيَّة الحقيقية بأخرى مُزيَّفة، وتُعتبَر من حيث الجوهر شكلاً من أشكالِ المُصالحة الشَّرِّ، وتهرُّبًّا من المسؤولية على مصير العالم، وهذا بعد كبير عن الحقيقة. وإذا كانتْ هذه الدَّعوة، في البداية وفي المرحلة المبكرة من التيارات التجديدية نتيجةَ خطأ الفنانين التراجيدي، فإنها التراجيدي، فإنَّها تبرز الآن، وبصورة متزايدة، كاتجاه مُعادٍ للواقعية.

عبَّر “فرانز كافكا” بوضوح عن وُجهات نظرِه من جميع جوانب الحياة. فقد كرَّر أكثر من مرَّة بأنَّ الحياة مُتأزِّمة وقاسية وسخيفة لا معنى لها. وفي 21 أكتوبر سنة 1921 كتَب في مُذكِّراته: “كلُّ شيءٍ وهْمٌ: الأسرة والخدمة والأصدقاء والشارع والمرأة. كل شيءٍ وهْمٌ، لكن درجة وُضُوحه مختلفة فهي تقِلُّ أو تكثر. أمَّا الحقيقة العارية فتكمُنُ في أنَّك تضربُ رأسَك بزنزانة سجنٍ عديمةِ النوافذ والأبواب”.

وإذا ما صوَّرَ “برتولت بريخت” ظواهرَ الحياة التَّراجيدية وعُزلة الفرْد ويأسه وقنوطِه كنتيجةٍ لأسبابٍ تاريخية وسيكولوجية مُعيَّنة، فالوجود كله، بالنسبة إلى “كافكا” لا معنى له وسخيف بدون أيِّ تمييزٍ أو تحديدٍ لحدود الواقع المختلفة. ولا يوجد عند “كافكا” للإنسان أو الإنسانية، في هذا العالم كله، مِن حقيقةٍ أو أملٍ. وليس من مَخْرج أمام الإنسان سوى أنْ ينتظر نهايته الأليمة.

لقد بدأ يتشكَّلُ في العالم مفهومٌ إنسانيٌّ عام جديد، وبدأ المفهوم القديم يتشرَّبُ معنى جديدًا. وإنَّ الوصية القائلة “لا تصُبُّوا الخمْرةَ الجديدة في زقٍّ قديم” لا تنطبق على هذا الواقع الجديد، وذلك لأنَّ الخمرةَ جديدةٌ هنا والزقُّ جديدٌ أيْضًا.

إنَّ الأدبَ الأكثرُ فعالِيَّةٍ، في الوقت الحاضر، هو ذلك الأدبُ الذي يعلِّم الناسَ أنْ يفهَمُوا التاريخ كمسيرةٍ يوجِّهُها الناس، وليس كمَسِيرةٍ مُوجَّهة ضد إرادة الإنسان؛ هو ذلك الأدبُ الذي لا ينحني ولا يخضع، ولا يَستكين ولا يُذعِن، بل يدفع إلى العمل المُبدِع الخَلاَّق.

محمد ياسين رحمة - الجزائر

محمد ياسين رحمة - الجزائر

اقرأ أيضا

آخر الأخبار
وزير الاتصال..الجزائر توسّع بثها الإعلامي دوليًا عبر الأقمار الصناعية سونلغاز تفتح أبوابها لنقل خبرتها إلى بوركينا فاسو قائد الجيش السوداني:"الخرطوم حرة" استنفار وطني لمواجهة أسراب الجراد ومنع انتشارها إلى ولايات جديدة رقمنة الخدمات التجارية.. "مرافق كوم" الحل الذكي لمتابعة مداومة التجار دوفيلبان يتصدر الشخصيات السياسية المفضلة في فرنسا بعد مواقفه من غزة والجزائر هذه أبرز الملفات التي ناقشها اجتماع الحكومة الجزائر في صدارة الدول المصدرة للغاز المسال بإفريقيا ليلة القدر في الجزائر.. نفحات إيمانية وعادات متجذرة الكاردينال فيسكو: "تصريحات روتايو مستفزة والجزائر لن تخضع للخطاب التهديدي"  غزة تشتعل.. تصعيد عسكري ونفير عام ورسائل تهز "إسرائيل" بوغالي يطالب إسبانيا بمراجعة موقفها من قضية الصحراء الغربية القضاء الفرنسي يرفض طلب تعليق قرار طرد المؤثر الجزائري "دوالمن" بشراكة صينية.. نحو إعادة إطلاق مصنع الإسمنت بالجلفة سقوط القصر الرئاسي بيد الجيش.. معركة الخرطوم تدخل مرحلة الحسم ليلة الشك.. الجزائر تتحرى رؤية هلال شهر شوال يوم السبت هذه حصيلة نشاط الرقابة وقمع الغش والمضاربة خلال 24 يوما من رمضان وزارة التربية تنشر جدول التوقيت الخاص بامتحاني "البيام" و"الباك" خيرات الصحراء الغربية.. موارد منهوبة تموّل آلة الإجرام المغربية! مواد مسرطنة في الحلويات الحديثة.. حماية المستهلك تحذّر