في السنوات الأخيرة، تصاعدت المخاوف بشأن استغلال الشركات الكبرى في مجال التواصل الاجتماعي للبيانات الشخصية، خاصة في سياقات النزاعات المسلحة. فقد كشفت دراسة تحليلية حديثة، أن شركات مثل “ميتا” و”يوتيوب” و”أمازون” تجمع كميات ضخمة من المعلومات الشخصية لتحقيق أرباح هائلة، مما يضع الخصوصية في مواجهة مباشرة مع المصالح التجارية. والأكثر إثارة للقلق هو ظهور تساؤلات جدّية حول دور “ميتا” في تمكين الجيش الصهيوني من الوصول إلى بيانات مستخدمي “واتساب” لاستهداف الفلسطينيين في غزة، مما يفاقم الجدل حول التأثيرات الخطيرة للتكنولوجيا في تنفيذ عمليات حرب الإبادة في غزة.
وبالفعل، فقد أظهرت دراسة تحليلية شاملة استمرت لعدة سنوات أن الشركات الكبرى في مجال التواصل الاجتماعي تستغل البيانات الشخصية للمستخدمين بشكل ممنهج، حيث تجمع كميات هائلة من المعلومات بهدف تحقيق أرباح تصل إلى مليارات الدولارات سنويًا.
واستندت هذه النتائج -وفقًا لتقرير لجنة التجارة الفيدرالية الأمريكية (FTC)- إلى استفسارات أُرسلت في أواخر عام 2020 إلى مجموعة من الشركات الرائدة في مجال التواصل الاجتماعي، مثل “ميتا”، و”يوتيوب”، و”سناب”، و”أمازون”، و”بايت دانس” التي تدير تطبيق “تيك توك”، بالإضافة إلى منصة “إكس” المعروفة سابقًا بتويتر.
التقرير أشار إلى أن هذه الشركات قد انغمست في “مراقبة شاملة” تهدف إلى تحقيق أرباح ضخمة عبر استغلال البيانات الشخصية للمستخدمين. ووجد التقرير أن كميات ضخمة من هذه البيانات قد تم جمعها بواسطة هذه الشركات، إما بشكل مباشر أو عبر وسطاء البيانات، مع إمكانية الاحتفاظ ببعضها لفترات غير محددة.
لينا خان -وهي رئيسة لجنة التجارة الفيدرالية- أوضحت أن التقرير يكشف بوضوح كيف أن شركات التواصل الاجتماعي وخدمات بث الفيديو تقوم بجمع كميات هائلة من البيانات الشخصية لمستخدميها، مما يسهم في تحقيق أرباح تصل إلى مليارات الدولارات سنويًا.
وأشارت خان إلى أن أحد الجوانب الأكثر إثارة للقلق هو إخفاق العديد من هذه الشركات في حماية خصوصية الأطفال والمراهقين على الإنترنت. واعتبرت أن ممارسات المراقبة هذه تعرض الأفراد لخطر التعقب والملاحقة، فضلاً عن إمكانية سرقة معلوماتهم الشخصية.
التقرير أبرز أيضا أن نماذج الأعمال المعتمدة على الإعلانات المستهدفة قد أدت إلى تعزيز جمع كميات ضخمة من بيانات المستخدمين، مما وضع الخصوصية في مواجهة مباشرة مع مصالح الربح التجاري. وعلى الرغم من أن هذه الممارسات تحقق أرباحًا كبيرة للشركات، إلا أن خان أكدت أنها تعرض خصوصية الأفراد لخطر حقيقي وتضع حرياتهم في حالة تهديد مستمر. كما تساهم في زيادة احتمالية وقوع أضرار جسيمة، مثل سرقة الهوية أو ملاحقة الأفراد.
من جانبه، برر “مكتب الإعلانات التفاعلية” موقفه، مشيرًا إلى أن مستخدمي الإنترنت يدركون أن الإعلانات المستهدفة تمثل الثمن الذي يدفعونه مقابل الحصول على خدمات مجانية عبر الشبكة. كما أكد المكتب دعمه القوي لقانون الخصوصية الوطني الشامل للبيانات.
ديفيد كوهين -وهو الرئيس التنفيذي للمكتب، عبر عن خيبة أمله في منشور رداً على التقرير، قائلاً: “نحن نشعر بالإحباط من استمرار لجنة التجارة الفيدرالية في تصوير صناعة الإعلان الرقمي على أنها متورطة في مراقبة جماعية تجارية.”
استندت النتائج الواردة في التقرير إلى ردود على استفسارات أُرسلت في أواخر عام 2020 إلى شركات مثل ميتا ويوتيوب وسناب وأمازون وبايت دانس، مالكة تيك توك، بالإضافة إلى منصة إكس. ومن بين الانتقادات التي تم طرحها في التقرير، أن بعض شركات التواصل الاجتماعي لم تلتزم بحذف كافة البيانات التي طلب المستخدمون إزالتها.
أبرز التقرير أيضًا أن هذه الشركات كانت متساهلة بشكل عام في حماية الأطفال والمراهقين الذين يتفاعلون مع منصاتها. واستند موظفو لجنة التجارة الفيدرالية إلى تقرير يشير إلى أن هذه المنصات قد تؤثر سلبًا على الصحة العقلية للمستخدمين الشباب.
حثّ التقرير شركات التواصل الاجتماعي على تقليص ممارسات جمع البيانات، كما دعا الكونغرس الأمريكي إلى سن تشريع شامل لحماية الخصوصية، وذلك للحد من مراقبة المستخدمين على هذه المنصات.
ناشطون، كانوا قد نبهوا في السابق إلى إمكانية استغلال الحكومات لهذه الثغرات للتجسس على المستخدمين، لاسيما في ظل الانتشار الواسع لتطبيقات مثل “واتساب”، الذي كان يُعتبر وسيلة آمنة للتواصل.
على الرغم من أن شركة “ميتا”، المالكة لتطبيق “واتساب”، قد نفت بشدة أي مزاعم بوجود باب خلفي يسمح للحكومات بالوصول إلى المعلومات، إلا أن مركز “صدى سوشال” أعرب عن قلقه من احتمال حدوث انتهاكات للخصوصية عبر التطبيق، خاصة بعد اندلاع الحرب الصهيونية الأخيرة على غزة.
طالب مركز صدى سوشال، المتخصص في رصد وتوثيق الانتهاكات الرقمية المتعلقة بالمحتوى الفلسطيني، بفتح تحقيق عاجل حول الاتهامات الموجهة لشركة “ميتا” بتسريب بيانات المستخدمين الفلسطينيين من تطبيق “واتساب” إلى جيش الاحتلال الصهيوني. ويُزعم أن هذه البيانات تم استخدامها لاستهداف المدنيين في غزة خلال العدوان الذي اعتمد على الذكاء الاصطناعي في عمليات القتل.
وفقًا للتقارير التي رصدها مركز صدى سوشال، يُشير إلى أن نظام “لافندر” يعتمد على بيانات تم جمعها من مجموعات “واتساب” لاستهداف الفلسطينيين. حيث يقوم نظام “لافندر” بالتعرف على الأفراد الفلسطينيين الذين يستهدفهم الجيش الصهيوني خلال الغارات الجوية عبر تتبع اتصالاتهم على التطبيق الأخضر، بالإضافة إلى المجموعات التي ينضمون إليها.
يعتبر “لافندر” نظامًا للذكاء الاصطناعي يستخدمه جيش الاحتلال لاستهداف الفلسطينيين في قطاع غزة، مع الحد الأدنى من الإشراف البشري. يعتمد النظام نهجًا متساهلاً في اتخاذ قرارات الاستهداف، مما يؤدي إلى تخمين من سيُقتل، حيث يستهدف المدنيين وأسرهم في منازلهم. وأفاد تقرير لمجلة “+972” وموقع “لوكال كول” العبري، استنادًا إلى مصادر استخبارية صهيونية، أن “لافندر” لعب دورًا محوريًا في الحرب على غزة، حيث قام بمعالجة كميات هائلة من البيانات لرصد الضحايا بشكل سريع. وأشارت أربعة من مصادر التقرير إلى أنه في مرحلة مبكرة من النزاع، قام نظام “لافندر” بإدراج نحو 37 ألف فلسطيني في قائمة الأهداف المحتملة.
وأشارت المصادر نفسها إلى أن “لافندر” قام بإنشاء قاعدة بيانات تحتوي على عشرات الآلاف من الأفراد الذين تم تصنيفهم كأعضاء منخفضي الرتبة في الجناح العسكري لحركة حماس. وقد تم دمج هذا النظام مع نظام آخر لدعم القرارات العسكرية يُدعى “غوسبيل”، الذي يعتمد أيضًا على الذكاء الاصطناعي لتحديد المباني والمنشآت كأهداف. ووفقًا لتقييم أجرته هيومن رايتس ووتش، تم استخدام أربعة أنظمة من هذا النوع في الهجوم المستمر على غزة، والتي ترتبط بتخطيط العمليات العسكرية والاستهداف.
إحدى هذه الأدوات تعتمد على تتبع الهواتف المحمولة لمراقبة عمليات إجلاء الفلسطينيين من مناطق في شمال غزة. أما الأداة الثانية، التي يطلق عليها الجيش اسم “غوسبيل” (The Gospel)، فهي مخصصة لإعداد قوائم بالمباني والمنشآت التي ينبغي استهدافها. في حين تُستخدم الأداة الثالثة، المعروفة بـ”لافندر” (Lavender)، لتصنيف الأفراد في غزة بناءً على مستوى الشك في انتمائهم للجماعات الفلسطينية المسلحة، مما يجعلهم أهدافًا عسكرية محتملة. كما تم استخدام أداة أخرى تُسمى “أين أبي؟” (Where’s Daddy) لتحديد اللحظة التي يكون فيها الهدف في موقع محدد، ليتم استهدافه في ذلك الوقت.
اتهامات بول بيغار حول استخدام البيانات
في سياق مشابه، طرح رائد الأعمال الأمريكي في قطاع التكنولوجيا، بول بيغار، تساؤلات حول وجود علاقة محتملة بين شركة “ميتا” المالكة لتطبيق “واتساب” ونظام الذكاء الاصطناعي الصهيوني “لافندر” الذي يستخدمه جيش الاحتلال لتحديد الأهداف خلال الحرب المستمرة على غزة، مما يثير مخاوف بشأن استغلال البيانات الشخصية للتطبيق في العمليات العسكرية.
وبول بيغار، مهندس حاسوب ورائد أعمال أمريكي من أصول إيرلندية، وهو يُعد من بين 40 شخصية تقنية بارزة أطلقوا مبادرة في جانفي الماضي -تحت اسم “التكنولوجيا من أجل فلسطين”- تهدف إلى إنهاء ما وصفوه بـ”الدعم التكنولوجي للحرب الصهيونية على الشعب الفلسطيني” في غزة والضفة الغربية، والعمل من أجل تحقيق شعار فلسطين حرة، وسلطت هذه المبادرة الضوء على التورط التكنولوجي في النزاع، والدفع نحو تبني ممارسات تكنولوجية أكثر أخلاقية وإنسانية.
بيغار -وهو مؤسس شركة “سيركل سي آي” والرئيس التنفيذي السابق لها- يمتلك خبرة واسعة في مجال التكنولوجيا، فقد عمل على مشاريع مع شركات كبرى مثل “غوغل” و”تيك توك”، كما أنه يحمل درجة الدكتوراه في تحليل لغات البرمجة النصية، يسعى من خلال مبادرته “التكنولوجيا من أجل فلسطين”، إلى تسليط الضوء على التأثيرات السلبية التي تلعبها بعض التقنيات في النزاعات المسلحة، ودور هذه التقنيات في تعزيز الصراعات بدلاً من المساهمة في السلام وحماية الحقوق الإنسانية.
وفي منشور مطول على مدونته الشخصية، أعرب بيغار عن قلقه من ممارسات سلطة الاحتلال في الحصول على بيانات حساسة من تطبيقات مثل “واتساب”. وأشار إلى احتمالية استهداف المدنيين وقتلهم بناءً على مجرد وجودهم في مجموعات “واتساب” تضم أفراداً مرتبطين بحركة حماس.
هذا النوع من الاستهداف، وفقًا لبيغار، يثير تساؤلات خطيرة حول انتهاك الخصوصية واستخدام البيانات الشخصية في سياقات عسكرية، مما يعرض الأبرياء لخطر مميت دون تمييز واضح.
ووفقاً لرأيه، يثير هذا الأمر شكوكاً كبيرة حول كيفية حصول سلطة الاحتلال على هذه المعلومات الحساسة. وأضاف أن مجرد الاشتباه في الأمر يُعد مثيراً للريبة، لأن الآلية التي تُحصل بها (إسرائيل) على تلك البيانات لا تبدو واضحة، مما يعزز فرضية تورط “ميتا” في مشاركة هذه المعلومات بطريقة غير معلنة.