الجرد الثقافي في الجزائر.. خطوة حاسمة لا تقبل التأجيل

يمثل التراث الثقافي أحد الركائز الأساسية لهوية الشعوب، فهو الشاهد الحي على تاريخها، وتنوعها الثقافي، وتراكماتها الحضارية. ومع ذلك، يواجه هذا التراث تحديات كبيرة تهدد باندثاره، سواء نتيجة للعولمة أو الإهمال أو نقص الجهود البحثية المنظمة لحمايته. وفي هذا السياق، يسلط سيدي صالح ياسين، الباحث في المركز الوطني لعصور ما قبل التاريخ، الضوء على أهمية وضع استراتيجيات علمية دقيقة لضمان استدامة التراث الثقافي في الجزائر. ويؤكد الكاتب أن البحث العلمي يعد حجر الأساس في هذه الجهود، حيث يسهم في توثيق التراث، تصنيفه، ودراسته بشكل معمق، مما يتيح وضع سياسات فعالة للحفاظ عليه. كما يناقش أهمية الجرد العام للتراث الثقافي، والعوائق التي تواجه عمليات البحث، مع التركيز على الدور المحوري للمؤسسات الأكاديمية، والجهات المختصة، والمجتمع في صون هذا الموروث للأجيال القادمة.

من أجل ضمان استدامة التراث الثقافي وحمايته من الاندثار، لا بد من وضع استراتيجيات واضحة المعالم تستند إلى رؤية علمية دقيقة، تأخذ بعين الاعتبار أهمية البحث والدراسة في هذا المجال، في مقدمة هذه الأولويات يأتي البحث العلمي، الذي يمثل حجر الأساس في أي جهد جاد للحفاظ على التراث وتعزيزه.

يتطلب هذا التوجه تأسيس مراكز بحث متخصصة، سواء في الجامعات أو عبر مؤسسات مستقلة، تعمل على دراسة مختلف أبعاد التراث، سواء كان مادياً أو لا مادياً، ورغم وجود بعض المشاريع البحثية في هذا الإطار، إلا أنها تظل غير كافية، ما يعوق تحقيق نتائج شاملة تدعم استراتيجية الحفاظ على التراث الوطني.

ويعود هذا النقص إلى مشكلتين رئيسيتين، أولاً، هناك قلة واضحة في عدد الباحثين المتخصصين، حيث تعاني الجامعات من ضعف في تكوين مختصين في مجالات التراث بشقيه المادي واللامادي، يبرز هذا النقص بشكل خاص في الدراسات الأنثروبولوجية وعلم الاجتماع، التي تركز على البعد الثقافي للتراث، ما يجعل الحاجة ملحة إلى تكوين جيل جديد من الباحثين القادرين على توثيق هذا الموروث وتحليله.

ثانياً، تعاني مشاريع البحث العلمي في مجال التراث من نقص كبير في الدعم، إذ لا تحظى بالاهتمام الكافي مقارنة بمجالات ثقافية أخرى مثل السينما والأدب والفنون، ورغم أن التراث يمثل جوهر الهوية الوطنية، إلا أن الجهود المبذولة لدعمه تبقى متواضعة، ما يتطلب إعادة النظر في سياسات التمويل الثقافي لضمان استمرارية البحث العلمي في هذا المجال.

بعد تعزيز البحث العلمي، يصبح من الضروري الانتقال إلى مرحلة أخرى محورية تتمثل في تحديد المفاهيم الخاصة بالتراث بطريقة علمية دقيقة، إذ لا يمكن وضع استراتيجية ناجعة للحفاظ عليه دون فهم واضح لمكوناته وتصنيفاته، سواء تعلق الأمر بالتراث المادي أو اللامادي، هذه العملية لا يمكن أن تتم بمعزل عن البحث الميداني والاستعانة بالخبراء والمختصين الذين يمتلكون معرفة عميقة بمختلف جوانب التراث الثقافي، من خلال هذه المقاربة العلمية، سيكون بالإمكان بناء رؤية متكاملة تضمن الحفاظ على الموروث الثقافي الوطني، وتعزز استدامته للأجيال القادمة.

الجرد العام للتراث الثقافي في الجزائر

بعد تحديد المفاهيم الأساسية واختيار المناهج المناسبة للدراسة، نصل إلى مرحلة في غاية الأهمية ضمن الاستراتيجية المتبعة، وهي مرحلة الجرد العام للتراث الثقافي في الجزائر، هذه المرحلة تشمل تراثنا الثقافي منذ الاستقلال وحتى ما قبل فترة الاستعمار، وقد شهدت الجزائر في فترات سابقة عدة محاولات جادة لأعمال جرد متفرقة للتراث، شملت كلا من التراث المادي وغير المادي، لكن هذه المحاولات تبقى غير مكتملة، ولا يمكن اعتبارها جردًا شاملاً للتراث الجزائري، خاصة عندما يتعلق الأمر بالتراث اللامادي، الذي يعد جزءًا مهمًا من هوية المجتمع الجزائري.

إن طبيعة الجزائر التي تتمتع بمساحة شاسعة وتنوع ثقافي هائل، حيث تتباين العادات والتقاليد في مختلف المناطق، وتختلف تمظهرات التراث الثقافي باختلاف هذه المناطق، يجعل من عملية الجرد مهمة دقيقة ومعقدة تتطلب جهودًا كبيرة من المختصين في مختلف المجالات، بالإضافة إلى الوقت الطويل اللازم لإتمامها بالشكل الصحيح، ورغم كل التحديات، تظل عملية الجرد أساسية، لأنها تشكل الأساس الذي يمكن من خلاله بناء استراتيجيات فعّالة للحفاظ على التراث الوطني، وبغيرها لا يمكن تصور أي خطة شاملة أو فاعلة تهدف إلى إحياء التراث وحمايته من الضياع.

تظهر أهمية عملية الجرد بشكل جلي في سياق الحفاظ على التراث الثقافي الوطني، هذا الأخير يُحفظ بطرق متعددة، خاصة عندما نتحدث عن التراث المادي، حيث توجد طرق محددة ومعروفة للحفاظ عليه، تشمل هذه الطرق أساليب فيزيائية تتضمن بناء المتاحف وتحديد المواقع الأثرية وتسييجها لضمان عدم تعرضها للاندثار.

ومن بين هذه الطرق أيضًا إنشاء حضائر ثقافية في مختلف مناطق الوطن، مثل الحظيرة الوطنية للطاسيلي والأهقار وتندوف، بالإضافة إلى الأطلس الصحراوي، كما توجد مشاريع أخرى لإنشاء حضائر ثقافية جديدة في العديد من المناطق، بهدف حماية المواقع التراثية والطبيعية من المخاطر التي قد تهددها، وبالتالي ضمان الحفاظ عليها للأجيال القادمة.

وبذلك نكون قد طرحنا أهمية الجرد العام للتراث الثقافي، الذي يمثل المرحلة الأولى والأكثر أهمية في أي استراتيجية تهدف للحفاظ على التراث الوطني بكل جوانبه، سواء المادي أو اللامادي.

فيما يتعلق بالتراث اللامادي، نجد أن الحفاظ عليه يعد أمرًا أكثر تعقيدًا من الحفاظ على التراث المادي، يعود ذلك إلى أن التراث اللامادي يتجسد في العادات والتقاليد التي لا تزال حية في المجتمع، مثل السلوكيات اليومية والممارسات التقليدية التي يمارسها الأفراد، هذا النوع من التراث يتطلب استمرارية في ممارسته من قبل الناس لكي يظل حيًا، وفي بعض الأحيان، قد يتعارض الحفاظ على هذه الممارسات مع التقدم والتطور الذي يشهده المجتمع، مما يجعل المعادلة أكثر صعوبة، إذ أن التحديث والتغيير في أسلوب الحياة قد يؤدي إلى تراجع بعض هذه العادات والأنماط الثقافية.

من ناحية أخرى، فإن الباحثين والمتخصصين في التراث لديهم وسائل وأدوات مختلفة للحفاظ على التراث اللامادي، خاصة من خلال الدعم الذي تقدمه الدولة والوزارة المعنية، إذ تسعى الجزائر، على سبيل المثال، إلى تصنيف بعض أشكال التراث اللامادي ضمن قائمة التراث العالمي في منظمة اليونسكو، بهدف ضمان الحفاظ عليها ونقلها للأجيال المقبلة.

لكن الطريقة المثلى للحفاظ على هذا التراث تتطلب إجراءات دقيقة، أولها جرد شامل ودقيق لجميع أشكال التراث اللامادي، ينبغي دراسة هذه الممارسات التقليدية والسلوكيات بشكل معمق، إذ قد يواجه البعض منها خطر التوقف عن الوجود بسبب تراجع ممارستها، الحفاظ على التراث اللامادي ليس مجرد عملية توثيق، بل يتطلب دراسة وتحليل عميق للممارسات والطقوس، وهو ما يستوجب تكثيف الجهود لإحياء هذه التقاليد وتعريف الأجيال الجديدة بها.

ولأن الحفاظ على هذا النوع من التراث يمثل تحديًا، فإن الحل الأمثل هو العمل على دراسته بكل جوانبها قبل أن تصبح في طي النسيان، يمكن تحقيق ذلك من خلال الاستفادة من فرص وجود الأشخاص الأكبر سنًا الذين لا يزالون يحتفظون بذكريات وتفاصيل حول هذه الممارسات، والعمل على جمع هذا التراث وتوثيقه، كما يمكن تطوير وسائل لتثمين هذا التراث وإعادة الاعتبار له، عبر وسائل متعددة كالتثقيف والنشر، مما يساعد على نشره في مختلف مناطق البلاد.

وعلى الرغم من الشساعة الجغرافية التي تتميز بها الجزائر، فإن توعية المواطنين في مختلف المناطق بما تحتويه بلادهم من تراث محلي يعد خطوة هامة، حيث يمكن أن يجهل بعض الناس في مناطق معينة تقاليد وأعراف مناطق أخرى، لذلك، من الضروري تعريف الشعب الجزائري بتراثه الغني والمتنوع، وهذا يمكن أن يتم من خلال الأنشطة الثقافية والفعاليات المجتمعية، وكذلك إدراج جوانب من التراث اللامادي في المناهج الدراسية، بدلًا من تدريس التراث الأجنبي، يجب أن تكون الأولوية للتراث المحلي، وذلك لتعميق الهوية الثقافية لدى الأجيال الصاعدة.

أما فيما يتعلق بمستقبل التراث الجزائري، فإنه مرتبط ارتباطًا وثيقًا بالاهتمام المستمر به، فما لا نهتم به قد نفقده، ولذلك، فإن الحفاظ على التراث يتطلب جعله محورًا أساسيًا في بناء الهوية الوطنية، التي تمثل في جوهرها مكونات مختلفة تترسخ في التقاليد والطقوس والأعراف الشعبية، إن التراث الوطني هو تجسيد حي لجميع التراكمات الثقافية التي شهدتها الجزائر على مر العصور، وقد أفرزت هذه التراكمات المجتمع الجزائري الحالي بجميع تنوعاته، سلوكياته، وعاداته.

إذا لم نحرص على الحفاظ على تراثنا الوطني، فإننا بذلك نقطع الصلة بين المجتمع وجذوره التاريخية، وهذا من شأنه أن يؤثر على هوية المجتمع ويعزلها عن تاريخها العميق، وبالتالي، فإن مستقبل المجتمع مرتبط ارتباطًا وثيقًا بمستقبل تراثه، وعليه، فإن الحفاظ على التراث يعني الحفاظ على الهوية الوطنية، لذا، يجب أن يبقى التراث محط اهتمام دائم، ليظل مرآة تعكس تطور وتاريخ المجتمع الجزائري في مختلف حقب الزمن.

سيدي صالح ياسين - ملحق بالبحث بالمركز الوطني في عصور ما قبل تاريخ

سيدي صالح ياسين - ملحق بالبحث بالمركز الوطني في عصور ما قبل تاريخ

اقرأ أيضا

آخر الأخبار
إحباط محاولة إدخال 30 قنطارًا من الكيف عبر الحدود مع المغرب الجزائريون في رمضان.. حين يتحوّل العمل التطوعي إلى عادة مُتجذرة في المجتمع شراكة أمنية وتنموية بين الجزائر وتونس لخدمة المناطق الحدودية غزة تحت القصف الصهيوني.. عظّم الله أجركم فيما تبقّى من إنسانيتكم أيها...! في محاولة لتخفيف التوتر.. وزير الخارجية الفرنسي يتودد للجزائر رقم أعمال "جيتكس" للنسيج والجلود يرتفع بـ15 بالمائة في 2024 اليونيسف: المشاهد والتقارير القادمة من غزة تفوق حدود الرعب القضاء الفرنسي يرفض تسليم بوشوارب للجزائر.. هل تتصاعد الأزمة؟ وزير الداخلية التونسي يزور مديرية إنتاج السندات والوثائق المؤمنة بالحميز انتشار "الجراد الصحراوي" يُهدّد 14 ولاية.. وهذه المناطق المعنية الجزائر تُروّج لمنتجاتها الغذائية في صالون لندن الدولي من الهاغاناه إلى "الجيش الإسرائيلي".. قرنٌ من التآمر على فلسطين! تقييم جهود البحث والإنقاذ البحري.. نحو استجابة أكثر فاعلية الجزائر تُندّد بجرائم الاحتلال في غزة وتدين صمت مجلس الأمن تراجع طفيف في أسعار النفط وسط احتمالات إنهاء الحرب بأوكرانيا نضال دبلوماسي لكسر العزلة.. الحقيقة الصحراوية تتحدّى التزييف المغربي خطوة نحو الاكتفاء الذاتي.. قطع غيار جزائرية في قلب صناعة السيارات فرنسا تفقد صوابها.. الجزائر تُحطم شراهة النفوذ البائد! نحو إعداد مشروع لتعديل أو استكمال القانون الأساسي لموظفي قطاع التربية الجزائر تدحض الادعاءات الفرنسية بشأن ترحيل رعاياها وتكشف تجاوزات باريس