في ظل صراع دموي يزداد تعقيدًا يومًا بعد يوم، بات السودان مسرحًا لحرب أهلية تُعدّ من بين الأكثر دمارًا في العالم، حيث تتداخل المصالح المحلية مع الأجندات الإقليمية والدولية. فمنذ اندلاع الحرب بين الجيش السوداني وقوات الدعم السريع في أفريل 2023، يواجه المدنيون مأساةً إنسانيةً غير مسبوقة، مع تفاقم الجوع والانتهاكات الفظيعة. وبينما تشير أصابع الاتهام إلى أطراف خارجية في مقدمتها الإمارات لدورها في دعم قوات الدعم السريع بالسلاح، تصاعدت دعوات أمريكية إلى فرض قيود على صفقات الأسلحة مع أبو ظبي في محاولة للحدّ من انخراطها في النزاع وتأجيج الكارثة الإنسانية التي يدفع ثمنها الشعب السوداني.
مرَّ نحو 21 شهرًا منذ اندلاع الحرب في السودان، والمشهد يزداد تعقيدًا في ظل غياب أي حلول سياسية ملموسة. وتشير تقارير أممية إلى وقوع انتهاكات جسيمة ضد المدنيين، في حرب تُغذِّيها تدخلات أطراف خارجية. ومن بين هذه الأطراف، برزت الإمارات في اتهامات وجَّهها مشرّعان أمريكيان يوم الجمعة، حيث تعهَّدا بالعمل على منع بيع الأسلحة لـ” أبوظبي” بعد أن خلُصا إلى تورطها في تقديم الدّعم العسكري لقوات الدّعم السريع في الحرب الأهلية بالسودان. ومع ذلك، نفت الإمارات هذه الاتهامات عبر مسؤول رسمي أكد أن بلاده تركزّ على معالجة الأزمة الإنسانية والدعوة إلى وقف إطلاق النار وحل سلمي للنزاع.
بدأت الأزمة بعد انقلاب قاده الجيش السوداني وقوات الدّعم السريع في عام 2021 للإطاحة بالحكومة المدنية، لكن الخلافات بين الطرفين تفجّرت بعد أقل من عامين بسبب خُطط دمج قوات الدعم السريع في الجيش. وفي أفريل 2023، اندلعت الحرب بينهما، ما أدّى إلى كارثة إنسانية حيث أصبح نصف سكان البلاد مهددين بالجوع.
وفي هذا السياق، صرّح السناتور “كريس فان هولين” وعضو مجلس النواب سارة جاكوبس، وكلاهما من الحزب الديمقراطي، في بيان لوكالة رويترز بأن موقفهما استند إلى إحاطات من إدارة الرئيس الأمريكي السابق جو بايدن وتقارير إضافية. وقال فان هولين: “الإمارات شريك مهم في الشرق الأوسط، لكن لا يمكن للولايات المتحدة أن تغضّ الطرف عن دورها في تأجيج المعاناة في السودان”. بينما أشارت جاكوبس إلى أنّ “استمرار تسليح الإمارات لقوات الدعم السريع يطيل أمد الحرب والدمار. تمتلك الولايات المتحدة فرصة لإنهاء هذا الصراع وتحقيق الاستقرار في السودان من خلال منع الأسلحة عن الإمارات وقطع سلسلة الإمداد الأساسية لقوات الدعم السريع”.
وفي المقابل، صرّح مسؤول إماراتي بأن بلاده تركزّ جهودها في السودان على معالجة الأزمة الإنسانية، مشددًا على ضرورة الوقف الفوري لإطلاق النار والتوصل إلى حل سلمي للصراع.
وأكدّ المسؤول أنّ الإمارات “لا تقدم أي دعم أو إمدادات لأي من الأطراف المتحاربة في السودان”.
وفي سياق متصل، كانت إدارة بايدن قد وعدت بتقديم تقييم للمشرعين بحلول 17 يناير بشأن مصداقية التأكيدات الإماراتية بأنها لا تزوِّد قوات الدعم السريع بالأسلحة. ويُلزِم القانون الأمريكي الكونغرس بمراجعة صفقات الأسلحة الكبرى، مع السماح لأعضاء مجلس الشيوخ بالتصويت على قرارات رفض يمكن أن تعطل هذه الصفقات. ورغم أن أعضاء مجلس النواب لا يتمتعون بصلاحية فرض مثل هذا التصويت، إلاّ أنّ القرارات تتطلب موافقة مجلسي الكونغرس، مع إمكانية تجاوز الفيتو الرئاسي لدخولها حيز التنفيذ.
تعتبر الإمارات واحدة من أكبر المشترين للأسلحة الأمريكية، حيث وافقت إدارة بايدن في أكتوبر الماضي على صفقة محتملة بقيمة 1.2 مليار دولار تشمل ذخائر لمنظومتي الصواريخ الموجهة (GMLRS) والتكتيكية (ATACMS)، بالإضافة إلى خدمات دعم. وتنتج هذه الصواريخ شركات أمريكية رائدة، منها لوكهيد مارتن وL3 هاريس تكنولوجيز.
في نوفمبر، قدّم السيناتور كريس فان هولين والنائبة سارة جاكوبس مشروع قانون يهدف إلى وقف صفقة الأسلحة مع الإمارات، إلاّ أنّ فرص نجاح هذا المشروع في الكونغرس تبدو محدودة. فالإدارات الأمريكية المتعاقبة، سواء الديمقراطية أو الجمهورية، لطالما اعتبرت الإمارات شريكًا أمنيًا إقليميًا حيويًا. ومع ذلك، يسعى المشرِّعون إلى تسليط الضوء على الصراع السوداني، الذي يعدّ واحدًا من أكبر الكوارث الإنسانية في العالم.
لعبة مزدوجة مُمِيتة
وفي سبتمبر 2024، نشرت صحيفة نيويورك تايمز تقريرًا سلّط الضوء على ما وصفته بالدور الإماراتي في تأجيج الصراع بالسودان. وأوضحت الصحيفة أنّ الإمارات تعمل على توسيع “حملة سرية” لدعم الطرف الذي تعتقد أنه سيخرج منتصرًا في الحرب الأهلية بالسودان، مشيرة إلى تقديمها الدعم لقوات الدعم السريع. كما اتهمتها باستخدام غطاء الهلال الأحمر لتهريب الأسلحة وإرسال طائرات بدون طيار.
وأفاد التقرير بأن الإمارات تلعب “لعبة مزدوجة مميتة” في السودان، البلد الذي دمرته واحدة من أكثر الحروب الأهلية كارثية في العالم. ففي محاولة لتعزيز دورها كقوة إقليمية، تدعم الإمارات المقاتلين في السودان من خلال تحويل الأموال والأسلحة والطائرات بدون طيار إلى قوات الدعم السريع، وفقًا لمعلومات صادرة عن مسؤولين، مذكرات دبلوماسية داخلية، وصور أقمار اصطناعية حللتها الصحيفة.
وفي الوقت نفسه، تسعى الإمارات إلى تقديم نفسها على الساحة الدولية كداعم للسلام والمساعدات الإنسانية، مستغلة رمز الهلال الأحمر، الشبيه بالصليب الأحمر، كغطاء لعملياتها السرية. وأكدّ التقرير أن صور الأقمار الصناعية وشهادات مسؤولين أمريكيين تُظهر أدلة على تهريب الطائرات بدون طيار والأسلحة إلى السودان تحت هذا الغطاء.
ورأت صحيفة “نيويورك تايمز” أن الحرب في السودان، الذي يتميز بثروته الهائلة من الذهب وساحل يمتد حوالي 500 ميل على البحر الأحمر، تُغذّى من قِبَل عدد كبير من الدول الأجنبية. وذكرت الصحيفة أن من بين هذه الدول إيران وروسيا، بالإضافة إلى الإمارات التي تلعب دورًا بارزًا في دعم الأطراف المتحاربة بالسلاح، بهدف تحقيق مكاسب استراتيجية أو اقتصادية خاصة بها، في حين يُترك الشعب السوداني يعاني وسط تبادل النيران. وأشارت الصحيفة إلى أن الإمارات تضطلع بالدور الأكثر تأثيرًا، إذ تعلن دعمها لتخفيف معاناة السودان علنًا، لكنها في الوقت ذاته تعمل سرًا على تأجيج الصراع.
هل ينهي ترامب الحرب في السودان؟
من جانبها، نشرت مجلة “فورين بوليسي” –مؤخر- مقالًا يُشير إلى أن الرئيس الأمريكي دونالد ترامب قد يكون الشخص الوحيد القادر على إنهاء الحرب في السودان، نظرًا لنفوذه الواسع على الخرطوم والقوى الإقليمية. وأوضح كاتب المقال، كاميرون هدسون، الباحث الأول في برنامج إفريقيا بمركز الدراسات الاستراتيجية والدولية، أن إفريقيا عادةً لا تحظى بمكانة عالية في أولويات السياسة الخارجية الأمريكية، إلاّ أن السودان بات يشكل حالة استثنائية تتطلب تدخلًا أمريكيًا فاعلًا، حيث يمكن لنفوذ واشنطن، لاسيما في عهد ترامب، أن يكون العنصر الحاسم لإنهاء هذا الصراع.
وأشار هدسون إلى أن ترامب يتمتع بتاريخ سياسي مع السودان، إذ شهدت إدارته الأولى خطوات معقّدة لإزالة السودان من قائمة الدول الراعية للإرهاب، بهدف تمهيد الطريق لتخفيف الديون وتحقيق الانتعاش الاقتصادي. وأصبحت هذه الخطوة رسمية في ديسمبر 2020، وشملت جهودًا مثل الحصول على شهادة من مجتمع الاستخبارات الأمريكي، والتفاوض على تسوية بقيمة 335 مليون دولار لضحايا الهجمات الإرهابية، بالإضافة إلى تأمين دعم الكونغرس. كما عملت الإدارة الأمريكية على تطبيع العلاقات مع الخرطوم، حيث تم تبادل السفراء لأول مرة منذ 25 عامًا.
لكن هدسون أشار إلى أن ترامب دفع الحكومة السودانية للتوقيع على اتفاقيات أبراهام الصهيونية، رغم رفض القادة العسكريين والمدنيين في السودان. فقد جادل الطرفان بأن الطبيعة الانتقالية لحكومتهما، وعدم وجود برلمان قائم، لم تمنح أيًا منهما التفويض اللازم للدخول في التزامات تعاهدية جديدة، لفائدة الكيان الصهيوني.
في نهاية المطاف، لم يكن للسودان أي قدرة على المقاومة، واضطر إلى الإذعان نتيجة حاجته الماسة للتخلص من العقوبات الأمريكية المتبقية. وبعد أن وافق السودان على شروط وزارة العدل الأمريكية لإزالته من قائمة الدول الراعية للإرهاب، أعلن ترامب، في أكتوبر 2020، تطبيع العلاقات بين السودان والاحتلال الصهيوني، ليصبح السودان –حينذاك- واحدة من الدول العربية التي وقّعت على اتفاقيات أبراهام.
وأضاف هدسون أن عودة ترامب إلى السلطة تجعله أمام ملف سوداني مختلف تمامًا عن ذلك الذي سلّمه إلى الرئيس الأمريكي السابق جو بايدن قبل أربع سنوات. فقد دمرت الحرب التي استمرت قرابة عامين البلاد، لتتحول إلى أكبر أزمة إنسانية حالية.
وأشار الكاتب إلى أن الحجة الأخلاقية للاستجابة لمعاناة السودان الجماعية قد لا تكون كافية لتحفيز إدارة تسعى بشكل أساسي لخدمة مصالحها الوطنية أولًا. ومع ذلك، فإن واشنطن تمتلك مصالح استراتيجية ونفوذًا غير مستغل في السودان يتجاوز الأبعاد الإنسانية للصراع، ممّا يضع ترامب في موقفٍ فريدٍ يسمح له بتقديم حلول لإنهاء الحرب لكن ذلك لن يتم إلا بممارسة المزيد من الابتزاز.
وأوضح هدسون أنّه من الواضح أن إدارة ترامب لن تكون قادرة على إحياء اتفاقيات أبراهام الصهيونية بالتزامن مع انهيار وتفكك أحد الموقعين الخمسة عليها. فالصراع في السودان يتجاوز كونه مجرد حرب بين جنرالين متنافسين؛ إنه يفتح بابًا لمعركة أعمق بين حلفاء الولايات المتحدة في المنطقة حول السلطة، والهيمنة، والثروة، والنفوذ في البحر الأحمر والقرن الإفريقي. وهذه المنافسة تُلقي بتكاليفها الباهظة على عاتق الشعب السوداني.