الخاطرة أمّ المبدعين.. تجرّأ واعترف أنك “خربشت” كتابات على كرّاسك المدرسي!

معظم الأدباء الكبار انطلقوا من كتابة الخاطرة، فهي فضاء يستوعب كلّ مَن يمتلك قلمًا ويريد أن يستمطر الكلمات والمعاني من سماوات وجدانه أو فكره، سواء كان كاتبا له صلة وثيقة بالكتابة أو عاشقا يتذوّق اللغة ويهوى التّعبير! ورغم أنّ الخاطرة جنس أدبي له مزاياه وخصائصه وجماليّاته، فإنّها لم تأخذ مكانتها بين الأجناس الأدبية الأخرى، ولم تحظ بالدراسات النقديّة.. وكأنّ الخاطرة هي “خربشة” هاوٍ للكتابة أو عاشق يستفرغ شحناته العاطفية والفكرية على قصاصة ورق، ثم يخجل من إذاعتها بين النّاس، فلا يُقال عنه: كاتب خواطر!

لا تخضع الخاطرة إلى المعايير والقيود، فهي كتابةٌ حرّة و”عفويّة” وصادقة إلى أبعد الحدود، لا غرض للكاتب من كتابتها سوى أنه يريد أن يكتب ويُعبّر عن شيء ما يختلج في فكره أو أعماقه ووجدانه.. ولا نعتقد بأنَّ عاشقا للغة العربية ومتذوّقًا لجمالياتها لم “يُخربش” يوما على كرّاسات دروسه كتابات أوحى بها إليه خاطره، وغالبا لم يكن يعلم أنّ ما يكتبه يُمسّى “خاطرة”! بل إنّ كثيرًا مِمّن مرّوا على مقاعد الدراسة قد “خبرشوا” نصوصًا على قصاصات الأوراق ثم احتفظوا بها لأنفسهم، كأنّما هي كنز ثمين من كنوز زمن المراهقة وبدايات الشباب..

إنّ كاتب الخاطرة هو قارئها الأول وقد يكون الوحيد، فكأنّما الكاتب قد مارس فعل مكاشفة لنفسه، وفاض بأسراره على قصاصة ورق، ولا يُريد لغيره أن يطّلع عليها.. ولو أنّ الناس أخرجوا ما في “صناديقهم” من قصاصات الخواطر لتكوّنت ثروة أدبيّة كبرى، سيكون من بينها كتابات جديرة بالانتشار بين الناس، وأيضًا سيكون بين الكتّاب “الخواطريّين” من هم جديرون بأن يكونوا من روّاد الأدب..

ومن أجمل ما كُتب في هذا السياق، ما كتبه الدكتور “شعبان عبد الجيّد” في مقاله الذي خصّصه لهذا الملف، حيث قال: “ولو أنّ كلَّ عالمٍ، بل لو أن كلَّ متعلِّمٍ قيَّد ما يمرّ بذهنه من الخواطر لكان من ذلك ثروةٌ له وللناس: يعود هو بعد سنين إلى ما كتب، فيرى فيه تاريخ تفكيره، ويجد فيه ما افتقد من نفسه. والإنسان في تبدُّل، يذهب (شخصٌ) ويولَد (شخص)، وحينما تقرأ وأنت (شيخٌ) خواطرك التي سجَّلتها وأنت (شابٌّ)، تجد شيئًا غريبًا عنك، كأنك ما كنت أنت صاحبَه، وكأنه خطر على بال غيرِك”.

من أجل تسليط الضوء على فنّ الخاطرة، توجّهت جريدة “الأيام نيوز” إلى نخبة من أدبائنا العرب بهذه التساؤلات: هل انطلقتم من كتابة الخاطرة؟ وهل تذكرون أوّل خاطرة كتبتموها، وماذا كان دافع كتابتها؟ وهل تؤيّدون كتابة الخاطرة وتأصيلها والتَّمكين لها لتحتلّ مكانةً بين الأجناس الأدبية الأخرى؟ وما هو مفهومكم للخاطرة الأدبية؟ فكانت لهم آراء ورؤى وأفكار..

وماذا عنك أنت عزيزي القارئ؟ لا شكّ أنك تحتفظ ببعض الخواطر في “صندوقك” الخاص، ولن ندعوك أن تُفرج عنها، ولكننا نحفّزك أن تعود إليها وتسترجع فيها ومعها بعض ذكرياتك!

 

جنان الحسن
جنان الحسن (كاتبة من سورية)

في البدء كانت كتابة الخاطرة!

بقلم: جنان الحسن – كاتبة من سورية

الخاطرة هي فن أدبي مستقل مثل غيره من الفنون الأدبية الأخرى لا نستطيع أن نتجاهلها بحجّة أنها وليدة اللحظة وطارئة، وغير ناضجة أو متمكنة من كل الجوانب التي تحيط بالفكرة التي تتناولها..

 

ولا شك أنّ كل الأدباء المشهورين اليوم قد بدؤوا مشوارهم الأدبي بهذه الخاطرة، ولا أظن أنّ أحد منهم قد صحا من النوم صباحا ليكتب رواية أو قصيدة كاملة مكتملة الرؤية دون أن يكون قد مرّ بمرحلة الخاطرة الأدبية..

والخاطرة هي فن أدبي رائج بكثرة بين العامة قريب من وجدانهم وذائقتهم، لأنها في حقيقتها هي مشاعر متضاربة بين الدفء والبساطة والعفوية، وأيضا لأنّها مزيج من المقالة والقصة والرسالة والبوح والنثر غير الموزون بقافية معينة..

وسُمِّيَت بـ “الخاطرة” لأنّها تبوح بما يخطر في النفس من مشاعر، وبما يجول في الروح من أحاديث، حين تبوح بما يمرّ في الذهن من أمور وآراء تمسّ أولويات الحياة الإنسانية.. وهي لا بدّ لها من أن تأخذ عنوانا مثل: الصدق، الحب، الرحمة، النفاق، وغيرها.. وغالبا هي تتوزع بين ثلاث حالات قصيرة ومتوسطة وطويلة.

والقصيرة منها تتمّ صياغتها بأسلوب سهل وبسيط ومفهوم، أمّا المتوسطة فتبدو أكثر تماسكا وإن طالت قليلا، وأما الطويلة فتبدو فيها المبالغة في وصف الحدث كبيرة جدا.

والخاطرة آنية الفكرة، لا يتمّ الإعداد المسبق لها، لأنّها وليدة اللحظة التي يعيشها الكاتب ولا تحتاج إلى أدلة وبراهين عقلية لإثباتها، ويغلب منها الجانب الوجداني بصدق عاطفته وإحساسه على الجانب الفكري، والأهم من هذا كله أنها تحتاج إلى ذهن يقظ في صياغتها.. يقول الدكتور “عز الدين إسماعيل” في كتابه “الأدب وفنونه” عن أدب الخاطرة: “هذا النوع الأدبي يحتاج إلى الذكاء وقوة الملاحظة ويقظة الوجدان”.

وربّما يُعدّ كتاب “خواطر” لعميد الأدب العربي “طه حسين” من أشهر الكتب التي قدّمت أدب الخاطرة للقارئ، في جزء منه تناول فيه انطباعاته وتقييمه لبعض القصص القصيرة والمقالات التي قرأها.. ومثله الكثير من الأدباء والشعراء العرب الذين لم تنقطع علاقتهم مع الخاطرة الأدبية مهما تعمّقوا وأوغلوا في نوع الأدب الذي اختاروا لأنفسهم السَّير في رحابه وامتهانه من شعر وقصّة ورواية..

وقلّة من الأدباء من اهتمّ بطبع هذه الخواطر في كُتب أدبية متداولة تحفظها من الضياع، وربما يعود ذلك إلى أنّهم تعاملوا معها على أنها انطباع شخصي وذاتي جدا..

يقول الشاعر الكبير “نزار قباني” في خاطرة له تحمل عنوان “الصدق”: “كفانا نحملق في بعضنا في غباء، ونحكي عن الصدق والأصدقاء، ونزعم أنّ السماء تجنّت علينا، ونحن بكلتا يدينا دفنّا الوفاء وبِعنا ضمائرنا للشتاء، ولسنا حبيبين، لسنا رفاقا نعيد رسائلنا السالفة، ونضحك للأسطر الزائفة، لهذا النفاق، أنحن كتبناه، هذا النفاق بدون تروٍّ ولا عاطفة؟”.

أمّا في الأدب العالمي، فلا شك أنّ للكاتب العظيم “فيودور دوستويفسكي” الباع الطويل في كتابة الخاطرة، وربما يعود ذلك إلى معاناته الطويلة والحياة القاسية جدا التي عاشها والتي لا شك أنها ولَّدت في داخله الكثير من المشاعر المتضاربة والتي صارعت كثيرا للخروج إلى العلن..

أذكر أنني كتبت أول خاطرة لي وأنا في سنّ الرابعة عشر من عمري وكنت حينها في آخر المرحلة الإعدادية من دراستي، وذلك حين قرأت علينا معلِّمة اللغة العربية قصيدة الشاعر “الصمة القشيري” وكانت بعنوان: “شيات الحمى”. لا أستطيع اليوم أن استرجع مشاعري كاملة تجاه تلك الكلمات حين سمعتها للمرة الأولى، واستوقفتني صورة الإنسان الذي يقبض على كبده كي لا يفتِّته الألم..

صورة بقيت عالقة في ذهني لفترة طويلة، فوجدت نفسي أكتب شيئا بسيطا عن أنّ التّفاني في الحب والعشق وشدّة الشوق قد تكسرنا يوما أو تقتلنا ونبقى في حالة وقوف على حافة الحياة رغم ذلك.

ثم أدمنت بعد ذلك هذا النوع من الكتابة، وما عاد يخلو كتاب مدرسي لي من دون أن تكون مُذيّلة صفحاته بمقولة أو فكرة ما أو وقفة قصيرة في رحاب الحب والخير والجمال والطبيعة وغيرها من الملهمات..

وأصبحت أكثر نشاطا في الكتابة وأنا طالبة في نهاية المرحلة الثانوية.. كانت مدرسة اللغة العربية لدينا أكثر من قديرة وهذا أبسط وصف لها في الحقيقة.. كانت تقرأ الشعر وتشرح القصائد بطريقة تستحوذ فيها على القلب والعقل والروح، فتدعوك بطريقتها هذه إلى مشاركة الفكرة بكتابة انطباعك عنها ورؤياك لها وعيشها بأنّنا معا.. وأظن بأنّ بدايتي الحقيقية في الكتابة بدأت من هنا..

واليوم أجد الخاطرة، على بساطتها، هي أصدق وأجمل أشكال الفنون الأدبية، لأنّها الذات الحقيقيّة للكاتب، وما تتركه الفكرة فيها من صدى دون رتوش أو تنميق يُفقِد القارئ متعة وسلاسة قراءتها..

وشخصيا، أحبّ كتابة الخاطرة ولم أتوقف عنها يوما، وأجدها تستحق كثيرا الوقوف في رحابها، وتسليط الضوء عليها وتركيز النقّاد على جماليّة فكرتها.. لأنّها بالمحصلة هي مرحلة مهمّة من مراحل تكوين الكاتب، ومحطّة لا بدّ لكل أديب من الوقوف عليها في رحلته الخالدة مع الكلمة والحَرف..

 

شعبان عبد الجيد
د. شعبان عبد الجيد – شاعر وناقد وأكاديمي من مصر

الخاطرة.. الفنُّ الحائرُ بين القصيدةِ والمقالة!

بقلم: د. شعبان عبد الجيد – شاعر وناقد وأكاديمي من مصر

الخاطر والخاطرة والخَطرة..

الخاطرُ في اللغة هو الهاجِس، وهو ما يَخطر في القلب من تدبيرٍ أو أمر، وما يَرِدُ على البال من رأيٍ أو معنى أو فكر، ويعرِّفونه في الاصطلاح بأنه ما يَرِدُ على العقل من الأفكار عفوًا من غير تعمُّد لإحضارها، ولا يكون له استقرارٌ في النفس. ومنه اشتُقَّت الخاطرة، وجمعها خواطر، والخَطْرة، وتُجمع على خطَرات، وكلتاهما بمعنى واحدٍ تقريبًا، وإن كانت الأولى أكثرَ دورانًا وأوسع انتشارًا. ولم يحدث أن أهملَ النقّادُ والدارسون فنًّا أدبيًّا مثلما أهملوا فن الخاطرة، فأكثر الذين كتبوا عن الأنواع الأدبية لم يعرضوا له، ولم يشيروا إليه، ومن تناولوه بالدرس مرُّوا به عَجِلين، ولم يقدِّموا لنا عنه ما يَروي غُلَّتنا ويُشبِعُ نهَمَنا ويُرضِي فضولَنا.

وأعترف بأنني أنا أيضًا قد وقعت في الخطأ نفسِه؛ فلم أدرُسها، لا تفصيلًا ولا إيجازًا، في كتابي عن “النقد الأدبي وفنون الأدب”، وهو ما أحاول أن أتداركه في هذه السطور، وأتمنى أن أوفَّق فيه.

كان الأستاذ “سيد قطب”، على حدِّ علمي، هو أول من عرَّف (الخاطرةَ) فنًّا، وقال في كتاب “النقد الأدبي: أصوله ومناهجه” إنّ الخاطرة في النثر تقابل القصيدة الغنائية في الشعر، وتؤدي وظيفتها في عرض التجارب الشعورية التي تناسبها؛ فالسمة البارزة في القصيدة هي انسياب الشاعر مع خواطره وأحاسيسه، حتى تصل إلى التركيز الواعي في الأداء اللفظي، وقلَّما توجد الفكرة الواعيةُ سلفًا قبل أن تجولَ في نفسِه خواطر مبهمة وأحاسيس منسابة. إلا في شعر الفكرة، ونصيب هذا اللون من الشاعرية ضئيل.

كلُّ هذه السِّمات يمكن أن تنطبق على الخاطرةِ في عالم النثر، مع استثناءٍ واحدٍ هو الوزن والقافية، وكثيرًا ما يوجد لونٌ من الإيقاع فيها الوزن، ونوع من التوفّق في المقاطع يقابل القافية، لأن طبيعة التجارب التي تعالجها لا تستغني عن قسطٍ قويٍّ من الإيقاع والتنغيم.

فنٌّ ولد في حِجر الصحافة

أمَّا الدكتور “عز الدين إسماعيل”، وقد عرض لها سريعًا في آخر كتابه عن “الأدب وفنونه”، فقد ذهب إلى أن الخاطرة من الأنواع النثرية الحديثة التي نشأت في حِجر الصحافة، ولكنها تختلف عن المقال من عدة وجوه: فالخاطرةُ ليست فكرةً ناضجةً وليدة زمنٍ بعيد، ولكنها فكرةٌ عارضةٌ طارئة. وليست فكرةً تُعرَضُ من كل الوجوه، بل هي مجرد لمحة. وليست كالمقال مجالًا للأخذ والرد، ولا هي تحتاج إلى الأسانيد والحجج القوية لإثبات صدقها، بل هي أقرب إلى الطابع الغنائي. ثم لا ننسى الاختلاف في الطول، فالخاطرةُ أقصر من المقال، وهي لا تُجاوز كثيرًا نصف عمودٍ من الصحيفة، وعمودًا من المجلة. بَيدَ أنها، على الرغم من صِغَرِ حجمها، عملٌ مثيرٌ للذهن، وممتعٌ في الوقتِ نفسِه، فيه من الشعر خاصية التركيز، وعمق النظرة، وحِدَّة الشعور بالأشياء.

وهذا النوعُ الأدبيُّ يحتاج فيه الكاتب إلى الذكاء، وقوة الملاحظة، ويقظة الوجدان. وهو يتمشَّى مع الطابع الصحفي العام في الاهتمام بالأشياء الصغيرة السريعة، وتفضيلها على الكتابات المطوَّلَة. وأهميتها تأتي من أنها تستطيع لَفتَ القارئ إلى الأشياء الصغيرة في الحياة، التي لها دلالات كبيرة.

على ضفاف الشعر.. ولكنها ليس قصيدة

الخاطرةُ إذًا ليست قصيدةً شعرية، وإن كان كثيرٌ من الشعراء ينظمون ما قد يخطر على بالهم من أفكارٍ وانطباعات، في بيتين أو بضعة أبيات، وليست مقالًا طويلًا، ولا حتى مجرد مقالٍ قصير، فالحجم هنا ليس فاصلًا حاسمًا بين المقالة والخاطرة؛ فهما يتداخلان حدَّ التّطابق في أكثر الأحيان، ولعل هذا ما جعل كثيرين من النقاد والباحثين يميلون إلى أنّ الخاطرة من جنس فنّ المقالة، بيد أنّها تعتمد على الانفعال الوجداني والتدفّق العاطفي الحاد، كما أنّا تتميّز بالتركيز على فكرة واحدة، وفق نسق خاص في التعبير عن الأحاسيس والمشاعر وما يجيش من عواطف وأفكار، ولذلك سُمِّيت “خاطرة”.

الخاطرة بين العقّاد.. ونجم!

ولا أدري هل قصد الأستاذ “العقاد” المقالة أم الخاطرة حين ذكر في كتابه عن “فرنسيس باكون” أنّ مِمّا يقال في شروط المقالة الحديثة أنها ينبغي أن تُكتب على نمط المناجاة والأسمار، وأحاديث الطرُق بين الكاتب وقرَّائه، وأن يكون فيها لونٌ من ألوان الثرثرة والإفضاء بالتجارب الخاصة، والأذواق الشخصية. ولا أدري أيضًا هل عرَّف الدكتور “محمد يوسف نجم” المقالة أم الخاطرة حين وصف الثانية بأنها قطعةٌ نثرية محدودة في الطول والموضوع، تُكتب بطريقة عفوية سريعةٍ خاليةٍ من الكُلفة والرَّهَق.

المعنى في “جنة العبيط”

ولكن الدكتور “زكي نجيب محمود” كان واضحًا حين قرَّر في كتابه “جنة العبيط” أن المقالة الأدبية (الذاتية)، وهي أكثر أنواع المقال شبهًا بالخاطرة، بل قد تكون هي هي، قريبةٌ جدًّا من القصيدة الغنائية، لأن كلتيهما تغوص بالقارئ إلى أعمق أعماق نفس الكاتب أو الشاعر، وتتغلغل في ثنايا رُوحه حتى تعثر على ضميره المكنون؛ وكلُّ الفرق بين المقالة والقصيدة الغنائية هو فرقٌ في درجة الحرارة، تعلو وتتناغم فتكون قصيدة، أو تهبط وتتناثر فتكون خاطرة.

“الخواطري”.. شاعر أفكار!

وإذا كانت القصيدة الغنائية تعبيرًا موسيقيًّا وتصويريًّا عن نفس صاحبها، فإنّ الخاطرة تعبيرٌ جماليٌّ وفنيٌّ عن رأي كاتبها؛ وتبدو شخصية الأديب فيها أوضح مِمّا هي في أي مكانٍ آخر، فهو يضفي على المادة طابعًا جليًّا من تفسيره الذاتي حين يعرض الفكرة، ويصفون كاتبها بأنه شاعر أفكار، عُدَّته فيها أسلوبٌ أدبي رفيع، يشعُّ عاطفةً ويثير انفعالًا، يستهوي القارئ ويأخذ بلُبِّه، ويستخدم الصورة ويُعنَى بالموسيقى؛ وهي نوعٌ أدبي يضع للنثر أجنحة، ويُحلُّ مكان المنهجية العلمية تنظيمًا جماليًّا، وربما مسحة عاطفية، مما يبدو كأنه فوضى فنية في كثيرٍ من الأحوال.

وقد نقترب من التمييز بينهما إذا قلنا إن الخاطرة، وهي من أبسط الأجناس الأدبية وأسهلها، فكرةٌ واحدة تلمع في ذهن الكاتب وتشرق في نفسه، يثيرها عنده موقفٌ تأمّلي، أو حتى نظرة عابرة، ويؤديها في عبارات مرتجلة، لا تكلف فيها ولا تعقيد، بشرط أن يكون فيها من الجمال اللغوي ما يجعلها فنًّا جذَّابًا ومؤثِّرًا، وقعًا وإيقاعًا، وهو ما يعتمد اعتمادً كبيرًا على شخصية الأديب وثقافته وموهبته وأسلوبه في آنٍ معًا. وهو ما تؤكده الغاية الفنية من الخاطرة، وتتمثل أساسًا في نقل الخواطر، وتعميم الفائدة، والاستمتاع بالإبداع وبما اعذَوذَبَ من الألفاظ الرائقة، ونشر الجمال والتفاؤل بالحياة، والتعبير عن المواهب والقدرات والمهارات الذهنية والنفسية والعقلية والوجدانية، مثلها مثل غيرها من فنون الإبداع.

الفرق بين الخاطرة والمقالة

أمّا الفرق بين الخاطرة والمقالة، فقد لخّصه أحد الباحثين حين ذهب إلى أن المقالة فكرة ناضجة ومدروسة ومُعدَّة ذهنيا، والخاطرة فكرة عارضة طارئة لا إعداد فيها ولا تنظيم. المقالة وليدة التفكير والتأمل والتدبر، والخاطرة وليدة الانفعال والتوتر والشعور. المقالة أداة واع يهدف إلى الإقناع أولا، والخاطرة أداة انفعالي يهدف إلى التأثير. المقالة تلتزم تقليدا معينا (المقدمة والعرض والخاتمة)، والخاطرة لا تخضع لأيّ تقليد. المقالة تستند إلى الشواهد والتمثيل والتدليل والتعليل لإثبات صدقية المطروح فيها، والخاطرة لا شواهد فيها ولا تمثيل؛ لأنها لا تقبل الأخذ والرد. المقالة تشغل مساحة أكبر من تلك التي تشغلها الخاطرة التي تكتفي بعمود قصير في صحيفة. المقالة تتطلب وضع عنوان مناسب، والخاطرة لا تتطلب ذلك دائما. المقالة يعلو فيها الفكر على العاطفة، والخاطرة تعلو العاطفة على الفكر.

صيد الخاطر..

ولعل من الطريف، والمفيد أيضًا، أن أشير هنا إلى كتاب “صَيد الخاطر” لابن الجَوزي (510/597) علَّامة عصره وإمام وقته في الحديث وصناعة الوعظ، لعله أول من أشار إلى معنى الخاطرة بمعناها ومبناها ومغزاها، وفي اسم كتابه، كما يقول الأستاذ “علي الطنطاوي” في مقدمة التحقيق، توفيقٌ عجيب؛ ذلك أنّ الخواطر لا تفتأ تمرُّ على الذهن، كأنها الطيور التي تجوز سماء الحقل، تراها لحظةً ثم تفتقدها، فكأنك ما رأيتها، فإذا أنت اصطدتها وقيّدتها ملكتها أبدًا. لذلك جعل المؤلف هذا الكتاب “قيدًا لصيد الخاطر”، فكان الاسم نفسه نفحةً من نفحات العبقرية.

ماذا لو أنّ كل مُتعلّم قيّد خواطره؟

ولو أنّ كلَّ عالمٍ، بل لو أن كلَّ متعلِّمٍ قيَّد ما يمرّ بذهنه من الخواطر لكان من ذلك ثروةٌ له وللناس: يعود هو بعد سنين إلى ما كتب، فيرى فيه تاريخ تفكيره، ويجد فيه ما افتقد من نفسه. والإنسان في تبدُّل، يذهب (شخصٌ) ويولَد (شخص)، وحينما تقرأ وأنت (شيخٌ) خواطرك التي سجَّلتها وأنت (شابٌّ)، تجد شيئًا غريبًا عنك، كأنك ما كنت أنت صاحبَه، وكأنه خطر على بال غيرِك. ثم إنه إن كان عالمًا أو مفكِّرًا، كان من هذه الخواطر كتابُ علمٍ وأدبٍ وفنٍّ ككتاب “ابن الجوزي”.

ماذا قال “ابن الجوزي” عن “صيد الخاطر”؟

ولم تغِب هذه المعاني كلُّها عن ذهن “ابن الجوزي”، فقال في صدر سِفرِه النفيس: “لمَّا كانت الخواطرُ تجولُ في تصفح أشياء تَعرضُ لها، ثم تُعرِضُ عنها فتذهب، كان من أَولَى الأمور حفظ ما يخطر لكيلا يُنسَى. وقد قال عليه الصلاةُ والسلام: “قيِّدوا العلم بالكتابة”، وكم خطر لي شيءٌ، فأتشاغلُ عن إثباته فيذهب، فأتأسّف عليه. ورأيت من نفسي أنني كلما فتحت بصرَ التفكُّرِ، سنح لي من عجائب الغيب ما لم يكن في حساب، فانثال عليه من كثيب التفهيم ما لا يجوز التفريط فيه، فجعلت هذا الكتاب قيدًا لصيد الخاطر”.

في عقوبة العلماء

يقع كتاب “ابن الجوزي” هذا في قريبٍ من سبعمائة صفحة، ويشتمل على أكثر من ثلاثمائة وسبعين خاطرة، أراها في جملتها أنموذجًا ممتازًا لما ينبغي أن يكون عليه هذا الفن، دون تقييدٍ للكاتب المنشئ أن يقول ما يشاء فيما يشاء كيفما يشاء، بشرط الأصالة والعمق والجمال، ولا بأس أن أختم هذه الكلمة العجلَى بمثال واحد منه، حتى لا يطول المقالُ أكثر مما طال، وقد جاء في النسخة المحققة تحت عنوان: (في عقوبة العلماء):

“أعظمُ المعاقبة ألّا يُحِسَّ المعاقَبُ بالعقوبة، وأشدُّ من ذلك أن يقع السرور بما هو عقوبة، كالفرح بالمال الحرام، والتمكّن من الذنوب، ومَن هذه حالُه لا يفوزُ بطاعة.

وإني تدبَّرت أحوالَ أكثرِ العلماء والمتزهدين، فرأيتهم في عقوباتٍ لا يحسّون بها، ومعظمها من قِبَلِ طلبهم للرياسة. فالعالِم منهم يغضب إن رُدَّ عليه خطؤه، والواعظ متصنِّعٌ بوعظه، والمتزهِّد منافقٍ أو مراءٍ. فأول عقوباتهم إعراضُهم عن الحقِّ شُغلًا بالخلق، ومن خفيِّ عقوباتهم سلبُ حلاوة المناجاة ولذة التعبُّد.

إلّا رجالٌ مؤمنون ونساءٌ مؤمنات، يحفظ الله بهم الأرضَ، بواطنُهم كظواهرهم بل أجلَى، وسرائرُهم كعلانيّتهم بل أحلَى، وهِمَمُهم عند الثريَّا بل أعلى، إن عُرِفوا تنكَّروا، وإن رُئِيَت لهم كرامةٌ أنكروا. فالناسُ في غفَلاتهم وهم في قَطع فَلاتهم، تُحبُّهم بقاعُ الأرض، وتفرح بهم أملاكُ السماء. نسأل الله عزَّ وجلَّ التوفيق لاتِّباعِهم، وأن يجعلَنا من أتباعِهم”.

إلى موعد آخر مع الخواطر

أمَّا كتابُ “فيض الخاطر” للأستاذ “أحمد أمين”، وكتاب “خطرات نفس” للدكتور “منصور فهمي”، وكتاب “خواطر” للدكتور “طه حسين”، فإنها تختلف عن ذلك شكلًا ومساحة، ولها في الدرس والتصنيف شأنٌ آخر، أتمنى أن أعود إليه قريبًا بإذن الله!

 

بسيم عبد العظيم عبد القادر
د. بسيم عبد العظيم عبد القادر – شاعر وناقد أكاديمي، رئيس لجنة العلاقات العربية باتحاد كتاب مصر

الخاطرة.. فنٌّ له تاريخ ولكنه مهضوم “الحقوق”!

بقلم: د. بسيم عبد العظيم عبد القادر – شاعر وناقد أكاديمي، رئيس لجنة العلاقات العربية باتحاد كتاب مصر

لقد انطلق معظم الأدباء الكبار من كتابة الخاطرة، فهي فضاء يستوعب كلّ مَن يمتلك قلمًا ويريد أن يستمطر سماوات وجدانه أو فكره، سواء كان كاتبا أو كان عاشقا للغة والتّعبير! وتجمع الخاطرة على خاطرات وخواطر، هي خاطر أو هاجس ما، يرِد على البال من رأي أو معني أو فكر، كأن نقول: خطرَت لي خاطرة بهذه المناسبة.

الخاطرة فكرةٌ طارئة

والخاطرة إذًا هي فن أدبي وتعبيري عمّا يخطر في القلب والعقل معا، وهي نثر أدبي تُحاك كلماتها ببلاغة، وتتّصف بجمالها لكثرة الصور الفنية والتشبيهات والمحسنات والاستعارات والكنايات المستخدمة فيها.

الخاطرة من الأنواع النثرية الحديثة التي نشأت في حجر الصحافة ولكنها تختلف عن المقال الصحفي من عدّة وجوده: فالخاطرة ليست فكرة ناضجة وليدة زمن بعيد، ولكنها فكرة طارئة. وليست فكرة تُعرَض من كل الوجوه بل هي مجرد لمحة، فهي مقال قصير يخلو من كثرة التفصيلات، يعرض فيها الكاتب فكرة حول موضوع ما، ذاتيًّا أو موضوعيا.

شروط وسمات الخاطرة

وهناك شروط لكتابة الخاطرة من أهمها: وضع عنوان للخاطرة، ويُشترط أن يكون قصيرًا، وأن تكون من إنشاء الكاتب وليست منقولة، وألّا يقل عدد كلمات الخاطرة عن خمسين كلمة، وأن تُكتب الخاطرة بلغة مفهومة وواضحة، ويُشترط سلامتها اللغوية والإملائية والنحوية، والتزام علامات الترقيم.

ومن سمات الخاطرة قِصر حجمها وعدم حاجتها إلى إعداد مسبق أو أدلة وبراهين عقلية أو نقلية، بل تعتمد على الانفعال الوجداني، والتدفّق العاطفي، وتمتاز بالإيجاز بشرط ألاّ يكون مخلاّ، وتُكتب عادة تحت عنوان ثابت مثل: فكرة لـ “مصطفى أمين”، ومواقف لـ “أنيس منصور”، وصندوق الدنيا لـ “أحمد بهجت”، وغيرهم من كتاب الخاطرة في الصحف المصرية.

الانطلاقة الأدبية من الخاطرة

هل انطلقتم من كتابة الخاطرة؟ هذا سؤال مهمٌّ يرجع بنا إلى زمن الصِّبا، حيث بدأنا الكتابة الأدبية على شكل خربشات تستوعب مشاعرنا وعواطفنا، وتعبِّر عن علاقاتنا بالأصدقاء، ولا أظن كاتبًا إلّا وقد انطلق من تسجيل هذه الخواطر إلى فنون الأدب الأخرى كالقصة القصيرة والرواية وفن المقال وبخاصة المقال الأدبي.

وهل تذكرون أوّل خاطرة كتبتموها؟ الحقّ أن الشعر قد غلب عليَّ منذ الصِّبا، فكنت أسجِّل خواطري في صورة أبيات شعرية ساذجة ربما ينقصها الوزن وتعوزها القافية، فقد كانت نتاج الفطرة اللغوية والتأثّر بما ندرسه في مدارسنا من نصوص أدبية نثرية أو شعرية في كتب المطالعة والنصوص الأدبية.

وكانت الدّوافع لكتابة الخواطر، هو ما ذكرتُه من حب الأدب والرغبة في التّعبير عن النفس وخلجاتها والقلب ومشاعره والروح وما تمور به من جماليات وتصورات قد تكون ساذجة عن كل ما يحيط بالإنسان في بيئته، في البيت مع والديه وإخوانه وجيرانه، وفي المدرسة مع معلِّميه وزملائه، وفي الشارع والمواصلات العامة، كل ذلك كان مصدر إلهام للخواطر الشعرية أو النثرية التي تنثال على القلم فيسجِّلها في كرّاسة، وقد يهتم بها بعد ذلك فيذيعها على الناس وقد يطمرها النسيان.

أديبات انطلقن من كتابة الخاطرة

مِمّا لا شك فيه ولا خلاف عليه أنني بوصفي أديبا وناقدا أشجع طلابي وطالباتي على كتابة الخواطر الأدبية، أيًّا كانت، وأراجعها لهم لغويا وفنيا وأقوم بتوجيههم، ولا أستهين بمشاعرهم ولا تعبيرهم عنها، أملًا في ولادة أدباء في الفنون المختلفة من خلال تمرّسهم على كتابة الخاطرة التي هي ـ كما أسلفت ـ لبنة أساسية ودعامة مهمة من دعائم الكتابة الأدبية في الفنون المختلفة من مقالة وقصة قصيرة ورواية، وكم من طالباتي في كلية التربية للبنات بـ “الأحساء” اللواتي قمتُ بتشجيعهن، فصرن يكتبن في الصحف بل ويقمن بطباعة الكتب، حيث أسّستُ النادي الثقافي الأدبي في كلية التربية للبنات بـ “الأحساء” منذ ربع قرن قبل الانفتاح الثقافي والأدبي والفني الحادث الآن، ومن أمثلة طالباتي اللواتي طبعن خواطرهن في كُتب، “وفاء السعد” و”زينب الشواكر”، ومِمّن كتبن الرواية “أمل المطير”، ومِمَّن توجَّهن إلى الشعر ونبغن فيه: مريم الفلاح، هاجر الجغيمان، ميمونة الدوغان، حبيبة الجوف، وغيرهن كثيرات.

مفهوم الخاطرة الأدبية

والخاطرة من وجهة نظري بوصفي ناقدا وأديبا هي نواة الأدب منذ كان، عند اليونان والرومان وغيرهم من الحضارات القديمة كقدماء المصريين والصينيين، ثم الحضارة العربية والإسلامية التي ازدهرت فيها فنون الأدب المختلفة قبل الإسلام وبعده حتى العصر الحديث، الذي تأثر فيه العرب بالحضارة الأوربية ونقلوا فنونها وآدابها، ومنها فن المقال والخاطرة.

وقد ساعدت الصحف منذ القرن التاسع عشر على نهضة هذين الفنين (المقال والخاطرة)، ونبغ عندنا: رفاعة الطهطاوي، عبد الله النديم، جمال الدين الأفغاني، محمد عبده، مصطفى كامل.. مِمّن مزجوا الأدب بالسياسة، وهناك: العقاد، طه حسين، الرافعي، محمد حسين هيكل، مصطفى لطفي المنفلوطي، مصطفى صادق الرافعي، وغيرهم من كبار الأدباء، ثم كان: أحمد حسن الزيات، أحمد أمين الذي ضرب بسهم وافر في فن الخاطرة التي كان ينشرها في المجلات، ثم جمعها في عدة مجلدات أطلق عليها: “فيض الخاطر”، وهو نص صريح على انتماء محتوى الكتاب إلى هذا الفن الأدبي الراقي الذي ينشِّط الذهن ويثير المشاعر، ويبعث في القلب والروح أجمل المشاعر، ويرغِّب الإنسان في محاسن الأخلاق كي يتبعها، ويحاول إبعاده عن المساوئ والعيوب والمآخذ التي تعكِّر صفو الحياة وتشوه محاسنها.

ورغم أنّ الخاطرة جنس أدبي له مزاياه وخصائصه وجمالياته، التي تحدثنا عنها، فإنّها لم تأخذ مكانتها بين الأجناس الأدبية الأخرى، ولم تحظ بالدراسات النقديّة.. وتأتي دوما ملحقة بفن المقال، وكأنّ الخاطرة هي “خربشة” هاوٍ للكتابة أو عاشق يستفرغ شحناته العاطفية على قصاصة ورق، ويخجل الكاتب أن يُقال عنه: كاتب خواطر!

أقرب فن إلى قلب القارئ

والحق أنّ الخاطرة هي النبع الصافي الذي ينهل منه كاتب المقال أو القصة القصيرة أو الرواية، وبخاصة في الموضوعات الاجتماعية والوصفية، وقِصَر الخاطرة يقرّبها من القارئ خصوصا في العصر الحديث، الذي انتشرت فيه وسائل التواصل الاجتماعي المختلفة من فيسبوك وتويتر وإنستغرام وغيرها.

ففي الجانب الاجتماعي تتناول الخاطرة الظواهر الاجتماعية، وتنتقد العادات السيئة، والتقاليد الضارة وتنفِّر منها، وترغِّب في النافع المفيد من العادات والتقاليد، فهي تقوم بتقديم الحلول أو السخرية الناعمة أو الحادة، إذا كان ما يعرض له كاتب الخاطرة من الأمراض الاجتماعية المزمنة التي تستعصي على الحل.

ومن أبرز كتاب هذا النوع من الخواطر: مصطفى لطفي المنفلوطي، مصطفى صادق الرافعي، أحمد حسن الزيات، أحمد أمين، مصطفى أمين، علي أمين، أنيس منصور، أحمد بهجت، أحمد رجب، وغيرهم.

خاطرة “قتيلة الجوع” للمنفلوطي

ولنقتطف من كتاب “النظرات” لـ “المنفلوطي” هذه الخاطرة المؤثرة بعنوان: “قتيلة الجوع”، يقول فيها: “قرأت في بعض الصحف منذ أيام أنّ رجال الشرطة، عثروا بجثة امرأة في جبل المقطَّم فظنّوها قتيلة أو منتحرة حتى حضر الطبيب، ففحص أمرها وقرر أنّها ماتت جوعا.

تلك أول مرة سمعت فيها بمثل هذه الميتة الشنعاء في مصر، وهذا أول يوم سجلت فيه يد الدهر في جريدة مصائبنا ورزاياها هذا الشقاء الجديد.

لم تمت هذا المسكينة في مفازة منقطعة أو بيداء مجهل فنفزع في أمرها إلى قضاء الله وقدره، كما نفعل في جميع حوادث الكون التي لا حول لنا فيها ولا حيلة، بل ماتت بين سمع الناس وبصرهم، وفي ملتقى غاديهم برائحهم، ولا بدّ أنه مرّت قبل موتها بكثير من المنازل تطرقها فلم تسمع مجيبا، ووقفت في طريق كثير من الناس تسألهم المعونة على أمرها فلم تجد من يمدّ إليها يده بلقمة واحدة تسدّ بها جوعتها، فما أقسى قلب الإنسان، وما أبعد الرحمة من فؤاده، وما أقدره على الوقوف موقف الثبات والصبر أمام مشاهد البؤس ومواقف الشقاء.

لِم ذهبت هذه البائسة المسكينة إلى جبل المقطّم في ساعتها الأخيرة؟ لعلها ظنّت أن الصخر ألين قلبًا من الإنسان، فذهبت إليه تبثّه شكواها، أو أنّ الوحش أقرب رحمة منه، فجاءته تستجديه فضلة طعامه..” (النظرات ـ دار الجيل بيروت 1984م ـ 3/ 26، 27).

التأمّل في الطبيعة والأعماق النفسية

وفي جانب الوصف والتأمل يعمد كاتب الخاطرة إلى تصوير ما يخطر له أو ما يشاهده في أسلوب مؤثِّر، وينقل أثر ذلك في نفسه، وما يبعثه في وجدانه من شجى أو تخيّل، فكأنّه الرسام الموهوب يبدع لوحةً غنيّة بتلك الألوان والتقسيمات والنّقوش مِمّا يلهم النفس من جميل المعاني، ويوحي إليها من ثريِّ الحياة، وهي بذلك لا تقتصر على وصف الطبيعة ومظاهر الكون ومعالم الحياة، بل تتجاوز ذلك إلى كل ما يخطر على بال الكاتب، ويمتزج بإحساسه وعاطفته.. ومن كُتّابها: المنفلوطي، الرافعي، أحمد الزيات، العقاد، أحمد أمين، يحيى حقي، وغيرهم.

“موت أمّ”.. من “وحي القلم”

ومن أبرز نماذجها ما كتبه “الرافعي” في كتابه “وحي القلم” تحت عنوان “موت أم”، حيث يقول: “رجعت من الجنازة بعد أن غبرت قدمي ساعة في الطريق التي ترابها تراب وأشعة. كانت في النعش لؤلؤة آدمية محطمة، هي زوجة صديق طحطحتها الأمراض ففرقتها بين علل الموت. وكان قلبها يحييها، فأخذ يهلكها، حتى إذا دنا أن يقضى عليها، رحمها الله فقضى فيها قضاءه. ومن ذا الذي مات له مريض بالقلب ولم يره من قلبه في علة، كالعصفورة التي تهلك تحت عيني ثعبان سلط عليها سموم عينيه.

كانت المسكينة في العشرين من سنّها، أمّا في قلبها ففي الثمانين، أو فوق ذلك، هي في سن الشباب، وهو متهدم في سن الموت.

وكانت فاضلة تقية صالحة، لم تتعلّم ولكن علّمتها التقوى الفضيلة، وأكمل النساء عندي ليست هي التي ملأت عينيها من الكتب. فهي تنظر إلى الحياة نظرات تحلّ مشاكل وتخلق مشاكل، ولكنها التي تنظر إلى الدنيا بعين متلألئة بنور الإيمان، تقرأ في كل شيء معناه السماوي، فتؤمن بأحزانها وأفراحها معا، وتأخذ من يد خالقها رحمة معروفة، أو رحمة مجهولة، وهذه عندي امرأة… وتكون الزوجة، ومعناها القوة المسعدة. وتصير الأم ومعناها التكملة الإلهية لصغارها وزوجها ونفسها”. (وحي القلم ـ ط7 ـ مطبعة الاستقامة بالقاهرة، د.ت ـ / 162، 163)

كلمة إلى نُقّاد الوطن العربي

هذا ما سنح على الخاطر وما سمح به الوقت بخصوص موضوع الخاطرة، ذلك الفن الأدبي الطريف الذي شاع وذاع بفضل ظروف العصر من السرعة وتطوّر وسائل التواصل الاجتماعي بما يتناسب مع هذا الفن.

ويبقى أن نتواصى نحن النقاد بإيلاء هذا الفن مزيدا من الاهتمام، وإعطائه حقه من الدراسة الأدبية والنقدية والبلاغية التي هو جدير بها، مثل غيره من الفنون الأدبية التي قلنا إنه أساس فيها وأصل من أصولها وعنه تطوَّرت كالمقال والقصة القصيرة والرواية بأنواعها، وعسى أن يكون هذا الملف فاتحة خير على هذا الفن الأدبي المهضوم الحق “فن الخاطرة”.

 

مروى فتحي منصور 1
مروى فتحي منصور (روائية وكاتبة من جنين – فلسطين)

الخاطرة.. خلاصة الفنون الأدبية

بقلم: مروى فتحي منصور – روائية وكاتبة من جنين – فلسطين

أكاد أجزم بأنّ بدايات الكاتب، مهما كانت نوع كتاباته ونمطها ومستوياتها، كانت بكتابة خاطرة، وجزمي هذا منبثق من التجربة الشخصية أولا، حيث كانت أولى نصوصي التي حظيت بالاحتفاء على مجلات حائط المدرسة وفي دفاتر مذكّرات الصديقات والقريبات تنتمي إلى فن الخاطرة دون أن أعي ذلك التأطير وقتها.

 

ولا شك أني رأيت تجارب موازية من الكُتّاب الأقران على النحو ذاته، وكونها البدايات لا تعني مطلقا أنها المستوى المبدئي أو البدائي لكتاباته، بل هي العلاقة الأولى مع الحرف والقلم والقرطاس والروح والفكر، وهي الفطرة التي فطر عليها البوح بدون قيود الصَّنعة اللغوية بالبنية والمعنى والجرس والقافية والإيقاع، حيث يلحق فيها الكاتب الجانب الروحي والفكري الذي يخطر له ويطارده ويكتشف مقدرته على الإمساك بتلك السلسلة الروحية، وخطّ ما يخطر له من خطرات وأفكار وآراء في كلمات..

فالخاطِرَةُ في المعاجم: خاطِر، هاجس، ما يرِد على البال من رأي أو معنًى أو فكر، والخاطرة هي مؤنّث كلمة: الخَاطِر، وهي النَّفس أو القلب اضطرب خاطره لِمّا سمع من أنباء، مرّ بالخاطر أي جال بالنفس أو القلب، عن طيب خاطر براحة البال، هو سريع الخاطر أي سريع البديهة.

وفي الأدب، هي تحوّل الفكرة أو الإحساس تجاه موقف أو حدث شخصي أو عام مهما كان مجاله اجتماعي أو رومانسي أو سياسي أو وطني.. خلق حالة شعورية خاصة في مكنون الكاتب وترجمة ما يجول في نفسه إلى كلمات، دون التقيّد بوزن أو قافية، أو حجم من طول وقِصَر، وكل ما هو مطلوب هو جمال الأسلوب ورصانته وقوة اللفظة والتركيب وجودة التصوير والقدرة على الإمساك بالفكرة والومضة الشعورية، بصدق وشفافية، ورشاقة التنقل بين الكلمات دون ثقل في مبناها والتشرذم في دلالاتها.. بشكل لا يعيق التدفق العاطفي والفكري، فتضحي فعلا مثل اسمها ما خطر على البال..

وهي تشبه إلى حدّ بعيد فنّ الومضة أو التّغريدات والمنشورات على مواقع التواصل الاجتماعي في جوهرها، نتيجة الاستجابة لحدث شعوري ما في هذه الظروف والأحداث الاستثنائية المتسارعة من حروب وكوارث طبيعية وغيرها، فهي تُكتب لحظة حدوث الشيء أو بعده ولا تحتاج إلى إعداد مسبق، ولا تحتاج إلى أدلة أو براهين وقد تتعدّد أشكالها ما بين قصر وطول.

نشأة فن الخاطرة في أحضان المقالة الصحفية

لقد نشأت الخاطرة، في الأدب العربي، في أحضان الصحافة مع حركة التّنوير والتدفّق الإعلامي المكتوب، فكانت الشكل الأوّلي للمقالة التي تحمل على عاتقها تغيير المجتمع ووصفه وتحليله ورسم المستقبل لفئة المهتمّين بالتّنوير، بأسلوب شاعري رقراق قد لا يكون من سمات المقالة في عصرنا الحاضر..

يقول الدكتور “عز الدين إسماعيل”، في كتابه “الأدب وفنونه” صفحة 168: “الخاطرة من الأنواع النثرية الحديثة التي نشأت في حِجر الصحافة. والخاطرة ليست فكرة ناضجة وليدة زمن بعيد، ولكنها فكرة عارضة طارئة، وهي مجرد لمحة، وليست كالمقالة مجالًا للأخذ والردّ، ولا تحتاج إلى الأسانيد والحجج القوية لإثبات صدقها”. وقد ذكر “سيد قطب” في كتابه “النقد الأدبي أصوله ومناهجه”: “هناك نوعان من العمل الأدبي نُطلق عليهما لفظ المقالة، وهما يتشابهان في الظاهر ويختلفان في الحقيقة، فأحدهما انفعالية وهي الخاطرة، والأخرى تقريرية وهي المقالة، وتختلف الخاطرة عن المقالة من حيث الحجم بأن الخاطرة مختصرة جدًّا وعباراتها قليلة لكنها مركزة”.

وليس فقط المقالة التي نشأت على أعمدة الخاطرة وترعرعت ونمت في أحضانها، بل الشِّعر الحرّ كذلك، لو قرأت إرهاصاته لوجدته أٌقرب إلى الخواطر، ومن ثم اتّخذ هذا الطابع الآسر بغموضه وإيقاعه فيما بعد..

الخاطرة في التراث الأدبي العربي القديم

وفي التراث العربي الأدبي القديم تجد الخاطرة بأبهى صورة وأوضحها، وقد سمّى أحد أكابر علماء العربية، وهو “أبو الفتح عثمان” المشهور بـ “ابن جني” (ت 392 هــ) أحد كتبه بــ “الخاطريات في المسائل اللغوية”، وهو كتاب كما يدلٌّ عليه عنوانه يتضمّن خواطر متنوّعة في بعض القضايا اللغوية واللسانية، ناهيك عن رسائل عبد الحميد الكاتب في مختلف الموضوعات كانت تأخذ طابع الخاطرة من حيث التركيز اللغوي والتكثيف والتصوير الدقيق والحبكة التأملية..

وغير الرسائل أيضا تجد في الخطابة الإسلامية ما هو أقرب إلى الخاطرة الفلسفية الوجودية مثل خطبة “علي بن أبي طالب” في وصف الدنيا.. وكتاب “صيد الخاطر” لـ “ابن الجوزي” في القرن السادس الهجري كذلك من أبرز الأمثلة على وجود الخاطرة في تراثنا وأدبنا، وغير ذلك الكثير مِمّن كتب له الحفظ من الضياع إمّا بالرواية الشفوية أو المكتوبة في زمن آخر، والنتيجة واحدة أن جميع الأجناس الأدبية النثرية من وصايا وحكم وأمثال ورسائل وخطب في التراث العربي الأدبي في جوهرها خواطر، تلبي حاجة الإنسان إلى البوح الرصين الرشيق العذب.

تداخل الأجناس الأدبية في الأدب العربي

نلاحظ أثناء دراستنا للأجناس الأدبية في تاريخ الأدب العربي تداخلها، فمن يقنع ناقدا معاصرا بأنّ نظرات وخطرات “المنفلوطي” كانت مقالات في وقتها وليست خواطر؟ ورسائل: الرافعي، جبران، مي زيادة، و”سيرة” جبرا، وغيرهم الكثير من كُتّاب النثر، بأنها تنتمي إلى أنواع أخرى من الفنون النثرية وليست خواطر؟ إنها أقرب إلى البوح الوجداني الوصفي المتناسق الذي يترك للفكرة حرية التّحليق في عالم الوجود وللومضة الشعورية حرية الغوص في عالم الروح دون قيود لاجمة.

معيقات معاصرة أمام كتّاب الخواطر

لا شك أن الكاتب اليوم لا يملك حرية الإنتاج الأدبي كما في القرن الماضي وإن بدا لك العكس، فالكاتب اليوم مُلاحق من قِبل المتلقِّين قَبل النقّاد على لغته وخصوصا إن كان متخصصا باللغة العربية، وكأنّ اللغة قيد على أنامله استبدله العرب عوضا عن القيد الموسيقي للشعر، وهذا بالطبع ليس نداء بالتمرد على أسس البنية التركيبية للغة العربية أو غيرها من اللغات، ولكن نداء بترك الحرية للكُتّاب باشتقاق مفرداتهم وتراكيبهم في هذه اللغة الاشتقاقية الرحبة، وخصوصا فيما يتعلق بمصطلحات التكنولوجيا والحياة المعاصرة التي استجدَّت على المعجم العربي ولم تقل المجامع العربية كلمتها فيها، وأيضا من حيث تداخل اللهجات مع لغة الكتابة، دون الوقوف كشرطي المرور على تلك التراكيب جلدا وتهذيبا، حتى أن بعض الكُتّاب غير الواثقين من أنفسهم – وخصوصا في فن الشعر – يعرضون قصائدهم على شعراء آخرين ونقاد أيضا بمقابل مادي أو غير ذلك لتهذيب قصائدهم لغويا قبل عرضها على الجمهور، وهذا من أقبح ما قد يمرّ به النص الشعري الذي يجب أن يحمل روح صاحبه وتدفّق طاقته في حروف ونغمات.

ومن المعيقات التي تقف أمام التدفّق الشعوري لطاقة البوح عبر الخاطرة هو قولبة الكاتب وشخصنة ما يكتب عاطفيا وسياسيا واجتماعيا، وخصوصا الملاحقة الشعبية التي تصدر عن فئة قرّاء مواقع الأنترنت والذين قد لا يملكون معرفة ثقافية بتاريخ البشرية أو التشريح الأسطوري والرمزي، ولا يملكون من سعة الأفق ما يجعلهم قادرين على التحليل والاستنتاج للمرمى الحقيقي من قصد الكاتب، مِمّا يؤدي في حالات شعورية إلى البتر أحيانا والتّواري وراء صواعد وهوابط ومغارات وأنفاق من الكلمات المبالغ في رمزيّتها وبعد دلالاتها، فينشأ فن من نوع خاص برأيي بين الخاطرة وبين الشعر ألا وهو قصيدة النثر، والتي تخضع فيما بعد لبعض الصّنعة اللغوية فتصبح قصيدة تفعيلة أو شعرا حرا..

تطلعات

ومع هذا التداخل والتحوّل في شكل الخاطرة التي باتت تترنح بين المقالة الصحفية وقصيدة النثر، يبقى للخاطرة لونها الخاص الذي أفضّله على المستوى الشخصي ككاتبة وناقدة، والذي أنادي بالتركيز عليه إعلاميا عبر النشر والتوثيق والترشيح لجوائز عالمية وعربية، لأنّه الفن النثري القائم على الاسترسال والتأمل والفلسفة، والذي يسعى إلى تعميق نظرة القارئ للحياة والوجود والواقع، بلغة ميسّرة وسلسة وأسلوب رشيق أخّاذ، دون عناء البحث عن المغزى الحقيقي وجلد صاحبه، فالغرض الأساسي فيه مكاشفة روحية وفكرية فلسفية عبر اللغة من روح الكاتب إلى روح القارئ بلا حواجز لغوية واجتماعية وسياسية، ويمكن أن يتحوّل هذا الفن – فن الخاطرة – إلى فن جامع بين المقالة وقصيدة النثر والرواية والقصة القصيرة والوصية والحوارية والسيرة والومضة والقصة القصيرة جدا كذلك، بشكل يجعل من الممتع متابعة ما ينشره الكُتّاب على مدوناتهم الشخصية والإلكترونية..

ما زال كاتب الخاطرة يتّصف بدقة الملاحظة وبسرعة التأثّر وبقدر من الرزانة والهدوء النفسي، وقد ذكر الدكتور “عز الدين إسماعيل” في كتابه “الأدب وفنونه” عن فن الخاطرة: “وهذا النوع الأدبي يحتاج في الكاتب إلى الذكاء، وقوة الملاحظة، ويقظة الوجدان”.

يمتلك الكاتب المعاصر الكثير من الملكات والظروف التي يتعرّض فيها لمواقف عاطفية؛ ومستجدّات عالمية تثير مخاوفه وآماله فتستفز هواجسه بالتزامن مع حدوثها كونه يعايشها عبر الإعلام أولا بأول لحظة وقوعها، فتتحرك أحاسيسه، ويبقى هاجس الموقف يلهب خياله، فيكتب أحاسيسه تجاه الموقف، وقد يحتفظ بهذا اللهيب حتى تهدأ انفعالاته فيكتبها فيما بعد برصانة فكرية لا تخلو من الانفعال..

جميع تلك العوامل، بالإضافة إلى توسع أفق الكاتب، قد تجعلنا نحتوي كُتّابا نثريين بقوة تأثير: الرافعي، ميخائيل نعيمة، طه حسين، المنفلوطي، جبران، العقاد.. وذلك إن أتيح لها المجال والاهتمام من قبل الكُتّاب والناشرين، وتم توجيهها بالنقد الايجابي بدل السلبي على مواقع التواصل الاجتماعي، فالخاطرة فن نثري شامل، فيه الفائدة والمتعة والانفعال، وقد عرّفها “نواف نصار” في “المعجم الأدبي”، ص 72 بقوله: “الخاطرة لمحةٌ أو فكرةٌ عارضةٌ مؤقتة، تختلجُ أو تعرض في النفس، وهي ليست بحاجة إلى أسانيد وبراهين لإثبات صحتها أو صدقها”.

والسؤال القوي: لمَ يدعم الجمهور أصحاب المحتويات الرقمية الذين يسردون يومياتهم وتفاصيل مأكلهم ومشربهم ويدعمون أًصحاب المواهب الرياضية والفنية الأدائية ولا يدعمون كُتّاب الخواطر الأدبية اليومية على مواقع التواصل الاجتماعي؟ أليس هؤلاء الكُتّاب الذين يكتبون عن معاناتهم اليومية مع حرب الإبادة بالسلاح والتجويع في “غزة” هم أصدق من تحدّث عن فلسفة الوجود الإنساني وعن عدالة القضية الفلسطينية على صفحاتهم ومدوناتهم؟! هم وكاميراتهم التصويرية وكلماتهم النازفة أصدق ما سعت إليه النفس من مصداقية وشفافية..

ومن هنا ندعو إلى دعم الكُتّاب والنقّاد والمواقع الالكترونية والناشرين للكتّاب الناشئين وكتّاب المرحلة – مرحلة الحرب – والكتّاب ذوي القلوب والأقلام النيّرة التي منعتهم الحرب من النشر الورقي، عندما جعلت جلّ همّهم الحصول على كسرة خبز وخيمة تحجب غضب الطبيعة عن رؤوسهم التي تتصارع فيها الكلمات مع الوجود.

نعم لدعم الخاطرة كجنس أدبي مستقل؛ فهي فنّ قديم متجدّد مواكب للعصر.. وشامل لجميع الأجناس الأدبية.

 

صبري فوزي
أ.د. صبري فوزي أبو حسين – أستاذ ورئيس قسم الأدب والنقد بكلية الدراسات الإسلامية والعربية بمدينة السادات بجامعة الأزهر

فن الخاطرة الأدبية بين التراث والمعاصرة

بقلم: أ.د. صبري فوزي أبو حسين – أستاذ ورئيس قسم الأدب والنقد بكلية الدراسات الإسلامية والعربية بمدينة السادات بجامعة الأزهر

كثيرة هي الفنون الأدبية العربية المتأرجحة التأصيل بين التراث والمعاصرة، مثل فن المقال، وفن القصة، وفن السيرة، وفن الترجمة، وأقف في هذه المقالة مع فن الخاطرة الأدبية (The art of literary thought).

الخاطرة.. فن أدبي رقمي فاعل

ذلك الذي يُعرَّف عند الدارسين المُنَظِّرين له بأنه نوع من أنواع النثر الحديثة، التي نشأت في حِجر الصحافة، وبتأثير إيجابي من تأثيراتها الفاعلة في الأدب العربي الحديث، وقد وجدت الخاطرة الأدبية حضورًا لها في وسائل التواصل التكنولوجية المعاصرة، فصارت فنًّا أدبيًّا رقميًّا فاعلاً.. إنها كلام القلب يترجمه اللّسان إلى كلمات، وهي تعبير عن مكنونات النفس والقلب والعقل، وما يدور فيها من صراعات أو حب أو حزن أو حتى ضيق أو ألم أو فرح وسعادة.

وهي تصاغ ببلاغة، وتتّصف بجمالها لكثرة الصور الفنية والتشبيهات والمحسنات والاستعارات والكنايات المستخدمة فيها، وقد تكون ذاتيّة الإبداع أي دائرة حول شخصية مبدعها في المقام الأول. وقد تكون موضوعية الإبداع أي صادرة عن الآخر إنسانًا أو مجتمعًا أو مكانًا، وهي فن يتّسم بالحرية في الإبداع حيث يترك المبدع لقلمه العنان في التعبير دون شروط ودون قيود…

إنها هاجس أو إلهام يرِد على البال، يتنوّع بين رأي أو معنًى أو فكرة، ويرد على العقل عفوًا من غير تعمّد لإحضارها، ولا يكون له استقرار في النفس، ويقال في التعبير الحديث: سريع الخاطر، أي حاضر البديهة، وفعله عَفو الخاطر، أي فعله تلقائيًّا، وارتجالاً، دون إعداد مسبق.

بين الخاطرة والمقالة

ويرى الدكتور “عز الدين إسماعيل” أن الخاطرة تختلف عن المقال من عدة وجوه: فالخاطرة ليست فكرة ناضجة وليدة زمن بعيد، ولكنها فكرة عارضة طارئة. وليست فكرة تعرض من كل الوجوه، بل هي مجرد لمحة. وليست كالمقالة مجالًا للأخذ والرد، ولا هي تحتاج إلى الأسانيد والحجج القوية لإثبات صدقها، بل هي أقرب إلى الطابع الغنائي. ثم لا ننسى الاختلاف في الطول، فالخاطرة أقصر من المقال، وهي لا تجاوز كثيرًا نصف عمود من الصحيفة، وعمودًا من المجلة. وإذا ذكرنا الصحيفة والمجلة فإنما نذكرهما لنعود لتقرير أن الخاطرة في وقتنا قد أصبحت عنصرًا صحفيًّا نطالعه في كل جريدة وكل مجلة، والصحف تعطي هذا العنصر عنوانًا ثابتًا؛ لأن الخاطرة تكون عادة – وهي تختلف في ذلك أيضًا عن المقال- بلا عنوان. من هذه العناوين: “فكرة”، “نحو النور”، “شموع تحترق”، “ما قل ودل”.. إلخ.

وهذا النوع الأدبي يحتاج في الكاتب إلى الذكاء، وقوة الملاحظة، ويقظة الوجدان، وهو يتمشى مع الطابع الصحفي العام في الاهتمام بالأشياء الصغيرة السريعة وتفضيلها على الكتابات المطولة. وأهميتها تأتي من أنها تستطيع لفت القارئ إلى الأشياء الصغيرة في الحياة، التي لها دلالة كبيرة.

الخصائص الفنية المميّزة لفن الخاطرة

ولفنّ الخاطرة الأدبية مجموعة من الخصائص الفنية الفارقة  المميزة لها عن بقية الفنون النثرية، وهي: الإيجاز البليغ الجامع، فهي قصيرة الحجم، وذهنيّة عميقة الدلالة، ومكثفة الفكرة، ومنسجمة البناء، وأنها مطبوعة، فهي لا تحتاج إلى إعداد مسبق ولا تنظيم ولا طريقة معينة في تشكيلها، ويغلب فيها أسلوب الاستطراد، وتناول موضوعات شتى، وهي زفرة ذاتية قصيرة جدًّا، ومختصرة جدًّا، وفيها تشويق، وإثارة، وتهدف إلى الإمتاع والتأثير، وليس الإقناع، فلا تحتاج إلى أدلّة وبراهين عقلية أو نقلية، لا تقبل الأخذ والردّ، وليست ذات موضوع قابل للحوار والمناقشة، وهي وجدانية المنبع، تعلو فيها العاطفة على الفكر، وتعتمد على الانفعال الداخلي والتدفق العاطفي، والتوتر المهيمن والشعور المتواتر..

وهي حرة في هيكلها وبنائها، يمكن أن تكون بعنوان أو بدونه، وبمقدمة أو بدونها، وبخاتمة أو بدونها، ولا تخضع لأيّ تقليد. إن الخاطرة الأدبية فنّ النثر الحر الذاتي المتداعي المنطلق في واد، وبكل سبيل، والمولود من رحم المقالة الفنية، أحيانًا يكون لونًا من ألوانها، وأحيانًا يكون نوعًا أدبيًّا مستقلًّا، وهو أقرب الأنواع النثرية إلى الشعر، وهو مثل الشعر التفعيلي في حرياته.

الخاطرة الأدبية في تراثنا العربي

أمّا عن فن الخاطرة الأدبية في تراثنا العربي فإننا نجد المصطلح يكاد يكون موجودًا في تراثنا وجودًا لغويًّا، ووجودًا نصيًّا وإبداعيًّا، في أعصار الأدب العربي وأمصاره المختلفة؛ ففي المعاجم العربية نجد (الخاطر: ما يخطر في القلب من تدبير أو أمر. ابن سيده: الخاطر الهاجس، والجمع الخواطر، وقال الزمخشري: الخواطر: ما يتحرك بالقلب من رأى أو معنى. وعدَّه من المجاز. وقد خطر بباله وعليه يخطر ويخطر، بالضمّ، الأخيرة عن ابن جني، خطورا إذا ذكره بعد نسيان. وأخطر الله بباله أمر كذا، وما وجد له ذكرا إلا خطرة، ويقال: خطر ببالي وعلى بالي كذا وكذا يخطر خطورًا إذا وقع ذلك في بالك ووهمك. وأخطره الله ببالي، وخطر الشيطان بين الإنسان وقلبه: أوصل وسواسه إلى قلبه. وما ألقاه إلا خطرة بعد خطرة أي: في الأحيان بعد الأحيان، وما ذكرته إلا خطرة واحدة..

عبد الحميد الكاتب وابن المقفّع

فهذه الدلالة اللغوية قريبة جدًّا من المفهوم الفني للخاطرة الأدبية، ونجد لهذا الفن حضورًا إبداعيًّا عند أسلافنا في قالب الرسالة التراثي كما عند “عبد الحميد بن يحيى الكاتب” (ت132هـ) الذي له مجموعة رسائل تكاد تمثِّل نماذج أولى لهذا الفن في تراثنا الأدبي مثل رسالتي: الصيد والشطرنج. وما رسالتا: الأدب الصغير والأدب الكبير لـ “ابن المقفع” (ت142هـ) إلّا مجموعة من الخواطر الأدبية المجموعة في رسالة واحدة، ومن نماذجه الخاطريّة الإرشادية في رسالة “الأدب الصغير” قوله: “على العاقل أن يجعل الناس طبقتين متباينتين، ويلبس لهم لباسين مختلفين: فطبقةٌ من العامة، يلبس لهم لباس انقباض وانحجاز وتحرُّز وتحفُّظ في كل كلمة وخطوة، وطبقة من الخاصة يخلع عندهم لباس التشدُّد ويلبس لباس الأنسة واللطف والبذلة والمفاوضة، ولا يدخل في هذه الطبقة إلا واحدٌ من ألف، كُلُّهم ذو فضل في الرأي، وثقة في المودة، وأمانة في السر، ووفاء بالإخاء”.

خاطريات “ابن جني” ومقابسات “أبي حيان التوحيدي”

وقد أُطلق على هذا الفن إطلاقات عدّة في تراثنا مثل: اللمعة، الإشارة، اللمحة، النادرة، الشاردة، التنبيه، الدرة، النظرة، وغير ذلك.

بل إننا نجد حجّة اللغة العربية “ابن جني” (ت392هـ) يستخدم اسم النوع الأدبي فيؤلف كتابه “الخاطريات”، وهو خاص بمسائل لغوية ولسانية كثيرة، وصفه قارئوه الباحثون فيه بأنه جُذاذات فكرية مجموعة كيفما اتّفق، وكذا نجد كتاب “المقابسات” لـ “أبي حيان التوحيدي” (ت414هـ) الذي هو خواطر فلسفية، تكوَّنت من محاورات وآراء واختيارات ومقالات ومحاضرات وأمالٍ وضُبوط جلساتٍ ضُمَّت إلى بعضها دون ترتيب أو تبويب فشكّلت مادة الكتاب، وفي كتابه “الإشارات الإلهية” نجد خواطر ومناجيات صوفية بعيدة في أسلوبها عن أساليب المتصوفة المعروفة، و”أبو حيان” في كتابه “البصائر والذخائر” لا يقتصر على الاختيارات، يضيف إلى تلك الاختيارات من آراء وتعليقات حملت الكثير وكشفت عن الكثير.

وكتابه “الصداقة والصديق” يشتمل على الكثير من أخبار الأدب المتعلقة بموضوع الصداقة والأصدقاء، كما تشتمل على شيء من آراء “أبي حيان التوحيدي” وإلماحات إلى حياته، ومن ذلك قوله متحدثا عن نفسه: “فلقد فقدت كل مؤنس وصاحب، ومرافق ومشفق، ووالله لربما صليت في الجامع، فلا أرى جنبي من يصلي معي، فإن اتفق فبقّال أو عصّار، أو ندّاف أو قصّاب، ومن إذا وقف إلى جانبي أسدرني بصنانه، وأسكرني بنتنه، فقد أمسيت غريب الحال، غريب اللفظ، غريب النحلة، غريب الخلق، مستأنسًا بالوحشة، قانعًا بالوحدة، معتادًا للصمت، ملازمًا للحيرة، محتملاً للأذى، يائسًا من جميع من ترى”.

“صيد الخاطر” لابن الجوزي

وكذا نجد “ابن الجوزي” (ت597هـ) يستخدم مصطلح الخاطرة في عنوان كتابه “صيد الخاطر”، وهو كتاب جمع فيه “ابن الجوزي” الخواطر التي كانت تدور في خلده في أثناء تأليفه للكتب، وتدور هذه الخواطر حول موضوعات مختلفة وتتحدث في أمور عديدة ومتنوعة من شؤون الحياة الدنيا والآخرة، وفي الكتاب حث ودعوة إلى الزهد وتزكية النفوس من كل ما يشوبها من أمر الدنيا، مع الحفاظ على توازن النفس والانتباه لأمر الدنيا في حدود ما أباحه الله لها، والاستعانة بكل ذلك على المضي نحو الآخرة. ومن يقرأ مقدمة “ابن الجوزي” لهذا الكتاب يقف على أنه قصد قصدًا إلى جمع خواطره الوعظية الخاصة في هذا الكتاب…

فن الخاطرة في العصر الحديث

وظل للخاطرة الأدبية حضور إبداعي عند كبار العلماء والأدباء والدعاة في العصر الوسيط مملوكيًّا وعثمانيًّا إلى أن دخل العرب العصر الحديث في منتصف القرن التاسع عشر، فظل هذا الحضور عند الكتاب الإحيائيين والمصلحين، لكن! نلحظ أنه لم يهتم النقد الأدبي الحديث الاهتمام الكافي بهذا الفن النثري الصادع الساطع الماتع، ومن الباحثين القلائل الذين اهتموا بهذا الفن “سيد قطب” في كتابه “النقد الأدبي أصوله ومناهجه”، والدكتور “عز الدين إسماعيل” بهذا الفن في الفصل الرابع المعنون بـ “أنواع أدبية أخرى ترجمة الحياة، المقال، الخاطرة” من كتابه “الأدب وفنونه دراسة ونقد”، وكذا الدكتور “صابر عبد الدايم” في كتابه عن “فن المقالة: دراسة نظرية ونماذج تطبيقية”.. وغيرهم!

أحمد أمين و”فيض الخاطر”

وذكر الدكتور “عز الدين إسماعيل” أن الأستاذ “أحمد أمين” من أبرز كتاب الخاطرة في العصر الحديث، قائلاً: “وما زلت أذكر للأستاذ الدكتور أحمد أمين – وكان من كُتّاب الخاطرة – وقد جمع خواطره في عدة مجلدات، في كتابه (فيض الخاطر)، تلك الخاطرة التي كتبها عن قطعة الورق التي مزّقها، وهو جالس إلى البحر فحمل الريح أجزاءها وذهب بكل جزء إلى جهة ما، كما تصنع الحياة بالناس ومصائرهم. فهنا لا نجد فكرة تحتمل الاتفاق أو الاختلاف، ولكنها لمحة ذهنية بمناسبة ذلك الحادث العرضي (تمزيق الورقة) محملة بمشاعر الكاتب”.

“جلال عامر”.. رائد مدرسة الخاطرة الساخرة

ومن أبرز كُتّاب فن الخاطرة الأدبية في العقد الأول من القرن الحادي والعشرين الأستاذ “جلال عامر” (1952-2012م) الكاتب والصحفي المصري، الذي يُعدّ أحد أهمّ الكُتّاب الساخرين في مصر والعالم العربي.. حيث أبدع مدرسة جديدة في فن الخاطرة الساخرة، التي تعتمد على التّداعي الحر للأفكار، والتكثيف الشديد، وطرح عدد كبير من الأفكار في النص الواحد، وربطها معًا بشكل غير قابل للتفكيك، بحيث تصير الخاطرة وحدة واحدة شديدة التماسك على الرغم من احتوائها على أفكار منفصلة عن بعضها، كما يتميز أسلوبه باحتوائه على الكثير من التوريات الرائعة التي تشدّ انتباه القارئ حتى نهاية التجربة، كما أنها تفتح مداركه على حقائق ربما غابت عنه.

ومن آثاره المقاليّة والخاطرية كتاب “مصر على كف عفريت” وهو صادر عام 2009م، وهو – كما يقول الأستاذ جلال – محاولة لبحث حالة وطن كان يملك غطاء ذهب فأصبح بلاعة من دون غطاء. لماذا وكيف؟ فقد بدأت مصر “بحفظ الموتى، وانتهت بحفظ الأناشيد؛ لأن كل مسؤول يتولى منصبه يقسم بأنّه سوف يسهر على راحة الشعب، من دون أن يحدد أين سيسهر وللساعة كم؟ في مصر لا يمشي الحاكم بأمر الدستور، بل بأمر الدكتور، ولم يعد أحد في مصر يستحق أن نحمله على أكتافنا إلا أنبوبة البوتاغاز، فهل مصر في يد أمينة أم في إصبع أميركا أم على كف عفريت؟”.

وكذا كتاب بعنوان “قصر الكلام” الذي اشتمل على مقالات وخواطر من شهر يناير سنة 2009م حتى 11/2/2011م. ومن نماذج خواطره الجميلة قوله تحت عنوان تخاريف فبراير 2012م: “مجتمع لا يهمه الجائع إلا إذا كان ناخبًا، ولا يهمه العاري إلا إذا كانت امرأة!”، و”نريد عقدًا اجتماعيا جديدًا نمارس فيه السياسة في الجامعات وليس في الجوامع، وفي المدارس وليس في الكنائس، فبيوت الله تعلو على مقار الأحزاب”، و”نريد رئيسًا لا يرفعون عنه الستار كأنه تمثال فرعوني، أو يقصون أمامه الشريط كأنه محل تجاري، بل حاكمًا يحكم، ويتحكم، ويحاكِم من أخطأ، ويحاكَم إذا أخطأ!”.

الخاطرة الأدبية الرقمية

ومن الكتاب الرقميين الذين لهم حضور في فن الخاطرة الأدبية الأستاذ “محمد موافي” الإعلامي المعروف، الذي طالعت له نماذج كثيرة لهذا الفن منشورة على صفحته في الفيسبوك، ومن نماذجها منشوره الطازج في (الخميس 13/6/2024م): “حتى اليوم لا أشرب حليب العلبة، ولو اشتهيته اشتريت حليبًا طازجًا أغليه على نار هادية، وهادية صارت عصبية، روحها في زورها، فزُرتها وسواد الليل يبكي لي، وبكيتها في نهار مبتور الأشجار ومنزوع الدسم ومضطرب ضغط الدم.. ومع كل مواجع الضغط وتهديدات الكوليسترول بإقامة سد في مجرى الشريان، فأنا ما زلت كافرًا بلبن البودرة، ولاعنًا وجوه ذكرانٍ من العالمين ينصحوننا بصفار البيض في الشاشة بوجوه البودرة والأحمر والباروكة.. ومرةً برك مني الجمل في صحراء بلا نهاية، ثم انتفض شامخًا حين همستُ له بأنه حين لا تكون نهاية فنحن في قلب النهاية، وثمة بداية وألف ألف احتمال بداية. وبدا الأمر كما توقعته من سنوات مرّت بكل مرارة، ومررتُ من سَمِّ خياطها لعلني ألتصق بجانب مركب مهاجرة، وحين لاحت لي الهجرة مبتسمةً، شكرتها وعُدت من حيث أتيتُ، ومع أني ما أبصرت قدامي طريقًا، فقد مشيتُ، ومشيتُ وأنا أغني:

بلادي وإن جارت عليّ عزيزةٌ — وأهلي وإن ضنّوا علىّ كرامُ”

فنحن أمام خاطرة أدبية رقمية مغلّفة بتعابير استعارية، وتناصّات تراثية ثقافية، وإحالات تاريخية، وتلميحات، فقد قال ما جال بخاطره، وما أراد إيصاله، بأسلوب كِنائي مكثف خاص وفريد، يمثل الخاطرة الأدبية الرقمية الجالدة الساخرة!

محمد ياسين رحمة - الجزائر

محمد ياسين رحمة - الجزائر

اقرأ أيضا

آخر الأخبار
ابنة ضابط فرنسي تروي تفاصيل إجرام والدها في حق الجزائريين.. تعرّف على قصتها شبح الإعدام يلاحق الرئيس المعزول.. الخروج عن المسار في كوريا الجنوبية يعني النهاية المظلمة الأرض تهتز في ولاية المدية شاحنات محملة بالوثائق السرية.. إدارة بايدن تحزم أمتعتها تحت جنح الظلام التعديلات العشوائية على سكنات "عدل" قد تجر صاحبها إلى السجن وقف إطلاق النار.. غزة تفرض منطق الميدان الجزائر- السنغال.. نحو تعزيز التعاون الثنائي مشروعا قانونيْ الأحزاب والجمعيات.. رؤية جديدة لمستقبل الحياة السياسية في الجزائر وقف إطلاق النار في قطاع غزة.. هكذا علقت الجزائر المساعدات الفرنسية المزعومة.. عطاء وفق قاعدة: "خذها ولكن أبقِها عندي" لائحة الأمن في البحر الأحمر.. لهذا السبب امتنعت الجزائر عن التصويت! أحوال الطقس.. أمطار وثلوج على هذه المناطق بعد الكرة الذكية والملعب الذكي.. ماذا بقي من لعبة بيليه ومارادونا؟  بعد إعلان وقف إطلاق النار في غزة.. ترامب يطلق تصريحات اجتماع الحكومة.. مشاريع قطاع الري على طاولة العرباوي وزارة الدفاع.. إرهابي يُسلم نفسه إلى السلطات العسكرية ببرج باجي مختار قوجيل: فرنسا هي من تحتاج الجزائر أكثر وليس العكس تطورات الوضع في اليمن.. الجزائر تترأس اجتماعا لمجلس الأمن لضمان استقرار السوق في رمضان.. استيراد 28 ألف طن من اللحوم أول شركة ناشئة تقتحم السوق المالي.. ماذا يعني إطلاق تداول أسهم "مستشير" في بورصة الجزائر؟