لماذا اهتمَّ الرحّالون الألمان بالكتابة عن الجزائر؟ اختلفت الإجابات من رحّالة إلى آخر، غير أنَّ جميعها التقت في خدمة الأهداف الاستعماريّة، بل إنَّ بعضها مجّد الاستعمار وكشف عن مشاركة دول أوروبيّة كثيرة في الحملة الفرنسيّة على الجزائر، تحت راية المسيحيّة. وهذا ما يجعلنا نُدرك بأنّ فرنسا كانت واجهة لاستعمارٍ أوروبيٍّ “صليبيٍّ” على الجزائر التي كان مُجرّد ذِكر اسمها يُثير الرّعب لدى الأوروبيين، كما قال الرحّالة “شونبيرغ”.. ولعلّ أصداء اسمها القادم من عمق التاريخ ما زال يُثير “الرّعب” في صُنّاع السياسة والقرار الأوروبي الذين يفقهون التّاريخ جيّدًا، ويُدركون بأنّ الجزائر لم تفقد عظمتَها ويُمكنها أن تُعيد صياغة النظام العالمي وتصنع “قدر العالم” على الطريقة الجزائريّة التي لا يُمكن لـ “العبقريّة” الغربيّة أن تتوقّعها.. ولعلّ هذا أحد أسرار عظمة الجزائر.
هذا “موريتس فاغنر”، أفضل الرحّالين منهجيّةً في كتاباته، أهدى كتابه إلى دوق أورلیانس “لويس فيليب”، مفتخرًا بمشاركة بلاده في تأسيس مستعمرات أوروبية في الجزائر وشمال إفريقيا، وقال: “فالجندي الألماني يحارب إلى جانب الجندي الفرنسي، والفلاح الألماني يقوم بإصلاح الأراضي إلى جانب المستعمر الفرنسي، والعالِم الألماني يعمل مع العالِم الفرنسي لاكتشاف تاريخ شمال إفريقيا القديم”.
وهذا الرحّالة “لودفيغ بوفري” يعتبر الجزائر “بلادًا صالحة جيّدة، يمكن استعمارها واستغلالها، ويقدِّم نصائح إلى أبناء بلاده الرّاغبين في الهجرة إليها”. ولا يخجل من الاعتراف بأنَّ “الأوروبيين، الذين كانوا عاجزين عن الحصول على قوتهم اليومي في بلادهم، قد تمكَّنوا من كسب ثروة تجعل الفرق بين ما كانوا عليه في السابق وما هم عليه الآن واضحًا تمام الوضوح”.
إنَّ كتابات وكتبًا كثيرة – باللغة الألمانية وحدها – حول الرّحالين الذين زاروا الجزائر أو شاركوا في الحملة عليها أو استقرّوا فيها بصفة “مُعمّرين”.. ما زالت “نائمةً” في المكتبات الوطنيّة والجامعيّة الأوروبيّة، وتنتظر جهودًا جبّارةً لإعادة بعثها وتحصيل ما فيها من معلومات ستفيد في قراءة تاريخ الجزائر لتلك المرحلة، وأيضًا ستفيد في فهم الحاضر وما الذي تعنيه الجزائر لأوروبا وأمريكا.. وقد قال الدكتور أبو العيد دودو: “لم أتناول في هذه الدّراسة جميع الرحّالين الألمان، فكُتُب الكثير منهم لم يمكنني الاطّلاع عليها بعد، وإنَّما اقتصرتُ على بعض من أتاحت لي مجهوداتي الفردية معرفةَ ما كتبوه عنَّا”. فمن يواصل الآن رسالة “دودو”، ويستكمل جهوده في ترجمة ما كُتب عن الجزائر باللغة الألمانية ومختلف اللغات الأجنبيّة في تلك الفترة؟… لنترك القارئ مع مقالة الدكتور “أبو العيد دودو”..
كارل فون ديكر.. يُدافع عن موريتس فاغنر
رجع “كارل فون ديكر” في وضع كتابه “الجزائر والحرب الدائرة هناك” الذي نُشر عام 1844، إلى كتابات: بيليسيي، بوكلر موسكاو، روزيه، فاغنر. وكان قد زار الجزائر عام 1842 ليكون قريبًا من أحداث الحرب وأوضاعها. وأوضح “ديكر” في مقدمة كتابه أنَّه لا يريد كتابة تاريخ الحرب الجدير بالاهتمام، فتاريخ ذلك كله لم يحن بعد وقت كتابته، وإنّما أراد الحديث عن الحرب الجارية في الجزائر. واعتمد “ديكر” كذلك على ما کتبه “فريدريش شفار تسنبيرغ”، ونقل عدّة فقرات ليستشهد بها.
ويصف “ديكر” كتاب “فاغنر” بأنَّه أحسن کتاب صدر عن الجزائر باللغة الألمانية، وحذّر القارىءَ من أن يتصوَّر أنَّ “موريتس فاغنر” متعصِّبٌ لفرنسا لأنّه أهدى كتابه إلى ولي العهد الفرنسي، فالواقع خلاف ذلك، وينصحه بالمضيّ في القراءة حتى يكتشف بنفسه عكس ما يوحي به الإهداء. فمواطنه في نظره بعيدٌ عن التعصُّب، وكان همّه الأول والأخير إعطاء صورة صادقة عن الجزائر في جميع الميادين.
كليمنس لامبينغ.. سجَّل تجاربه الخاصة
وهناك من الرحَّالين الألمان مَن لا يعتمد على مَن سبقه إطلاقًا، وإنَّما يكتفي بتسجيل تجاربه الخاصة. وهذا ما فعله “كليمنس لامبينغ” في كتابه “مذكِّرات عن الجزائر” الذي نشره سنة 1844، إذ وصف فيه أصدقاءه الجزائريين وحياتهم وتحدّث عن اهتماماتهم العامة، كما وصف بعض المعارك التي شارك فيها، وكذلك المناطق والمدن التي زارها وأقام فيها فترات متفاوتة.
لماذا اهتمَّ الألمان بالكتابة عن الجزائر؟
ومن الضروري أن نتساءل بعد هذا عن الأسباب التي حملت الألمان على الاهتمام بالجزائر، والعناية بتاريخها، والحرص على وصف مظاهر الحياة فيها بدقّة. والواقع أن هذه الأسباب تكاد تكون واحدة عندهم جميعًا، فهذا ما تثبته لنا تصريحاتهم على الأقل.
لقد اعتبر الألمان احتلالَ الجزائر أهمّ حادثة وقعت في القرن التاسع عشر، وقد رأوا ما سيكون لهذا الاحتلال من أبعاد سياسية في أوروبا وإفريقيا على حدٍّ سواء. فقد فتح أمامهم آفاقًا جديدة ويسَّر لهم سُبل الهجرة والمغامرة. والهجرة تتطلَّب معرفةً بظروف المهجر وأوضاعه المختلفة، ومن هنا كان لا بدَّ للمهاجر من كتب وأدلّة سياحيَّة، وخاصة إذا كانت البلاد التي يريد أن يهاجر إليها، خصبة التربة، فاتنة المناظر، شاسعة الأطراف.
بفايفر.. سحره جمال الجزائر
ولم يدعُ “بفايفر” صراحةً إلى الهجرة، ولكنه يتحدَّث عن روعة الجزائر، وخصوبة أراضيها، فقال: “كثيرًا ما فكرَّت، بعد عودتي إلى أوروبا من دولة الجزائر، في وضعها السابق، وفي وضعها الرّاهن، وفي الوضع الذي يمكن أن تكون عليه في المستقبل. لقد آلمني أن تظل هذه البلاد الرائعة في بعض أجزائها، الغنيَّة بمنتجاتها، التي يمكنها أن تمدّ الملايين العديدة بالطعام والغذاء، وتكون بالنسبة لأصحابها الجدد ذات منافع لا حدود لها.. تظلّ هكذا قفراء غير مُستغلّة لأنَّ الفرنسيين اقتصروا في صراعهم مع أهلها على الجزائر وحدها تقريبا”.
شفار تسنبيرغ.. كتب للمؤرِخ والسياسي والعسكري
ويرى “شفار تسنبيرغ” أنَّ ما حدث في إفريقيا قد جلب اهتمام الرأي العام، نظرًا إلى ما سيكون للوجود الفرنسي في شمال القارة من أثر كبير في تاريخ العالم، ولذلك فإنَّ كتابه سيكون ذا أهمية كبيرة، لأنَّه يتضمّن وصفًا متنوِّعًا وبعيدًا عن التحيّز للحملة الفرنسية، كتبه شاهد عيان، ويعتقد أنّ القصص التي تأتي متأخِّرة في التاريخ تُعتبر أصدق من الأخبار الأولى، لأنَّ هذه غالبًا ما تكون متحيِّزة تتحكّم فيها الأحكام المسبقة. ويؤكّد على ضرورة المعلومات التي يقدِّمها في كتابه بالنسبة للمؤرخ والسياسي والعسكري، فالنزول في شواطئ قارة أجنبيّة يتطلّب معرفة كاملة بخصائصها وأوضاعها السياسية وأجواء مناخها وطبيعتها، لا سيما وأنَّ موانئ شمال إفريقيا ستكون ذات أهميّة كبيرة بالنسبة لأوروبا.
شيمبر.. قدّم نصائح للألمان
ويقدّم “شيمبر” نصائح لمواطنيه، الذين يرغبون في الهجرة إلى الجزائر، فينصحهم بعدم الاختلاط بالسَّفلة والأوباش الذين قدِموا إلى الجزائر للسّلب والنّهب، ويحدِّد لهم الأماكن التي لا يتعرَّضون فيها لهجومات العرب، ويصف لهم الطُّرق التي يجب اتّباعها للحصول على رُخصِ الهجرة من الدوائر المعنية، كما يحدِّثهم عن وسائل العيش في الجزائر وغلاء المعيشة. ويحذّرهم من الالتحاق بالفرقة الأجنبية، ويطلب منهم أن يتجنّبوا تلك التصرّفات التي صدرت عن بعض مواطنيه، وكانت نتيجتها أن أصبح الاسم الألماني مُحتقرًا في الجزائر.
فاغنر.. يفتخر بمشاركة ألمانيا في احتلال الجزائر
يفخر “موريتس فاغنر” في الكلمة التي أهدى بها كتابه إلى “لويس فيليب”، دوق أورلیانس، بأنَّ بلاده تشارك في تأسيس المستعمرات الأوروبية في شمال إفريقيا، فالجندي الألماني يحارب إلى جانب الجندي الفرنسي، والفلاح الألماني يقوم بإصلاح الأراضي إلى جانب المستعمر الفرنسي، والعالِم الألماني يعمل مع العالِم الفرنسي لاكتشاف تاريخ شمال إفريقيا القديم. والغريب أنَّ يفخر “فاغنر” أيضًا بأنَّ الهدف من ذلك كله هو نشر الحضارة والحرية في الأراضي الجزائرية، التي كانت في القديم مزدهرة عامرة! ويرجو “فاغنر” بعد ذلك أن يكون كتابه دليلاً أمینًا للسّائح والمهاجر الذي يريد أن يستقرَّ في الجزائر بصفة دائمة، ومصدرًا مهمًّا لمن يهتمّ بدراسة الشعوب وطباعها وأسلوب معيشتها ويؤكد بدوره على الأهمية التي يكتسبها شمال إفريقيا يومًا بعد آخر، لأنَّ فرنسا، في نظره، ستعلِّم سكان الجزائر أنَّ وظيفة الإنسان لا تتمثّل في محاربة أخيه الإنسان وتمزيق لحمه، وإهمال أراضيه الجميلة الخصبة المعطاء!
لودفيغ بوفري.. مجّد الاستعمار تحت الرّاية المسيحيّة!
ونجد “لودفيغ بوفري” في كتابه “الجزائر ومستقبلها تحت الحكم الفرنسي”، الذي صدر سنة 1855، يمثِّل الأفكار نفسها، فهو يعتبر الجزائر بلادًا صالحة جيدة، يمكن استعمارها واستغلالها، ويقدِّم نصائح إلى أبناء بلاده الرّاغبين في الهجرة. ويشير إلى أنّ هناك أحكامًا مسبقة تتعلق بالهجرة إلى الجزائر، مبعثها عدم معرفة البلاد على حقيقتها، والاطّلاع على أوضاعها من جهة، وجشع بعض الألمان الذين وصلوا إلى الجزائر من جهة ثانية. ويؤكد أنَّ الرَّغبة في نفع مواطنيه والحيلولة دون هجرة الأسر بناء على ما يشيعه بعض المخادعين هو الذي دفعه إلى وضع كتابه هذا.
ويصف “بوفري” المناطق الصالحة للزراعة، ويعترف بأنَّ الأوروبيين، الذين كانوا عاجزين عن الحصول على قوتهم اليومي في بلادهم، قد تمكَّنوا من كسب ثروة تجعل الفرق بين ما كانوا عليه في السابق وما هم عليه الآن واضحًا تمام الوضوح. وهو يقدِّم لهم هو الآخر معلومات متنوِّعة عن طبيعة البلاد، ومناخها وآثارها، والأمراض التي يمكن أن يتعرَّض لها المهاجر الألماني. ويبيِّن كذلك طرق الاتصال بالإدارات الخاصة التي تسهِّل لهم وسائل الانتقال إلى المناطق الآمنة، ومحاولة الاستقرار فيها.
وقد أهدى “فون بوفري” کتابه لـ “نابليون الثالث”، ونوَّه في الإهداء بالأعمال الجبَّارة التي تقوم بها فرنسا من أجل بناء حضارة جديدة تحلُّ محلّ الحضارة القديمة تحت راية المسيحية! ويبدي إعجابه بالازدهار الذي بدأ يعمُّ مناطق الجزائر المتنوعة.
فرديناند فنكلمان.. الجزائر مَهجرٌ مثاليٌّ للألمان
وهكذا نرى أنّ الجزائر كانت بالنسبة للألمان مهجرًا جديدًا يستطيع أن يعيش الألماني فيه في هناء ورفاهية ورخاء، كما صرَّح بذلك “فرديناند فنكلمان”، فالجزائر بالنسبة له مستعمرة رائعة، والألماني فيها أكثر كرامة وأوفر عزّة من الجزائري، لأنَّ فرنسا تحمي الألماني كما تحمى غيره من الأوروبيين، ولا تسمح للجزائري بأيّ نوع من التحدّي والمقاومة. وهذا ما جعل “فنكلمان” يتنبّأ بأنّه لن يمرّ وقت طويل حتى يصبح عدد الأوروبيين في المناطق الخصبة أكثر من عدد السكان الأصليين!
شونبيرغ.. اسم الجزائر مصدرٌ لرعب الأوروبيين
هذا ولا تخلو كتابات الألمان من إظهار العداء للجزائر التي أهانت أوروبا لمدة طويلة، وكان ذكر اسمها مجرّدًا يثير الرعب في قلوب أبنائها، ممّا جعل “شونبيرغ” يعترف بأنَّ اسم الجزائر لا يحمل على التفكير في جمال سمائها، وصحيّة مناخها، وخصوبة أراضيها، بقدر ما يحمل على التفكير في الآلام التي عرفها العبيد المسيحيون فيها، وهذا أيضًا ما جعل كتاباتهم تتَّسم بالطابع الصّليبي في أغلب الأحيان، فقد أشفت فرنسا غليل بعضهم في الانتقام من الجزائريين، فيصفونهم بالهمجيّة على غرار ما فعله بقيّة الأوروبيين ممّن كتبوا عن الجزائر.
الكلمة الأخيرة للدكتور “أبو العيد دودو”
لم أتناول في هذه الدراسة جميع الرحّالين الألمان، فكُتُب الكثير منهم لم يمكنني الاطّلاع عليها بعد، وإنَّما اقتصرتُ على بعض من أتاحت لي مجهوداتي الفرديّة معرفةَ ما كتبوه عنَّا. ومع ذلك أرجو أن أكون قد قدَّمت فكرة تقريبيّة عن مصادرهم وأغراضهم، وليس بمستبعدٍ أن تكون لهم أغراض أخرى لم يصرّحوا بها، واحتفظوا بها لأنفسهم في وثائقهم الخاصة أو في وثائق بعض الجهات التي مدَّت إليهم يد العون للقيام برحلاتهم..