يعدّ التراث الثقافي مرآة الشعوب، فهو ليس مجرد موروث مادي ومعنوي تتناقله الأجيال، بل هو الهوية التي تعكس أصالة المجتمعات وتجذرها في التاريخ. في ظل التغيرات المتسارعة التي يشهدها العالم، أصبح الحفاظ على هذا الإرث مسؤولية ملحة، تتطلب تضافر الجهود لحمايته من الاندثار أو التزييف. وتقف الجزائر، بثرائها الثقافي الفريد، أمام تحديات جسام في سبيل صون موروثها من محاولات الطمس والاستيلاء، ما يستوجب تعزيز الوعي بأهميته واتخاذ خطوات فعالة لتوثيقه والترويج له على المستويين الوطني والدولي. في هذا المقال، يستعرض الباحث في الشؤون الدولية، عبد الرحمان بوثلجة، واقع التراث الجزائري، التحديات التي تواجهه، والجهود المبذولة لحمايته، ضمن رؤية شاملة تعكس أهمية هذا الإرث في تعزيز الهوية الوطنية وترسيخها عبر الأجيال.
التراث الثقافي أو الإرث الثقافي هو أكثر من مجرد موروث حضاري، بل هو الهوية التي تعكسُ تاريخ الشعوب، عاداتها، تقاليدها، وجذورها الضاربة في أعماق الزمن، إنه الرابط الذي يُوّحد الأفراد داخل المجتمع، ويُشكّل الصورة التي يريدون أن يراهم بها العالم، لهذا السبب، تولي الشعوب أهميةً قصوى لحماية تراثها وصيانته، باعتباره ثروة لا تُقدّر بثمن، وأمانةً تُنقل إلى الأجيال القادمة لضمان استمرارية هويتها وخصوصيتها الثقافية.
الجزائر، بتاريخها العريق وتنوعها الجغرافي والثقافي، تُشبه قارةً مُصغرة، حيث تحتضن موروثًا حضاريًا يمتد عبر العصور، ويشمل مختلف مناطق البلاد من الشمال إلى الجنوب ومن الشرق إلى الغرب، هذا التنوع الثقافي لا يمثل مجرد عنصر من عناصر الهوية الوطنية، بل هو شاهد على الامتداد العميق للجذور الجزائرية في التاريخ، فكل منطقة تزخر بخصوصياتها التي تعكس التداخل الفريد بين الحضارات الأمازيغية والعربية والإسلامية والأندلسية، إلى جانب التأثيرات العثمانية والاستعمارية.
ينعكس هذا المزيج الثقافي في اللهجات، اللباس التقليدي، الموسيقى، الفنون، العادات والتقاليد، الأطباق الشعبية، والمناسبات الاجتماعية، مما يجعل التراث الجزائري ثريًا ومتعدد الأوجه، لكنه في الوقت نفسه وحدة متماسكة تعكس روح الشعب الجزائري وتفرده بين الأمم.
حماية هذا التراث ليست مسؤولية الدولة فقط، بل هي واجب وطني مشترك بين جميع الجزائريين، ورغم أن المؤسسات الرسمية، مثل وزارة الثقافة ووزارة السياحة، تتحمل جزءًا كبيرًا من هذه المسؤولية، إلا أن المجتمع المدني، لا سيما الجمعيات المحلية، يلعب دورًا أساسيًا في صون الموروث الثقافي، فهذه الجمعيات، بفضل قربها من المجتمعات المحلية، تمتلك القدرة على توثيق العادات والتقاليد ونقلها للأجيال الجديدة، وتنظيم الفعاليات الثقافية التي تساهم في الحفاظ على الهوية الوطنية وتعزيز الوعي بأهميتها.
كما أن الإعلام، بمختلف أشكاله، له دور بارز في تسليط الضوء على هذا التراث، سواء من خلال الأفلام الوثائقية، البرامج التلفزيونية، أو المحتوى الرقمي الذي يتيح للعالم اكتشاف الثراء الثقافي الجزائري.
إلا أن هذا التراث الغني يواجه تحديات عديدة، أبرزها محاولات السرقة والاستيلاء عليه من قبل أطراف خارجية تسعى إلى نسبه إليها، في محاولة لتزوير التاريخ وإعادة تشكيل هوية ثقافية زائفة، هذه المحاولات ليست مجرد تصرفات عشوائية، بل تعكس غياب الهوية الثقافية الحقيقية لدى هذه الأطراف، لأن الشعوب التي تمتلك إرثًا حضاريًا حقيقيًا لا تحتاج إلى الاستيلاء على موروث الآخرين، وللأسف، لم تقتصر هذه السرقات على الأغاني أو القصائد فحسب، بل امتدت إلى العادات والتقاليد وحتى الأطباق الشعبية، في محاولة يائسة لطمس الهوية الجزائرية وتغيير معالمها الثقافية.
لمواجهة هذه التحديات، من الضروري تكثيف الجهود الوطنية لحماية التراث وتوثيقه، بالإضافة إلى اللجوء إلى المنظمات والهيئات الدولية المختصة، مثل اليونسكو، لضمان الاعتراف بالموروث الثقافي الجزائري وحمايته من التحريف والسرقة، كما أن تعزيز الدبلوماسية الثقافية والترويج لهذا التراث على المستوى العالمي من خلال المعارض، المهرجانات، والمبادرات الثقافية، يعد من أهم الوسائل لضمان استمرارية الهوية الجزائرية وتألقها في المشهد الثقافي العالمي.
التراث الثقافي ليس مجرد ماضٍ يُروى، بل هو حاضرٌ نعيشه ومستقبلٌ يجب أن نحميه، إنه مسؤولية الجميع، من أفراد ومؤسسات، لأنه يمثل جوهر الهوية الوطنية وركيزة من ركائز الانتماء، فالحفاظ عليه هو حفاظ على الجزائر نفسها، وعلى امتدادها التاريخي والحضاري، مما يضمن استمرار إشعاعها الثقافي للأجيال القادمة.