عند استلامه جائزة نوبل للآداب عام 1982 قال الأديب الكولومبي غارسيا ماركيس: “دعونا نصنع مصيرنا بأنفسنا، دعونا نصنع الأهداف التي نحن نحدّدها، بالطّريقة نفسها التي استطعنا بها أن نصنع هويّتنا الثّقافية. لا نريد أن نختنق في مائة عام جديدة من العزلة، ولكنّنا نحتاج إلى أزمنة حريّة نجعلها رافعة كي نكسر القيود التي جعلتنا مجرّد أسواق عابرة، فنصنع عندئذ حضارة أميركية لاتينية.”
لم يقصد غارسيا ماركيس بالقيود سوى تلك التي صنعتها هيمنة الولايات المتّحدة على القارة منذ منتصف القرن التّاسع عشر، فتحكّمت بشكل حصري بمصائر الشّعوب والدّول وسياساتها.
مبدأ مونرو وقاعدة الهيمنة المفردة
رسم مبدأ مونرو 1823 قاعدة الهيمنة المفردة على أساس أنّ أوروبا القارة القديمة وأميركا القارة الجديدة، فتحوّلت بذلك أميركا اللّاتينية إلى ما يسمّى “الحديقة الخلفية للولايات المتّحدة” التي استفردت وحدها بكلّ شؤونها ومصائرها. وفي أدبيات رجالات أميركا اللّاتينية الكثير ممّا يدلّ على عمق المعانات من الجارة الامبريالية. فالمحرّر سيمون بوليفار يقول في عام 1826: “من الواضح أنّ قدر الولايات المتّحدة يكمن في جلب الويل لأميركا اللّاتينية باسم الحرية.”
انتهجت واشنطن، على مدى عقود، مع القارة سياسة العصى الغليظة التي تقول بالتدخّل الامبريالي العلني. وفي الخمسين سنة الأخيرة قامت باحتلال خليج الخنازير في كوبا، والتدخّل في غواتيمالا، والدمينكان وغرانادا، وباناما، بالإضافة إلى الإطاحة بالحكومات وتغيير أنظمة وتمويل وتدريب تمرّدات وثورات مضادّة، تمثّل بدعمها للكونترا في نيكاراغوا إلى جانب إحداث انقلابات واغتيالات كالإطاحة بالرّئيس اللندي في تشيلي في بداية السّبعينات ومحاولة الإطاحة مؤخّرًا بالرّئيس الفنزويلي هوغو شافيز، إلى جانب خنق بعض الدّول وحصارها وعزلها اقتصاديًا وسياسيًا، كما كانت كوبا المحاصرة منذ 1960.
كان التدخّل الأميركي الدّائم يحمل عناوين مختلفة على قرن ونصف القرن، فهو تارة يتمّ باسم الحرية، وطورًا باسم حقوق الإنسان والتّنمية، واليوم باسم الدّيمقراطية واقتصاد السّوق على أساس النيوليبرالية وإملاءات صندوق النّقد الدّولي التي جلبت المآسي على الشّعوب اللّاتينية، وأغرقت الدّول بديون هائلة وعمّقت الفجوة بين أقلية من أغنياء وأكثرية يرزحون تحت حافّة الفقر والمجاعة. كما أنّها أيضاً تستعمل شعار محاربة تجارة المخدّرات، كما يقول رئيس بوليفيا الجديد إيفو موراليس، للتدخّل وفرض سيادتها.
وتحت شعار “الحريّة”، تسعى الولايات المتّحدة الأمريكية للانقلاب على نتائج الانتخابات في فنزويلا وتعتبرها دولة خارج نفوذها وهيمنتها منذ نجاح تشافيز في الثّورة والخروج من مظلّة النّفوذ الأمريكي، ومنذ ذاك التّاريخ تميّزت العلاقات بين واشنطن وكاركاس منذ وصول الرّئيس الاشتراكي الرّاحل هوغو شافيز إلى السّلطة عام 1999 بالتوتّر الشّديد، وارتفع منسوب توتّر هذه العلاقات في أعقاب إعلان زعيم المعارضة خوان غوايدو نفسه رئيسًا بالوكالة في 23 جانفي 1999، وقد اعترفت به نحو 50 دولة تتقدّمها الولايات المتّحدة.
من حقّ الرّئيس المنتخب مادورو أن يدافع عن استقلال وسيادة فنزويلا وشرعية انتخابه وأن يعمل وبقوّة للحفاظ على إرث وثورة هوغو شافيز في وجه المخطّطات الأمريكية والصّهيونية للاستحواذ والهيمنة على موارد ومقدّرات فنزويلا فقد “أكّد الرّئيس الفنزويلي، نيكولاس مادورو، على ضرورة “الدّفاع عن فنزويلا كي لا تقع في أيدي الصّهيونية” التي تريد وضع يدها على البلاد، مشيراً إلى أنّ ما شوهد في فنزويلا في الأيّام الأخيرة هو “أناس يتقاضون المال، ويتدرّبون للتّدمير والقتل”.
نجاح مادورو كابوس لأمريكا وحلفائها
وحقيقة القول أنّ فوز الزعيم البوليفاري، نيكولاس مادورو، بولاية ثالثة في الانتخابات الرّئاسية، شكّل كابوسًا لأمريكا وحلفائها وهذا النّجاح والفوز لم يكن ليمرّ من دون ردود من المعارضة المدعومة من القوى الصّهيو – أمريكية والمتغلغلة في فنزويلا، والتي رفضت منذ اللّحظة الأولى، الإقرار بخسارتها في الانتخابات، مستندة إلى دعم دول خارجية عدّة في القارة اللّاتينية وخارجها، وعلى رأسها الولايات المتحدة.
وتزامناً مع إعلان المعارضة أنّها تمتلك “دليلاً” على فوزها، وهو ما يتناقض وحقيقة الفرز للانتخابات اندلعت احتجاجات مناهضة للحكومة في مختلف أنحاء البلاد، بما في ذلك بالقرب من القصر الرّئاسي في كاركاس، ووسط هذه التطوّرات، اعتبرت زعيمة المعارضة، النّائبة ماريا كورينا ماتشادو، أنّ على مادورو أن يدرك أنّ خروجه من السّلطة “حتميّ”، فيما أكّد مادورو أنّ حكومته “تعرف كيف تواجه هذا الوضع وتهزم الشّعوبيين”، متّهمًا المتظاهرين بأنّهم “مجرمون مليئون بالكراهية”، وأنّ خطّتهم وُضعت في الولايات المتّحدة.
وقد شكّكت دول حليفة للولايات المتّحدة الأمريكية في نتائج الانتخابات ونزاهتها، من بينها البيرو وتشيلي وإيطاليا، وفي السّياق، دعا لويس جيلبرتو موريللو، وزير الخارجية في عهد الرّئيس الكولومبي اليساري جوستافو بيترو، إلى “التحقّق المستقل وتدقيق فرز الأصوات، في أقرب وقت ممكن” ، فيما اعتبر الرّئيس التشيلي، غابرييل بوريك، أنّه “من الصّعب” تصديق النّتائج الرّسمية، مطالبًا بمنح المراقبين الدّوليين حقّ الوصول إلى النّتائج الكاملة، مؤكدًا في منشور عبر “أكس”، أنّ تشيلي لن تعترف بأيّ نتائج “لا يتمّ التحقّق منها”. أمّا الرّئيس الأرجنتيني اليميني، خافيير ميلي، فذهب حدّ دعوة القوّات المسلّحة الفنزويلية إلى “الدّفاع عن الدّيموقراطية والإرادة الشّعبية”، زاعمًا أنّ الفنزويليين اختاروا “إنهاء الدّيكتاتورية الشّيوعية لنيكولاس مادورو”.
وفي البيرو، استدعى وزير الخارجية، خافيير غونزاليس أولاشيا، سفير بلاده في فنزويلا للتّشاور، فيما أعلنت بنما تعليق العلاقات مع كراكاس. كما أصدرت كلّ من إكوادور وأوروغواي وباراغواي والجمهورية الدومينيكية وغواتيمالا وكوستاريكا دعوات إلى إجراء “فرز شفّاف” لأصوات المراقبين المستقلّين. ورغم أنّ البرازيل تبنّت، من جهتها، لهجة “أكثر ليونة”، إلّا أنّها أعلنت أنّها تنتظر “نشر المجلس الانتخابي الوطني للبيانات المفصّلة حسب مراكز الاقتراع”، معتبرةً أنّ الخطوة المشار إليها “أساسية” لضمان “شفافية ومصداقية وشرعية نتائج الانتخابات”، بحسب بيان صادر عن وزارة الخارجية.
مواقف فنزويلا كانت صارمة تجاه المشكّكين وهي على يقين بالمخطّط الذي يحاك ضدّ فنزويلا من قبل أعدائها وفي مقدّمتهم الولايات المتّحدة الأمريكية والصّهيونية العالمية فقرّرت سحب موظفيها الدّيبلوماسيين من سبع دول في أميركا اللّاتينية، احتجاجًا على “تدخل” حكومات تلك البلدان في إعادة انتخاب مادورو، وفقًا لبيان صادر عن وزارة الخارجية الفنزويلية. واعتبرت الوزارة، في بيانها، أنّ موقف حكومات الأرجنتين وتشيلي وكوستاريكا وبنما والبيرو وجمهورية الدّومينيكان ولأوروغواي، اعتداء وتقويض للسّيادة الوطنية”، داعيةً ديبلوماسييها إلى مغادرة هذه البلدان. كذلك، أعلنت وزارة النّقل الفنزويلية أنّها ستعلّق الرّحلات الجويّة من بنما وجمهورية الدّومينيكان وإليهما، بسبب “التدخّل الفج” من جانب حكومتَي هذين البلدين في الانتخابات الرّئاسية.
وفي المقابل هناك دول هنّأت مادورو، من بينها روسيا والصّين وإيران وكوبا وبوليفيا وهندوراس وصربيا، بفوزه في الانتخابات الأخيرة.
وفي خطوة تهدف لخلط الأوراق قرّرت الولايات المتّحدة سريعًا الاعتراف بمرشح المعارضة الفنزويلية للرئاسة، إدموندو غونزاليس، باعتباره الفائز بالانتخابات المتنازع عليها في البلاد. وقال وزير الخارجية الأميركي، أنتوني بلينكن، في بيان، إنّه “بالنّظر إلى الأدلّة الدّامغة، فمن الواضح للولايات المتّحدة، والأهم من ذلك للشّعب الفنزويلي، أن إدموندو غونزاليس أوروتيا فاز بأكبر عدد من الأصوات”، مهنّئًا المترشّحَ على حملته الانتخابية “الناجحة”. وأضاف: “حان الوقت للأطراف الفنزويلية لإطلاق مناقشات حول انتقال سلمي للسّلطة، وفقًا لقانون الانتخابات الفنزويلي”.
وفي الإطار نفسه، نشرت صحيفة “نيويورك تايمز” تحليلًا اعتمدت فيه على نتائج التّصويت في 3 بالمائة من مراكز الاقتراع، كما وصلت إليها من مصادر المعارضة، وزعمت أنّها تمنح أفضلية بنسبة 66 بالمائة لغونزاليس، مقابل 34 بالمائة لمادورو، مشيرةً إلى أنّ “هامش الخطأ في تحليلها لا يزيد على 2 بالمائة”. ويتوّج الاعتراف الأميركي برنامجًا مستمرًّا تقوده الولايات المتّحدة منذ بعض الوقت، بغرض إفساد العملية الانتخابية في الجمهورية البوليفارية، وزرع الشّكوك في شرعية النّظام الحاكم، بعدما جدّد الفنزويليون لنيكولاس مادورو، في انتخابات الـ 28 من جويلية. وتزامن إعلان (الهيئة الوطنية للانتخابات) النّتيجة مع فتْح جبهات محلية وإقليمية ودولية للهجوم على السّلطات الفنزويلية؛ إذ رفض تحالف المعارضة المدعوم من واشنطن، الاعتراف بالنّتائج، معلناً أنّ مرشّحه، الدّيبلوماسي المتقاعد غونزاليس، هو الفائز الشّرعي بالانتخابات.
ولم يكن هذا الأمر مفاجئاً لأحد، ذلك أنّ المعارضة كانت قد أكّدت، حتّى قبل إجراء الانتخابات، أنّ أيّ نتيجة لا تأتي بمرشّحها رئيسًا، لن تُحتَرم. وجاء ذلك في إطار جهد منسّق تقوده الولايات المتّحدة لاستغلال الانتخابات، بهدف فرض تغيير في السّلطة في كاراكاس، واستعادتها إلى الحظيرة الأميركية. وتضمّنت تلك الجهود، إلى جانب التّراجع عن تعهّدات أميركية بتخفيف العقوبات القاسية التي تفرضها على فنزويلا، حشدًا لقوى إقليمية ودولية لفرض ضغوط على النّظام التشافيزي، وجوقة تَتحسّر على ظروف عيش الفنزويليين الصّعبة في كبريات الصّحف ووسائل الإعلام العالمية، التي ألقت باللّوم على “الدّيكتاتورية والاستبداد”، من دون التطرّق إلى تفاصيل الحصار الأميركي – الغربي.
الرّهان على وعي الفنزوليين
كلّ الدّلائل والمؤشّرات تؤكّد أنّ وعي الفنزوليين كفيل بإفشال المخطّطات الصّهيو – أمريكية وسيناريو 1999 الذي أفشلته الجماهير كفيل بإفشال المخطّط ولن يكون لبيان بلينكن أثر كبير على الأرض، إذ لن تكون فرص غونزاليس للوصول إلى السّلطة أفضل من فرص سلفه خوان غوايدو. وكانت إدارة الرّئيس الأميركي السّابق، دونالد ترامب، قد دعّمت، في ذلك العام، ادّعاء غوايدو، رئيس المجلس التّشريعي الفنزويلي آنذاك، بأنّه الرّئيس الشّرعي المؤقّت للبلاد، والذي استند فيه إلى مادّة في الدّستور تتيح لرئيس البرلمان تولّي المنصب التّنفيذي الأعلى في حالات معينة.
وحظيت خطوته تلك بدعم عشرات الدّول الغربية، حتّى بدا لوهلة أنّ مادورو قد يُجبر على التنحّي. لكن الزّخم الشّعبي والسّياسي وراء غوايدو ما لبث أن تلاشى بفعل صمود التشافيزيين، ليفرّ غوايدو إلى الولايات المتّحدة العام الماضي، قبل أن تقرّر إدارة جو بايدن التخلّي عنه وإعادة تأسيس خطّ للتّواصل مع السّلطة.
استنادًا لكلّ ذلك ووفق التّرجيحات أنّ سيناريو الانقلاب على الانتخابات في فنزويلا مصيره الفشل وفرص غونزاليس في النّجاح الآن أقلّ بكثير من فُرص غوايدو خلال محاولة انقلاب 2018-2019. وبالرّغم من أنّ المعارضة الفنزويلية أعادت مؤخّرًا تنظيم صفوفها ووحّدت نفسها لتصبح أقوى ممّا كانت عليه خلال تجربة الانقلاب مع غوايدو، إلّا أنّ جميع المؤشّرات تُرجِّح أنّ سيناريو غوايدو المكرّر هذا مآله الفشل حتماً. هناك اختلافات عدّة بين محاولتي الانقلاب السّابقة والحالية.
أوّلًا، كانت معظم المعارضة مُقاطعة للانتخابات في عام 2018، ما أعطى لها مُبرّرًا دوليًا في محاولة الانقلاب بعد ذلك، أمّا اليوم فلقد شاركت كلّ المعارضة في الانتخابات وخسرت بوضوح رغم عدم اعترافها بالهزيمة، ومشاركتها هذه تجعل من موقفها الدّولي أقلّ قوّة من ذي قبل، وهو ما يتّضح من حجم وعدد المواقف الدّولية المؤيّدة لها، والتي هي أقلّ بكثير حاليًا من تلك التي أيَّدت الانقلاب السّابق.
ثانيًا، كانت كولومبيا خلال إدارة إيفان دوكي القاعدة الرّئيسية التي تدرَّب فيها الأفراد والعناصر المسلّحة التي قادت أحداث العنف خلال انقلاب غوايدو، لكنّها اليوم مع إدارة الرّئيس غوستافو بيترو تعترف بمادورو رئيسًا وتساهم في القبض على كلّ من يُثبت تورّطه في أعمال العنف داخل فنزويلا وعلى حدودها.
ثالثًا، حدث خلال انقلاب غوايدو انشقاقات قليلة في صفوف الجيش والشّرطة، بالرّغم من إعلان المؤسّستين آنذاك الوقوف إلى جانب الدّيمقراطية وقرار الشّعب الفنزويلي. لكن هذه المرّة لم يحدث أيّ انشقاق في المؤسّستين، ولم يلق اليمين المتطرّف أيّ شكل من أشكال الدّعم من داخل مؤسّسات الدّولة.
وأخيراً، كانت المعارضة خلال انقلاب غوايدو مُسيطرة على الجمعية الوطنية الفنزويلية وكان غوايدو نفسه رئيسًا لها، على العكس تمامًا من اليوم، إذ يمتلك حاليًا ائتلاف “القطب البوليفاري الكبير” الذي يضمّ الحزب الحاكم الغالبية العظمى من مقاعدة الجمعية بواقع 253 مقعدًا مقارنة بائتلاف “المنصّة الوحدوية” اليميني المعارض الذي يحوذ على 21 مقعدًا لا غير.