البرلمان الأوروبي.. بازار الأفكار الكاسدة وماخور الأحقاد الراكدة

قبل البدء، على هيئات الاتحاد الأوروبي “المنتخبة”ومؤسساته “الديمقراطية” -بحسب ما يسوقون-،أن تبدي ولو شيئا يسيرا من الحياء عندما تفكر بالخوض في “قضايا الجزائر”، ذلك أن ديْنا ثقيلاً من الدّم والدّمع والآلام، لا يزال في رقبة هذا التكتل الاقتصادي-السياسي-العسكري المُنحاز دوما لنزعته الاستعمارية، والتي جُبِل عليها منذ اليوم الأول لقيامه، على اعتبار أن القوى الاستعمارية الأعتى حينذاك، هي التي شكلّت النواة الأولى لتأسيس حلف الــ”ناتو”، الذراع العسكري للاتحاد الذي تشكل فيما بعد.

ديْنٌ جزائريٌّ، مُثقلٌ بدماء الأبرياء وأرواح العُزّل ودموع اليتامى وآلام الثكالى وجراح الأرض والإنسان، تسبب فيه وارتكبه الحلف الأطلسي وجيوشه التي دعّمت الجيش الاستعماري الفرنسي، في عدوانه وإجرامه بحق الجزائريين إبّان ثورة التحرير العظمى، فلولا ذلك الدّعم السياسي والمادّي والعسكريّ والمعنوي، لكان سقوط فرنسا الاستعمار في عام أو عامين على أسوأ تقدير. إنهم مدينون للجزائر..مدينون لشعبها في شهدائه ونسائه وأطفاله.. مدينون لأرضها في غاباتها المحروقة وفي ثرواتها المسروقة وفي صحرائها الملوثة بالتجارب النووية.. مدينون لسمائها ولبحرها، ولكل شبرٍ فيها داسته نعال جندهم الغزاة المعتدين.

فقد ورد في المادة السادسة، من ميثاق “ناتو” غداة تأسيسه بكل صلف وخبث “..كل هجوم مسلح ضد طرف أو عدة أطراف من الحلف، يعدّ بمثابة اعتداء مسلح ضد قطر من أقطار هذا الحلف،سواء في أوروبا أو أمريكا الشمالية، أو ضد “المقاطعات الفرنسية في الجزائر..”، حتى أنّهم لم يذكروا المغرب ولا تونس ولا إفريقيا ولا غيرها من الدول المُحتلة وما أكثرها، وإنما كان تركيزهم على الجزائر، وكأنهم قد أدركوا مسبقا بأن تمرد وعصيان يوم الثامن ماي 1945م، له ما بعده.

والحقيقة أن بُلدان الاتحاد الأوروبي لم تكن أبدا على الحياد فيما تعلق بالعلاقات الفرنسية الجزائرية، فمنذ هزيمة “شارلكان” عام 1541م عند أسوار العاصمة الجزائر دار السلام والإسلام، لم يتخلف الأوروبيون عن إظهار العداء للجزائريين دعما لبعضهم البعض، إلى الاحتلال الفرنسي عام 1830م، إلى اندلاع ثورة التحرير العظمى وتحرك الرئيس الفرنسي “منداس فرانس” لحشد الدعم الأوروبي ثمّ الأمريكي باسم الصليب والمسيحية شهر نوفمبر 1954م.

وبالفعل، فقد تحصلّت فرنسا بعد هذه الجولة، على ترخيص “أطلسي” لاستعمال أسلحة الحلف في حربها ضد ثوار الجزائر محدودي العُدّة والعدد، إلا من دعم الشعب وتأييد الأمة وشجاعة القلب، وفوق ذلك نُصرة الرب.. ولمّا لم يكفِ ذلك، فقد عمد الحلف الأطلسي إلى تقديم دعمه العسكري المباشر، تمثل في حصول الجيش الفرنسي على عتاد حربي أمريكي من مدفعيات ومُصفحات، ونقل فيلق كامل من ألمانيا إلى شرق الجزائر لخنق الثورة في بداياتها، مدعوما بفيلق آخر من المختصين في المدفعية والسلاح الميكانيكي السريع والعتاد الصحي، بالإضافة إلى مدربين أمريكيين بالمرسى الكبير بوهران.

وأمام احتدام المعارك وشراسة المجاهدين الجزائريين، ضاعف الحِلف من إمداداته العسكرية حيث طالت هذه المرة سلاح الطيران، فقد تلقى الجيش الفرنسي سِربا من طائرات “ب-26″ و”ب-29” و”ت-6″و “ت28»، علاوة على أسراب أخرى من الحوامات المتنوعة والكثيرة، من نوع؛ سيكورسكي-الموزات الطائرة- خيل السباق، و”هـ-21” الأمريكية.. مع إنزال عسكري رهيب بلغ عام 1958م أكثر من مليون عسكري مقاتل، وكل هذا مُوثّق لدى مصالح الأرشيف العسكري الأمريكي.

وأمّا على الجبهة الدبلوماسية، فقد وفّرت الدول الحليفة في منظمة الأطلسي لفرنسا، غطاءً “شرعيا” لخرق القوانين والأعراف الأممية، وحمايتها من المساءلة الدولية عن جرائمها وتجاوزاتها اليومية الحربية وغير الإنسانية.

فقد ظلّت تستعمل أسلحة محرمة دوليا، وتمارس أعتى عمليات التنكيل والتعذيب إلى حد القتل العبثيّ، ناهيك عن الإعدامات التعسفية وقتل المدنيين بغير رحمة ولا شفقة.. إضافة إلى استعمالها قواعد خارج الحدود بالمغرب وتونس لقَنبَلة الغابات وإضرام النيران فيها، وكذا قصف المداشر والقرى والتجمعات الآهلة بالمدنيين والأبرياء، كان أكثرها وحشية وبربرية ما نفذّته القوات الفرنسية بطائرات أمريكيةمن نوع بـ-26، بساقية سيدي يوسف عام 1958م، وما نتج عنه من محرقة بحق الأهالي والسكان التونسيين واللاجئين الجزائريين.

لم يُغفِل الثوار الجزائريون تلك التجاوزات، وراحوا يستجْدون دعم المجموعة الدولية من خلال البعثات السفراء والبعثات الدبلوماسية للدول الشقيقة والصديقة، مستنكرة الدعم الغربي المطلق للاستعمار الفرنسي وبشاعة جرائمه.

ولذلك، وعلى ضوء ما تقدم، يصبح من الواجب الفرض على الأوروبيين تقديم اعتذار رسمي علني تاريخي للجزائر شعبا وثورة ودولة، كاعتراف رمزي بالذنب المرتكب، ولو بصورة متأخرة، عوض الانسياق وراء تُرّهات اليمين المتطرف الفرنسي، وأحقاده الدفينة والظاهرة، جاعلا من ورقة الحقوق والحريات ورقة التوت التي يخفي وراءها عورة التجني والتحامل والعدوان.

المسمى “بوعلام صنصال” مواطن جزائري تم اعتقاله في الجزائر، ووفق تشريعات وقوانين جزائرية، وبالتالي، أي نقاش له علاقة بالموضوع، بعيدا عن الجزائر وخارج قوانينها، يُعدّ تدخلاً سافرا في الشؤون الداخلية لبلد حرّ مستقل، خاصة وأنّ هذا البلد يُقدّس حريته ويُعلي كبرياءه ويُقدّر كرامته.

ولذلك، يُعدّ تحرك اليمين الفرنسي على مستوى البرلمان الأوروبي وتقديمه عريضة حول ملف المسمى “صنصال” للنقاش والجدل، مجرد شطحة أخرى من شطحات الديك “الاستعماري المذبوح” بحدّ الجدّ وشفرة الصرّامة الجزائرية، من خلال قراراتها القاصمة ومواقفها الوطنية وإرادتها القاطعة في توطيد أركان سيادتها الراسخة العصماء.

فعلى سبيل الذكر لا الحصر، “جوردان بارديلا” ورغم بعض الدّم الجزائري الذي يسري في عروقه النتنة، إلاّ أنّه لم يستطع أن يكون شريفا ولا حرًّا ولا نزيها، وهو يرافع ضدّ الجزائر بكل عنجهية واستعلاء، مستخدما لغة سوقية منحطة، لا تعبر إلاّ عن مستوى الحقد الدفين الذي يضمره في صدره، كوريثٍ وضيعٍ لأفكار السُلالة القذرة من أدعياء “الجزائر الفرنسية”.

لقد بدت القاعة الكبرى للبرلمان الأوروبي خلال هذه المهزلة، كــ “كباريه” مفتوح، وفرنسا اليمين كراقصة عارية تترنح يُمنة ويُسرة، مُجردّةً من القيم والأخلاق، لا لشيء إلا لحشد المؤيدين لمساعيها المقرفة الرعناء. لقد غيّرت الانتخابات الأوروبية الأخيرة تركيبة البرلمان الأوروبي، بعدما هيمنت التيارات اليمينية المتطرفة على المشهد، وأزاحت من طريقها ما ظل يعرف باليمين المعتدل، وبالتالي وجدت الأفكار العنصرية سبيلها لاستقطاب أصوات الناخبين المتطرفين.

“كريستيان تين” زعيم حركة تحرير شعب كاليدونيا الجديدة، تمّ القبض عليه وعلى مجموعة من المناضلين الوطنيين الكاليدونيين، عقب التمرد الذي شهده الأرخبيل ربيع السنة الماضية، حيث طالب المحتجون بالاستقلال عن الاستعمار الفرنسي الذي لم يُقدّم للشعب الكاليدوني سوى الحرمان والعوز.

الغريب في القضية أنّ السلطات الاستعمارية الفرنسية، وعوض مُحاكمة “المتهمين” على الأراضي الكاليدونية باعتبارها إقليما فرنسيا كما تدّعي، عمدت إلى نقلهم سبعة عشر ألف -17.000- كلم بعيدًا عن أرضهم وأهلهم ليُحاكموا في الميتروبوليتان، على نهج ما كان يقوم به الجلاّدون أسلافهم بحق شرفاء المقاومة الوطنية الجزائرية، عندما كانوا ينفونهم إلى كاليدونيا الجديدة انتقاما وعقابا.

هي ذي فرنسا الإمبريالية ذات الوجهين وذات الموقفين وذات المكيالين، لا يستقرّ لها رأي ولا يستقيم لها عود، إلاّ بما يخدم صلفها ويروي عبثها، استهتارا بكرامة الشعوب واستخفافا بسيادة الأمم.. ولم تدرك بعد بأنّ التاريخ قد تبدّل وأنّ الزمان قد تغير، والعالم لم يعد على ما كان عليه منذ نصف قرن مضى.

مصطفى بن مرابط - الجزائر

مصطفى بن مرابط - الجزائر

كاتب في الأيام نيوز

اقرأ أيضا