كان المناوئون للجزائر على وشك أن يهنأوا برحيل “بيلدوزر” الدبلوماسية الخارجية «رمضان لعمامرة»، فإذا بـ «أحمد عطاف» ـ مهندس سياسة الخط الواحد والاتجاهات المتعددّة ـ يطل عليهم، ليقضّ مضاجع سكونهم، مؤكدا لهم ولغيرهم بأن السياسة الخارجية الجزائرية تحكمها الثوابت والأخلاق، وليس الأطماع والخبث والخداع، وتتحرّك ـ على أكثر من مستوى ـ لكن، دون الخروج عن المواثيق الأممية والقوانين الدولية الرامية إلى فرض منطق الحوار وزرع قيم الاستقرار في العالم، وما الأسماء التي تتقلّد المناصب، إلا رجال دولة يتداولون على خدمة بلادهم بكل بإخلاص وتفان.
فبعد “معركة الإجلاء” التي خاضها السفير «مراد أسعد» بنفسه رفقة فريقه الدبلوماسي، لفائدة الرعايا الجزائريين الذين تمّ ترحيلهم من السودان في أحسن الظروف، ثم مدّ يد الواجب القومي والإنساني لاستقبال وترحيل بقية الجاليات العربية التي تقطعت بها سبل الخلاص تحت لهب الحرب والموت، في صورة الجاليات: الفلسطينية، السورية، التونسية والمغربية.
إنها إحدى صور المروءة التي رفعت شأن الجزائر، في أعين المتابعين للأحداث على المستوى العربي والدولي، ذلك أنه بعد هذه المهمة المنجزة بوفاء ومسؤولية واقتدار، ساء الوضع الأمني مرة أخرى عند الجارة «مالي»، فتحرك الوزير «عطاف» على عجل وسجل أول خرجة دولية له شملت كلا من موريتانيا ومالي.
وركز «عطاف» في مباحثاته رفيعة المستوى مع المسؤولين في «نواكشوط»، وعلى رأسهم السيد الرئيس «محمد ولد الغزواني»، على أهمية العمل البيني المشترك، من أجل الرقي بالعلاقات الثنائية إلى مستوى الطموح الذي يأمله الشعبان الشقيقان، على كامل الأصعدة وفي كل الميادين السياسية والاقتصادية، وكذلك في مجال التنسيق الأمني المشترك.
ففي شأن التنمية المحلية للمناطق الحدودية، كان الحديث حول مشروع الطريق الصحراوي الرابط بين تندوف الجزائرية وزويرات الموريتانية، على مسافة سبعمائة كيلومتر، وهو المشروع الاستراتيجي الذي تولت الجزائر تمويل إنجازه بالكامل، وذلك في إطار دعم الاتفاقات المتعلقة بتسهيل عملية تدفق السلع والنشاطات التجارية بين البلدين.
مهمة صعبة
حتى وإن كان ظاهر الزيارة دبلوماسيا واقتصاديا، إلا أن المسائل السياسية والأمنية العسكرية لم تكن خفية على الملاحظين المتابعين للزيارة، وذلك من خلال الأسماء التي شكلت الوفد المرافق للوزير «عطاف»، يتقدمهم اللواء «جبار مهنّى» قائد الأمن الخارجي لجهاز الاستخبارات الجزائرية.
إنها مهمة صعبة ومعقدة، هدفها الأبرز، قطع حبال الوصل التي نُسجت بليل بين بعض الأجهزة الموريتانية، وبين قوى خارجية وغريبة عن المنطقة، في شكل الكيان الصهيوني، ودول وظيفية أخرى في المنطقة، في شكل نظام المخزن المغربي، والتي لا ترى في الجزائر سوى أنها العدو الأول والمشكلة المزمنة.
هكذا كان لزاما على السيد «عطاف» البدء بتفكيك الألغام المزروعة بين البلدين أولا، ومن ثم المضي قدما على درب تأسيس شراكة جوارية دائمة، وعلاقات أخوية متينة تشد عراها المحطات التاريخية النيرة والقضايا المصيرية المشتركة.
رأس الأفعى
فإن كانت زيارة موريتانيا بمثابة قطع لرأس الأفعى “المخزنية” ومن خلفها الكيان الصهيوني، فإن زيارة العاصمة «باماكو»، وهي المحطة الأهم، فقد جاءت عقب الأحداث المتسارعة محليا وإقليميا، عجلت بها أزمة السودان والتي تتشابه وتتشاكل من حيث المبادئ الجذور، وكذا المقاصد والأهداف.
وفور نزول الوزير «عطاف» ضيفا، والوفد الرفيع المرافق له بالعاصمة «باماكو»، في زيارة عمل التقى خلالها القيادة العسكرية للسلطة الانتقالية في «مالي»، باشر سلسلة من المباحثات والحوارات الواسعة والعميقة، تركزت في مجملها بالأساس حول أولوية تثبيت اتفاق السلام الموقع في الجزائر العام 2015م، بين الحكومة المركزية في العاصمة، وحركات «الأزواد» التي تمثل قبائل الشمال، مع واجب تعزيز الثقة بين كل الأطراف، بما يخدم المصلحة العليا لـ«مالي» في أمنه واستقراره، والذي هو جزء لا يمكن فصله عن أمن واستقرار المنطقة كلها.
الملاحظون قدّروا بأن هذه الجولة الخاطفة، جاءت بمثابة تحرك استباقي لإبطال مفعول قنبلة موقوتة كانت قد زرعتها فرنسا قبل خروجها مطرودة من مالي، وذلك لتبين للعالم بأن قوّاتها لم تكن عصابات لصوص ومرتزقة، كما شاع أمرها، وإنما كانت حافظة للأمن والاستقرار في البلد.
هذا من زاوية، وأما من زاوية أخرى، فإن تدهور الأوضاع في السودان، يكون دافعا كافيا لجعل الجزائر تتحرّك بسرعة وتنزل إلى أرض “الرمال المتحركة”، قبل وصول العاصفة من شرق الساحل، وهبوب رياح الغدر التي تتربص شرا بـ”اتفاق الجزائر للسلام في مالي”.
ذلك أنه، وبغض النظر عن طابع التنسيق السياسي القائم بين السلطات الجزائرية والسلطة الانتقالية في باماكو، فإن توقيت زيارة «عطاف» برفقة وفد ضمّ إطارات سامية من الجيش والاستخبارات إلى باماكو، لا يمكن فصلها عن السياق الإقليمي المتوتر، والذي هيمن عليه انفجار الوضع في السودان ودخوله نزاعا عسكريا من الصعب التكهن بمدته وتداعياته.
وثيقة مرجعية
اتفاق السلم والمصالحة في مالي المنبثق عن مسار الجزائر، يعتبر الوثيقة المرجعية لكل الأطراف المالية والتي على ضوئها أجرى الوزير «عطاف» لقاءات شملت ممثلي الحركات المالية الموقّعة على الاتفاق، وكذلك أعضاء مجموعة الوساطة الدولية، إلى جانب الممثل الخاص للأمين العام رئيس بعثتها «القاسم وان»، وهي اللقاءات التي أكدت التزام الجميع بالاتفاق الإطار، واستعدادهم للانخراط بكل جدية في المساعي التي تبذلها الجزائر، بهدف بناء وتعزيز الثقة وضمان الاستئناف السريع والتوافقي لتحريك آليات متابعة الاتفاق.
ما يقلق الجزائر فعلا، هو التطابق “المرعب” لبعض المعطيات الميدانية بين ما كان يجري في السودان قبل الانفجار، وما يحدث الآن في مالي، يهيمن عليه التشتّت السياسي والتشرذم الإثني وفوضى السلاح وهشاشة مؤسسات الدولة، ناهيك عن الحدود المفتوحة وغير المراقبة أمام نشاط الشبكات الدولية الإجرامية، خاصة الناشطة في مجال الإتجار بالسلاح والمخدرات وحتى البشر.
مصادر القلق هذه، دفعت بالجزائر إلى تحسس حدودها الجنوبية، والعمل على وأد أي خلافات بين الأطراف المالية الموقّعة على اتفاق الجزائر للسلام، والرمي بثقلها لمنع أي توترات أو مشكلات جديدة بين الجيش المالي وحركات الأزواد، والتي قد تُعرّض الاستقرار الهش في الشمال إلى زلزلة غير محمودة العواقب.
الملفت في زيارة «عطاف» هذه المرة، ليس رفعة الوفد السياسي والأمني المرافق له، فمسألتا السياسة والأمن تأتيان على رأس الأولويات فيما يخص ضرورة تثبيت مزيد من دعائم اتفاق السلام، ومناقشة آليات مشتركة في مكافحة الإرهاب وتعزيز القدرات العسكرية للجيش المالي، سواء في إطار ثنائي أو في إطار هيئة العمليات المشتركة التي تضم أيضا النيجر وموريتانيا.
هذه كلها مسائل تقليدية في مثل هذه اللقاءات، لنّ الملفت هو ما حمله الوفد الجزائري من حزمة مشاريع خدماتية وتنموية، تقوم بتنفيذها «الوكالة الجزائرية للتعاون الدولي» في مناطق الشمال، وتتعلق أساسا بقطاعات التعليم والصحة والتكوين، والتي تعمل على تعزيز الاستقرار والتخفيف من معاناة السكان.
جديد السياسة الخارجية
الوكالة الجزائرية للتعاون الدولي من أجل التضامن والتنمية، مؤسسة عمومية سيادية أنشئت بموجب المرسوم الرئاسي: 20-42 المؤرخ في 11 فبراير 2020م، تتمثل صلاحياتها ومهامها في:
- ترقية العمل الإنساني والتضامن مع دول العالم.
- تطوير التعاون مع المنظمات الدولية للتعاون والتنمية.
- المتابعة التقنية والمالية للمشاريع والتعاون الدولي.
- تكوين الجزائريين في الخارج، وتكوين الأجانب في الجزائر.
تتشكل هيئة الوكالة من مجلس التوجيه ـ والذي يرأسه مدير ديوان رئاسة الجمهورية ـ ومن أعضاء دائمين هم:
- وزير الشؤون الخارجية.
- وزير الداخلية والجماعات المحلية.
- وزير المالية
- الأمين العام لوزارة الدفاع الوطني.
وكالة التعاون الدولي هي جديد السياسة الخارجية الجزائرية، منذ تولي الرئيس «تبون» مقاليد الرئاسة في البلد، وتعدّ “سلاحا” إنسانيا راقيا، يقدم الدعم اللازم للمواقف والقرارات الخارجية للبلد، خاصة وأن الدبلوماسية الجديدة قد جعلت من عالم المال والأعمال هدفا استراتيجيا لمهامها الإقليمية، القارية والدولية.
هذا التوجه يحتاج طبعا إلى مزيد من الاستقرار السياسي والأمني، ليس في مالي فحسب، وإنما في المنطقة كلها، من الصحراء الغربية إلى موريتانيا إلى النيجر إلى ليبيا إلى تونس، إلى تشاد والسنغال وساحل العاج وبينين وبوركينا فاسو… وهي المنطقة التي تعتبر عمقا أمنيا وبعدا اقتصاديا ومدا سياسيا للجزائر كقوة إقليمية في المنطقة.
وفي هذا السياق، يدخل النشاط الدبلوماسي للخارجية الجزائرية في مالي، كجهد إضافي لمنع الهزات والارتجاجات الأمنية التي تؤثر على تنفيذ الخطط الاقتصادية الخارجية،خاصة وأن الرئيس «تبون» كان قد قرر إنجاز مشروع عملاق لربط العاصمة الجزائر بالعاصمة المالية باماكو، بواسطة خط سكة حديد، وذلك لتحريك عجلة التنمية في المناطق التي يمر بها المشروع، إن داخل الجزائر أو خارجها.