يبرز الإعلام كقوة مؤثرة تلعب دورًا جوهريًا في حماية الهوية الثقافية والحفاظ على الذاكرة الجماعية للشعوب. فالتراث الثقافي ليس مجرد إرث حضاري تتناقله الأجيال، بل هو انعكاس لروح الأمة وجسر يربط الماضي بالحاضر، مما يجعله مستهدفًا في كثير من الأحيان من محاولات الطمس أو التزييف. في هذا السياق، يؤكد قديري مصباح، رئيس الاتحاد الوطني للصحفيين الجزائريين، على الدور المحوري الذي يؤديه الإعلام في التوعية بأهمية حماية الموروث الثقافي، والتصدي للتحديات التي تواجهه، سواء من خلال التغطيات الإعلامية المتخصصة أو عبر تعزيز الشراكة بين المؤسسات الرسمية والمجتمع المدني. في هذا المقال، يستعرض الكاتب آليات تعزيز حضور التراث في المشهد الإعلامي، وأهمية إدراجه ضمن استراتيجيات التعليم والسياسات الوطنية لضمان استمراريته وصونه للأجيال القادمة.
يُعدّ قطاع الإعلام أحد الركائز الأساسية في حماية التراث الثقافي الوطني، حيث يؤدي دورًا محوريًا في توعية المجتمع بأهمية الحفاظ على هذا الإرث التاريخي الذي يمثل الهوية الوطنية والذاكرة الجماعية للشعوب، فمن خلال التغطية الإعلامية الواسعة، والبرامج الثقافية، والمواد الوثائقية، والحوارات المتخصصة، يُساهم الإعلام في صون الموروث الثقافي وحمايته من الضياع أو التشويه.
وإلى جانب دوره التوعوي، فإن الإعلام يُعد شريكًا أساسيًا في المهمة الوطنية التي تسعى إلى حماية واسترجاع الممتلكات الثقافية التي تعرضت للسرقة أو النهب، وذلك بالتعاون مع المؤسسات الأمنية والعسكرية والجهات المختصة، فضلًا عن الدور الذي يلعبه المجتمع المدني في هذا الإطار.
إن تعزيز الوعي العام بأهمية حماية التراث الثقافي يُعدّ أحد الأدوار الجوهرية التي يضطلع بها الإعلام بمختلف وسائله، سواء كانت تقليدية مثل الصحافة المكتوبة والإذاعة والتلفزيون، أو حديثة مثل وسائل التواصل الاجتماعي والمواقع الإلكترونية، فالموروث الثقافي لأي أمة هو جزء لا يتجزأ من هويتها وتاريخها، ويشكل رابطًا قويًا بين الأجيال المتعاقبة، مما يجعل حمايته واجبًا وطنيًا وأخلاقيًا يجب أن تلتزم به جميع فئات المجتمع.
وتماشيًا مع هذه الرؤية، جاءت توجيهات رئيس الجمهورية، عبد المجيد تبون، واضحة وصارمة فيما يتعلق بضرورة تعزيز آليات حماية التراث الثقافي، والعمل الجاد على استرجاع الممتلكات الثقافية المسلوبة، وحفظها وصيانتها وتثمينها، فالتراث ليس مجرد شواهد أثرية أو مقتنيات تاريخية، بل هو رمز لأصالة الأمة ومرآة تعكس حضارتها وعراقتها، مما يفرض ضرورة تكثيف الجهود للحفاظ عليه من التهميش أو الطمس أو الاستغلال غير المشروع.
ومن بين الخطوات الهامة التي تعزز مكانة التراث في المجتمع، ضرورة إدراجه في المناهج التعليمية والكتب المدرسية، حتى يكون جزءًا من العملية التربوية التي تغرس في الأجيال الصاعدة الوعي بقيمته وأهميته.
وقد بدأت وزارة التربية الوطنية بالفعل في اتخاذ خطوات جادة نحو تحقيق هذا الهدف، من خلال تضمين مواد ومقررات تعليمية تُعرّف التلاميذ بتاريخ بلدهم وتراثه الغني، وتحفزهم على الحفاظ عليه والترويج له، فالتعليم هو الأساس الذي تُبنى عليه الأجيال، ونشر الوعي الثقافي منذ الصغر يسهم في ضمان استمرارية الاهتمام بالتراث عبر العقود القادمة.
ومع التطور السريع الذي شهده العالم في مجال الإعلام والاتصال، وخاصة بعد انتشار وسائل التواصل الاجتماعي، برزت تحديات جديدة أثّرت على طريقة تناول المعلومات المتعلقة بالتراث الثقافي، فقد أصبحت هذه المنصات الرقمية جزءًا لا يتجزأ من المشهد الإعلامي، مما أدى إلى ظهور نوع من التشويش المعلوماتي لدى الجمهور، لا سيما وأن بعض المؤثرين وصناع المحتوى الذين يتناولون مواضيع الثقافة والتراث ليسوا بالضرورة متخصصين في هذا المجال، ونتيجة لذلك، انتشرت العديد من المعلومات المغلوطة أو غير الدقيقة، مما قد يُسبب تحريفًا للحقائق وتشويهًا للصورة الحقيقية للموروث الثقافي الجزائري.
وهنا يبرز دور الإعلام المهني والمسؤول في تصحيح هذه المغالطات، من خلال تقديم محتوى موثوق يستند إلى مصادر دقيقة، والعمل على تعزيز الوعي النقدي لدى الجمهور حتى يتمكن من التمييز بين المعلومات الصحيحة والمضللة، فالتراث الثقافي ليس مجرد موضوع للنقاش على منصات التواصل، بل هو جزء من الهوية الوطنية التي يجب الحفاظ عليها بعيدًا عن التشويه أو الاستغلال العشوائي.
إن الإعلام، باعتباره قوة ناعمة ذات تأثير واسع، لا يقتصر دوره على نقل الأخبار العاجلة أو تغطية الفعاليات الثقافية، بل يمتد ليشمل الدفاع عن مكونات الذاكرة الوطنية والتصدي لكل محاولات طمس الهوية وتشويه التراث، وفي ظل العولمة المتسارعة والتغيرات الاجتماعية الكبرى، يصبح الحفاظ على التراث مسؤولية ملقاة على عاتق جميع الأطراف، بدءًا من الإعلاميين والمثقفين، مرورًا بالمؤسسات التعليمية والتربوية، وصولًا إلى صناع القرار والمسؤولين الحكوميين.
رغم أن الجزائر تُعد واحدة من أكثر الدول انفتاحًا على العالم، بحكم موقعها الجغرافي وعلاقاتها المتعددة مع مختلف الشعوب والثقافات، إلا أنها استطاعت أن تحافظ على تراثها الثقافي وتحمي هويتها الوطنية، فعلى أرضها، تعيش العديد من الجنسيات المختلفة في انسجام تام، ومع ذلك لم يؤثر هذا التنوع على أصالتها الثقافية، بل شكل نموذجًا فريدًا يُجسد مدى حرص الدولة والمجتمع على صون الموروث الوطني، ويرجع هذا النجاح إلى السياسات التي انتهجتها الدولة الجزائرية في حماية التراث، سواء من خلال إصدار القوانين والتشريعات التي تجرّم المساس بالممتلكات الثقافية، أو عبر تعزيز الوعي الجماهيري بأهمية الحفاظ على الموروث الوطني.
كما أن التعاون الدولي في هذا المجال ساعد الجزائر على استعادة العديد من القطع الأثرية التي كانت مسلوبة، مما يُبرز أهمية الجهود الدبلوماسية والإعلامية في تحقيق هذا الهدف.
إن حماية التراث الثقافي ليست مجرد مسؤولية قانونية أو إدارية، بل هي قضية وعي مجتمعي ومسؤولية وطنية تستوجب تكامل الأدوار بين جميع الأطراف الفاعلة، فالإعلام، والتعليم، والمجتمع المدني، والجهات الحكومية، جميعها تلعب دورًا في هذه المهمة، التي تهدف إلى ضمان استدامة التراث ونقله إلى الأجيال القادمة بأمانة واعتزاز.
وفي ظل التحديات الراهنة التي يواجهها التراث الثقافي، من محاولات السرقة والتزييف إلى مخاطر العولمة السريعة، تبرز أهمية الإعلام كدرع واقٍ يدافع عن هوية الأمة ويصون ذاكرتها الجماعية، فالموروث الثقافي هو روح الأمة التي تربط الماضي بالحاضر، وتمهد الطريق لمستقبل أكثر إشراقًا يقوم على أساس متين من الهوية والاعتزاز بالجذور.
وبالتالي، يجب أن تبقى حماية التراث أولوية قصوى في السياسات الوطنية، مع التأكيد على دور الإعلام كوسيلة فعالة لنشر الوعي، وتصحيح المعلومات المغلوطة، وتعزيز الانتماء الوطني، لضمان أن يبقى الإرث الثقافي الجزائري محفوظًا ومتوارثًا عبر الأجيال، ليظل شاهدًا على عراقة هذه الأمة وإسهاماتها في الحضارة الإنسانية.