الجاذبية والحنين إلى “الوطن الأم”.. ما معنى المكان في كتابات المهاجرين الجزائريين في فرنسا؟ (الجزء الرابع والأخير)

ما معنى الوطن؟ السؤال بسيطٌ حدّ السذاجة بالنسبة للذين يعيشون مطمئنين آمنين في أوطانهم، ولكنه صعبٌ ومُعقّد بالنسبة للمهاجرين واللاجئين بعيدا عن أوطانهم، لا سيما أجيال اللاجئين الذين وُلِدوا وعاشوا ولم يتنشّقوا هواء وطنهم، ولم تطأ أقدامُهم ترابَه.. هم يعرفونه من الحكايات والأقاصيص التي ورثوها عن آبائهم وأجدادهم، ومع ذلك هم يعتزون ويفتخرون بانتمائهم إلى وطنهم الذي لم يعرفوه!

الوطن ليس المكان الذي نسكنه فحسب بل هو أيضًا المكان الذي يسكننا ويثير فينا الحنين إلى جذورها أينما كنّا في هذا العالم.. إنّه مورّثات روحية وفكرية وثقافية تتناقلها الأجيال عبر الأزمنة والعصور، وفي تراثنا الفكري والأدبي ما يُشير إلى أنّ أحفاد الأحفاد يُنسبون إلى الوطن الذي جاء منه جدّهم الأوّل واستوطن مكانًا آخر بعيدا عن منبته الأصلي. إنّنا أمام “الوطن الأم” الذي يهب أبناءه الهويّة والانتماء الحقيقي مهما كانت البلدان التي تأويهم!

إنّ الجزائريين الذين هاجروا إلى فرنسا في مطلع القرن العشرين، لدواعي وأسباب كثيرة، أسّسوا أوّل ما أسّسوا “مُدنَ أكواخٍ” مُغلقة كانت تحفظ هويّتهم ولغتهم وعاداتهم.. وكثيرا ما أطلقوا عليها تسميات قراهم وأحيائهم في الجزائر مثل “الشّعبة” وهي “مدينة أكواخ” أقامها المهاجرون الجزائريون على ضفاف نهر “الرون” غير بعيد عن مركز مدينة “ليون”.

ومن أولئك المهاجرون الأوائل خرجت أجيالٌ فيها مَن لا يعرف الجزائر ولم يزرها مُطلقًا، ولكنه ظلّ منتميًّا إليها ويعتز ويفتخر بها ويعتبرها “البلاد المثالية” التي يحنّ إليها.. ومن بين هذه الأجيال برز كُتّابٌ لا نعرف عنهم الكثير – أو لا نعرفهم – كتبوا عن “الوطن الأم” الذي يسري في دمائهم حتى وإن كانوا لا يعرفون لغته.. وقد قامت مجلة “واسافيري” في عام 1995 بإصدار كتاب بعنوان “الكتابة عبر العوالم: الأدب والهجرة” ساهم فيه كتّابٌ من بلدان مختلفة. ومن بين الموضوعات التي تضمّنها الكتاب موضوع “تصوّرات المكان بين الكُتّاب من أصل جزائري مهاجر في فرنسا” للكاتبة من أصل مغاربي “أليك هارغريفز”، تناولت فيه قراءة في روايات لكُتّاب من أصول جزائرية.

الموضوع ترجمه الدكتور “محمد حلمي الأحمد” ونشرته مجلة “الآداب الأجنبية” في الأول من شهر أكتوبر 1998، وتعيد جريدة “الأيام نيوز” نشره لمعرفة بعض تفاصيل حياة الجزائريين المهاجرين الأوائل إلى فرنسا، وسرّ ارتباط أجيالهم اللاحقة بوطنهم الأم الجزائر، ولماذا عجزت الحضارة الغربية أن تذيبهم في أمواجها؟ ونترك للقارئ الكريم أن يتخيّل قيمة هذه الثروة الوطنية الجزائرية في عمق فرنسا، وما الذي يُمكنها أن تقدّمه لوطنها الأم إذا ما دعاها تاريخ أجدادها إلى إعادة كتابة تاريخ الظلم والتهميش والتمييز.. من هناك، من “الشعبة” والضواحي الباريسيّة! ونشير إلى أننا نتّفق مع الكاتبة في كثيرٍ من تفاصيل قراءتها للروايات التي كتبها أبناء المهاجرون الجزائريين، ونختلف معها في بعض الأفكار والرؤى.. ونترك القارئ يُبحر في صفحات نوعٍ آخر من “أدب الهجرة”، أدب يحمل كُتّابه الجنسية الفرنسية ولكنهم يُنسبون إلى الجزائر “وطنهم الأم”..

كتابات عن رحلات العودة من “المنفى الروحي”

إن لدى الشبان ذوي الأصل الجزائري في فرنسا والذين تحيط بهم الضغوطات والتّحاملات من كل جهة ما يجعلهم يبحثون عن علاج لهذه المشاكل في وطنهم الأم. ولكن الآمال المرجوة من هذه “العودة” قد تكون متناقضة إلى حد ما. تشير “كيرجو” إلى أن المهاجرين الأوائل تركوا الجزائر بالدرجة الأولى لأنهم وجدوا الحياة فيها غير مرضية. وكلهم بدون استثناء يخططون للعودة فور حصولهم على المال الكافي للعيش على الطريقة التي يرضونها، ولذلك بقيت الجزائر تشكل “الأرض المثالية”. كما أن الحرمان المادي والتعصب العرقي اللذين يلاقونهما في فرنسا جعلهم مستعدين للصفح عن كل الذكريات المنغّصة في الجزائر، فتكون بذلك عودتهم الموعودة كتعويض أسطوري عن كل ما عانوه خلال وجودهم في “المنفى” شمال البحر المتوسط. وبعد تمثّل هذه الصور، يجد أطفالهم من السهل التخيّل أن الجزائر يمكن أن تمثل باب الهروب من هذه المشكلات.

وفي الحقيقة، تتضاعف هذه المصاعب وتتعقّد عندما يحاول الشبّان من أصل مهاجر أن يستقروا على الشاطئ الجنوبي للمتوسط. فكما كان الفرنسيون يزدرونهم لأنهم عرب.. سينعتهم الجزائريون بأنهم غرباء مُفرنَسون. فكثير منهم يتكلم القليل أو لا شيء من العربية، وكلهم غير قادرين على الكتابة أو القراءة بهذه اللغة. وفي فرنسا كان ارتباطهم بالدين هشًّا، وفي هذه الظروف ستُشكِّل المعيارات الدينية السائدة في الجزائر صدمة غير متوقعة..

إن صدمة الإحساس بالغربة في مكان كان يبدو من المغترب وطنًا غالبًا ما يسبب إعادة تقويم للحياة في فرنسا، وفي بعض الحالات يؤدي إلى البداية في اختيار الكتابة نفسها. حدث ذلك للكاتب “مهدي لعلاوي” الذي ولد في “أرجنتويل”، إحدى حارات باريس الشمالية. ففي سن الثانية والعشرين حاول الاستقرار في الجزائر، ولكن بعد مِضيّ أقل من عام استخلص أن هذه المغامرة فاشلة، فعاد إلى فرنسا وبدأ حينها العمل على نشر رواية شبه ذاتية أسماها “البور على نهر السين” (Les Beurs de seine). وفي سن التاسعة والعشرين قام “عقلي تاجر” بقضاء إجازة مطوّلة في الجزائر، وهو من مواليد باريس تماما مثل “لعلاوي”، مما جعله يشرع بكتابة رواية “طاسيلي”. تبدأ الرواية من مشهد مرور البطل “عمر”، وهو نظير الكاتب، على قسم الهجرة والجمارك في الجزائر العاصمة قبل صعوده إلى السفينة “طاسيلي”.. إن الهجرة بحد ذاتها مليئة بالسخرية فبرغم كونه جزائري الجنسية، إلا أنه يشعر بالحنين إلى فرنسا بعد محاولته اليائسة لإعادة غرس جذوره في الطرف الآخر من المتوسط. فهو يقول: “نعم. إنني سعيد لمغادرة البيت لكي أستطيع أن أعود إلى البيت”، وذلك في تعارض واضح بين ما أبداه من غبطة في مغادرته والشعور الذي أحسّه العمّال المهاجرون العائدون إلى فرنسا بعد زيارة قصيرة إلى الجزائر وهو شعور بالنفي.

كاتبة أخرى ذات مولد باريسي هي “فريجة قصاص” كان عمرها تسع عشرة سنة عندما اصطحبها والداها إلى الجزائر للزواج من شاب اختاراه لها. بعد أشهر قليلة من زواجها تصاب بمرض فقدان الشهية “الخلفة” وتقنع زوجها بالعودة إلى فرنسا. كانت في هذه الأثناء قد بدأت العمل على كتابة رواية تصوّر وضع الشابات المهاجرات الجزائريات في فرنسا، والتي كانت ستنشر تحت اسم “قصة البور”، إحدى بطلتَي هذه الرواية تفضل الانتحار على أن تقبل بالزواج الذي اختاره لها أبواها في الجزائر.

امرأة مهاجرة في المنفى

ومن أعتى نقاد المجتمع الفرنسي المتحدّرين من أصل جزائري “سكينة بوخدينة” التي ولدت وترعرعت في الشمال الشرقي من فرنسا، ففي روايتها الذاتية “المجلة: القومية والهجرة” تنتقد بشكل دائم الفرنسيين وتلومهم على استغلالهم المستمر للجزائريين كما فعلوا في فترة الاحتلال للجزائر، وتصف مثاقفتها مع النظام التربوي الفرنسي في إحدى الصحف على أنها عملية مصادرة ثقافية لا أكثر: “إنني أكره أولئك نك الذين يدّعون أننا امتداد ثقافي لفرنسا، ذلك البلد المرير الذي أبعدنا عن ثقافتنا الحقة: إنني جزائرية أجل، لقد استعمروني ثقافيا، ولكنني لن أرتاح حتى أكتشف جذوري الحقيقية”.

وفي محاولتها لاستعادة هذه الجذور، تبدأ “بوخدينة” بتعلّم اللغة العربية ووضعت الحنّاء على سبيل التحدي الظاهر تجاه الفرنسيين. وفي سن الواحدة والعشرين تبحر على متن “طاسيلي” من مرسيليا إلى الجزائر. “كنت سعيدة” تتذكر قائلة: “لأنني كنت ذاهبة لأرى ما في مخيلتي وأحلامي.. التي كانت تُسمّى الجزائر”. وبعد دقائق من وصولها تتلقّى هذه الأوهام، التي كانت خليطًا من التصورات البعيدة والأهواء الذاتية.. وكانت حيثما ذهبت في الجزائر تتعرض للمضايقات لتحركاتها بسبب التعاليم الإسلامية بشأن المرأة، كما تتعرض لرجال يُسمعونها تلميحات فاحشة على أنها عنصر جنسي متغرِّب.. وحيثما تذهب تشعر بأنها مهاجرة، والناس الوحيدون الذين اعتبرتهم أصدقاء كانوا من الفلسطينيين المنفيين إلى الجزائر: “اتخذت قراري أنهم الوحيدون الذين يمكنني قضاء بعض الوقت معهم لأنهم مثلنا مهاجرون لم يبق لهم أي وطن”. ولكن الشاب “عيسى” نفسه الذي اتخذَته صديقًا من الفلسطينيين وجدَت أنه لا يستطيع أن يتجاهل ما يعتقده كل الجزائريين من أنها امرأة ولدت وعاشت في فرنسا فهي ليست أكثر من هدف جنسي، تقول: “لقد أحببت بحق ذلك الفتى، لأنه كان مخلصًا في التزامه للصراع الذي يقوم به شعبه، ولكنني ماذا عساني الآن أن أومن به؟ وما الذي بقي لي أن أتمسّك به؟ لقد كنت سوداء غريبة في فرنسا، وبغيا في الجزائر، أو تابعة في فرنسا ومهاجرة في الجزائر”.

تعود “بوخدينة” أخيرًا إلى فرنسا البلد الذي يمثل لها أهون الشرّين. والسطور الأخيرة في روايتها مملوءة بالإحساس العميق بالنفي: “إنني كامرأة عربية أجد نفسي في السجن المؤبد.. ولأنني اخترتُ لنفسي طريق الحرية، أنا منبوذة وامرأة مهاجرة في المنفى لن يقبل أحد بهويتي الحقيقية كامرأة. لقد حُكم عليّ أن أجوب العالم في البحث عن مكان أجد فيه هويتي”. إن شعور “بوخدينة” بفقدانها المكان ينبع من الهوة التي يبدو أنها لن تنغلق بين أماكن تجذَّرت في مخيّلتها وبين أماكن أخرى من حولها كانت قد اختبرتها وعاشت فيها.

التّيه بين ثقافتين..

إن هذه الصراعات ازدادت حدّة بالصور التي عكسها ساكنو هذه الأماكن على نفسها، تقول “بوخدينة”: “في فرنسا تعلّمت أن أكون عربية، أما في الجزائر فقد تعلمتُ أن أكون مهاجرة”، وفي كلتا الحالتين التعليميتين تجد نفسها تكدّس صور الكره التي تسلطها المجموعات الكبيرة على الأقليات من الشعب. وفي كلتا الحالتين تُحوِّل غزارة الابتكارات والتصورات المسبقة كلا المجموعتين إلى حوار أشبه بمناجاة الطرشان. ومع أنه من المبالغة الأمل بعمل أدبي يمكن له أن يتجاوز هذا الانشقاق، تقدّم كِتابات الأدباء المهاجرين تصورات نفّاذة للتناقضات التي تحفل بها أوضاع المهاجرين الجزائريين الشباب في فرنسا.

محمد ياسين رحمة - الجزائر

محمد ياسين رحمة - الجزائر

اقرأ أيضا

آخر الأخبار
غزة تحت القصف الصهيوني.. عظّم الله أجركم فيما تبقّى من إنسانيتكم أيها...! في محاولة لتخفيف التوتر.. وزير الخارجية الفرنسي يتودد للجزائر رقم أعمال "جيتكس" للنسيج والجلود يرتفع بـ15 بالمائة في 2024 اليونيسف: المشاهد والتقارير القادمة من غزة تفوق حدود الرعب القضاء الفرنسي يرفض تسليم بوشوارب للجزائر.. هل تتصاعد الأزمة؟ وزير الداخلية التونسي يزور مديرية إنتاج السندات والوثائق المؤمنة بالحميز انتشار "الجراد الصحراوي" يُهدّد 14 ولاية.. وهذه المناطق المعنية الجزائر تُروّج لمنتجاتها الغذائية في صالون لندن الدولي من الهاغاناه إلى "الجيش الإسرائيلي".. قرنٌ من التآمر على فلسطين! تقييم جهود البحث والإنقاذ البحري.. نحو استجابة أكثر فاعلية الجزائر تُندّد بجرائم الاحتلال في غزة وتدين صمت مجلس الأمن تراجع طفيف في أسعار النفط وسط احتمالات إنهاء الحرب بأوكرانيا نضال دبلوماسي لكسر العزلة.. الحقيقة الصحراوية تتحدّى التزييف المغربي خطوة نحو الاكتفاء الذاتي.. قطع غيار جزائرية في قلب صناعة السيارات فرنسا تفقد صوابها.. الجزائر تُحطم شراهة النفوذ البائد! نحو إعداد مشروع لتعديل أو استكمال القانون الأساسي لموظفي قطاع التربية الجزائر تدحض الادعاءات الفرنسية بشأن ترحيل رعاياها وتكشف تجاوزات باريس الجزائر تستنكر بشدة خرق الاحتلال لاتفاق وقف إطلاق النار في غزة الرئيس تبون يستقبل وزير الداخلية التونسي 15 سنة سجنا لمتّهم بالمضاربة غير المشروعة في البطاطا