“..إذا أردت غزو شعب ما، اصنع له عدوا وهميا يبدو أكثر منك خطرا، ثم قدِّم نفسك على أنك المنقذ الوحيد له من هذا العدو..” (نعوم تشومسكي)، وكذلك فعلت الولايات المتحدة الأمريكية مع الدول العربية وتفعل، بأن صورت لهم عدوا وهميا، هو جمهورية إيران الإسلامية، وراحت تحذرهم من خطر سياستها التوسعية، لتنسيهم خطر العدو الحقيقي؛ الكيان الصهيوني، الذي يحتل قلب الوطن العربي، ويتمدد على أقدس بقعة فيه كورم خبيث، يقتات على الغدر والقتل والدماء.
وهكذا، نجحت في إدخال المنطقة بأسرها في صراع عبثي هامشي، ومزقت الصف الواحد صفين؛ هذا على عهد الشيعة وأنصارها، وذاك على نهج السنة وحلفائها.. هذا يلعن ذاك ويتوعده، وذاك يكفر هذا ويترصده.. صراع لا طائل من ورائه سوى خدمة المصلحة العليا لأمن الكيان المحتل، وذلك بتشتيت بيت جيرانه العرب، وتقديمهم للعالم على أنهم مجرد همج متخلفين، تقودهم دكتاتوريات متآمرة متناحرة، وأن الديمقراطية الوحيدة والمدنية الفريدة في المنطقة كلها هي الكيان الصهيوني، وأن ما يقوم به من صلف وخبث ومكر وجرائم بحق الأبرياء في فلسطين هو مجرد حالة من التداعيات المفروضة للدفاع عن النفس وتحقيق الأمن والاستقرار.
وقد ظهر ذلك جليا من خلال ما استقر عليه المشهد على ضوء ما يحدث في فلسطين، ففي الوقت الذي ركزت فيه جمهورية جنوب إفريقيا جهودها وأخلصت مساعيها لمواجهة الكيان الغاصب بصلفه وطغيانه، وكيفية الإيقاع به في مصيدة القضاء الدولي، على خلفية جرائمه المنكرة في قطاع غزة على وجه الخصوص.. ظلت الدول العربية تبحث في كيفية توريط إيران في ما يحدث في فلسطين وجنوب لبنان، وفي البحر الأحمر واليمن والسودان.
اليوم، وقد بلغ عمر العدوان الصهيوني على غزة مائة يوم ويوم، يقف العالم ويستوقف الأحداث، فلا شيء سوى الأشلاء الممزقة والدماء المهروقة والدور المهدمة والأرواح المهدورة، بكل همجية ووحشية وصلف وطغيان.. فقد عمد الصهاينة الأوغاد، وطوال مائة يوم ويوم من العدوان الغاشم، إلى مسح أحياء سكنية بعوائلها.. عمدوا إلى تدمير ما تبقى من منظومة صحية هشة من الأساس، وهدم بنيتها التحتية، وقتل أكثر من 340 كادرا صحيا واعتقال 99 آخرين في ظروف غامضة وقاسية، واستهداف 150 مؤسسة صحية، وتحييد 30 مستشفى و53 مركزا صحيا عن الخدمة، وتفجير أكثر من 121 سيارة إسعاف.
بعد مائة يوم ويوم، ارتكب العدوان الصهيوني مجازر إبادة بحق المدنيين العزل، منهم عوائل أبيدت عن آخرها، وما يزال الكثير من الضحايا تحت الردم والركام، ومنهم من دفن تحت الأنقاض من غير غسل ولا صلاة، ناهيك عن الجثث المترامية عبر الشوارع والطرقات، وقد تحللت وتعفنت من دون أن تتمكن طواقم الإسعاف والدفاع المدني من الاقتراب منها، بسبب القنص المركز والقصف المتواصل.
مائة يوم ويوم لمائة ألف وألف من الضحايا، بين شهيد وجريح ومفقود، منهم 70 بالمائة من الأطفال والنساء، قضوا ضمن أكثر من ألفي مجزرة، وتحت وابل من القذائف والرصاص المنهمر من دون هوادة ولا أخلاق، فحتى أيام الهدنة كانت قد تخللتها جرائم وهجمات، لتدل على مستوى الحقد والغل الذي يسكن صدر “النتن ياهو”، وعلى الهمجية والبشاعة التي بلغها السلوك الإجرامي للعدو الصهيوني.
بعد مائة يوم ويوم، أجبر الاحتلال المجرم، وعن طريق القصف والتدمير، نحو مليونين من الفلسطينيين على النزوح في ظروف قاسية، أقلها شأنا شبح الجوع المخيم وخطر العطش المستشري، وبؤس الأمراض المنتشرة ورعب الأوبئة المستعصية.. ظروف بدائية جائرة، لا توفر أدنى شروط العيش ولا أهون متطلبات الحياة.. كل ذلك على مرأى ومسمع من أعين العالم، وعلى علم من مؤسساته الأممية، والتي ما فتئت تظهر عجزها وتؤكد ضعفها أمام الغطرسة الأمريكية المتجبرة، وتحت الهيمنة الصهيونية المتمادية.
بعد مائة يوم ويوم من الإجرام المستعر والمستمرّ على قطاع غزّة، بات من الواجب المستعجل على شرفاء العالم وأحراره أن يتحركوا، ويحذوا حذو زعماء جنوب إفريقيا، وأن يسارعوا إلى تفعيل تدخلات حاسمة ومركزة، لمنع الكارثة الإنسانية والصحية الواقعة والمحتملة بين النازحين؛ فإلى اليوم، لم تتمكن المؤسسات الأممية حتى من توفير ممرات إنسانية آمنة، كما هو معمول به في مثل هذه الظروف، تضمن من خلالها الحد الأدنى لتدفق المساعدات الطبية والغذائية، وتقديم الإسعافات اللازمة للجرحى، وانتشال جثث الموتى، وإخراج المصابين من جحيم الخراب لتلقي العلاج الواجب خارج البلاد.
بعد مائة يوم ويوم من العدوان المستمرّ للعدو الصهيوني على غزّة وفلسطين، تمكنت القيادة الشريفة الحكيمة الحاكمة في جمهورية جنوب إفريقيا من جعل قبر الزعيم “نيلسون مانديلا” يستنير فخرا واعتزازا وسلاما، وهم يرافعون من منبر الجنائية الدولية بـ”لاهاي” لصالح الشعب الفلسطيني، الذي يتعرض لشتى أنواع القمع والإبادة والعدوان على أيدي المجرمين الصهاينة.
بعد مائة يوم ويوم من الجريمة المتواصلة، علا في سماء القضاء العالمي اسم الأستاذة المحامية “عديلة هاشم”، وهي ترافع أمام محكمة العدل الدولية، في واحدة من أقوى المرافعات التي يمكن أن يعرفها ميدان الدفاع والمحاماة في العالم، حيث شرّحت الوضع القائم بدقة وذكاء، أسقطت من خلالهما الكيان الصهيوني في شرك جرائمه بالحجة والدليل والبرهان، قائلة: “..ما يحدث في غزة، اليوم، قضية تؤكد جوهر إنسانيتنا المشتركة، وفقا لما تم التعبير عنه في الشعار السابق لاتفاقية الإبادة الجماعية، حيث تؤكد جنوب إفريقيا أن “إسرائيل” (الكيان الصهيوني) قد انتهكت نص ومدلول المادة الثانية من الاتفاقية، بارتكابها أعمالا تندرج ضمن تعريف الإبادة الجماعية المتفق عليه..”، قبل أن تقوم بعرض شريط مصور للمقابر الجماعية التي دُفنت فيها جثث الضحايا في القطاع الفلسطيني المحاصر، لتتابع بعدها بالقول: “..إن أول عمل إبادة جماعية هو القتل الجماعي للفلسطينيين في غزة، وغالبا ما تكون الجثث غير محددة الهوية.. حيث استخدمت “إسرائيل” (الكيان الصهيوني) أكثر من ستة آلاف قنبلة في الأسبوع، منها قنابل يزيد وزنها عن تسعمائة كيلوغرام، مرة على الأقل في جنوب غزة الذي صنفته بأنه آمن، رغم أنه لا أحد بمنأى عن الإصابة أو الموت، ولا حتى الأطفال حديثي الولادة.. وقد وصف قادة الأمم المتحدة غزة بأنها صارت مقبرة للأطفال..”، كما أشارت إلى أن “..الهجمات الإسرائيلية – الصهيونية – خلّفت عشرات الآلاف من الضحايا القتلى والجرحة والمشوهين، معظمهم من النساء والأطفال، وذلك في ظروف انهار فيها نظام الرعاية الصحية تقريبا..”، وأردفت بقولها: “..تقوم السلطات الإسرائيلية باعتقال عدد كبير من المدنيين الفلسطينيين، بمن فيهم الأطفال والنساء، وتُعصب أعينهم، ويجبرون على خلع ملابسهم، ويُحملون على شاحنات، وينقلون إلى أماكن مجهولة.. إن معاناة الشعب الفلسطيني، جسديا وعقليا لا يمكن إنكارها، ولا تجاهلها..”.
الرئيس “ماتاميلا سيريل رامافوزا”، بدوره، لم يخف سعادته الغامرة، على نهج سلفه الزعيم العالمي “مانديلا”، وهو يصرح للإعلام: “..لم أشعر بفخر كهذا من قبل.. لن نكون أحرارا حقا ما لم يتحرر الشعب الفلسطيني..”، في تحدّ صارخ لواقع المذلة والخنوع الذي يلف المواقف المخزية للأنظمة العربية المهرولة والمطبعة، وقد زاد جمهورية إفريقيا الجنوبية شرفا وعزّا قرار برلمانها الشعبي وبأغلبية ساحقة طرد سفير الكيان الصهيوني، وتعليق العلاقات الدبلوماسية بين البلدين، إلى حين وقف سلطات الكيان عدوانها وصلفها وغطرستها بحق الشعب الفلسطيني.
ملحمة قانونية وحقوقية وقضائية، فعلا، تقودها جمهورية جنوب إفريقيا بمحكمة “لاهاي”، وهي ترافع من أجل العدالة والسلام، ليس لفلسطين وشعب غزة فقط، وإنما للبشرية جمعاء في أخلاقها وفي ضميرها وفي قيمها وثوابتها الإنسانية العصماء، حتى تنحسر مساحة الظلم وتقوّض تداعيات الجريمة، فلا ينعم المجرمون بالأمن والسلام، ويسرحوا في الأرض من دون عدالة ولا عقاب، رغم أيديهم الملوثة بالدماء.. وسيشهد لها التاريخ بشرف مسعاها، ونبل اجتهادها واستقامة نهجها وشدة بأسها ورباطة جأشها، كجمهورية فاضلة في عالم يعج بالنفاق والفساد والتفسخ والانحلال.