لم يكن طريق رئيس الوزراء اللبناني السابق، سعد الحريري منذ دخوله معترك الحياة السياسية مفروشا بالورود، فقد كان على ابن رئيس الوزراء الأسبق رفيق الحريري أن يسير في حقل ألغام الداخل اللبناني.
وخلّف تعليق سعد الحريري عمله السياسي اهتزازا كبيرا في المشهد اللبناني. ويرجح مراقبون أن يعيد الحلفاء والخصوم ترتيب أوراقهم على مسافة أشهر قليلة من الانتخابات، خصوصا أن اعتكاف الزعيم الأول بالطائفة السنّية، وصاحب أكبر تكتل برلماني لها، قد يولد ارتدادات خطيرة.
وأعلن الحريري، الإثنين 24 جانفي/ كانون الثاني موقفه المنتظر على مستويين: أولا، تعليق عمله وعمل تياره (المستقبل) في الحياة السياسية. وثانيا، عدم الترشح للانتخابات النيابية وعدم التقدم بترشيحات من تياره أو باسمه.
وقد روّج الحريري منذ فترة أنه تحول من رجل سياسة إلى رجل أعمال يهتم ببعض المشاريع في الإمارات وغيرها من الدول، حتى وصل الى قرار إعلان انسحابه من الحياة السياسية في ظل رفض نواب كتلته النيابية وكثير من جمهور “المستقبل” وأيضا شخصيات سياسية لبنانية لمثل هذا القرار، مع انتشار معلومات مفادها أن ضغوطا إقليمية (سعودية) فرضت على الحريري لتعليق العمل السياسي وعدم الترشح في الانتخابات النيابية القادمة.
وهكذا، ينسحب سعد الحريري (51 عاما) من الانتخابات لأول مرة بعد دخوله المعترك السياسي وريثا إثر اغتيال والده رفيق الحريري في 2005.
وقد عاش الرجل سيرة ممتلئة بالاضطرابات والتناقضات، واكتسب شعبيته من التعاطف الكبير معه بعد اغتيال والده، وما تلاه من انقسام حاد بين قوى “14 آذار” و”8 آذار” وانسحاب للجيش السوري عام 2005.
وتولى الحريري رئاسة الحكومة 3 مرات: الأولى بين 2009 و2011 قبل أن يسقطها حزب الله وحلفاؤه، وزار في بدايتها دمشق تحت ضغط سياسي للقاء الرئيس السوري بشار الأسد، ما أثار جدلا واسعا ضده.
والثانية عام 2016 إثر عقده تسوية رئاسية جاءت بميشال عون رئيسا للجمهورية بعد عامين ونصف من الفراغ الرئاسي، واستقال 2017 من الرياض وسط ظروف غامضة.
والثالثة بعد انتخابات 2018 التي قلصت عدد مقاعد تياره البرلمانية، ثم أعلن استقالة حكومته بعد الحراك الشعبي في أكتوبر/تشرين الأول 2019.
ومنذ ذلك الحين، بقي الحريري من نجوم الأحداث السياسية، خصوصا بعد سقوط تسويته مع عون وصهره النائب جبران باسيل، وبلوغ خلافاتهما ذروة غير معهودة، وعجزه عن تأليف الحكومة على مدى أكثر من 9 أشهر بعد استقالة حكومة حساب دياب في أغسطس/آب 2020 عقب انفجار المرفأ.
لم يكن سعد -ثاني أبناء رفيق الحريري من زوجته الأولى نضال بستاني، والمولود في العاصمة السعودية الرياض- مولعا بالسياسة؛ فقد اقتحم عقب حصوله على شهادة إدارة الأعمال الدولية من جامعة جورج تاون بالولايات المتحدة عالم الأعمال.
وعقب ترؤسه عددا من الشركات البارزة التي أسسها والده، ومن بينها “سعودي أوجيه” في الفترة الممتدة بين 1994 و2005؛ وجد الحريري الابن نفسه في عالم آخر لا يقل إثارة عن عالم الأعمال.
لكن دخول الحريري عالم السياسة لم يكن بإرادته، فبعد اغتيال والده في تفجير موكبه ببيروت في 14 فبراير/شباط 2005، توقع كثيرون أن يتسلم الابن البكر بهاء الدين الحريري الراية ويتولى قيادة المحور السياسي الذي كان يقوده والده بحكم أنه الأكبر سنا والأكثر ثراء بين أفراد العائلة، ولكن لسبب ما تأخر الكبير وتقدم الشقيق الأصغر، وقيل في ما بعد إن السعودية رفضته واختارت بدلا منه شقيقه الأصغر سنا سعد الحريري، ليكمل مسيرة والده الراحل.
أزمة واختطاف
في 4 نوفمبر/ تشرين الثاني 2017، فجّر الحريري أزمة سياسية ودبلوماسية تطورت لاحقا إلى أزمة بين لبنان والسعودية باستقالته من رئاسة الحكومة، وذلك في خطاب متلفز من العاصمة الرياض بثته وسائل إعلام سعودية.
وأعرب الحريري في خطاب الاستقالة عن خشيته من تعرضه للاغتيال، مضيفا “لمست ما يحاك سرا لاستهداف حياتي”، مشيرا إلى أن ذلك يشبه المرحلة التي سبقت اغتيال والده رئيس الوزراء الأسبق رفيق الحريري.
وأشار الحريري إلى الأسباب التي دفعته للاستقالة بقوله إنه يشعر بوجود دولة داخل الدولة، في إشارة إلى حزب الله، وشدد على رفضه استخدام سلاح الحزب ضد اللبنانيين والسوريين، وقال إن “تدخل حزب الله تسبب لنا في مشكلات مع محيطنا العربي”، على حد تعبيره.
بقي الحريري نحو أسبوعين في السعودية تردد خلالها حديث واسع عن وجوده في إقامة جبرية، بل قال الرئيس اللبناني في 11 نوفمبر/تشرين الثاني 2017 إن رئيس الوزراء تعرض إلى “الخطف”. وطالب السعودية بتوضيحات عن وضعه الذي يكتنفه الغموض، وانضمت واشنطن إلى المطالبين بعودته إلى بلاده.
وفي 18 نوفمبر/تشرين الثاني 2017 غادر الحريري الرياض متوجها إلى فرنسا بعد أسبوعين من استقالته المفاجئة التي أثارت تساؤلات عما إذا كان محتجزا، وذلك بعد تدخل فرنسي لدى السلطات السعودية.
وفي 22 نوفمبر/تشرين الثاني 2017 وصل إلى لبنان، وأعلن بعد لقاء له مع الرئيس ميشال عون التراجع عن استقالته بعد طلب من الرئيس، وجدد دعوته إلى النأي بالنفس عن كل ما يمس الأشقاء العرب، حسب قوله.
سمير جعجع حصان السعودية الجديد
ويرى مراقبون أن انكفاء القيادات السياسية السنية وغيابها عن المشهد الانتخابي، قبل أشهر على حلول موعد الانتخابات النيابية الحاسمة في لبنان، الأبواب أمام رئيس حزب القوات اللبنانية سمير جعجع لمغازلة المكون السني، في خطوة ربما جاءت بتشجيع سعودي.
وقال جعجع، في تصريحات إعلامية سابقة: “الأكثرية السنية هم حلفاؤنا بطبيعة الحال على المستوى الشعبي لا القيادي، وكل من لديه نفس طروحاتنا سيكون هناك انسجام معه، والأمور لم تعد تحتمل هدنات”.
ويقول مراقبون إن لبنان بالنسبة إلى الرياض الآن “قضية خاسرة” قادتها، ولاسيما السنة، قدموا تنازلات أكثر من اللازم في مواجهة حزب الله، على عكس جعجع الذي يتخذ مقاربة راديكالية للقطع مع أجندات الحزب وتحكّمه في سلطة القرار، وهو ما ينسجم مع الرؤية السعودية لمستقبل لبنان.
وترى دوائر سياسية أنه لا توجد شخصية سنية جديدة تتمتع بالدعم السعودي الضروري لوجودها السياسي، لكنها تشير إلى أن جعجع (مسيحي) ربما يلقى تشجيعا سعوديا لملء الفراغ.
وتقول إن السعودية تخلت عن الحريرية السياسية منذ اعتقال سعد الحريري وإهانته، ويأتي هذا التخلي في سبيل تقوية منافسه الجديد رئيس حزب القوات اللبنانية سمير جعجع.
وفي السابع والعشرين من ديسمبر الماضي دعا الرئيس اللبناني، في كلمة متلفزة، الأطراف السياسية اللبنانية إلى “حوار وطني عاجل”، لكنه لم يحدد موعده.
وقال عون إن “الحوار هدفه التفاهم على ثلاث مسائل، والعمل على إقرارها، وهي اللامركزية الإدارية والمالية الموسّعة، والاستراتيجية الدفاعية لحماية لبنان، وخطة التعافي المالي والاقتصادي”.