الدكتورة “عايدة أديب بامية” أديبة وناقدة ومترجمة فلسطينيّة ولدت في العاصمة الفلسطينية “القدس” في عام 1948، قدّمت خدمات جليلة للأدب العربي، وخاصة الأدب الجزائري، فقد استثمرت السنوات الطويلة التي قضتها أستاذةً في عدد من الجامعات الجزائرية، في تعمّق الثقافة الجزائرية، فأنتجت كثيرا من الكتب منها: تطور الأدب القصصي الجزائري: 1925 – 1967. شيب الغراب: الأهمية الثقافية والسياسية والاجتماعية للشعر الشعبي الجزائري. تأمّلات حول الحكاية الشعبية الجزائرية. تطور الرواية والقصة القصيرة في الأدب الجزائري الحديث.. بالإضافة إلى نشرها لمقالات كثيرة في المجلاّت العربية والدولية حول الأدب الجزائري وأدبائه.
بعض الباحثين يعتبرون الدكتورة “عايدة أديب بامية” سفيرةً للأدب الجزائري، لا سيما في الولايات المتّحدة الأمريكية، فقد أمضت أكثر من عشرين سنة أستاذةً وأكاديميّة بارزة للغة العربية وآدابها في جامعة “فلوريدا” العريقة، وكان من الطبيعي أن تُركّز على إضاءة الأدب الجزائري، لا سيما وهي المتخصّصة في “أدب شمال إفريقيا”.. وبعد تقاعدها عام 2005، كانت أستاذةَ زائرة في جامعة “واين ستيت”، وجامعة “ميشيغان”، ومعهد “فيرجينيا” العسكري.. والدكتورة “عايدة” هي مُترجِمة قديرة ومُتمكّنة قدّمت ترجمات كثيرة لأعمال أدبية جزائرية وعربية إلى الأمريكيين وغيرهم من الناطقين باللغة الإنجليزية في كل العالم.
في محاولة للاقتراب من عوالم هذه الفلسطينيّة العاشقة للجزائر وأدبها وثقافتها، اختارت جريدة “الأيام نيوز” إعادة نشر دراسة لها حول “الثورة في الرواية العربية” ركّزت فيها على التجربتين: الجزائرية والفلسطينية.. الدراسة نشرتها مجلة “فصول” (فيفري 1993) التي كان يُشرف عليها الشاعر والأكاديمي “أدونيس” في الفترة ما بين (1969 – 1994).
الكلمة سلاح صامت.. لا تعترف بالهدنة
للتّفاعل المستمر بين الأدب والمجتمع في العالم العربي، خصوصا فيما يتعلق بالحدثين الضخمين: الثورة الجزائرية والثورة الفلسطينية، تأثير عميق على الأدب الروائي. ذلك لأنّ الكلمة في الأدب العربي بسمة ودمعة، رفض وحضّ، اعتراض وشكوى. إنّها سلاح صامت وساحة قتال متناهية الأطراف، لا تعرف حدودا ولا تعترف بهدنة.
الروح الوطنيّة هي المنطلق
انطلق الروائيون الجزائريون والفلسطينيون من نقطة بداية واحدة ألَا وهي الروح الوطنية؛ لكن أحداث رواياتهم احتلّت فترات زمنيّة مختلفة، إذ أنّ الثورة الجزائرية كانت أملاً تحقّق عندما تناولها الكتّاب في رواياتهم، بينما الثورة الفلسطينية في حالة تبلور مستمر في نطاق الواقع المُعاش؛ فتنحصر مسيرة الرواية الفلسطينية في نطاق زمني ضيق لأنّ الرؤية المستقبلية ضبابيّة أيضا.
التحرّر من قيود الإطار الزمني المحدود
لكن هذا الإطار الزمني المحدود فجّر طاقات فنيّة وقدرات إبداعية كبيرة للتغلّب على تلك القيود. فبينما تأمّلت الروايةُ الجزائرية الثورةَ من منطلق الحاضر الأمين، مُلقية نظرة خلفية إلى ماضٍ مظلم ولّى عهده، تأخذ الرواية الفلسطينية موقفا جريئا، فكريا وفنّيا في مشاركتها للأحداث. وقد لجأت هذه الأخيرة إلى عالم النفس الإنسانية اللاّمحدود، مُتخطّية السجن الزمني المحيط بها حتى عندما يندفع أبطالها عبر مساحات جغرافية واسعة كصحراء “رجال في الشمس” (للكاتب غسان كنفاني) أو بحر “السفينة” (للكاتب جبرا إبراهيم جبرا). وإذ تزداد حدّة الأحداث الخارجية ويتضاعف التشرّد وتكبر الغربة، يتوغّل الروائي في عالمه الداخلي، ليس هروبا، بل بحثا عن معنى لمآسي شعبه. فقد آن له أن يحصل على أجوبة لأسئلته العديدة؛ ما طرحه “أبو الخيزران” في فضاء الصحراء: “لماذا لم تدقّوا جدران الخزّان؟ لماذا لم تقرعوا جدران الخزّان؟ لماذا؟ لماذا؟ لماذا؟” (من رواية: رجال في الشمس، لغسان كنفاني)، وما ردّده “خلدون/ دوق” أمام والده: “لقد مضت عشرون سنة يا سيدي! عشرون سنة! ماذا فعلت خلالها كي تستردّ ابنك؟” (من: عائد إلى حيفا، لغسان كنفاني).
العجز والإعجاز في الرواية الثورية
لقد تصرّف الكاتب الجزائري مع أحداث وشخصيات رواياته تصرُّف المبدع المسيطر على الأمور نتيجة تطلّعه إلى زمنين في آن واحد: الماضي والمستقبل.. لا شك في أنّ الروائيين الجزائريين كانوا يسعون إلى إبراز القوة الدرامية للثورة؛ ولمَس الكثير منهم عجز أسلوب الوصف المباشر في إبراز ضخامة الأحداث والمواقف التي تنتمي إلى عالم اللاّمعقول، فابتدعوا وجدّدوا فنّيا لينصفوا واقعا فاق الخيال، في كثير من الأحيان. وقد تفوّق “محمد ديب”، في روايته “من يذكر البحر؟”، في معالجته لحرب التحرير الجزائرية، إذ اعتمد على أسلوب “سفر التكوين” لنقل أهوال الحرب إلى القارىء. أمّا “مولود معمري” فقد استعان بالفن التصويري السينمائي والحركة السريعة في رواية “الأفيون والعصا”، بينما اعتمدت أغلبية الروايات على النظرة الخلفية لرواية أحداث الثورة.
وكان ظهور روايات وطنية جزائرية باللغة الفرنسية موقفا ذا مغزى، إذ دلّ على فشل السياسة الاستعمارية في كبح الروح الوطنية على الرغم من محاربة اللغة العربية وحضارتها. وإن تأخّرت الرواية العربية الجزائرية في الظهور، فلم تتوان في التزامها الوطني، وأبدت اهتماما خاصا بمحاسبة الخونة على مواقفهم أثناء الثورة التحريرية وبعد الاستقلال. وقد تفوّق في هذا المجال كل من “عبد الحميد بن هدوقة” و”الطاهر وطار”.
وإن كان الالتزام بالقضية الوطنية قد أوجد تشابها ملموسا بين الروايتين الجزائرية والفلسطينية، فإنّ اختلاف طبيعة الكفاح لكل من الشعبين طبعت الأدبين بطابع خاص، إذ أنّ الطابع المأساوي لنضال الشعب الفلسطيني، مسّ حياته اليومية وجـوهـر وجـوده وأصول كيانه، وهدّدته الهجرة بالتفكك والذوبان وفقدان ذاتيّته. كما دمجته في خضم المشاكل الاجتماعية والتاريخية الخاصة بالعالم العربي أو غيرها من البلدان التي استوطن فيها. لذا اتخذت الرواية الفلسطينية موقفا شموليًّا في تعاملها مع العالم المحيط بها، وحتى مفهوم الوطن اكتسى أبعادا جديدة غير مألوفة؛ أمّا المشاعر فانقلبت صورتها رأسا على عقب، فضحك الناس دموعا وبكوا قهقهات مريرة.. وهي مواقف مُجسّدة في زغردة النساء عند تشييع الشهداء، وأصبحت المأساة أمرا نسبيا كما يمثّل لها “إميل حبيبي” في رواية “الوقائع الغريبة في اختفاء سعيد أبي النحس المتشائل”؛ فأيّ مصيبة أعظم من فقدان أمٍّ لابنها في حادثة مروّعة على رصيف الميناء؟! وهروب زوجة ابنها مع رجل غريب!!
كانت هذه نظرة سريعة إلى بعض أوجه التّشابه والاختلاف بين أدب الثورتين. وسأعالج كل أدب على حدة.
أصالة الروايات المكتوبة بأقلام جزائرية
إنّ التطرّق إلى الرواية الجزائرية يحتمّ علينا الإشارة إلى موضوع اللغة الفرنسية، إذ أنّ معظم الأعمال التي تناولت حرب التحرير في العقد الأوّل للاستقلال، كُتبت باللغة الفرنسية.. لن أتطرق هنا إلى أسباب هذه الظاهرة وأبعادها إذ كُتِب عنها الكثير. ما يهمّنا هو أصالة الروايات المكتوبة بأقلام جزائرية، حيث تُشكّل اللغة وسيلة تعبير… وقد تأخّر ظهور الروايات الجزائرية العربية المتعلقة بالثورة إلى بداية السبعينيات.
تتميّز الروايات الجزائرية التي تناولت أحداث الثورة، العربية منها والفرنسية، باكتمال النهاية، فما كُتب منها جاء بعد انتهاء الحرب التحريرية. وقد توقّفت جميع النشاطات الأدبية بين عامي (1954 – 1962)، وكُرّست الجهود للقضية الوطنية. واتّخذ الالتزام في جزائر الثورة معنى ملموسا عندما تطلّب من الجميع التفرغ من أجل الكفاح. فأصبح الأدب من “الكماليات”، وشعر كل من أدار ظهره للعمل الوطني، مكتفيا بانشغالاته اليومية العادية، بخيانة وطنه. وحاول العديد من الكُتّاب، فيما بعد، خاصة، منهم من كان خارج الجزائر، تبرير مواقفه بنوع من الحرج.
“واقعية الواقعية” في الرواية الثورية الجزائرية
قضية الالتزام إذًا أمر مسلّم به، ما يهمّنا الآن هو استعراض القدرة الإبداعية في موضوعات استهلكتها الخطب السياسية والوطنية. كيف الخروج عن المألوف وتشويق القارئ؟ كيف السيطرة على الحماسة ومشاعر الحب والكراهية تشحن النفس وتعجز عن الرؤية الواضحة؟ إنّ الكاتب الملتزم يواجه تحدّيات كثيرا ما تعرقل مسيرته الإبداعية! أبدت الرواية الجزائرية، بعامة، حرصا شديدا على نقل الواقع بصدق وأمانة متناهيين، محققةً بذلك ما يمكن أن نسمّيه واقعية الواقعية، إذ رغب الروائيون في احتواء الثورة وأحداثها وأبطالها داخل إطار أدبي يبرز عظمتها بدون أن يحوِّلها إلى دروس في التاريخ. فتنوعت اتجاهات الكُتّاب والتزموا بتيارات أدبية مختلفة. مع اتجاه واضح نحو الواقعية، فسار معظمهم في طريق “الواقعية الاشتراكية” أو “الواقعية الرّمزية”، وانحاز الروائي “محمد ديب” عن المجموعة برواية “من يذكر البحر؟”.
“محمد ديب” والخيال الرؤيوي
لخص محمد ديب موقفه تجاه أحداث الحرب التحريرية قائلا: “… من المستحيل وصف ما يشبه الجنة تارة والنار تارة أخرى وأحيانا الاثنين معا، إلّا بصورة مأخوذة من هذيان الأحلام ومن سفر الرؤيا”. وتوحي رواية “من يذكر البحر؟” بالجو المأساوي الذي يشعّ من لوحة “غيرنيكا” للفنان العالمي “بيكاسو”.
لقد أدّى اعتماد “محمد ديب” التام على الخيال الرؤيوي إلى خُلوّ الرواية من الوصف المباشر بشكل واضح، كما أسهم في تعميق الشعور بهول الأحداث وبشاعتها، فاحتوت الرواية على صيغ بلاغيّة مختلفة، وعلى ألفاظ وتعابير جديدة ابتدعها الكاتب لتساير المخلوقات العجيبة التي برزت في “من يذكر البحر؟”.
المرأة في رواية “من يذكر البحر؟”
يعتمد عنوان الرواية على تجانس لفظي في كلمة “بحر” باللغة الفرنسية التي تُلفظ مثل كلمة: أمّ، والمقصود هنا بالطّبع هو الوطن الأمّ، الممثّل في شخص “نفيسة” (الزوجة – الأم)، هي التي تسيّر الأحداث بمساعدة شخصيات نسائية أخرى، وهي التي تضمن استمرار الجنس البشري، وتؤمِّن لأبنائها من خلال دورها كوطنٍ للأمان والعيش الرغيد. “نفيسة” عطوفة مُحبّة مدبّرة وقوية سبقت زوجها في الانضمام إلى صفوف الثورة، وتفوّقت عليه في وعيها الوطني.
تدور أحداث الرواية حول المقاومة الشعبية في المدينة، وحول التحرّكات الليلية لأعضائها، فهم ينشطون ليلا وينسحبون نهارا إلى أماكن خفيّة في “المدينة الأرضية”، وعندما يظهرون يتصرّفون كـ “الخلد” الذي يعيش تحت الأرض. وإن كان أعضاء المقاومة الشعبية غير معروفي الهوية، فمن الممكن معرفتهم نتيجة الضوء الذي يشعُّ من وجوههم، يقرّبهم من القدّيسين، كاشفا عن الرضى بأداء الواجب. أما جيوش الاحتلال فهي أشبه بـ “المينوتور” (في الأساطير الإغريقية، وحش له رأس ثور وجسم رجل)، تلك القوة المدمِّرة التي تُحدث ضجيجا كلما تحرّكت، وتوحي بحركة زلزال أو قوة انفجار ضخم.
ويكثر “ديب” من التّعابير العلمية الغريبة لوصف الأحداث، متَّبِعا أسلوب الرواية العلمية. فيشبِّه حرب التحرير بخسوف القمر وقوة الانفجارات بصوت “عشرة آلاف محرّك أُطلِقت في اللحظة نفسها”. ويشير إلى الطائرات العمودية بكلمـة “إرياس” وهي من تأليفه. ويشبّه دماء الضحايا بـ “القار الأحمر” الذي أصبح “الأثر الوحيد للمنازل وسكانها”. وإذا تخطَّت الأحداث ببشاعتها أقصى مدى للتصوّر الإنساني، رفض الكاتب وصفها، موحيًا بشدّة عنفها.
رواية “من يذكر البحر؟” ترفع الستارة عن أهميّة الدور الذي لعبته المرأة في الحرب التحريرية. فهي العقل المدبِّر والقلب الرحيم، هي “البحر” الذي يحيط بالمدينة بينما “السلام الذي يشعّ منه، ينتشر عبر الليل ويملأ الفضاء”.
لا يقتصر دور المرأة الهام في الثورة على الرواية السابقة، بل يبرز بوضوح في رواية “رقصة الملك”، حيث يتّضح دورها القيادي أثناء الحرب، وخلال السنوات الأولى للاستقلال. فهي قوة يرتكز عليها زملاؤها من قدماء المجاهدين.