شهدت الأسرة الجزائرية تحوّلات عميقة خلال العقدين الأخيرين، خاصة في مستوى التفاعل الاجتماعي داخل الأسرة، فمن المنظور السوسيولوجي، تُعدّ الأسرة مؤسسة تنشئة اجتماعية أساسية وأولية، حيث تقوم بدور محوري في نقل قيم المجتمع وأخلاقياته إلى أبنائها.
تقليديًا، كانت الأسر الجزائرية تحافظ على طقوس اجتماعية تُعزّز التماسك الأسري، مثل التجمع اليومي خلال الوجبات أو اللقاءات العائلية الدورية، من خلال هذا التفاعل اليومي، كان الأبناء يقلّدون سلوك الكبار ويتعلّمون القيم المقبولة والمرفوضة اجتماعيًا، لكن مع ظهور الهواتف الذكية وانتشارها الواسع بسبب انخفاض أسعارها، تغيّرت ديناميكيات الأسرة بشكل جذري.
اليوم، أصبح الأطفال والمراهقون يقضون وقتًا طويلاً أمام شاشات الهواتف الذكية، مما قلّل من فرص التفاعل المباشر مع أوليائهم، وأدى ذلك إلى تراجع ما يمكن أن نسمّيه “الزمن الاجتماعي” لصالح “الزمن الافتراضي”، حيث باتت العلاقات العائلية تُستبدل تدريجيًا بعلاقات رقمية ضمن “المجتمع الافتراضي”، هذا التحوّل يثير تساؤلات عديدة حول تأثير الاستخدام المفرط لهذه الأجهزة على تنشئة الأطفال وتعليمهم القيم الاجتماعية.
التوجه للزمن الافتراضي جلب معه مشاكل جمة على مستوى التنشئة الاجتماعية، فالأطفال يفقدون الفرصة لاكتساب قيم مجتمعهم عبر التفاعل اليومي مع أوليائهم، في مقابل ذلك، تتوسع منصات التواصل الاجتماعي في نقل قيم وتوجهات قد تكون منافية للقيم المحلية، هذا التغيير يجعلنا نتساءل عن الدور الذي يمكن أن تلعبه الأسرة في مواجهة هذه الظاهرة.
إضافة إلى ذلك، بدأت هذه الظاهرة تؤثر على توزيع الأدوار داخل الأسرة، لم تعد هناك تلك اللحظات اليومية المشتركة التي تجمع بين الأولياء وأبنائهم، بات كل فرد ينزوي في “حيّز خاص” يتفاعل فيه مع محتوى الأجهزة الذكية، وأحيانًا يُمنح الطفل الهاتف لتهدئته أو إشغاله منذ سن مبكرة، مما يؤدي إلى اعتماد مفرط على هذه الوسيلة، بل وإدمانها، هذا النمط الجديد من الحياة اليومية أدى إلى تقلص المساحات المشتركة التي كانت تجمع الأسرة في السابق.
كما قد تتعدّى التأثيرات السلبية لاستخدام الهواتف الذكية الجانب الاجتماعي لتشمل النمو النفسي والعقلي للأطفال، فقد أشارت دراسات سوسيولوجية إلى أن أحد العوامل الأساسية وراء ارتفاع معدلات الجريمة والانحراف هو ضعف التنشئة الاجتماعية وتراجع تمثّل القيم، فالأطفال الذين لا يكتسبون القيم الاجتماعية بشكل مباشر من أسرهم قد يجدون أنفسهم عرضة لتأثيرات خارجية قد تكون سلبية.
ومن هنا، بات من الضروري التنبيه إلى أن تأثير هذه الأجهزة لا يقتصر على الأطفال فحسب، بل يشمل أيضًا الأولياء، فالأولياء أنفسهم باتوا يقضون وقتًا طويلاً في استخدام الهواتف الذكية، مما يقلل من فرص التواصل مع أبنائهم، هذا الانشغال المستمر يؤدي إلى ما يمكن وصفه بضعف الروابط العائلية، حيث يصبح كل فرد معزولاً في عالمه الرقمي الخاص.
ولمواجهة هذه الظاهرة، يجب تعزيز وعي الأولياء بأهمية التوازن بين استخدام التكنولوجيا والحفاظ على الروابط العائلية، كما ينبغي أيضا العمل على وضع سياسات تربوية تُشجّع على تعزيز الزمن الاجتماعي داخل الأسرة، مثل تخصيص أوقات يومية للتفاعل دون أجهزة إلكترونية، هذا الجهد ضروري لضمان استمرار القيم الاجتماعية الأصيلة للأجيال القادمة.
أحد الحلول الممكنة هو تنظيم ورشات عمل وتدريبات للأولياء تهدف إلى تعريفهم بآثار الاستخدام المفرط للتكنولوجيا وكيفية وضع حدود لاستخدام الأجهزة داخل الأسرة، بالإضافة إلى ذلك، يمكن للمدارس أن تلعب دورًا محوريًا من خلال إدراج برامج تعليمية تُركّز على التفاعل الاجتماعي وقيم الأسرة.
في الختام، نؤكد على أن التكنولوجيا أصبحت جزءًا لا يتجزأ من حياتنا اليومية، لكن إدارتها بشكل سليم يضمن عدم تأثيرها السلبي على القيم الاجتماعية والثقافية، كما أن استعادة الزمن الاجتماعي هو تحدٍ كبير، ولكنه ضروري لضمان تماسك الأسرة الجزائرية في وجه التغيرات المتسارعة التي يشهدها العالم.