الجزائر في عيون أدباء المشرق العربي (الجزء الأول)

اخْتزلَ أمير الشعراء “أحمد شوقي” المُجتمعَ الجزائري في “مَسّاح الأحذية” الذي خاطبَه باللغة العربية، فتلقّى الإجابة بالفرنسية. ودعَا الشاعر المصري “صالح جَوْدَتْ” إلى الشفقة النقدية والرّفق بالشعراء الجزائريين كأنمَّا إنتاجهم الأدبي لم يرتق إلى درجة النقد. بينما سجّل أمير البيان “شكيب أرسلان” انبهارَه ببعض الأقلام الجزائرية.. حول هذه الأمور وغيرها، كَتَب الدكتور “صالح خرفي” مقالاً بعنوان “كان يظنّ أن الجزائر..”، في الأول مارس 1969، في المجلة الشهرية “المعرفة” التي كانت تُصدرها وزارة الثقافة والإرشاد القومي في سوريا، وتُعيد “الأيام نيوز” نشره استكمالا لمقال نشرتْه سابقا بعنوان “كُلّنا في هَرْس اللغة العربية.. شرْقُ”.

ماذا قال أميرُ البيانِ “شكيب أرسلان”؟

اسْتوقفتْني هذه الجُملة في كتاب لأمير البيان “شكيب أرسلان” عن الشاعر الجزائري “محمد العيد آل خليفة” جاء فيه: “كلما قرأتُ شعرًا لمحمد العيد الجزائري أخذتني هزّةُ طرب تملك عليّ جميعَ مشاعري، وأقول: إنْ كان في هذا العصر شاعرٌ يَصِحُّ أن يُمثّل البهاءَ زهريًا في سلاسة نظمه وخفة روحه ورقّة شعوره وجودة سبْكِه واستحكام قوافيه التي يعرفها القارىء قبل أن يصل إليها، وإن التكلّف لا يأتيه من بين يديه ولا من خلفه، يكون محمد العيد الذي أقرأ له القصيدةَ المرّتيْن والثلاث ولا أمَلُّ، وتمضي الأيّامُ وعذوبتها في فمي.. كان يُظَنُّ أن القطر الجزائري تأخّرَ عن سائر إخوته الأقطارَ العربية في ميدان الأدب ولا سيما الشعر، ولعَلّه الآن سيُعوّض الفرْق، بل يسبقُ غيره بمحمد العيد”.

جنايةُ “الظّنّ المُسبق” المشرقي على الجزائر

ورحتُ أتلَمَسُّ مظاهر هذا الظّن فيما كانت تكتُبه الصحافة العربية عن الجزائر في عهد الاستعمار، وفيما كان يصدرُ عنها من تعليقات للأدباء العرب عن الحالة الفكرية في الجزائر، على ندرة هذه وتلك، فوجدتُ “الظّنَ” يتّخذُ صورة اقتناع مُسلّم به يتسلسل عبر الأيام ويُتَوارثُ عبر الأجيال، لا في الطبقة العامة فحسب، بل بالأحرى في الطليعة المُثقّفة، ولا في مجال الأدب والشعر فقط، بل يكادُ يشملُ كل المجالات التي تمسُّ الشخصية الجزائرية العربية.

ورحْتُ مرّةً أخرى أتَلمّسُ ما نتج عن هذا “الظنّ” من عواقب، وما جرَّت إليه من نظرات خاطئة في تقييم الأمور، وفهم النفسية الحقيقية للشعب الجزائري، وتَلَمُّسِ شخصيته، فوجدتُه ينتهي إلى حُكْم مُسَلَّم به هو الآخر، وهو ضعف الأمل في استعادة هذه الشخصية، وقوة الاقتناع بذوبانها في الطابع الأوروبي الذي غزا هذه البلاد.. كل ذلك ونحن لا نزال في عهد الاستعمار.

أما أولئك الذين مَدّوا أيديهم ليَتلَمّسوا ملامح الجزائر لأوّل مرّة، في 1962 سنة الاستقلال، ومِن ورائِهم “الظنّ المُسبق” الذي ورثوه عن عهد بائد، فيكاد يُصبحُ الحكم عندهم على الجزائر حُكمًا لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه. والآخرون لا يرون الجزائر إلاّ أنها وليدة 1954 سنة اندلاع الثورة الجزائرية.

“خلاصةُ” أربعين يومًا في الجزائر

أسْتَميحُ هؤلاء عذرًا أنْ أرجعَ بهم خطوات إلى الوراء، فإن من لا يعرف حقيقة محنة هذا الشعب مع المُستعمر، لا يُمكن أن يُنصِفه في حُكْم له أو عليه.
في العشر الأواخر من القرن الماضي (القرن العشرين) مكَثَ “شوقي” (أمير الشعراء العرب) – وهو يدرس في فرنسا- أربعين يومًا بالجزائر للاستشفاء، ولمَّا رجع إلى القاهرة (مصر)، علّق على الجزائر بقوله في جريدة “البلاغ”: “ولا عيْب فيها سوى أنها قد مُسِختْ مسْخًا، فقد عهدتُ مسّاحَ الأحذية يسْتنكِفُ النُّطقَ بالعربية، وإذا خاطبته بها لا يجيبك إلاّ بالفرنسية”.

تعليق “الأيام نيوز” على أمير الشعراء “شوقي”

ترى “الأيام نيوز” بأنه يُفْهَم من كلام “شوقي” بأن مسّاحَ الأحذية كان يُتقن العربية الفصحى التي خَاطبه بها الشاعر. وأما إجابته بالفرنسية فهي ليست من باب الاستنكاف والترفّع على العربية، بل لأن الزبائن الذين يمسحون أحذيتهم هم، في الغالب الأعمّ، من الأوروبيين أو القلّة القليلة جدًا من الميْسورين الجزائريين. ونكادُ نجزمُ بأن مسّاحَ الأحذية لم يتَعوّد على عربي بلباس غربي أنيق يزور الجزائر، ولعلّ “الشاعر “أحمد شوقي” كان من العرب القلائل، إن لم نقل العربي الأوحد، الذين التقاهُم مسّاحُ الأحذية. وأنَّى لهذا المسّاح أن يعرف بأن من خاطبه بلغة عربية صحيحة لم يكن أوروبيا عارفا بالعربية يهزأُ به، فكان ردّه بالفرنسية، ليس ترفّعًا عن العربية، ولكنها النفسية الجزائرية التي ترفضُ عبثَ الأجانب معها. والشاعر “أحمد شوقي” لم يذكر ما قاله بالعربية إلى الجزائري، ولعلّه قال كلامًا فيه استكبارُ الأوروبيين، لا سيما وأن “شوقي” هو أرستقراطيٌ وشاعرُ البلاط والنُّخبة، وليس شاعر الشعب في بلاده.

رسالةُ ثناء من أمير البيان إلى “الزاهري”

يواصل الكاتب مقاله.. وقبل أن يلتقي الأمير “شكيب أرسلان” بالشاعر الجزائري “محمد العيد”، كان له لقاءٌ أسْبقٌ بعشر سنين مع أديب وشاعر جزائري آخر هو “محمد السعيد الزاهري” في كتابه “الإسلام في حاجة إلى دعاية وتبشير”. وقد تلقّى الكاتبُ (الزاهري) رسالةً من الأمير يُكبِر فيها مكانته في الأدب الجزائري. فردّ عليه (ردّ الزاهري على أرسلان) في تواضع يُعرّفه بأدباء وشعراء جزائريين هم أولى بإكْبار الأمير وثنائه.

شهادةٌ “سطحية” من كاتب مهجري

وفي سنة 1933، نلتقي بكاتب مَهْجري سوري هو الدكتور “خير الله أبو علي” في زيارة للجزائر، كَتَب عنها بعد عودته إلى المهجر، في مجلة “السَّمير” للشاعر الكبير “إيليا أبو ماضي”، مقالاً مُسهِبًا نقتطفُ منه هذه الفقرة: “كنّا سمعنا من سنين عديدة أن الجزائر اتّخذتْ التمدّن الغربي السّطحي ثوبًا لها، وفقدتْ كثيرًا من الآداب الإسلامية وهجرتْ العروبة.. فدخلناها مُرتابين، ووجدنا مُدُنها الكبرى أوروبيةَ البناء والتّركيب، عامرة بالتجارة الأوروبية للأوروبيين”.

اعترافٌ مشرقي “مُقتَضب”

وبعد سنة واحدة (1934) ترامى عددٌ من مجلة “الشّهاب” – تضمّن كتابات أدبية وشعرية حول تأبين الشاعرين: حافظ إبراهيم وأحمد شوقي، إضافة إلى كلمة الشيخ ابن باديس – إلى القاهرة، فوَقَع بيد الأديب الكبير “زكي مبارك” (مصري)، فكتب عنه تعليقا في جريدة “البلاغ” (المصرية) تحت عنوان “نفحة من الجزائر”، ومِمَّا جاء في التعليق المُقتَضب: “وفي ذلك العدد من الشّهاب قصائدُ تدلُّ على نهضة شعرية (في الجزائر)”.

حُكْمٌ أدبيٌ جائر

وتَسلْسلَ “الظنُّ” عبر الأيام، ويتسلّمه أديبٌ عن أديب. وعندما يتحرّك القلم الجزائري باللغة الفرنسية، وتُتَرجمُ نصوصه في المشرق العربي، وتَجسّم أوّل احتلاك لأدباء المشرق بالأدب الجزائري، يُوشِك “الظنّ” أن يُصبح يقينًا، بل هو اليقين بعينه.. في سنة 1958، ترجم الدكتور “إبراهيم الكيلاني” مقتطفات أدبيّة جزائرية باللغة الفرنسية، وصدرتْ في سلسلة كتاب “اقرأ” تحت عنوان “أدباء من الجزائر”. وجاء في مقدّمة الكتاب: “إن الأدب الجزائري الحديث يكادُ يكونُ كُلُّهُ مكتوبًا بالفرنسية، لا العربية”.

الدعوةٌ إلى “الشفقة” النقدية

وفي سنة 1961، قدّم الشاعر (المصري) “صالح جَوْدَتْ” لـكتاب “دراسات في الشعر الجزائري الحديث” للكاتب الجزائري “عبد الله ركيبي”، وجاء في المقدّمة: “وإني لَأنصحُ نُقّاد الأدب في المشرق العربي أن يتناولوا شعر هذا الكتاب برِفْق كبير، ولا يقيموا دراساتهم على أسُس النقدية المعروفة، لأن سكّان الجزائر قد حُرِموا الثقافةَ العربيةَ أجيالاً، وفُرِضتْ عليه ثقافةٌ أجنبيةٌ.. فتلكّأتْ ألسنةُ شعرائهم، وتلعثمتْ راغمةً، ولم تلمع منهم إلاّ قلةٌ محدودةٌ في أضيق نطاق”.

ذلك هو الواقع العربي الجزائري في ظنِّ إخواننا في المشرق العربي بالأمس. فما هو هذا الواقع في حقيقة أمره داخل الجزائر؟ وكيف تراجع هؤلاء الأدباء أنفسهم (المشارقة) في “الظنّ المُسبق”، وهم يَلمَسون حقيقة الأمر بزيارة شخصية أو بُرهان قاطع؟ (سنتركُ الإجابات إلى المقال القادم).

محمد ياسين رحمة - الجزائر

محمد ياسين رحمة - الجزائر

اقرأ أيضا

آخر الأخبار
لائحة الأمن في البحر الأحمر.. لهذا السبب امتنعت الجزائر عن التصويت! أحوال الطقس.. أمطار وثلوج على هذه المناطق بعد الكرة الذكية والملعب الذكي.. ماذا بقي من لعبة بيليه ومارادونا؟  بعد إعلان وقف إطلاق النار في غزة.. ترامب يطلق تصريحات اجتماع الحكومة.. مشاريع قطاع الري على طاولة العرباوي وزارة الدفاع.. إرهابي يُسلم نفسه إلى السلطات العسكرية ببرج باجي مختار قوجيل: فرنسا هي من تحتاج الجزائر أكثر وليس العكس تطورات الوضع في اليمن.. الجزائر تترأس اجتماعا لمجلس الأمن لضمان استقرار السوق في رمضان.. استيراد 28 ألف طن من اللحوم أول شركة ناشئة تقتحم السوق المالي.. ماذا يعني إطلاق تداول أسهم "مستشير" في بورصة الجزائر؟ سيكون من أحسن المطارات في إفريقيا.. فتح سوق حرة بمطار الجزائر الدولي قريباً التقلبات الجوية.. طرق مغلقة بسبب تراكم الثلوج الارادة السياسية المشتركة.. رئيس الكونغو الديمقراطية يشيد بدور الجزائر الريادي «إسرائيل» تُقايض الأرواح بثمن مُر   في اليوم الـ467 للحرب على غزة.. وفد الاحتلال المفاوض يناقش قوائم الأسرى الفلسطينيين هبوط المخزونات الأمريكية.. استقرار في أسعار النفط أحوال الطقس.. 12 موجة خطيرة تضرب السواحل الجزائرية فرنسا تدعي والجزائر تكشف المستور.. عن أي مساعدة للتنمية تتحدث؟ مفكّكا أسطورة المثالية الأمريكية.. تشومسكي يفضح الديمقراطية الملطخة بعار الإمبريالية رئيس الجمهورية يستقبل حساني شريف