التوجه إلى الجمعية العامة للأمم المتحدة منفذ للخلاص.. الفيتو الأمريكي.. أو حق النّقض الشيطاني!

أمريكا هي الطاعون، والطاعون هو أمريكا.. قالها “درويش” ذات مرّة ولم يصدّقه أحد، ما عدا أمريكا نفسها التي صدقته وآمنت بكلامه حقا، وكرسته في سياساتها السادية نهجا ودستورا، بل وزادت عليه بأن أثبتت للعالم على أنها ظل الشيطان في الأرض.. وأنها لوبيهات القذارة ومواخير السفالة.. وأنها الإرهاب بعينه والقمع بشكله والظلم برأسه والصلف برمّته.. وأنها الرصيد غير الأخلاقي الذي لو وزع على أهل الأرض جميعا لأغرقهم فظاعة وطغيانا… فإلى يوم الناس هذا، لم يسجل التاريخ من عهد “نوح” أسوأ وأحقر من دولة صقور الموت والخراب!

ببلاغ مقتضب، أعلن مجلس الأمن الدولي أنه لم يتمكن من اعتماد مشروع قرار كانت دولة الإمارات العربية المتحدة قد تقدمت به، بشأن التصعيد الدموي الذي تشهده غزة على يد قوات الاحتلال الصهيوني، وذلك بسبب “استخدام الولايات المتحدة الأمريكية حق النقض – الفيتو-، ضد المشروع الذي أيده 13 عضوا من أعضاء المجلس الخمسة عشر، مع امتناع المملكة المتحدة عن التصويت..”، إنها فعلا “معضلة الأخلاق” التي صارت لعنة مستدامة تعاني منها دولة الولايات المتحدة.

فطبقا للإحصاءات الرسمية للأمم المتحدة، فإن مجلس الأمن الدولي الذي تم تأسيسه العام 1945م، والذي تهيمن على قراراته خمس دول تحت درع حق النقض “الفيتو”، يكون قد استخدم الحق الجائر 260 مرة، كانت حصة الولايات المتحدة منها 114 مرّة، من بينها 80 مرة استخدمت هذا الحق لمنع إدانة العصابة الصهيونية، و34 مرة ضد قرارات ومشاريع قوانين خصصت لمساندة حق الشعب الفلسطيني في تمتعه بالأمن والحماية والاستقرار.

ورغم أن مشروع القرار جاء في شكل خطاب ساوى بين الضحية والجلاد، إلا أنه كان كافيا على المدى العاجل لخنق النزيف وبعث شيء من الأمل لساكنة القطاع، حيث طالب بالوقف الفوري لإطلاق النار، على الأقل من باب الإنسانية، وكرر مطالبته من جميع الأطراف –المقاومة والكيان الصهيوني- بأن تمتثل لالتزاماتها بموجب القانون الدولي، بما في ذلك القانون الإنساني وخاصة فيما يتعلق بحماية المدنيين، كما طالب بالإفراج الفوري وغير المشروط عن جميع “الرهائن”، وبضمان وصول المساعدات الإنسانية. لكن، من دون الإشارة إلى المعتقلين والمساجين والمحبوسين الفلسطينيين ظلما في سجون الكيان الصهيوني، بالخصوص الذين تم اعتقالهم مؤخرا، ويتم في كل حين، مع تعرضهم لشتى أنواع الإهانة والتعذيب غداة دخول قوات الاحتلال شمال غزة، أو خلال توغلها في مدن الضفة موازاة مع ذلك.

خيبة أمل غائرة خيمت على وفود العالم بمقر الأمم المتحدة، خاصة شخص الأمين العام للهيئة الدولية “أنطونيو غوتيريش”، الذي يتعرض بدوره إلى حملة شيطانية قذرة، يقودها ممثل الكيان الصهيوني بالمنظمة، بدعم من البعثة الدبلوماسية الأمريكية، لا لشيء إلا لأنه قدم توصيفا واقعيا لما يحدث في الميدان، وأنه أبدى معارضته الصارمة لما تقوم به قوات الاحتلال الصهيوني من تجاوزات فاقت المعقول، في غزة خصوصا وفي فلسطين على وجه العموم، مخالفا بذلك الأعراف والتقاليد الأممية القاضية عادة بوضع الأمين العام خاتما في أصبع واشنطن تديره كيف تشاء، وتستخدمه سوطا لجلد خصومها باسم الشرعية الدولية.

“غوتيريش” أبان عن معدن رجل فذّ، غير ذلك الملوث الذي تحبّذه أمريكا وأتباعها، وهو يخاطب رئيس مجلس الأمن ويخطره بدقة المرحلة وخطورة الوضع، مفعّلا في ذلك المادة 99 من ميثاق الأمم المتحدة، والتي تنص على أن؛ “.. للأمين العام أن ينبه مجلس الأمن إلى أية مسألة يرى أنها قد تهدد حفظ السّلم والأمن الدوليين..”، وقد أسهب في خطابه تحليلا للوضع مسلطا الضوء على ثلاث نقاط أساسية في القضية:

  • عدم وجود حماية فعالة للمدنيين، حتى أنه لا يوجد أي مكان آمن في غزة.
  • نفاد مخزونات الغذاء، وفق برنامج التغذية العالمي، مما ينذر بخطر كبير للجوع الشديد والمجاعة العارمة في غزّة.
  • انهيار النظام العلاجي، وتفكك الهيكل العام لإدارة الشؤون الاستشفائية، أمام تصاعد الاحتياجات وتفاقم الوضع الصحي.

الأمين العام للأمم المتحدة، وهو يسوق الأدلة ويفشي الدلائل الدامغة على تورط الكيان الصهيوني في ارتكاب محرقة جديدة بحق الشعب الفلسطيني، يكون قد فتح أبواب “الجحيم الأمريكي” على نفسه، فمواجهة الشيطان وفي جحره لن تكون سليمة العواقب، وبالتالي فهو يحتاج إلى دعم عريض من قبل الدول الحرة الشريفة، للوقوف ندّا في وجه الإمبريالية والشذوذ. وطبعا، لا يمكن أن يغيب عن وعيه مثل هذا الطرح، ولذلك فقد وجه كلامه إلى المجتمع الدولي لتفعيل كل ما يمكن لإنهاء محنة سكان غزة، كما حثّ مجلس الأمن على عدم ادّخار أي جهد للدفع من أجل “.. الوقف الفوري لإطلاق النار لأسباب إنسانية، وحماية المدنيين والتوصيل العاجل للإغاثة المنقذة للحياة..”، بحسب ما أردف مصرحا.

وحتى يكون نزيها من باب المسؤولية الأخلاقية والقانونية الملقاة على عاتقه حيال ما يحدث، وجّه خطابه إلى مجلس الأمن مفعلا المادة 99 من الميثاق الأممي؛ “..أننا وصلنا إلى نقطة الانكسار.. فهناك خطر كبير للانهيار التام لنظام الدعم الإنساني في غزة، بما سيُخلف عواقب مدمرة..”، مضيفا في السياق ذاته أن ذلك الوضع قد يؤدي إلى انهيار تام للنظام العام، وزيادة الضغط في اتجاه النزوح الجماعي إلى مصر، وأن خطر انهيار النظام الإنساني يرتبط بشكل أساسي بعدم توفير الحماية لموظفي الأمم المتحدة في غزة، وطبيعة وكثافة العمليات العسكرية التي تحد بشكل كبير من الوصول إلى المحتاجين بشدة للمساعدات.

وأضاف الأمين العام مستعرضا الوضع الميداني الكارثي “أن تهديد سلامة وأمن موظفي الأمم المتحدة في غزة غير مسبوق، فأكثر من 130 من زملائي قُتلوا بالفعل، وأن الكثير منهم قضوا رفقة أسرهم، وفي هذه أكبر خسارة بشرية فريدة في تاريخ منظمتنا.. كما أنني اطلعت على كثير من رسائل موظفينا في الميدان، فوجدتها تفطر القلب وهم يناشدون المساعدة..”.

موقف آخر سيحسب للأمين العام “غوتيريش” وهو تشديده على التزام الأمم المتحدة القوي بالبقاء والعمل من أجل سكان غزة، مشيدا في الوقت ذاته ببطولة العاملين في مجال الإغاثة الإنسانية الذين ما زالوا ملتزمين بأداء عملهم، على الرغم من المخاطر الهائلة على حياتهم وعلى صحتهم.

إذا، وأمام هذا الانحياز “الإرهابي القاتل” الفاضح، من قبل النظام الأمريكي إلى صفّ الاحتلال الصهيوني وممارساته الإجرامية الفظيعة، لم يبق أمام مجلس الأمن والمجموعة الدولية سوى التوجه إلى الجمعية العامة للأمم المتحدة، واستغلال إمكانية عقد دورة استثنائية طارئة، طبقا لمواثيق المنظمة، والقاضية بأنه “..يمكن أن تنعقد الدورات الاستثنائية الطارئة في غضون 24 ساعة بطلب من مجلس الأمن، إذا صوتت على ذلك تسع من الدول الأعضاء فيه، كما يمكن أن تنعقد إذا طلبت ذلك غالبية الدول الأعضاء أو إحداها، بشرط أن توافق على ذلك بقية الدول الأعضاء..”، وبذلك يمكن جرّ الولايات المتحدة الأمريكية إلى حيث يسقط الفيتو وتتساوى أصوات الدول الأعضاء.

ولذلك، لم تكن مرافعات الجزائر من أجل منح فلسطين العضوية الكاملة بالجمعية العامة للأمم المتحدة تعبيرا مجازيا أو خطابا رنانا للاستهلاك الإعلامي، وإنما هو موقف مسؤول وتاريخي، يمكّن الدولة الفلسطينية من ممارسة كامل حقوقها للدفاع عن نفسها، من دون اللجوء إلى طلب الفضل من أية دولة أخرى، وفي هذا بعد نظر ثاقب من لدن الدبلوماسية الجزائرية، في سبيل تعزيز استقلال وحرية الشعب الفلسطيني.

إلا أن هذا الطلب سيصطدم حتما بموقف البعثة الأمريكية المتصهينة حدّ النخاع، ذلك أن ميثاق الأمم المتحدة يفرض على كل دولة ترغب في التمتع بالعضوية الكاملة بالهيئة الأممية الحصول على قرار من مجلس الأمن يسمح لها بذلك، حيث يكون مشفوعا بموافقة تسع دول – على الأقل – من الأعضاء الخمسة عشرة، وعلى شرط ألّا يعترض أي عضو من “دول الفيتو” (الولايات المتحدة – روسيا – فرنسا – بريطانيا – الصين) على مشروع القرار المشار إليه. وهذا الذي لا يمكن أن تقبل به أمريكا وبأي شكل من الأشكال، لأنها ستجد نفسها في مواجهة الحقيقة التي طالما عملت على تمييعها وإفراغها من المحتوى الراسخ الذي يخشاه الكيان الصهيوني؛ حق الأرض وحق العودة وحق العيش، باسم الشرعية التاريخية والحقيقة الميدانية، ووفق المواثيق والقرارات الأممية.

إذا، ومن هذا المنطلق، تعتبر مسألة الاعتراف بالدولة الفلسطينية كعضو كامل الحقوق في الهيئة الأممية معركة أخرى تفرض نفسها على المشهد العالمي، طرفاها الحق والباطل.. الإنسان والشيطان.. الشرعية والعدوان.. الحقيقة والبهتان.. معركة تضع المجموعة الدولية أمام اختبار آخر لضميرها وأخلاقها ومصداقيتها، في مواجهة الصلف “الأمريكو – صهيوني” وملحقاته في القارة العجوز؛ فإما تمرير مشروع القرار الشرعي، ولو بالدعوة إلى عقد جمعية عامة للأمم المتحدة في دورة استثنائية، وإما السقوط والانكسار للنظام العالمي الحالي، ونهاية الوهم الذي عمّر أكثر مما يجب.

مصطفى بن مرابط - الجزائر

مصطفى بن مرابط - الجزائر

كاتب في الأيام نيوز

اقرأ أيضا

آخر الأخبار
وزير الاتصال..الجزائر توسّع بثها الإعلامي دوليًا عبر الأقمار الصناعية سونلغاز تفتح أبوابها لنقل خبرتها إلى بوركينا فاسو قائد الجيش السوداني:"الخرطوم حرة" استنفار وطني لمواجهة أسراب الجراد ومنع انتشارها إلى ولايات جديدة رقمنة الخدمات التجارية.. "مرافق كوم" الحل الذكي لمتابعة مداومة التجار دوفيلبان يتصدر الشخصيات السياسية المفضلة في فرنسا بعد مواقفه من غزة والجزائر هذه أبرز الملفات التي ناقشها اجتماع الحكومة الجزائر في صدارة الدول المصدرة للغاز المسال بإفريقيا ليلة القدر في الجزائر.. نفحات إيمانية وعادات متجذرة الكاردينال فيسكو: "تصريحات روتايو مستفزة والجزائر لن تخضع للخطاب التهديدي"  غزة تشتعل.. تصعيد عسكري ونفير عام ورسائل تهز "إسرائيل" بوغالي يطالب إسبانيا بمراجعة موقفها من قضية الصحراء الغربية القضاء الفرنسي يرفض طلب تعليق قرار طرد المؤثر الجزائري "دوالمن" بشراكة صينية.. نحو إعادة إطلاق مصنع الإسمنت بالجلفة سقوط القصر الرئاسي بيد الجيش.. معركة الخرطوم تدخل مرحلة الحسم ليلة الشك.. الجزائر تتحرى رؤية هلال شهر شوال يوم السبت هذه حصيلة نشاط الرقابة وقمع الغش والمضاربة خلال 24 يوما من رمضان وزارة التربية تنشر جدول التوقيت الخاص بامتحاني "البيام" و"الباك" خيرات الصحراء الغربية.. موارد منهوبة تموّل آلة الإجرام المغربية! مواد مسرطنة في الحلويات الحديثة.. حماية المستهلك تحذّر