بعد أكثر من ثلاثين سنة من حديث أمير الشعراء “أحمد شوقي” الذي اختزل فيه الجزائر في “مسّاح الأحذية”، ردّ عليه الإمام “عبد الحميد بن باديس” خلال حفلة تأبينية أقامتْها جمعيةُ العلماء المُسلمين للشاعرين: “شوقي” و”حافظ إبراهيم”. وقد استعرضَ الكاتبُ “صالح خرفي”، في هذا الجزء من مقاله “كان يظنّ أن الجزائر..”، بعض الأحاديث المشرقية التي رأى بأن أصحابها قد أنْصَفوا الجزائر، مثل الإمام “محمد عبدو” والأديب الناقد المصري “زكي مبارك”، والأديب المَهْجري السُّوري “خير الله أبو علي”.
ذمٌّ بِصيغَة المدْح
لعل “أمير الشعراء” وهو يُطلق حكمه المُرتَجل على الجزائر دون أن يُكلّف نفسه عناءَ البحث والتنقيب، لعلّه وهو يؤكّد الذمَّ بما يُشبه المدحَ، لا يختلفُ في شيىء عن “شوقي” الذي عرفته القاهرة شاعرًا لقصر أكثر ممّا عرفته شاعر الجُموع المزدحمة في شوارعها.. وإلاّ فإن الجزائر التي حكم عليها شوقي بالمسخ، هي الجزائر التي “وجد فيها الإمام محمد عبدو حزباً دينيا ينتمي إليه من حيث لم يكن يعلم”. كان ذلك في سنة 1903 (سنة زيارة محمد عبدو إلى الجزائر)، ولا نعتقد أن عشر سنوات فاصلة بين زيارة كل من إمام المُصلحين وأمير الشعراء، تستطيع أن تقلب الجزائر رأسًا على عقِب، فتُحوّلها من المسخ إلى الحزب الديني الذي يُصلح. وهي الحقيقة التي لم تَفُت شاعر النيل “حافظ إبراهيم” فسجّلها في قصيدته التي استقبل بها الإمام “عبده” بعد رجوعه من الجزائر، وجاء فيها:
وسرى البرقُ للجزائر بالبشرى – بقرب المُطهّر الأوّاب
فسعى أهلها إلى شاطئ البحر – وُفودًا بالبِشْر والتَرحاب
أدركوا قدْرَ ضيفهم فأقاموا – يرقبون الإمام فوق السّحاب
ليتَ مصرًا كغيرها تعرف الفضلَ – لذي الفضل من ذوي الألباب
رَدٌ بعد ثلاثين سنة
ولكنها النظرةُ العَجْلَى تسوقُ أمير الشعراء، والاحتكام إلى الجزئيات السطحية. وهي الحقيقة المُرّة التي أكّدها الشيخ “عبد الحميد بن باديس” وهو يفتتحُ في “نادي التّرقي” سنة 1934 حفلةً تأبينيّةً لكل من “شوقي” و”حافظ” (شاعر النيل)، حيث قال: “أيها الإخوان.. ليس للجزائر من حافظ (الشاعر حافظ إبراهيم) إلاّ ما للأوطان الأخرى من شعره وأدبه وفنون قوله. أمّا شوقي (أمير الشعراء) فقد قُدِّر له أن يزور هذه الجزائر في شبابه، وينزل بعاصمتها للاستشفاء، ويقول عنها: (ولا عيْب فيها سوى أنها قد مُسِختْ مسْخًا، فقد عهدتُ مسّاحَ الأحذية يسْتنكِفُ النُّطقَ بالعربية، وإذا خاطبته بها لا يجيبك إلاّ بالفرنسية). فاعْجَبوا لاستدلال على حالة أمة بمسّاح الأحذية فيها، إلاّ أن فقيدَنا العزيز، لو رأى من عدم الغيب حفْلنا هذا، لكان له في الجزائر رأيٌ آخر، ولَعلِم أن الأمة التي صبغها الإسلام، وهو صبغة الله، وأنجبها العرب، وهي أمة التاريخ، وأنبتتهما الجزائر، وهي العاتية على الرومان والوندال، لا تستطيع ولن تستطيع أن تمسخها الأيام ونوائب الأيام”.
“الشّهاب” الجزائرية في سماوات المشرق
أما أديبنا الكبير “زكي مبارك” (أديب وشاعر وناقد وصحفي مصري، حاصل على ثلاث درجات دكتوراه)، فقد كان أبْعدَ نظرًا في تلمُّس الحقائق في الجزائر، ولو بعدَد واحد من مجلة “الشهاب” يتصفّحه، وأبيات معدودة، يقرأها فيه. كان صريحًا في حكمه، واقعيًا في رأيته. إن الجزائر العربية المسلمة في تلك الفترة كانت من الوضوح بحيث أن عددًا واحدًا من “الشهاب” يُعطي صورةً صادقةً عنها، وهي الصورة التي لمَسها “زكي مبارك” بكل نزاهة وصراحة: “وصلَ إلى يدي عددٌ من مجلة الشهاب، وهو العدد الخاص بالاجتماع السنوي لجمعية العلماء المسلمين الجزائريين. وهو عددٌ ظريفٌ يشتمل على فوائد كثيرة، تُصوّرُ الحياة العلمية في الجزائر. ومن أدقّ ما فيه، ما قرأته من إصرار العلماء هناك من إلقاء عِظاتهم باللغة الفصحى، واحتجاجهم بأن البلاغة تُلَقّنُ عن طريق السّماع، كما تُكتَبُ بالدّرس. ومعنى ذلك أن العّامة يكتسبون الذَوقَ الأدبي بفضل الإكثار من الاستماع إلى الكلام الفصيح، كما يكتسبه العلماء من كثرة الاطلاع على الكلام الفصيح.. وحِرصُ أهل الجزائر على اللغة العربية هو من أظْهرِ ما هم عليه من الشّهامة والرجولة والإباء. فإليهم على بعد الدربِ أطيبَ التحيات”.
انشغالنا بالشّرق أنْسانَا أنفسنا
لقد كان الطّابع الفرنسي الذي يفرض نفسه على الجزائر، لا يجد صداه إلاّ في الذين فرضوه ورفعوا أعلامه (زمن الاستعمار). أمّا الجزائر في نفس كل جزائري، فهي عربية مُسلمةٌ ولو رفرف عليها ألف علم فرنسي مُثلّث الألوان. وكانت القطيعة المفروضة بين الشعب ومُقوِّمات شخصيته تستثير فيه حفيظةً وعناء، وتحدّيًا صارخا، فيزداد تعلّقا بالبقية الباقية من هذه الشخصية، وعَضًا بالنّواجذ عليها، ويزدادُ تطلُّعًا لاستكمالها..
المُحتكِم إلى المظاهر السطحية تُطالعه القطيعة في أبشع صورها، لا يُخامره الشّك فيها، بينما يظلّ اللقاء في عنفوان حرارته وسورةُ عاطفته، يستره المواطنُ حسوًا في ارتغاء. وكان الإعجاب في الشرق العربي والتطلّع إلى وارداته الفكرية والأدبية، والتعلّق بإنتاجه، يبلغُ بالفرد (الجزائري) أحيانا حدّ الذّهول عمّا حوله، وإنكار كل أثر أدبي أو علمي لا يصدر عن الشرق حتى قبل 1936 (انشغالُنا بالشرق أنسانا أنفسنا). (العبارة الأخيرة هي عنوان لمقال كَتبَه “باعزيز بن عمر ونشرته جريدة الشهاب في شهر أوت 1935)
وبالرغم من كل مطاردة استعمارية لأيّ مظهر عربي في الجزائر، وتَرصُّدِه بكل خطوة أو نفَس يؤكّدُ هذ المظهر، فإن الوجه العربي لم يغبْ في يوم من الأيام عن تلك الرُّبوع (الجزائرية)، قد يفتقدُه المرءُ في بعض شوارع العواصم، فلا يلبثُ أن يجده في كل قصبة تربضُ في قلب العاصمة (الجزائر).. وقد يتوارى في بعض المدن التي ناءت بثقل الطابع الأوروبي، ليُطالعنا في البوادي والقرى وأعماق الصحراء وجهًا عربيا لم يمْسَسهُ سوءٌ.
كاتبٌ سوريٌّ يُنصفُ الجزائريين
إن القضية في التّغاضي عن بعض المظاهر المفروضة، والتَّطَوُّحِ بالنّظرة أبعدَ واعمقَ من ذلك، فإذا بنا نجد أنفسنَا أمام الصورة التي نقَلها إلى قرّاء العربية الدّكتورُ “خير الله أبو علي” في مجلة “السّمير” سنة 1934: “كنّا سمعنا من سنين عديدة أن الجزائر قد اتّخذتْ التمدُّنَ الغربي السّطحي ثوبًا لها، وفقدت كثيرًا من الآداب الإسلامية، وهجرتْ العروبة، فدخلناها مُرتابينَ، ووجدنا مُدنَها الكبرى أوروبيةَ البناءِ والترتيب، عامرةً بالتجارة الأوروبية وبالأوروبيين، ولكن في قلب كل واحدة منها تجد القصبةَ البلدية (نسبة إلى أبناء البلَد) راسخةً في القلعة، تُنبئُ من شاهدها أن لا بأس على الآداب الشرقية واللغة العربية. وكذلك ترى المساجدَ والمنارات تُعلن للغافل أن لا إله إلاّ الله وأن الله أكبر على من طغى وتجبّر. وأمّا داخليّة البلاد فهي عربية البلدان (المناطق) والقرى والدّساتر (المداشر ومُفردها دشرة) والأكواخ والخيام، رغمًا عن كل ضغط. والجزائري شرقيُّ المشربِ، ومُسلمٌ غيورٌ، ولو تغرّبَ عن بلاده أو غيّرَ زيّه (لباسه)”.
البرهانُ بالأرقام
وحتى نُبعِدَ عن هذه النصوص -هي الأخرى- شُبهَةَ الدعوى المُفتقرة إلى بيّنة وبرهان، فإننا نعتمد مُكرهين لغةَ الأرقام التي يتنزّهُ الأدبُ عنها، حتى تنحسر القضيةُ في منارة مُرتفعة في القصبة، أو خيمة مضروبة في الصحراء، وحتى لا يظل التاريخ عاريًا من كل عمل إيجابي خلاّق، إلاّ آثارٌ تدلُّ على الماضي لم تصلها معاولُ الاستعمار. (في المقال القادم ستعرضُ “الأيام نيوز” تلك الأرقامُ التي عناها الكاتب).